88% found this document useful (8 votes)
16K views175 pages

كتاب علــم الدلالـة

يتناول المستند موضوع علم الدلالة من خلال مدخل نظري يتطرق لأهمية دراسة التراث اللغوي العربي والربط بينه وبين النظريات اللسانية الحديثة مع مراعاة الخصوصيات العربية. كما يشير إلى ضرورة إعادة النظر في التراث العربي بمنهج علمي لتحقيق نظرية لسانية عربية معاصرة.

Uploaded by

faqed ilzakira
Copyright
© Attribution Non-Commercial (BY-NC)
We take content rights seriously. If you suspect this is your content, claim it here.
Available Formats
Download as DOC, PDF, TXT or read online on Scribd
88% found this document useful (8 votes)
16K views175 pages

كتاب علــم الدلالـة

يتناول المستند موضوع علم الدلالة من خلال مدخل نظري يتطرق لأهمية دراسة التراث اللغوي العربي والربط بينه وبين النظريات اللسانية الحديثة مع مراعاة الخصوصيات العربية. كما يشير إلى ضرورة إعادة النظر في التراث العربي بمنهج علمي لتحقيق نظرية لسانية عربية معاصرة.

Uploaded by

faqed ilzakira
Copyright
© Attribution Non-Commercial (BY-NC)
We take content rights seriously. If you suspect this is your content, claim it here.
Available Formats
Download as DOC, PDF, TXT or read online on Scribd
You are on page 1/ 175

‫الحقوق كافة‬

‫مـحــــفــــوظـة‬
‫لتـحــاد الـكـتـاب‬
‫‪: [email protected] E-mail‬‬ ‫اللكتروني‪:‬‬ ‫البريد‬
‫‪[email protected]‬‬
‫موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة النترنت‬
‫‪http://www.awu-dam.org‬‬

‫تصميم الغلف للفنان ‪ :‬عبد الرحمن مهنا‬


‫‪‬‬
‫منقور عبد الجليل‬

‫علــم الدللـة‬
‫‪ -‬دراســــة ‪-‬‬

‫من منشورات اتحاد الكتاب العرب‬


‫دمشق ‪2001 -‬‬

‫‪-2-‬‬
‫الهــــداء‪:‬‬

‫إلى كل من يروم أن يغتني بالبحث عن كينونته وسط تراكم معرفي زاخر…‬


‫إلى الذين ل يسأمون أن يرفعوا اللبنة فوق اللبنة ليس لبناء جدار عازل بل لتشييد‬
‫شرفة لنطل من عليائها على ماضينا السحيق ونستشرف من عليها معالم مستقبلنا…‬
‫وأخيرا ً إلى من كان صدره رحباً‪ ..‬لعزلتي ووحدتي مع البحث‪ ..‬إلى أسرتي‪..‬‬
‫أهدي إلى أولئك جميعا ً هذا العمل‪.‬‬

‫‪-3-‬‬
-4-
‫الباب الول ‪:‬‬

‫مدخل نظري لعلم الدللة‬

‫‪-5-‬‬
-6-
‫مــدخل عام‬
‫إن السهامات اللغوية لسلفنا المفكرين في التراث العربي‪ ،‬لم ينل البحث فيها ما يستحقه من عناية واهتمام‪ ،‬فما زالت‬
‫مجالت كثيرة في التراث العربي اللغوي بكرا تحتاج إلى نظرة لغوية علمية واعية وإن وجدت هناك أبحاث لغوية ذات قيمة إل‬
‫أنها محمولة على الرصيد المعرفي للتراث العربي‪ ،‬وتجتر عطاءً معرفيا لسلفنا الباحثين‪ ،‬ولم يخرج جهدها إذ ذاك من عملية‬
‫نقل أو تصنيف دون أن يكون لروح العصر الحديث لمسات على هذا التراث ليبعث فيه التجديد‪ .‬وفي غمرة الصراع بين دعاة‬
‫الصالة وأنصار المعاصرة يضيع البحث اللغوي‪ ،‬ويتجرد من كل خلفية علمية حضارية‪ ،‬فإذا نظرنا إلى المعوّل عليه عند دعاة‬
‫الصالة‪ ،‬فإنه ل يعدو أن يكون جردا سلبيا رتيبا دون أدنى جهد لخرق تلك الرتابة والولوج داخل التراث المعرفي لبحث بنيته‬
‫الداخلية لكي يسهم في تحقيق النظرية اللسانية العامة‪ ،‬أما فئة أنصار المعاصرة فإنها أقحمت المعطيات اللسانية الغربية في‬
‫دراستها للظواهر اللغوية العربية‪ ،‬دون أدنى اعتبار لصالة وخصوصيات الفكر واللسان العربيين وهذا الخلل المنهجي أحدث‬
‫قطيعة معرفية بين التراث العربي والحتياجات العلمية اللغوية للنسان المعاصر‪ ،‬وكان وراء التخلف في مجال البحث العلمي‬
‫اللغوي المعاصر عند الدارسين العرب‪ ،‬بينما إذا نظرنا‪ -‬على سبيل المقارنة‪ -‬إلى الفكر اللغوي الغربي فإننا ل نلمس تلك‬
‫القطيعة المعرفية بين تراثه العلمي واللساني‪ ،‬ومتطلبات العصر اللغوية ولذلك جاءت أبحاث الدارسين في الغرب‪ ،‬امتدادا لجهود‬
‫أسلفهم اللغويين وكانت نظرياتهم تتويجا لتراكمات معرفية في تراثهم التاريخي‪.‬‬
‫إذا أردنا أن نؤسس فكرا عربيا معاصرا في مجال البحث اللغوي‪ ،‬فإننا ملزمون ضرورة بالقيام بعملية جرد للفكر اللغوي‬
‫لتراثنا العربي‪ ،‬وتمحيصه وتحديد مجالته وفرز عطاءاته اليجابية وسقطاته على مستوى السس المعرفية في الموضوع‬
‫والمنهج‪ ،‬وهذا ل يتم إل بعودة تقويمية حضارية إلى الفكر العربي بشكل عام‪ ،‬والفكر اللغوي بشكل خاص‪ ،‬وتتم هذه العودة‬
‫عبر تتبع المسار التطوري للدرس اللغوي عند العرب القدمين والبحث عن السس المعرفية والفلسفية التي انبنى عليها التراث‬
‫الفكري العربي‪ ،‬وذلك بربطه بالعلوم النسانية المختلفة‪ ،‬فنحفظ أصالة تراثنا المعرفي ونقف على المنهج الفكري الذي كان‬
‫يشرف على تأطير البحاث والدراسات في هذا التراث‪ ،‬وبذلك يتحقق مشروع النظرية اللسانية العربية المعاصرة‪ ،‬ويظهر‬
‫منهجها في مجال العطاء الفكري النساني‪ ،‬وبالتالي تكون شرعية النشأة على المستوى المعرفي‪ .‬هذا المشروع اللساني العربي‬
‫ل يستقيم له أمر إل إذا أخذنا بما حققته النظريات اللسانية الغربية‪ ،‬واستوعبنا مادتها استيعابا واعيا‪ ،‬وحاولنا تكييف هذه‬
‫النظريات مع خصوصيات اللسان العربي في المجالت المختلفة‪ ،‬وأجرينا إسقاطات منهجية على التراث اللغوي العربي بعد‬
‫تقويمه وتمحيصه من أجل بعثه بعثا جديدا وإعادة صياغته صياغة تدفعه لمواكبة التطور الحضاري للمجتمع البشري‪ ،‬مع‬
‫ضرورة الخذ بالمناخ الفكري الذي ساد نشأة وترعرع الفكر اللغوي العربي‪" ،‬لن فهم المنهج العربي في أي علم من العلوم‬
‫العربية التراثية ينبغي أن يلتمس من داخل الحياة العقلية العربية ومن خلل المناخ العقلي العام الذي نشأ وتطور وتأصل في‬
‫ظل القرآن‪ ،‬فمن المعلوم أن المفكرين المسلمين بدأوا بما هو عملي قبل أن يصلوا إلى وضع "منهج نظري" لكل فرع من فروع‬
‫البحث‪ ،‬وكانت‪ -‬مثلً‪ -‬قراءة القرآن عن طريق التلقي والعرض أسبق من وضع كتب تحدد منهج القراءات…"(‪ .)1‬فإذا تحققت‬
‫هذه العملية في إطارها العلمي المنهجي ستؤدي حتما إلى تفكير لساني حديث تتمخض عنه نظرية لسانية عربية قادرة على‬
‫تقديم التفسير الكافي لكل مستويات الدراسة اللغوية الصوتية والتركيبية والدللية‪ ،‬بهذه الطريقة نربط الفكر اللغوي العربي القديم‬
‫بالفكر اللساني العالمي الحديث‪ ،‬لن التحول العلمي للنظرية اللسانية في العصر الحديث أضحى يتوخى الشمولية في التعامل‬

‫() د‪.‬علي سامي النشار‪ -‬مناهج البحث عند مفكري السلم‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪-7-‬‬
‫العلمي مع الظاهرة اللغوية‪ ،‬بوصفها طبيعية إنسانية‪ .‬قد تغطي اهتمامات النسان المعاصر‪ ،‬إذ لم تعد تعترف بالحدود المعرفية‬
‫مع انتقال العالم اللساني إلى بحث اللسان البشري بحثا موضوعيا متخذا اللغة النسانية مادة للتطبيق باعتبارها تخضع لنواميس‬
‫متجانسة تسمح بوضع منهج لساني عام يشمل كل اللغات‪ ،‬وبمثل هذا التعامل الواعي نحمي تراثنا اللغوي بأن ننفخ فيه من روح‬
‫العصرنة والحداثة فينبعث ليساير التطور النساني في كل مجالت الفكر العلمي‪ ،‬ونعيد الصلة التي انبتّت بين تطلعاتنا الفكرية‬
‫اللغوية المعاصرة‪ ،‬والجهود النظرية المنهجية التي أغنى بها أسلفنا تراثنا المعرفي‪.‬‬
‫وفي هذا المجال النظري البين المعالم يندرج هذا البحث كخطوة مرحلية نحو معاينة لعطاءات التراث العربي في حقل‬
‫اللغة‪ ،‬مستحضرا الهتمام في إسهامات عالم من علماء أصول الفقه‪ ،‬وربما كان ارتباط علم الدللة‪ -‬موضوع بحثنا النظري‪-‬‬
‫بعلم أصول الفقه‪ ،‬أقوى من ارتباطه بأي علم آخر من العلوم‪ ،‬ذلك أن علماء الصول قدموا نماذج متقدمة جدا في تعاملهم مع‬
‫اللغة كمنظومة من العلمات اللسانية الدالة تخضع في حركيتها الخطابية إلى نواميس متحكمة في أداء وظائفها الدللية‪،‬‬
‫وساهموا منذ أوّل الماد المبكرة في معالجة مشكلت لغوية‪ ،‬وما أضفى على نتاجهم المعرفي طابع الدقة والموضوعية هو‬
‫اتخاذهم القرآن الكريم منطلقا لستنباط أحكامهم الفقهية العامة بالستناد على الحكام اللغوية التي من أظهر خصوصياتها‬
‫الدللة‪ ،‬وقد كان هؤلء العلماء يحملون وعيا معرفيا أملى عليهم أن يتعاملوا مع القرآن الكريم باعتباره كتاب لغة محكمة يحمل‬
‫شبكة من النواميس العميقة التي تتحكم في ضبط الدللة بأدوات وقفوا عليها وحددوا على أساسها أحكاما وقواعد أضحت فيما‬
‫بعد مبادئ للتشريع‪ .‬إذن‪ ،‬فالتناول الدللي في التراث المعرفي العربي كان ضمن اهتمامات لغوية أخرى‪ ،‬امتزج البحث فيه‬
‫بضروب معارف مختلفة من غير أن يحمل عنوانا مميزا‪ ،‬له استقلل في موضوعاته ومعاييره الخاصة‪ .‬فسعيا منا إلى تحقيق‬
‫مقاربة علمية بين تراثنا الدللي المتنوع‪ ،‬والمناهج الغربية الحديثة في ميدان علم السيمياء‪ ،‬حصرنا بحثنا في استنطاق بنية‬
‫التراث اللغوي الدللي‪ ،‬عند عالم أصولي يعد مفخرة القرن السادس الهجري بما توافر بين يديه من تراكم معرفي زاخر‪،‬‬
‫أخرجه في كتابه الموسوم "بالحكام في أصول الحكام" هذا العالم هو سيف الدين المدي الذي نوه بعلمه المؤرخ ابن خلدون‬
‫وذكره ضمن أربعة علماء متقدمين في علم أصول الفقه‪..‬‬
‫إن منهجنا في عرض بنية التفكير الدللي عند المدي يقوم على أساس تفكيكها‪ ،‬والطلع على أسسها العلمية‪ ،‬لنعيد‬
‫تشكيلها تشكيلً يحفظ لها طابعها المعرفي الصيل برؤى تتطلع إلى استفادة تخدم العصر وتحرك فاعلية تلك الصول التراثية‬
‫الدللية وتساعد على تنمية قدراتها في عصرنا‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن علم الدللة حديثا يلقى من بالغ الهتمام في عصرنا في كل‬
‫أنحاء العالم‪ ،‬ما يجعله نقطة التقاء لنواع من التفكير النساني يقول (ليش‪( )Leach :‬السيمانتيك نقطة التقاء لنواع من التفكير‬
‫والمناهج مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم اللغة‪ ،‬وإن اختلفت اهتمامات كلّ لختلف نقطة البداية(‪".)1‬‬
‫يقع هذا البحث في بابين رئيسيين‪ :‬باب نظري عام يضم ثلثة فصول‪ ،‬حاولت أن أبسط فيها معالم الدرس الدللي الحديث‬
‫مستهلً بالبحث عن نشأة علم الدللة‪ ،‬منذ عهد الهنود الوائل ثم اليونان فالرومان وصولً إلى العصر الوسيط فعصر النهضة‬
‫إلى أن أعلن (بر) عن ميلد علم جديد يعتني بدراسة المعنى اصطلح على تسميته "بالسيمانتيك سنة ‪1883‬م‪ .‬ولم يفتني أن‬
‫ل كاملً في الباب‬
‫أعاين اهتمامات اللغويين والعلماء العرب القدامى بشأن الدللة‪ ،‬معاينة سريعة ما دمت خصصت لذلك فص ً‬
‫الثاني من البحث‪ ،‬كما اجتهدت أن أرسم إطارا مفهوميا لماهية الدللة انطلقا من قواميس اللغة‪ ،‬وورودها في القرآن الكريم‪،‬‬
‫وأقوال بعض العلماء العرب القدامى وبعض علماء الدللة المحدثين من الغرب‪ ،‬وقدمت أهم المباحث التي تشكل موضوعات‬
‫علم الدللة الحديث‪ ،‬وختمت ذلك بفصل عرضت فيه لمختلف النظريات الدللية التي أسست الفكر الدللي الحديث‪.‬‬
‫أما الباب الثاني فهو باب تطبيقي‪ ،‬استهللته بتلخيص للمناخ المعرفي العام الذي وفّر‪ -‬بدون شك‪ -‬للمدي‪ ،‬الجو المناسب‬
‫لكي يؤسس أفكاره الدللية في كتابه "الحكام"‪ ،‬واهتديت إلى أن أمثل لكل قرن معرفي تقريبا بعالم تكون لعطاءاته العلمية أكبر‬
‫الثر في عصره‪ ،‬وما بعد عصره‪ ،‬وبدأت ذلك من القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس الهجري‪.‬‬
‫هذا كان في الفصل الول أما الفصول‪ ،‬الثاني‪ ،‬الثالث والرابع‪ ،‬فقد عرضت فيهم ما تناوله المدي من مسائل تخص‬

‫‪ ،Semantics‬ص ‪.9‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬

‫‪-8-‬‬
‫الدللة محاولً أن أبرز جهوده في ضوء ما خلصت إليه البحوث الدللية الحديثة‪ ،‬وذلك خدمة للهداف التي أومأنا إليها في‬
‫المدخل‪ ،‬ول أدعي أني أتيت على تحقيق تلك الهداف كلها‪ ،‬فحسبي إثارتي لمسائل ل زالت لم تمتد إليها اهتمامات الباحثين‬
‫المعاصرين امتدادا ترتد على إثره تلك المسائل‪ ،‬حية فاعلة في التفكير اللساني الحديث‪ ،‬مع اعتقادي أن الدرس اللغوي بمختلف‬
‫فروعه هو عند غير اللغويين من علمائنا أغزر وأدق مما هو عند اللغويين في تراثنا المعرفي‪ ،‬وهذا ما يشجع‪ -‬حقيقة‪ -‬على‬
‫استثمار جهود أولئك العلماء فيما يخص إرساء نظرية لغوية شاملة‪..‬‬
‫إن مسالك البحث في التراث المعرفي تكتنفها الوعور الصعبة‪ ،‬التي ل تقطعها دون أن تنال منك نيلً يتبدى‪ -‬دون شك‪-‬‬
‫في مباحثك‪ .‬فهناك تعترضك اللغة وهي في كامل عنفوانها ونضجها وسلطتها‪ ،‬لغة تنفق معها‪ -‬ضرورة‪ -‬صبرا كبيرا لتصل‬
‫إلى فك شبكتها والولوج إلى نصوصها‪ ،‬وهذا ما عايشته مع لغة المدي المنطقية‪ ،‬العلمية‪ ،‬فضلً على ذلك فإن الرجوع إلى‬
‫المصادر التي أفاد منها العالم أو التي ذللت مضان كتابه أمر ل غنى عنه‪ ،‬خاصة وأن المدي مزج في كتابه "الحكام" بين‬
‫علوم العربية وعلم المنطق وعلم أصول الفقه‪.‬‬
‫ول يفوتني أن أشيد بصنيع جميع أساتذة معهد الدب‪ -‬بوهران‪ -‬معي فلم يدخروا نصحا أو ملحظة دون أن يبدو لي بها‪،‬‬
‫وأخص بالتنويه منهم أستاذي المحترم سليمان عشراتي الذي صاحبني مع نشأة بحثي مرحلة مرحلة‪ ،‬ولطالما كنت محتاجا إلى‬
‫دفع معنوي فكان يحثني على المضي قدما في أطوار بحثي‪ ،‬وإني مدين كذلك للستاذ المحترم أحمد حساني الذي لقيت عنده كل‬
‫التشجيع‪ ،‬وكانت لملحظاته القيمة أكبر الثر في تدرجي في البحث‪ ،‬وكنت آخذ من وقته القسط الكبير ليشرف على مراجعة ما‬
‫كنت أدونه من فصول… فلساتذتي جميعا مني الشكر والمتنان… وال ولي التوفيق…‬
‫‪‬‬

‫‪-9-‬‬
‫الفصل الول‪:‬‬
‫علم الدللة‪ :‬النشأة والماهية‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫يرى فريق من الدارسين أن البحث عن المصطلح العلمي في التراث المعرفي العربي القديم‪ ،‬قد ل يقدم للدرس‬
‫اللغوي الحديث شيئا ذا أهمية عدا أنه يضع يد الباحث‪ ،‬على التاريخ الول لميلد المصطلح ويطلعه على الطار العام‬
‫الذي دارت حوله موضوعات "الدراسة" في طورها البدائي‪ ،‬وقد يحصل تطور جذري في مفهوم المصطلح‪ ،‬فينتقل‬
‫مفهومه من حقل دللي معين‪ ،‬إلى حقل دللي آخر خاضعا لسنن التطور الدللي الذي يمس بنية اللغة وعناصرها عبر‬
‫مسارها التاريخي المتجدد‪ ،‬ويخشى على الباحث أن يضيع جهده سدى في خضم البحث عن الولدة الولية لصيغة‬
‫المصطلح ودللته‪.‬‬
‫لكن الموضوعية العلمية في الدرس اللغوي الحديث‪ ،‬تملي بل تفرض على الباحثين ضرورة تأطير بحثهم تأطيرا‬
‫علميا دقيقا‪ ،‬خاصة إذا كان البحث يتوخى تأصيل الدراسة‪ ،‬والتنقيب عن جذورها في التراث المعرفي المتنوع‪ ،‬سعيا‬
‫منه إلى ربط الحقائق العلمية الحديثة بأصولها الولى‪ ،‬وإذا كان دور التأريخ للمصطلح العلمي ينحصر في تحديد نشأة‬
‫هذا المصطلح‪ ،‬وماهيته الولى تحديدا دقيقا أو يحيل على الظاهرة اللغوية التي يمكن أن يشرف عليها المصطلح‬
‫ل علميا في غاية الهمية خاصة إذا صحب ذلك وعي الباحث وتمكنه من أدوات‬ ‫العلمي الحديث‪ ،‬فإن ذلك يعد فض ً‬
‫بحثه بكيفية تعينه على الغوص في التراث المعرفي بمنهجية دقيقة ووسائل ملئمة‪ ،‬مما يتيح فرصة التوصل إلى نتائج‬
‫علمية مؤكدة قد تلقي أضواء على جوانب هامة من التراث العلمي الزاخر وبالتالي تفتح مجالت واسعة لعادة‬
‫اكتشاف هذا التراث اكتشافا علميا واعيا‪ ،‬بإدراجه ضمن حركية العلوم الحديثة‪ ،‬وسعيا منا إلى تأطير هذه الدراسة‬
‫وضعنا منهجية واضحة تمثل قاعدة هذا البحث وهي تشمل فصلً أولً بعنصريه‪ :‬نشأة علم الدللة‪ ،‬والذي عرضنا فيه‬
‫للمسار التطوري الذي تبلور من خلله علم الدللة الذي انفصل من جملة علوم لغوية مختلفة ليختص بجانب المعنى‬
‫والدللة‪ ،‬وآخر علم كان لعلم الدللة معه وشائج متصلة وهو علم اللسنية بمختلف مباحثه‪ .‬أما العنصر الثاني من هذا‬
‫الفصل فقد بسطنا فيه ماهية علم الدللة‪ ،‬ومختلف المفاهيم التي وردت بها كلمة "دللة" وما يراد فيها بدءا من‬
‫نصوص القرآن الكريم باعتباره كتاب ضبط اللغة العربية وأول أسلوب بياني عجز من مجاراته فصحاء العرب‬
‫وبلغائهم‪ ،‬وإليه انتهى النتاج الدبي واللغوي الذي يمثل قمة ما أبدعته القريحة العربية الجاهلية‪ ،‬ثم نقلنا الشروحات‬
‫التي وردت في معاجم اللغة المشهورة وتتبعنا مادة "دلّ" وما اشتق منها‪ .‬وأنهينا هذا العنصر من الفصل الول بتقديم‬
‫تعاريف ومفاهيم كل من اللغويين والعلماء العرب القدمين‪ ،‬وعلماء الغرب المحدثين حول الدللة ومتعلقاتها وحقول‬
‫مباحثها‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫أولً‪ -‬نشأة علم الدللة‬

‫‪-1‬نشأة علم الدللة‪ :‬المسار التطوري التاريخي‪:‬‬


‫لقد استقطبت اللغة اهتمام المفكرين منذ أمد بعيد‪ ،‬لن عليها مدار حياة مجتمعاتهم الفكرية والجتماعية‪ ،‬وبها قوام‬
‫فهم كتبهم المقدسة‪ ،‬كما كان شأن الهنود قديما حيث كان كتابهم الديني (الفيدا) منبع الدراسات اللغوية واللسنية على‬
‫الخصوص التي قامت حوله‪ ،‬ومن ثمة غدت اللسانيات الطار العام الذي اتخذت فيه اللغة مادة للدراسة والبحث‪.‬‬
‫وكان الجدل الطويل الذي دار حول نشأة اللغة قد أثار عدة قضايا تعد المحاور الرئيسية لعلم اللسنية الحديث فمن‬
‫جملة الراء التي أوردها العلماء حول نشأة اللغة قولهم‪" :‬بوجود علقة ضرورية بين اللفظ والمعنى شبيهة بالعلقة‬
‫اللزومية بين النار والدخان‪ )1(".‬إن المباحث الدللية قد أولت اهتماما كبيرا علقة اللفظ بالمعنى‪ ،‬وارتبط هذا بفهم‬
‫طبيعة المفردات والجمل من جهة وفهم طبيعة المعنى من جهة أخرى‪ ،‬فلقد درس الهنود مختلف الصناف التي تشكل‬
‫عالم الموجودات‪ ،‬وقسموا دللت الكلمات بناء على ذلك إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫‪-1‬قسم يدل على مدلول عام أو شامل (مثل لفظ‪ :‬رجل)‬
‫‪-2‬قسم يدل على كيفية (مثل كلمة‪ :‬طويل)‬
‫‪-3‬قسم يدل على حدث (مثل الفعل‪ :‬جاء)‬
‫(‪)2‬‬
‫‪-4‬قسم يدل على ذات (مثل السم‪ :‬محمد)‬
‫إن دراسة المعنى في اللغة بدأ منذ أن حصل للنسان وعي لغوي‪ ،‬فلقد كان هذا مع علماء اللغة الهنود‪ ،‬كما كان‬
‫لليونان أثرهم البين في بلورة مفاهيم لها صلة وثيقة بعلم الدللة‪ ،‬فلقد حاور أفلطون أستاذه سقراط حول موضوع‬
‫العلقة بين اللفظ ومعناه‪ ،‬وكان أفلطون يميل إلى القول بالعلقة الطبيعية بين الدال ومدلوله‪ ،‬أما أرسطو فكان يقول‬
‫باصطلحية العلقة‪ ،‬وذهب إلى أن قسم الكلم إلى كلم خارجي وكلم داخلي في النفس‪ ،‬فضلً على تمييزه بين‬
‫الصوت والمعنى معتبرا المعنى متطابقا مع التصور الذي يحمله العقل عنه‪ .‬وقد تبلورت هذه المباحث اللغوية عند‬
‫اليونان حتى غدا لكل رأي أنصاره من المفكرين فتأسست بناء على ذلك مدارس أرست قواعد هامة في مجال دراسة‬
‫اللغة كمدرسة الرواقيين‪ )3(.‬ومدرسة السكندرية ثم كان لعلماء الرومان جهد معتبر في الدراسات اللغوية خاصة ما‬
‫تعلق منها بالنحو‪ ،‬وإليهم يرجع الفضل في وضع الكتب المدرسية التي بقيت صالحة إلى حدود القرن السابع عشر بما‬
‫حوته من النحو اللتيني‪ ،‬وبلغت العلوم اللغوية من النضج والثراء مبلغا كبيرا في العصر الوسيط مع المدرسة‬
‫السكولئية (‪ )Scolastique‬والتي احتدم فيها الصراع حول طبيعة العلقة بين الكلمات ومدلولتها‪ ،‬وانقسم المفكرون‬
‫في هذه المدرسة إلى قائل بعرفية العلقة بين اللفاظ ودللتها وقائل بذاتية العلقة‪.‬‬
‫وبقي الهتمام بالمباحث الدللية يزداد عبر مراحل التاريخ‪ ،‬ولم يدخر المفكرون أي جهد من أجل تقديم‬
‫التفسيرات الكافية لمجمل القضايا اللغوية التي فرضت نفسها على ساحة الفكر‪ ،‬ففي عصر النهضة‪ ،‬أين سادت‬
‫"الكلسيكية" بأنماطها في التفكير والتأليف امتازت الدراسات اللغوية في هذه المرحلة بالمنحى المنطقي العقلي‪ ،‬وأحسن‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ -‬ص ‪.19‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرواقيون ( ‪ )stoiciens‬ينتسبون إل ريتون القيسيون (ت ‪244‬ق‪.‬م) ربطوا السائل اللغوية بالفلسفة‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫من يمثل هذه الفترة رواد مدرسة (بوررويال) الذين رفعوا مقولة‪ :‬أن اللغة ما هي إل صورة للعقل‪ ،‬وأن النظام الذي‬
‫(‪)1‬‬
‫يسود لغات البشر جميعا قوامه العقل والمنطق‪.‬‬
‫وفي حدود القرن التاسع عشر الميلدي‪ ،‬تشعبت الدراسات اللغوية‪ ،‬فلزم ذلك تخصص البحث في جانب معين‬
‫من اللغة‪ ،‬فظهرت النظريات اللسانية وتعددت المناهج‪ ،‬فبرزت الفونولوجيا التي اهتمت بدراسة وظائف الصوات إلى‬
‫جانب علم الفونتيك الذي يهتم بدراسة الصوات المجردة‪ ،‬كما برزت التيمولوجيا التي اعتنت بدراسة الشتقاقات في‬
‫اللغة‪ ،‬ثم علم البنية والتراكيب الذي يختص بدراسة الجانب النحوي وربطه بالجانب الدللي في بناء الجملة‪.‬‬
‫وفي الجانب الخر من العالم‪ ،‬كان المفكرون العرب قد خصصوا للبحوث اللغوية حيزا واسعا في إنتاجهم‬
‫الموسوعي الذي يضم إلى جانب العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة علوما لغوية قد مست كل جوانب الفكر عندهم‪،‬‬
‫سواء تعلق المر بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث‪ ،‬أو علوم العربية‪ ،‬كالنحو والصرف والبلغة‪ ،‬بل إنهم كانوا يعدون‬
‫علوم العربية نفسها وتعلمها من المفاتيح الضرورية للتبحر في فهم العلوم الشرعية‪ ،‬ولذلك "تأثرت [العلوم اللغوية]‬
‫بعلوم الدين وخضعت لتوجيهاتها‪ .‬وقد تفاعلت الدراسات اللغوية مع الدراسات الفقهية‪ ،‬وبنى اللغويون أحكامهم على‬
‫أصول دراسة القرآن والحديث والقراءات‪ ،‬وقالوا في أمور اللغة بالسماع والقياس والجماع والستصلح تماما كما‬
‫فعل الفقهاء في معالجة أمور علوم الدين"‪ )2(.‬ولما كانت علوم الدين تهدف إلى استنباط الحكام الفقهية ووضع القواعد‬
‫الصولية للفقه‪ ،‬اهتم العلماء بدللة اللفاظ والتراكيب وتوسعوا في فهم معاني نصوص القرآن والحديث‪ .‬واحتاج ذلك‬
‫منهم إلى وضع أسس نظرية‪ ،‬فيها من مبادئ الفلسفة والمنطق ما يدل على تأثر العرب بالمفاهيم اليونانية ولذلك يؤكد‬
‫عادل الفاخوري أنه "ليس من مبالغة في القول إن الفكر العربي استطاع أن يتوصل في مرحلته المتأخرة إلى وضع‬
‫نظرية مستقلة وشاملة يمكن اعتبارها أكمل النظريات التي سبقت البحاث المعاصرة‪ )3(".‬فالبحاث الدللية في الفكر‬
‫العربي التراثي‪ ،‬ل يمكن حصرها في حقل معين من النتاج الفكري بل هي تتوزع لتشمل مساحة شاسعة من العلوم‬
‫لنها مدينة "للتحاور بين المنطق وعلوم المناظرة وأصول الفقه والتفسير والنقد الدبي والبيان‪ )4(".‬هذا التلقح بين هذه‬
‫العلوم النظرية واللغوية هو الذي أنتج ذلك الفكر الدللي العربي‪ ،‬الذي أرسى قواعد تعد الن المنطلقات الساسية لعلم‬
‫الدللة وعلم السيمياء على السواء‪ ،‬بل إنك ل تجد كبير فرق بين علماء الدللة في العصر الحديث وبين علماء العرب‬
‫القدامى الذين ساهموا في تأسيس وعي دللي هام‪ ،‬يمكن رصده في نتاج الفلسفة واللغويين وعلماء الصول والفقهاء‬
‫والدباء‪" ،‬فالبحوث الدللية العربية تمتد من القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية إلى سائر القرون التالية لها‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وهذا التأريخ المبكر إنما يعني نضجا أحرزته العربية وأصّله الدارسون في جوانبها‪".‬‬
‫إن هذه الجهود اللغوية في التراث العربي لسلفنا الباحثين‪ ،‬وتلك البحاث التي اضطلع بها اللغويون القدامى من‬
‫الهنود واليونان واللتين وعلماء العصر الوسيط وعصر النهضة الوروبية‪ ،‬فتحت كلها منافذ كبيرة للدرس اللغوي‬
‫الحديث وأرست قواعد هامة في البحث اللسني والدللي‪ ،‬استفاد منها علماء اللغة المحدثون بحيث سعوا إلى تشكيل‬
‫هذا التراكم اللغوي المعرفي في نمط علمي يستند إلى مناهج وأصول ومعايير‪ ،‬وهو ما تجسم في تقدم العالم الفرنسي‬

‫() زبي دراقي ماضرات ف اللسانيات العامة والتاريية‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فنون التعقيد وعلوم اللسنية‪ :‬ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬

‫() علم الدللة عند العرب‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪4‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫(ميشال بر ‪ )M.Breal‬في الربع الخير من القرن التاسع عشر إلى وضع مصطلح يشرف من خلله على البحث‬
‫في الدللة‪ ،‬واقترح دخوله اللغة العلمية‪ ،‬هذا المصطلح هو "السيمانتيك" يقول بر‪" :‬إن الدراسة التي ندعو إليها القارئ‬
‫هي نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد‪ ،‬نعم‪ ،‬لقد اهتم معظم اللسانيين بجسم وشكل الكلمات‪ ،‬وما انتبهوا قط إلى‬
‫القوانين التي تنتظم تغير المعاني‪ ،‬وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلدها ووفاتها‪ ،‬وبما أن هذه‬
‫(‪)1‬‬
‫الدراسة تستحق اسما خاصا بها‪ ،‬فإننا نطلق عليها اسم "سيمانتيك" للدللة على علم المعاني‪.‬‬
‫إن العالم اللغوي (بر) انطلق‪ -‬دون ريب‪ -‬في تحديد موضوع علم الدللة ومصطلحه من جهود من سبقه من‬
‫علماء اللغة الذين وفروا مفاهيم مختلفة تخص المنظومة اللغوية من جميع جوانبها يقول الدكتور كمال محمد بشر‪" :‬إن‬
‫دراسة المعنى بوصفه فرعا مستقلً عن علم اللغة‪ ،‬قد ظهرت أول ما ظهرت سنة ‪ ،1839‬لكن هذه الدراسة لم تعرف‬
‫(‪)2‬‬
‫بهذا السم (السيمانتيك) إل بعد فترة طويلة أي سنة ‪ 1883‬عندما ابتكر العالم الفرنسي (م‪.‬بر) المصطلح الحديث‪".‬‬
‫إل أن المؤرخين اللغويين لظهور علم الدللة يجمعون على أن فضل (بر) يكمن في تخصيصه كتابا استقل بدراسة‬
‫المعنى هو كتاب (محاولة في علم المعاني) بسط فيه القول عن ماهية علم الدللة‪ ،‬وأبدع منهجا جديدا في دراسة‬
‫المعنى هو المنهج الذي ينطلق من الكلمات نفسها لمعاينة الدللت دون ربط ذلك بالظواهر اللغوية الخرى‪ .‬ويمكن‬
‫أن نرسم معالم هذا المنهج اللغوي الجديد انطلقا من النص الذي أورده (بر) في سياق تعريفه بعلم الدللة‪:‬‬
‫أولً‪ :‬إذا كانت اللسانيات تهتم بشكل الكلمات‪ ،‬فإن علم الدللة (السيمانتيك) يهتم بجوهر هذه الكلمات ومضامينها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الهدف الذي ينشده علم الدللة هو الوقوف على القوانين التي تنتظم تغيّر المعاني وتطورها‪ ،‬والقواعد التي‬
‫تسير وفقها اللغة‪ ،‬وذلك بالطلع على النصوص اللغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي‬
‫هذا سعي حثيث إلى التنويع في التراكيب اللغوية لداء وظائف دللية معينة‪ ،‬وهذا التنويع هو الذي يثري‬
‫اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة‪ ،‬ول يكون حاجزا أمام تطورها وتجددها ويمكن في خضم البحث عن‬
‫هذه النواميس "خلق" نواميس لغوية جديدة لكي تشرف على النظام الكلمي بين أهل اللغة لن "عالم اللسان‬
‫(‪)3‬‬
‫يكون همه الوعي باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلمي"!!‬
‫ثالثا‪ :‬اتباع المنهج التطوري التأصيلي الذي يقف على ميلد الكلمات ويتتبعها في مسارها التاريخي‪ ،‬وقد يردها‬
‫إلى أصولها الولى "لن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس مفروضة على الفراد‪ ،‬تتناقلها الجيال‬
‫بضرب من الحتمية التاريخية‪ ،‬إذ كل ما في اللغة‪ -‬راهنا‪ -‬إنما هو منقول عن أشكال سابقة هي الخرى‬
‫منحدرة من أنماط أكثر بدائية‪ ،‬وهكذا إلى الصل الوحد أو الصول الولية المتعددة"(‪ )4‬فالنظام اللغوي‪،‬‬
‫نظام متجدد ما دامت الكلمات ل تخضع لقانون ثابت يلزمها بمدلولتها‪ ،‬فاللغة تنتظمها نواميس خفية تعود‬
‫إلى اقتضاءات تعبيرية هي جزء من النظام الكلي الذي تسير وفقه اللغة‪ ،‬وتصرف دللت تراكيبها‪.‬‬
‫هذه النقاط الثلث هي الطر الكبرى التي يندرج ضمنها منهج (ميشال بر) في علم الدللة ومعه تحديد لمجمل‬
‫فروع البحث في هذا المجال‪.‬‬

‫() ‪.Les grands courrants de la linguistique moderne. Le roy Maurice- p.46‬‬ ‫‪1‬‬

‫() تأليف ستيفن أولن‪ ،‬دور الكلمة ف اللغة‪ ،‬مقدمة‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪ .‬عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ .‬ص ‪104‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫‪-2‬بين علم الدللة وعلم اللسانيات‪:‬‬
‫إن نشأة علم الدللة‪ ،‬لم تكن نشأة مستقلة عن علوم اللغة الخرى‪ .‬إنما كان يعد هذا العلم جزءا لصيقا بعلم‬
‫اللسانيات الذي كان يهتم بدراسة اللسان البشري‪ ،‬إل أن عدم اهتمام علماء اللسانيات بدللة الكلمات‪ -‬كما أشار إلى‬
‫ذلك (بر)‪ -‬هو الذي كان دافعا لبعض العلماء اللغويين إلى البحث عن مجال علمي يضم بحثا في جوهر الكلمات‬
‫ودللتها‪ ،‬لكي يحددوا ضمنه موضوعاته ومعاييره وقواعده ومناهجه وأدواته وما كان ذلك يسيرا خاصة إذا علمنا‬
‫ذلك التداخل المتشابك الذي كان يجمع بين علوم اللغة مجتمعة وعلم اللسنية الذي ذهب علماؤه إلى تفريعه إلى‬
‫مباحث جمعت بين حقول مختلفة من العلوم كما هو شأن اللسانيات النفسية (‪ ،)psycolinguistique‬ومبحث‬
‫اللسانيات العصبية ‪ neuro-linguistique‬وما إلى ذلك‪ .‬إن العلم اللساني كان يهتم بوصف الجوانب الصورية للغة‬
‫ويتجنب الخوض في استبطان جوهر الكلمات ومعانيها الذي أصبح من اهتمامات علم الدللة (الحديث)‪ ،‬ثم إن‬
‫ضرورة الحاطة ببعد اللغة الجتماعي والثقافي والنفسي وتتبع سيرورة المعنى الديناميكي كل هذه حواجز وقفت أمام‬
‫علماء اللسانيات‪ ،‬فاستبعدوا بذلك الخوض في دراسة المعنى وركزوا بحوثهم على شكل الكلمات‪ ،‬إلى أن برز علم‬
‫الدللة ليسد هذا الفراغ في الدراسات اللغوية من جهة ويعمق البحث في الجانب الدللي للغة من جهة أخرى‪ ،‬ويجتاز‬
‫تلك الحواجز التي حالت دون أن يخوض اللسانيون في دراسة المعنى‪" ،‬لن علم الدللة هو ميدان يتجاوز حدود‬
‫اللسانيات التي يتعين عليها وصف الجوانب الصورية للغة قبل كل شيء‪ ،‬فالدللة ليست ظاهرة لغوية صرفا وإذا كان‬
‫بالمكان بناء الحقول الدللية فإنه ينبغي آنذاك العتماد على المعطيات الخارجية فقط‪)…( ..‬‬
‫إن بعد اللغة الجتماعي والثقافي من العوائق التي تقف أمام الدراسات الدللية الحديثة ويمكن تحديد ذلك فيما‬
‫يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬تعدد القيم الحافة بدللة اللفاظ المركزية‪.‬‬
‫ب‪ -‬إن دللة اللفظ ليست ظاهرة قارة ذلك أنه يمكنها أن تعتني دوما بحسب التجارب الجديدة (اللغوية وغيرها‬
‫التي يخبرها المتكلم)"(‪.)1‬‬
‫إن هذه المباحث المتشعبة التي هي من صميم اهتمامات علم الدللة‪ ،‬هي التي دفعت علماء اللسنية ومنهم‬
‫التوزيعيين(‪ )2‬إلى إبعاد دراسة الدللة من اللسانيات‪ .‬والحقيقة التي ل مراء فيها أن دراسة المعنى لم تخل منه أي‬
‫مباحث لغوية سواء أكانت قديمة أم حديثة‪ ،‬ذلك أنه ل يمكن تصور دراسة الكلمات وهي جوفاء خالية من الدللت‪.‬‬
‫وهذا ما عبر عنه سوسير في سياق حديثه عن الدال والمدلول وشبه اتحاد الكلمات ودللتها بوجهي الورقة الواحدة‪.‬‬
‫إن علم الدللة كمبحث من المباحث اللغوية حسب ماهية اللسانيات‪ ،‬يهتم بحلقة من حلقات علم اللسان البشري‪،‬‬
‫هذه الحلقة تكمن في المظهر البلغي وما يتعلق به‪ ،‬فالرسالة البلغية هي التي تضطلع بنقل دللة الخطاب إلى‬
‫المتلقي بحيث يتم‪ -‬في الحالت العادية‪ -‬استيعابها استيعابا كافيا‪" ،‬فالدراسة اللسانية ل تقف عند تشخيص الحدث‬
‫اللغوي في مستواه الدائي‪ ،‬ولكن في سلكه الدائري إذ تهتم اللسانيات بتولد الحدث وبلوغه وظيفته ثم بتحقيقه مردوده‬
‫عندما يولد رد الفعل المنشود‪ ،‬وهكذا يكون موضوع علم اللسان اللغة في مظهرها الدائي ومظهرها البلغي وأخيرا‬

‫() سال شاكر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ترجة ممد يباتي‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪1‬‬

‫() التوزيعية‪ :‬نظرية تزعمها العال اللغوي المريكي بلومفيلد وهي نظرية عامة لللسنية ترى أن اللغة تتألف من إشارات معبة تتدرج جيعا ضمن نظام‬ ‫‪2‬‬

‫اللغة لنطق يكون التعبي على مستويات متلفة والملة تمل إل مؤلفاتا الباشرة بواسطة قواعد التوزيع والتعويض والستبدال‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫(‪)1‬‬
‫في مظهرها التواصلي‪.‬‬
‫لقد ولجت اللسانيات كل مجالت التصالت النسانية حتى غدت ملتقى لكل العلوم النسانية واعتمدت في‬
‫الخطاب بأنواعه‪ ،‬ول يمكن أن نقيم هذا الدور الرائد في مجالت الحياة لللسنية دون أن نقر بحضور الدللة في ذلك‪،‬‬
‫كفرع أساسي ومهم في فعالية الخطاب "فاللسانيات تستلهم الظاهرة اللغوية ونواميسها من مصادر لسانية وغير لسانية‬
‫فتعمد إلى إجراء مقطع عمودي على كل منتجات الفكر‪ ،‬بمنظور مخصوص فبعد البحث عن خصائص الخطاب‬
‫الخباري والخطاب الشعري الدبي‪ ،‬تعمد اللسانيات إلى دراسة نواميس الخطاب العلمي والقضائي والشهاري‬
‫(‪)2‬‬
‫والديني والمذهبي‪.‬‬
‫ولم يكن لللسنية هذا الهتمام الواسع باللغة النسانية‪ ،‬إل بعد أن ظهرت في أوربا مدارس بنيوية عاينت‬
‫الظاهرة اللغوية من كل جوانبها‪ :‬الجانب الصوتي‪ ،‬والجانب المعجمي‪ ،‬والجانب التركيبي والجانب الدللي‪ ،‬واستقر‬
‫لديها أن "اللسنية هي دراسة اللغة بحد ذاتها دراسة علمية‪ ،‬وتحليل خصائصها النوعية‪ ،‬بغية الوصول إلى نواميس‬
‫عملها"(‪ .)3‬وأن "اللغة تنظيم‪ ،‬وهذا التنظيم وظيفي‪ ،‬يتوسله النسان للتعبير عن أغراضه ولعملية التواصل" فلم تعد‬
‫اللسنية تهتم بشكل الكلمات فحسب‪ ،‬بل أعطت لجوهر هذه الكلمات أهمية كبيرة‪ ،‬وذلك بعد ما تأكد لدى علماء‬
‫اللسنية‪ ،‬أن البحث اللسني يبقى ناقصا ما لم يهتم بجوانب اللغة جميعها‪ ،‬ويظل حكمه على الظواهر اللغوية يفتقد إلى‬
‫طابع المعيارية التي تسم ديناميكية اللغة وفعاليتها بسمة التقعيد‪ .‬ولم يحصل هذا الوعي اللغوي في البحث اللسني إل‬
‫مع العلماء اللغويين المتأخرين كالعالم المريكي "بلومفيلد" الذي كان يرى أن الدراسة اللسنية‪ ،‬ل تنحصر بدراسة‬
‫الصوات والدللت اللغوية بذاتها‪ ،‬بل تشمل دراسة الرتباط القائم بين أصوات معينة ودللت معينة (…)‪ ،‬وجدير‬
‫(‪)4‬‬
‫بالذكر أن مفهوم ارتباط الصوت اللغوي بالدللة‪ ،‬قد تبنته اللسنية بصورة عامة‪.‬‬
‫وبعد هذا التزاوج الذي لزم علم اللسنية الخذ به‪ ،‬تبين لعلماء اللغة المحدثين أن الجانب الدللي في اللغة ل يزال‬
‫ل كما كان في القديم‪ ،‬وأنه محتاج إلى نظرة أخرى على مستوى البحث وعلى مستوى المنهج‪ ،‬رغم ما‬ ‫البحث فيه هزي ً‬
‫قدمته العلوم المستحدثة من نظريات أنارت جوانب مهمة من علم الدللة كنظريات العلم والتواصل والمعلوماتية‪ .‬يقول‬
‫في ذلك الكاتبان‪ :‬ريمون طحان ودينر بيطار طحان‪" :‬يقترن الكلم أو الصوات‪ ،‬بنظريات الدللة العامة‪ ،‬وكان علم‬
‫الدللة الجزء الهزيل من النظريات اللسنية‪ ،‬وقد أصبح يفضل نظريات العلم والتواصل والمعلوماتية‪ ،‬مزودا بمؤشرات‬
‫سليمة منها أن المتكلمين بلغة واحدة يتبنون المعنى الواحد في الكلم الواحد أو الجملة الواحدة"(‪.)5‬‬
‫وبعد ذلك توفر لعلم الدللة وجود مستقل‪ ،‬وإن بقيت تربطه بعلوم اللغة الخرى‪ -‬وخاصة اللسنية‪ -‬وشائج‬
‫تتجلى بصورة واضحة في مجالت البحث‪ .‬حيث يبرز التقاطع بين هذه العلوم مجتمعة‪ .‬ولكن ما يميز البحث الدللي‪،‬‬
‫هو عمق الدراسة في معنى الكلمات والتراكيب متخذا في ذلك منهجا خاصا يتوخى المعيارية في اللغة والكلم‪،‬‬
‫"والعلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية وقوام العلوم ليست فحسب مواضيع بحثها وإنما يستقيم العلم‬

‫() د‪.‬عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.168‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ريون طحان‪ ،‬دينر بيطار‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ ،‬ص ‪.92‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬انظر اللسنية (علم اللغة الديث)‪ :‬ص ‪.233 -232‬‬ ‫‪4‬‬

‫() فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ ،‬ص ‪.105‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫بموضوع ومنهج"‪ )1(.‬وتبعا لذلك اتسع نطاق البحث الدللي‪ ،‬وأحرز علماء العرب سبقا في هذا المجال حيث برز‬
‫لغويون كثيرون وضعوا نظريات مختلفة وأرسوا بذلك قواعد أضحت مدارس دللية‪ ،‬تنظر إلى قضية "المعنى"‬
‫بنظريات مختلفة‪ ،‬وداخل المنهج الوحد للبحث الدللي ظهرت مناهج فرعية رأى أصحابها نجاعتها في تقديم الجوبة‬
‫الكافية لمختلف المسائل التي طرحت في الدراسات الدللية‪ ،‬والتي عجز عنها البحث اللغوي قبلها‪ ،‬ولكن ما هي‬
‫القضايا الساسية التي طرحها الدرس الدللي الحديث؟ وما هي المباحث اللغوية التي اختص بها علم الدللة حتى‬
‫غدت مجالً خاصة به‪ ،‬تعبر عن خصوصية هذا العلم واستقلله عن بقية العلوم اللغوية الخرى؟‬
‫هذا ما سنحاول الجابة عليه في المباحث التالية‪.‬‬

‫ثانياً‪ -‬ماهية الدللة بين القديم والحديث‬

‫‪-I‬مصطلح "الدللة" في القرآن الكريم ومعجمات اللغة‪:‬‬


‫تمهيد‪ :‬الحديث عن المصطلح الدللي‪ -‬كيف نشأ وكيف تطور‪ -‬يدعو إلى تحديد المفهوم اللغوي الول لهذا‬
‫المصطلح‪ ،‬لن الوضع اللغوي الذي تصالح عليه أهل اللغة قديما‪ ،‬يلقي بظلله الدللية على المعنى العلمي المجرد في‬
‫الدرس اللساني الحديث "فالمصطلح يتشكل مع نمو الهتمام في أبواب العلم وبالحتكاك الثقافي‪ )2(".‬وقد وقع اختلف‬
‫بين علماء اللغة المحدثين في تعيين المصطلح العربي الذي يقابل مصطلح "السيمانتيك" بالجنبية الذي أطلقه العالم‬
‫اللغوي "بريل" سنة ‪ 1883‬على تلك الدراسة الحديثة‪ ،‬التي تهتم بجوهر الكلمات في حالتها الفرادية المعجمية وفي‬
‫حالتها التركيبية السياقية وآلياتها الداخلية التي هي أساس عملية التواصل والبلغ‪ ،‬فاهتدى بعض علماء اللغة العرب‬
‫إلى مصطلح "المعنى" باعتباره ورد في متون الكتب القديمة لعلماء أشاروا إلى الدراسة اللغوية التي تهتم بالجانب‬
‫المفهومي للفظ كالجرجاني الذي يعرف الدللة الوضعية‪ ،‬بأنها كون اللفظ بحيث متى أطلق أو تخيل فهم منه معناه‬
‫للعلم بوضعه‪ )3(.‬ومن علماء العرب المحدثين الذي استعمل مصطلح "المعنى" الدكتور تمام حسان إذ يقول‪ ،‬في سياق‬
‫حديثه عن العلقة بين الرمز والدللة‪" :‬ولبيان ذلك نشير إلى تقسيم السيميائيين للعلقة بين الرمز والمعنى إلى علقة‬
‫طبيعية وعلقة عرفية وعلقة ذهنية‪ )4(".‬وفي مقام آخر يستعمل الكاتب نفسه مصطلحي الدال والمدلول في حديثه عن‬
‫العلقة الطبيعية بين الرمز الدبي ومعناه إذ يقول‪" :‬وهناك طريقة أخرى للكشف عن هذه الرموز الطبيعية في الدب‬
‫(‪)5‬‬
‫الطريقة هي عزل الدال عن المدلول أو الشكل عن المضمون‪ ،‬ثم النظر إلى تأثير الدال في النفس بعد ذلك"‪.‬‬
‫وقد آثر لغويون آخرون استعمال مصطلح "الدللة" مقابلً للمصطلح الجنبي‪" :‬لنه يعين على اشتقاقات فرعية‬
‫مرنة نجدها في مادة (الدللة‪ - :‬الدال‪ -‬المدلول‪ -‬المدلولت‪ -‬الدللت‪ -‬الدللي)"(‪ .)6‬ولنه لفظ عام يرتبط بالرموز‬
‫اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬أما مصطلح "المعنى" فل يعني إل اللفظ اللغوي بحيث ل يمكن إطلقه على الرمز غير اللغوي‪،‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ :‬ص ‪.77‬‬ ‫‪2‬‬

‫() السيد شريف الرجان‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪.215‬‬ ‫‪3‬‬

‫() تام حسان‪ ،‬الصول‪ ،‬ص ‪.318‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.321‬‬ ‫‪5‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫ل على ذلك أنه يعد أحد فروع الدرس البلغي وهو علم المعاني‪.‬‬
‫فض ً‬
‫فدرءا للبس وتحديدا لطار الدراسة العلمية‪ ،‬استقر رأي علماء اللغة المحدثين على استعمال مصطلح "علم‬
‫الدللة"‪ ،‬مرادفا لمصطلح "السيمانتيك" بالجنبية وأبعدوا مصطلح "المعنى" وحصروه في الدراسة الجمالية لللفاظ‬
‫والتراكيب اللغوية وهو ما يخص "علم المعاني" في البلغة العربية‪.‬‬
‫‪-1‬لفظ "الدللة" في القرآن الكريم‪:‬‬
‫لقد أورد القرآن الكريم صيغة "دلّ" بمختلف مشتقاتها في مواضع سبعة تشترك في إبراز الطار اللغوي‬
‫المفهومي لهذه الصيغة‪ ،‬وهي تعني الشارة إلى الشيء أو الذات سواء أكان ذلك تجريدا أم حسا ويترتب على ذلك‬
‫وجود طرفين‪ :‬طرف دال وطرف مدلول يقول تعالى في سورة "العراف" حكاية عن غواية الشيطان لدم وزوجه‪:‬‬
‫"فدلّهما بغرور"(‪ .)1‬أي أرشدهما إلى الكل من تلك الشجرة التي نهاهما ال عنها‪ .‬فإشارة الشيطان دال والمفهوم الذي‬
‫استقر في ذهن آدم وزوجه وسلكا وفقه هو المدلول أو محتوى الشارة‪ ،‬فبالرمز ومدلوله تمت العملية البلغية بين‬
‫الشيطان من جهة‪ ،‬وآدم وزوجه من جهة ثانية‪ ،‬وإلى المعنى ذاته‪ ،‬يشير قوله تعالى حكاية عن قصة موسى عليه‬
‫السلم‪" :‬وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون"(‪ )2‬كما ورد قوله‬
‫تعالى في سورة "طه" حكاية عن إبليس‪" :‬قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك ل يبلى"(‪ .)3‬فهاتان اليتان‬
‫تشيران بشكل بارز إلى الفعل الدللي المرتكز على وجود باث يحمل رسالة ذات دللة‪ .‬ومتقبل يتلقى الرسالة‬
‫ويستوعبها وهذا هو جوهر العملية البلغية التي تنشدها اللسانيات الحديثة‪ ،‬فإذا تم التصال البلغي فواضح أن‬
‫القناة التواصلية سليمة بين الباث والمتقبل‪ .‬وتبرز العلقة الرمزية بين الدال والمدلول‪ -‬قطبي الفعل الدللي‪ -‬في قوله‬
‫تعالى من سورة الفرقان‪" :‬ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلً"‪ )4(.‬فلول‬
‫الشمس ما عرف الظل‪ ،‬فالشمس تدل على وجود الظل فهي شبيهة بعلقة النار بالدخان الذي يورده علماء الدللة مثالً‬
‫للعلقة الطبيعية التي تربط الدال بمدلوله‪ ،‬ويمكن تمثل هذه العلقة في أي صيغة أخرى‪ ،‬ولقد دلت الرضة‪ ،‬التي‬
‫أكلت عصا سليمان عليه السلم حتى خرّ‪ ،‬أنه ميت في قوله تعالى من سورة سبأ‪" :‬فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم‬
‫(‪)5‬‬
‫على موته إل دابة الرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين"‪.‬‬
‫فتعيين طرفي الفعل الدللي كما تحدده الية‪ ،‬ضروري ليضاح المعنى؛ فالدابة وأكلُها العصا دال‪ ،‬وهيئة سليمان وهو‬
‫ميت مدلول‪ ،‬فلول وجود "الرضة" (الدال) لما كان هناك معرفة موت سليمان‪ -‬عليه السلم‪( -‬دال عليه)‪ ،‬ومن‬
‫السورة السابقة ورد قوله تعالى‪" :‬وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق‬
‫جديد‪ )6(".‬فهذه الية تؤكد على ضرورة وجود إطار للفعل الدللي‪ ،‬عناصره الدال والمدلول والرسالة الدللية التي‬
‫تخضع لقواعد معينة‪ ،‬تشرف على حفظ خط التواصل الدللي بين المتخاطبين‪ ،‬وإلى المفهوم اللغوي ذاته يشير قوله‬
‫تعالى على لسان أخت موسى عليه السلم‪" :‬إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ‬

‫() الية رقم ‪ ،22‬انظر تفسي القرطب‪ :‬الامع لحكام القرآن‪ ،‬ج ‪ ،13‬ص ‪.37‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سورة القصص‪ :‬الية ‪ ،12‬انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.217‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الية‪ ،120 :‬انظر تفسي ابن كثي‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.542‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الية‪ ،45 :‬انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.120‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الية‪ ،14 :‬انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪.62‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الية‪ ،7 :‬انظر تفسي القرطب‪ :‬الامع لحكام القرآن‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫(‪)1‬‬
‫عينها ول تحزن‪".‬‬
‫هذه اليات التي ورد ذكر لفظ "دلّ" بصيغه المختلفة‪ ،‬تشترك في تعيين الصل اللغوي لهذا اللفظ‪ ،‬وهو ل يختلف‬
‫كثيرا عن المصطلح العلمي الحديث ودللته‪ ،‬فإذا كان معنى اللفظ "دلّ" وما صيغ منه في القرآن الكريم يعني العلم‬
‫والرشاد والشارة والرمز‪ ،‬فإن المصطلح العلمي للدللة الحديثة ل يخرج عن هذه المعاني إل بقدر ما يضيف من‬
‫تحليل عميق للفعل الدللي‪ ،‬كالبحث عن البنية العميقة للتركيب اللغوي بملحظة بنيته السطحية‪ ،‬أو افتراض وجود‬
‫قواعد دللية على مستوى الذهن تكفل التواصل بين أهل اللغة الواحدة‪ ،‬وهو يفسر توليد المتكلم لجمل جديدة لم يكن قد‬
‫تعلمها من قبل‪ .‬كما تنص على ذلك القواعد التوليدية التي أشار إليها (تشومسكي) ضمن نظريته التوليدية‪ ،‬فما يمتاز‬
‫(‪)2‬‬
‫به متكلم اللغة قدرته على إنتاج وفهم جمل لم يسبق له أن أنتجها أو سمعها من قبل"‪.‬‬
‫‪-2‬لفظ "دل" في معاجم اللغة‪:‬‬
‫الصورة المعجمية لي لفظ في اللغة العربية تمثل المرجعية الولى لهذا اللفظ في القاموس الخطابي‪ ،‬باعتبار‬
‫دللته الولى "فالحالة المعجمية لللفاظ تمثل الصورة الساسية لمحيطها الدللي(‪ .")3‬وكتاب القرآن الكريم‪ ،‬يمثل ذروة‬
‫ما وصل إليه الخطاب اللغوي القديم من فصاحة اللغة وجودة التعبير والدللة‪ ،‬فلو تتبعنا لفظ "دل"‪ ،‬وما صيغ منه‪ ،‬في‬
‫معاجم اللغة المعروفة‪ ،‬للفينا دللته ل تبتعد عن ذلك المجال الذي رسمه القرآن الكريم‪ ،‬فيورد ابن منظور قوله حول‬
‫معاني لفظ دل‪" :‬الدليل ما يستدل به‪ ،‬والدليل الدال‪ .‬وقد دله على الطريق يدله دللة (بفتح الدال أو كسرها أو ضمها)‬
‫والفتح أعلى‪ ،‬وأنشد أبو عبيد‪ :‬إني امرؤ بالطرق ذو دللت‪ .‬والدليل والدليلي الذي يدلك"‪ .‬ويسوق ابن منظور قول‬
‫سيبويه وعلي‪ -‬كرم ال وجهه‪ -‬وقد تضمن قولهما لفظ "دل" يقول سيبويه‪" :‬والدليلي علمه بالدللة ورسوخه فيها"‪.‬‬
‫وفي حديث علي‪ -‬رضي ال عنه‪ -‬في صفة الصحابة‪" :‬ويخرجون من عنده أدلة" وهو جمع دليل أي بما قد علموا‬
‫(‪)4‬‬
‫فيدلون عليه الناس يعني‪ :‬يخرجون من عنده فقهاء‪ ،‬فجعلهم أنفسهم أدلة‪ ،‬مبالغة‪".‬‬
‫إن ابن منظور‪ -‬بما جمع من أمثلة‪ -‬يرسم الطار المعجمي للفظ "دل" محددا المعنى الحقيقي الذي ينحصر في‬
‫دللة الرشاد أو العلم بالطريق الذي يدل الناس ويهديهم‪ .‬وهذا التصور للدللة‪ ،‬ل يختلف عن التصور الحديث مما‬
‫يعني أن المصطلح العلمي (الدللة) يستوحي معناه من تلك الصورة المعجمية التي نجدها في أساليب الخطاب اللغوي‬
‫القديم‪.‬‬
‫وإلى المعنى ذاته يشير الفيروز أبادي محددا الوضع اللغوي للفظ "دل" فيقول‪ …" :‬والدالة ما تدل به على‬
‫حميمك‪ ،‬ودله عليه دللة (ويثلثه) ودلولة فاندل‪ :‬سدده إليه (‪ )..‬وقد دلت تدل والدال كالهدي(‪ …")5‬وبهذا الشرح يؤكد‬
‫الفيروز أبادي ما نص عليه ابن منظور من أن الصل اللغوي للفظ "دل" يعني هدى وسدد وأرشد‪.‬‬
‫ويترتب على هذا التصور المعجمي توفر عناصر الهدي والرشاد والتسديد أي توفر‪ :‬مرشِد ومرشَد ووسيلة‬
‫إرشاد وأمر مرشَد إليه‪ .‬وحين يتحقق الرشاد تحصل الدللة‪ ،‬وتقابل اللسانيات الحديثة هذا التصور‪ ،‬بتعيين الباث‬

‫() سورة طه‪ :‬الية ‪ ،40‬انظر تفسي ابن كثي‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.506‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عبد القاهر غذامي الفهري‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.370‬‬ ‫‪2‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ابن منظور‪ ،‬انظر لسان العرب‪ ،‬ص ‪.395 -394‬‬ ‫‪4‬‬

‫() القاموس الحيط‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.377‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫والمتقبل ووسيلة البلغ والتواصل وشروطها‪ ،‬ثم المرجع المفهومي الذي تحيل عليه الرسالة البلغية‪ ،‬وبناء على‬
‫ذلك فالعمل المعجمي هو عمل دللي وإن كان (جورج مونان) كما نقل د‪.‬فايز الداية ينبه إلى أنه من الضروري عدم‬
‫الخلط بين علم الدللة (‪ )semantique‬والدراسة المعجمية (‪ ،)lexicographie‬هذه التي ل تهتم إل بوصف فحوى‬
‫الكلمات كما نراها‪ -‬في الحالة التقليدية‪ -‬حين تسجيلها في المعجم(‪ .")1‬ولكن إذا كان المعجم ل يفي بالغرض في نقل‬
‫دللة اللفظ التي تشعب بها الخطاب اللغوي الحديث‪ ،‬فإن إيراد المعنى المركزي هو الذي يعين على مجموعة الحالت‬
‫الجزئية التي تتباين وتتغاير بعدد السياقات التي تحل فيها(‪ ،)2‬وعلى ذلك فإن الدراسات المعجمية‪ -‬كما قام بها علماء‬
‫المعجم‪ -‬ل يمكن إغفالها أو إسقاطها من الجهود الدللية العربية‪ -‬ويبقى السياق المحدد الرئيسي لدللة اللفظ المتجددة‪،‬‬
‫إذ ذهب بعض العلماء إلى التأكيد أن معنى الكلمة هو مجموع استعمالتها المختلفة في السياقات المتعددة‪" ،‬وعلى‬
‫العموم فإن معاني (دللت) الكلمات هي نتائج ل يتوصل إليها إل من خلل تفاعل المكانيات التفسيرية لكامل الكلم‬
‫كما يرى إمبسون‪ )3(".‬هذا التحديد اللغوي للفظ "دل" كما جاء به الفيروز آبادي ينطوي على جملة من المعطيات‬
‫اللغوية‪ ،‬يفسرها الدرس اللساني والدللي الحديث ويحدد أبعادها المعرفية‪.‬‬
‫أما الزبيدي في معجمه فيشرح لفظ "دل" لغويا فيقول‪ …" :‬وامرأة ذات دل أي شكل تدل به" وينقل عن الزهري‬
‫في كتابه "التهذيب" قوله‪ :‬دللت بهذا الطريق دللة عرفته ودللت به أدل دللة‪ ،‬ثم إن المراد بالتسديد إراءة الطريق‪ ،‬دل‬
‫عليه يدله دللة ودلولة فاندل على الطريق (سدده إليه)‪ .‬وأنشد ابن العرابي‪:‬‬

‫وكيف يندل امرؤ وعثول‬ ‫ما لك يا أعور ل تندل‬

‫ومما يستدرك عليه الدليل ما يستدل به‪ ،‬وأيضا الدال وقيل هو المرشد وما به الرشاد‪ ،‬الجمع أدلة وأدلء‪ ،‬قول‬
‫الشاعر‪:‬‬

‫من أهل كاظمة بسيف البحر‬ ‫شدوا المطي على دليل دائب‬

‫أي على دللة دليل كأنه قال معتمدين على دليل… قال ابن العرابي‪ :‬دل فلن إذا هدى(‪ .)4‬وتجمع قواميس اللغة‬
‫على أن الدللة‪ ،‬تعني الهدي والرشاد‪ ،‬فدله على الشيء وعليه أرشده وهداه‪.‬‬
‫‪-3‬ماهية الدللة بين القديم والحديث‪:‬‬

‫أولً‪ :‬الدللة في تعريفات علماء العرب القدامى‬


‫(السس والمبادئ النظرية)‪:‬‬
‫إن السس النظرية التي انبنى عليها المصطلح العلمي القديم نشأت في رحاب الدرس الفقهي‪ ،‬الذي يتوخى فهم‬
‫كتاب ال واستنباط الحكام منه‪ ،‬ولذلك نجد مختلف علوم التراث المعرفي العربي تشترك‪ -‬إلى حد بعيد‪ -‬في أدوات‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.205 -204‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.217‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.223‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الزبيدي‪ ،‬تاج العروس‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪.325 -324‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫البحث ومصطلحاته العلمية‪ ،‬ول أدل على ذلك أن ظهر فرع من علوم العربية أطلق عليه مصطلح "فقه اللغة"(‪ )1‬على‬
‫غرار فقه الشرع‪ ،‬كما استخدم اللغويون القدامى مصطلحات هي من لوازم الفقه الشرعي نذكر منها‪ :‬مصطلح القياس‬
‫والسماع والجماع واستصحاب الحال والستحسان(‪ )2‬وما إلى ذلك‪ ،‬ولم يشذ الدرس الدللي في التراث العربي عن‬
‫هذه السس النظرية باعتباره كان يدور في فلك العلوم التي كانت تهدف إلى فهم كتاب القرآن‪ ،‬بتذليل معانيه واستنباط‬
‫دللته‪ ،‬واقتباس سننه في النشاء والتعبير‪ .‬ويمكن أن نلمس هذا الهتمام بالدللة‪ -‬لدى المتقدمين من العلماء العرب‪-‬‬
‫في ميادين مختلفة من المعارف والعلوم كالمنطق والفلسفة‪ ،‬وأصول الفقه‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والنقد‪ ،‬وبناء على هذه العلوم‬
‫سنبين تعريفات للدللة عند كل من‪ :‬أبي نصر الفرابي (ت ‪339‬هـ)‪ ،‬والمام أبي حامد الغزالي (ت ‪505‬هـ)‪ ،‬وعبد‬
‫الرحمن بن خلدون (ت ‪808‬هـ)‪ ،‬والشريف الجرجاني (ت ‪816‬هـ)‪ ،‬واختيارنا لهؤلء العلم ارتكز أساسا على‬
‫عدة اعتبارات كان أهمها وضوح الهتمام بالتنظير الدللي الذي يبدو بارزا في مؤلفات هؤلء العلماء‪ ،‬وسنقتصر‬
‫على تقديم ماهية الدللة عند علماء العرب القدامى تقديما موجزا بالقدر الذي يبرز مفاهيمها وتعريفاتها‪ ،‬ذلك أن‬
‫دراسة الدللة في التراث العربي القديم بكيفية مفصلة سيشتمل عليه الفصل الول من المدخل التطبيقي الذي يحمل‬
‫عنوان‪ :‬جهود العرب القدامى في الدراسة الدللية‪..‬‬

‫‪-I‬مفاهيم الدللة عند الفرابي (ت ‪339‬هـ)‪:‬‬


‫لقد اقترن اسم الفرابي في التراث العربي بميدانين من ميادين الثقافة السلمية وهما‪ :‬ميدان علم المنطق وميدان‬
‫علم الفلسفة‪ ،‬وصلة هذين الميدانين بعلوم اللغة ل تخفى على أي مطلع ودارس للتراث المعرفي العربي‪ ،‬فالفرابي كان‬
‫يرى ضرورة الخذ بعلوم العربية وقوانينها وسننها في التعبير والخطاب‪ ،‬لنها أدوات أساسية في البحث المنطقي‬
‫والفلسفي‪ ،‬واهتمام الفرابي بعلوم العربية يستشف من خلل مؤلفاته في المنطق والفلسفة‪ ،‬ول نكاد نعثر عنده على‬
‫تنظير للدللة ومتعلقاتها‪ ،‬إل بقدر ما له ارتباط بهذين العلمين‪ ،‬ومن جملة المسائل الدللية التي بحثها الفرابي ما يلي‪:‬‬
‫أ‪-‬أقسام اللفاظ باعتبار دللتها‪:‬‬
‫اهتم الفرابي اهتماما بالغا باللفاظ‪ ،‬فصنفها إلى تصنيفات عدة‪ ،‬بل إنه وضع لها علما خاصا سماه "علم اللفاظ"‬
‫الذي عده من فروع علوم اللسان التي قسمها إلى سبعة أقسام وهي‪" :‬علم اللفاظ المفردة وعلم اللفاظ المركبة‪ ،‬وعلم‬
‫قوانين اللفاظ عندما تكون مفردة‪ ،‬وقوانين اللفاظ عندما تركب وقوانين تصحيح الكتابة‪ ،‬وقوانين تصحيح القراءة‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وقوانين الشعر‪".‬‬
‫ودراسة الفرابي لللفاظ ل يمكن تصورها بمعزل عن الدللة‪ ،‬فل وجود للفاظ فارغة الدللة في علمي المنطق‬
‫والفلسفة‪ ،‬إنما اللفاظ ودللتها وجهان لعملة واحدة‪ ،‬مما سيسمح ذلك في القرون المتأخرة إلى إبراز جملة من‬
‫العلقات الدللية الناتجة عن اتحاد الدال بمدلوله‪ ،‬وهو ما ظهر جليا في العصر الحديث في مباحث دسوسير الذي‬
‫وضع مصطلح الدليل اللساني (‪ )le signe linguistique‬على اتحاد اللفظ بالمعنى‪ ،‬قطبي الفعل الدللي‪.‬‬
‫إن المستوى الذي تتم فيه الدراسة الدللية عند الفرابي هو مستوى الصيغة الفرادية وهو يطلق عليه في الدرس‬
‫اللسني الحديث بالدراسة المعجمية‪ ،‬التي تتناول اللفاظ بمعزل عن سياقها اللغوي‪ ،‬فتدرس دللتها وأقسامها ضمن‬

‫() أول مؤلف حل عنوان فقه اللغة هو كتاب الصاحب ف فقه اللغة وسنن العرب ف كلمها لبن فارس‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ريون طحان‪ ،‬دينر بيطار ضحاك‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الفراب‪ ،‬إحصاء العلوم‪ ،‬ص ‪.159‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫حقول دللية تنتظم فيها وفق قوانين حددها علماء الدللة وذلك لدماجها في استعمال لغوي أمثل‪ .‬يقول الفرابي مشيرا‬
‫إلى هذه الدراسة‪" :‬اللفاظ الدالة منها مفردة تدل على معان مفردة ومنها مركبة تدل على معان مفردة… واللفاظ‬
‫الدالة على المعاني المفردة ثلثة أجناس‪ :‬اسم وكلمة [فعل] وأداة [حرف] وهذه الجناس الثلثة تشترك في أن كل‬
‫واحد منها دال على معنى مفرد"(‪ )1‬فأقسام اللفاظ باعتبار دللتها تنتظم في قسمين‪ ،‬ألفاظ مفردة ذات دللة مفردة‪،‬‬
‫ومعيار اللفظ المفرد هو ما يدل جزؤه على جزء معناه‪ ،‬فدللته قابلة للتجزئة‪ ،‬أما قسم اللفاظ المركبة ذات الدللة‬
‫المفردة فهي على نقيض اللفاظ المفردة‪ ،‬إذ هي غير قابلة لن تتجزأ دللتها‪ ،‬وتعرف بأنها ما ل يدل جزؤه على‬
‫جزء معناه‪ ،‬يقدم ابن سينا تمثيلً لذلك بقوله‪" :‬اللفظ المفرد‪ :‬هو الذي ل يراد بالجزء منه دللة أصلً حين هو جزؤه‬
‫مثل تسميتك إنسانا بعبد ال فإنك حين تدل بهذا على ذاته‪ ،‬ل على صفته من كونه "عبد ال" فلست تريد بقولك "عبد"‬
‫شيئا أصلً‪ .‬فكيف إذا سميته بـ"عيسى"؟ بلى‪ ،‬في موضع آخر تقول "عبد ال" وتعني بـ"عبد" شيئا‪ ،‬وحينئذ يكون "عبد‬
‫ال" نعتا له‪ ،‬ل اسما وهو مركب ل مفرد"‪ )2(.‬ولم يخرج تقسيم ابن سينا لللفاظ عما وضعه الفرابي قبله في كتابه "في‬
‫المنطق"‪.‬‬
‫ب‪-‬ما يقوم به مقام اللفظ المفرد من الدوات الدالة‪:‬‬
‫لقد قسم الفرابي اللفاظ الدالة إلى ثلثة أقسام‪ :‬السم والفعل والداة‪ .‬وإذا كانت دللة السم والفعل واضحة‪ ،‬فإن‬
‫دللة الداة قد يكتنفها غموض‪ ،‬يشرح الفرابي في كتابه "الحروف" هذه المسألة ويفيض البحث فيها‪ ،‬ففي مقام حصره‬
‫لستخدامات الحرف "ما" يقول‪" :‬يستعمل [ما] في السؤال عن شيء ما مفرد‪ ،‬وقد يقرن باللفظ المفرد والذي للدللة‬
‫عليه أولً وهو الشيء الذي جعل ذلك اللفظ دالً عليه"‪ )3(.‬فالحروف ليست لها دللة في ذاتها إنما قيمتها الدللية فيما‬
‫تشير إليه‪ ،‬واللفظ ل يدل على ذاته إنما يدل على المحتوى الفكري الذي في الذهن‪ ،‬وفي هذا الطار يشرح الفرابي‬
‫استعمالت لفظ "موجود" فيقول‪" :‬الموجود لفظ مشترك يقال على جميع المقولت والفضل أن يقال إنه اسم لجنس من‬
‫(‪)4‬‬
‫الجناس العالية على أنه ليست له دللة في ذاته‪".‬‬
‫ج‪-‬الدللة محتواه في النفس‪:‬‬
‫إن العلقة التي تربط الدال بمدلوله في علم المنطق‪ ،‬ل يمكن أن تترك دون قواعد أو قوانين‪ ،‬لن علم المنطق‬
‫يهدف إلى عقلنة الفكار بإخضاعها إلى قوانين تنتظم في إطارها‪ ،‬ولهذا يطلق الفرابي على المعاني أو الدللت‬
‫مصطلح منطقي هو "المعقولت" التي يكون محلها النفس التي يتم فيها تصحيح المفاهيم برؤية منطقية‪ ،‬يقول الفرابي‬
‫في ذلك‪" :‬وأما موضوعات المنطق وهي التي تعطي القوانين فهي المعقولت‪ ،‬من حيث تدل عليها اللفاظ‪ ،‬واللفاظ‬
‫من حيث هي دالة على المعقولت وذلك أن الرأي إنما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروّي ونقيم في أنفسنا أمورا‬
‫(‪)5‬‬
‫ومعقولت شأنها أن تصحح ذلك الرأي‪".‬‬
‫فالنظرية الدللية عند الفرابي‪ ،‬ل تخرج عن إطار علقة اللفاظ بالمعاني ضمن القوانين المنطقية‪ ،‬ويمكن أن‬
‫نجمل تعريف الفرابي لعلم الدللة بأنه الدراسة التي تنتظم وتتناول اللفاظ ومدلولتها‪ ،‬وتتبع سنن الخطاب والتعبير‬

‫() الفراب‪ ،‬العبارة‪ ،‬كتاب ف النطق‪ ،‬ص ‪.74‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.191‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الروف‪ ،‬ص ‪.166‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.115‬‬ ‫‪4‬‬

‫() إحصاء العلوم‪ ،‬ص ‪.167‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫لتقنينه وتقعيده‪.‬‬

‫‪-II‬مفاهيم الدللة عند الغزالي (ت‪:)505 :‬‬


‫إن مفهوم الدللة عند الغزالي ينبغي أن ينظر إليه من زاوية الثقافة الصولية‪ ،‬ذلك أن الحكام التي استنبطها من‬
‫القرآن الكريم‪ -‬خاصة‪ -‬استند فيها على أسس نظرية نجدها بشكل واضح في كتابه "المستصفى من علم الصول"‪.‬‬
‫ل إلى فهم عميق للدللة‪" ،‬وإن كانت وضعت لتطبق في فهم النصوص الشرعية‪ ،‬ولكنها تطبق‬ ‫وتعود هذه السس أص ً‬
‫(‪)1‬‬
‫أيضا في معاني أي نص غير شرعي ما دام مصوغا في لغة عربية" والتفسير الدللي الذي توصل إليه الغزالي‪،‬‬
‫يدل على أن هذا العالم الفيلسوف قد تجاوز البحث عن ماهية الدللة إلى البحث عن جوهر الدللة وفروعها‪ ،‬فبنظرة‬
‫مقتضبة إلى بعض نصوصه في كتابه المشار إليه آنفا‪ ،‬تجده يذكر أصنافا لمعان قد حددها علماء الدللة المحدثون‬
‫كالمعنى الرشادي أو اليمائي‪ ،‬والمعنى التساعي‪ ،‬والمعنى السياقي‪ ،‬وإن كان الغزالي يسميها بمصطلحات أصولية‬
‫وهي على الترتيب دللة الشارة ودللة القتضاء وفحوى الخطاب‪ ،‬وكل دللة عند الغزالي قد تنقسم إلى دللت‬
‫فرعية يقول معرفا دللة القتضاء‪ ،‬بأنها هي التي ل يدل عليها اللفظ ول يكون منطوقا بها ولكن تكون من ضرورة‬
‫اللفظ‪ )2(.‬وكيف تكون دللة القتضاء من ضرورة اللفظ يا ترى؟ يوضح ذلك الغزالي بقوله‪" :‬أما من حيث ل يمكن‬
‫(‪)3‬‬
‫كون المتكلم صادقا إل به‪ ،‬أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إل به أو من حيث يمتنع ثبوته عقلً إل به"‪.‬‬
‫إن إدراك دللة القتضاء تتم إما باعتبار طبيعة حال المتكلم فهي بناء على ذلك طبيعية ل يكون المتكلم عندها إل‬
‫صادقا وإما باعتبار طريق العقل فالدللة إذن عقلية منطقية‪.‬‬
‫وسيشير الغزالي إلى ما يمكن أن يصحب العملية التواصلية من حركة وإيماء وإشارة من قبل المتكلم فتنصرف‬
‫الدللة من المعنى الرئيسي‪ ،‬إلى المعنى اليمائي أو ما يسمى في علم الدللة الحديث "بالقيم الحافة"‪ ،‬وهي تعني جملة‬
‫القيم الثقافية والجتماعية وغيرها التي تصحب عملية التواصل أو البلغ فلكي نؤدي دللة معينة ل نعتمد فحسب‬
‫على اللفاظ أو الرموز‪ ،‬إنما يقتضي ذلك تضافر عدة أنظمة إبلغية "إذا كان النظام الكلمي أهمها فإن سائرها يواكبه‬
‫مكملً إياه"(‪ )4‬من ذلك النظام الشاري‪ ،‬والنظام النبري "فوق المقطعي"‪ ،‬والنظام اليحائي‪ ،‬والنظام السياقي‪ ،‬ونظام‬
‫المقام أو الحال‪ ،‬يقول الغزالي محددا بعض هذه النظمة الدللية في سياق تعريفه لدللة الشارة‪" :‬وهي [أي دللة‬
‫الشارة] ما يؤخذ من إشارة اللفظ ل من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه‪ ،‬فكما أن المتكلم قد‬
‫يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلمه ما ل يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به‬
‫(…) وهذا ما قد يسمى إيماء وإشارة‪ )5(".‬أما النظام السياقي الذي يشرف على تحميل الصيغة دللت إضافية‪ ،‬عدها‬
‫الدرس الدللي الحديث دللت أساسية‪ ،‬يقدمه الغزالي بقوله أنه فهم غير المنطوق به من المنطوق بدللة سياق الكلم‬
‫(‪)6‬‬
‫ومقصوده‪".‬‬

‫() عبد القادر عودة‪ ،‬التشريع النائي السلمي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.156‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الستصفى من علم الصول‪ ،‬ص ‪.187‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الستصفى من علم الصول‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.188‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.190‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫إن هذه التصنيفات للدللة التي حددها الغزالي‪ ،‬تمثل وعيا عميقا صحب فكر هذا العالم‪ ،‬ومكنه من أن يسهم في‬
‫تأسيس الفكر النظري في مجال الدللة‪ .‬وهذه السهامات العلمية‪ ،‬لن تقدر حق قدرها ما لم ينظر إليها بمنظار‬
‫"المعرفة" التي تأسس وفقها تراث القرن الخامس والسادس الهجريين‪ ،‬وقد أبان الغزالي على نحو علمي راق علقات‬
‫اللفاظ بالمعاني‪ ،‬ولم يخرج عن تلك المحددة قبلً عند العلماء‪ ،‬وهي علقة المطابقة وعلقة التضامن وعلقة اللتزام‬
‫أو الستتباع‪ )1(.‬كما بحث الغزالي قسم اللفاظ من حيث إفرادها وتركيبها وأحصى في ذلك ثلثة أقسام‪ :‬ألفاظ مفردة‬
‫وألفاظ مركبة ناقصة‪ ،‬وألفاظ مركبة تامة‪ ،‬فاللفظ المفرد عند الغزالي‪ ،‬ل يخرج عن تصور من سبقه من العلماء‬
‫خاصة الفرابي وابن سينا يقول الغزالي‪" :‬المفرد وهو الذي ل يراد بالجزء منه دللة على شيء أصلً حين هو جزؤه‬
‫كقولك عيسى وإنسان‪ ،‬فإن جزئي عيسى وهما "عي وسا" وجزئي إنسان وهما "إن وسان" ما يراد بشيء منهما الدللة‬
‫على شيء أصلً(‪ .)2‬أما المركب فهو الذي يدل كل جزء فيه على معنى‪ ،‬والمجموع يدل دللة تامة بحيث يصح‬
‫السكوت عليه من ذلك قولهم‪ :‬زيد يمشي والناطق حيوان أما قولهم‪ :‬في الدار أو النسان في‪ ،‬مركب ناقص لنه‬
‫مركب من اسم وأداة‪ )3(.‬وما يلحظ في تقسيمات الفرابي وابن سينا والغزالي لللفاظ باعتبار الفراد والتركيب‪ ،‬هو‬
‫إسنادهم في ذلك كله على القصد والرادة‪ ،‬فإن أريد بمركب اسمي أو فعلي دللة مفردة‪ ،‬كانت تلك الدللة‪ ،‬وإن أريد‬
‫بهما غير تلك الدللة لم تكن‪.‬‬
‫وإن تتبعنا تقسيمات الغزالي لللفاظ‪ ،‬للفيناها تتعدد لتعطي ذلك المفهوم العام الذي استقر لدى هذا العالم حول‬
‫الدللة وفروعها ومتعلقاتها‪ ،‬ويمكن أن يشير في هذا المجال إلى تقسيمه لللفاظ باعتبار الكلي والجزئي‪ ،‬وعموم‬
‫المعنى وخصوصه‪ ،‬كما أقام تقسيمات لللفاظ باعتبار نسبتها إلى المعاني وحدد أربعة أصناف يقول‪" :‬اعلم أن اللفاظ‬
‫من المعاني على أربعة منازل‪ :‬المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة‪ )4(".‬ويشرح الغزالي على نحو تفصيلي‬
‫مرتب‪ ،‬العلقة بين الصور المحفوظة في الذاكرة للمدلولت المادية والمجردة‪ ،‬واللفاظ والكتابة التي هي أدوات دالة‬
‫فيقول‪" :‬اعلم أن المراتب فيما نقصده أربع واللفظ في الرتبة الثالثة‪ ،‬فإن للشيء وجودا في العيان ثم في الذهان ثم‬
‫في اللفاظ ثم في الكتابة‪ ،‬فالكتابة دالة على اللفظ‪ ،‬واللفظ دال على المعنى الذي في النفس‪ ،‬والذي في النفس هو مثال‬
‫(‪)5‬‬
‫الموجود في العيان‪".‬‬
‫وعلى هذا الساس وبحسب تقسيمات الغزالي‬
‫‪-‬فالكتابة دال فقط باعتبارها واسطة تمثيل للملفوظ فهي إشارة لشارة كما يقول (جاك دريدا)(‪.)6‬‬
‫‪-‬اللفظ دال باعتبار ومدلول باعتبار آخر‪.‬‬
‫‪-‬المعنى الذي في النفس (الصور الذهنية) مدلول فقط وليست بدال‪.‬‬

‫() معيار العلم ف النطق‪ ،‬ص ‪.43 -42‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ :‬ص ‪.49‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.50 -49‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ال صدر نف سه‪ ،‬ص ‪ .52‬الشتر كة‪( :‬الشترك اللف ظي)‪ ،‬التواطئة‪ :‬أعيان متعددة بع ن وا حد مشترك بين ها كدللة ا سم اليوان على الفرس والط ي‬ ‫‪4‬‬

‫والسد‪ ،‬والترادفة‪( :‬الترادف)‪ ،‬التزايلة‪ :‬هي الساء التباينة الت ليست بينها شيء من هذه النسب‪.‬‬
‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.47 -46‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الكتابة جاءت لتمل فراغا لتكون امتدادا للملفوظ خاصة إذا وجدت لغات ل يكن إل أن تكون مكتوبة ول نستطيع تريدها بالنطق كما هو شأن‬ ‫‪6‬‬

‫لغة الب ف الرياضيات‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب‪)De La Grammatologie jaque derrida (p 429 :‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫‪-‬الموجود في العيان (المور الخارجية) مدلول فقط وليست بدال‪.‬‬
‫وعلى هذا العتبار وبحسب ركني العملية الدللية (الدال‪ -‬المدلول)‪.‬‬
‫‪-‬الكتابة‪ ،‬اللفاظ‪ :‬دال‪.‬‬
‫‪-‬الصور الذهنية‪ -‬المور الخارجية‪ :‬مدلول‪.‬‬
‫إن تلك الشارات العابرة‪ ،‬إلى ما قدمه المام الغزالي في مجال التأسيس النظري للدللة‪ ،‬يبرز ما مدى ثراء‬
‫تراثنا المعرفي الذي اتخذ من النص القرآني كمعطى مثالي من أجل وضع أسس لنظرية معرفية شاملة خاصة إذا‬
‫علمنا أن العلماء القدامى‪ ،‬قد امتلكوا الدوات المختلفة اللغوية والمنطقية والفلسفية من أجل إبراز كل الجوانب الهامة‬
‫في النص المقدس‪ ،‬وإن الحيطة التي أخذوها في التعامل مع أحكام القرآن زادت من منطقية معارفهم وصدق‬
‫مفاهيمهم‪ ،‬والغزالي يعد المازج الحقيقي للمنطق الرسططاليسي(‪ .)1‬بعلوم المسلمين‪ ،‬وظاهر ذلك من المقدمة المنطقية‬
‫التي صدّر بها كتابه "المستصفى" وذكر فيها أن من ل يحيط بالمنطق ومعاني اللغة وأسرارها لثقة بعلومه قطعا‪.‬‬
‫ومنذ عهد الغزالي دأب الصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلمية ومنهم صاحب كتاب "الحكام في‬
‫أصول الحكام" سيف الدين المدي‪ ،‬موضوع هذا البحث‪ ،‬وقد أظهر الغزالي قدرة عميقة في فهم تلك السنن التي‬
‫ينطوي عليها نظام اللغة‪ ،‬وذلك استجابة للمبحث الصولي الذي يتجاوز الفهم السطحي "النحوي" للغة‪ ،‬إلى استقراء‬
‫دقيق لمعانيها‪ ،‬ل يتعرض لها اللغوي المشتغل بصناعة النحو‪.‬‬

‫‪-III‬مفاهيم الدللة عند ابن خلدون (ت‪808:‬هـ)‪:‬‬


‫ل نكاد نعثر لبن خلدون عن تعريف بيّن للدللة‪ ،‬وإنما باستقراء نصوص "مقدمته" نجد دراسات في الدللة قد‬
‫تجاوزت‪ -‬بل شك‪ -‬الماهية إلى البحث العميق عن جوهر الدللة وطرق تأديتها‪ ،‬واضحة من غير لبس يقول موضحا‬
‫ذلك وشارحا‪" :‬واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلم‪ ،‬كما أن القول والكلم بيان عما في النفس والضمير من‬
‫(‪)2‬‬
‫المعاني‪ ،‬فل بد لكل منهما أن يكون واضح الدللة‪".‬‬
‫فابن خلدون‪ -‬على نهج الغزالي‪ -‬يوضح العلقة القائمة بين المعاني المحفوظة في النفس‪ ،‬والكتابة واللفاظ‬
‫ويحصرها في ثلثة أصناف‪:‬‬
‫أ‪-‬الكتابة الدالة على اللفظ‪.‬‬
‫ب‪-‬اللفظ الدال على المعاني التي في النفس والضمير‪( .‬الصورة الذهنية)‪ :‬وهذه المعاني إن لم تكن مجردة فإنها‬
‫تدل على موجود في العيان وعلى هذا الساس فالصنف الثالث للدللة‪:‬‬
‫ج‪-‬المعاني الدالة على المور الخارجية‪.‬‬
‫ويعطي ابن خلدون للخط والكتابة أبعادا مهمة في العملية التواصلية‪ ،‬باعتبارها أداتين مهمتين من أدوات التعليم‬
‫والتعلّم الشيء الذي كان يشغل فكر ابن خلدون كثيرا يقول معرفا "الخط" وأداءه للدللة‪" :‬الخط وهو رسوم وأشكال‬

‫() ممود سامي النشار‪ ،‬منهج البحث عند مفكري السلم‪ ،‬ص ‪.90‬‬ ‫‪1‬‬

‫() القدمة‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.509‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس‪ ،‬فهو ثاني رتبة عن الدللة اللغوية‪ ")1(.‬فابن خلدون‬
‫يصنف الخط في المرتبة الثانية‪ -‬كما فعل ذلك الغزالي‪ -‬وذلك في تأديته للدللة اللغوية بعد اللفاظ‪ ،‬فالخط دال على‬
‫اللفاظ واللفاظ دالة على المعاني‪.‬‬
‫ل من [صور] الحروف‬ ‫ويوضح ابن خلدون هذه المسألة التي تخص أصناف الدوال فيقول‪" :‬إن في الكتابة انتقا ً‬
‫الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال‪ ،‬ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبدا من‬
‫(‪)2‬‬
‫دليل إلى دليل ما دام ملتبسا بالكتابة وتتعود النفس ذلك فيحصل لها ملكة النتقال من الدلة إلى المدلولت‪".‬‬
‫بهذا التعريف للدللة اللفظية يكون ابن خلدون قد أشار إلى ما سماه "أندري مارتيني" بالتلفظ المزدوج (‪double‬‬
‫‪ )articulation‬اشتهر ذلك المصطلح في اللسنية الحديثة‪ .‬إن التلفظ الول هو الطريقة التي تترتب فيها الخبرة‬
‫اللغوية المشتركة بين جميع أعضاء بيئة معينة‪ ،‬وتقوم كل وحدة من وحدات التلفظ الول على دللة وعلى صورة‬
‫صوتية ول يمكن تحليلها إلى وحدات أصغر ذات معنى‪ ،‬أما التلفظ الثاني فهو إمكانية تحليل الصورة الصوتية إلى‬
‫(‪)3‬‬
‫وحدات صوتية مميزة تحتوي هذه الوحدات على شكل صوتي ول تحمل بذاتها أية دللة‪.‬‬
‫فصور الحروف الخطية‪ -‬عند ابن خلدون‪ -‬هي التي تمثل التلفظ الثاني وهو تقسيم الكلمة (المورفيم) إلى وحدات‬
‫صوتية (فونيم) ل تحمل بذاتها أية دللة‪ ،‬فضلً على ذلك يرسم ابن خلدون العملية التواصلية أو البلغية رسما بينا‪،‬‬
‫فالخط يدل على الكلمات اللفظية التي في الخيال‪ ،‬والكلمات هذه تدل على المعاني التي في النفس‪ ،‬والكلمات اللفظية‬
‫التي في الخيال هو اختصار للعلقة القائمة بين اللفظ ومعناه‪ ،‬فابن خلدون ينظر إلى هذين الطرفين (اللفظ والمعنى)‬
‫باعتبارهما طرفا واحدا‪ ،‬ذلك أن اللفظ قد ارتبط بتصور في الخيال وإلى هذا أشار ابن سينا في تعريفه للدللة بقوله‪:‬‬
‫"معنى دللة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع‪ ،‬ارتسم في النفس معناه فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا‬
‫المفهوم فكلما أورده الحس على النفس التفتت النفس إلى معناه‪ ،‬وهو معنى الدللة‪.‬‬
‫فاللفظ يرتسم في الخيال كصورة صوتية ذات دللة‪ ،‬فترتسم في النفس مقاصد هذه الدللة وعلى هذا الساس‬
‫يمكن تمثيل ذلك على النحو التالي‪:‬‬
‫اللفظ قيمة صوتية تصور في الخيال المعاني الموضوع الخارجي‪ ،‬ثم يحصل للنفس ملكة النتقال من‬
‫الدلة إلى المدلولت‪ ،‬فتربط بالبداهة بين السم ومسماه أي بين الدال والمدلول‪ .‬فإذا كان المدلول شيئا ماديا يكون‬
‫النتقال من اللفظ المسموع إلى الموضوع الخارجي وإذا كان المدلول من المجردات يكون النتقال حينئذ من اللفظ إلى‬
‫المعاني الذهنية‪.‬‬
‫إن هذه المفاهيم التي قدمها ابن خلدون للدللة ورسم على أساسها العملية الدللية‪ ،‬ل تختلف عن تلك النظرية‬
‫التي توصل إليها العالم اللساني دوسوسير حول الدليل اللساني يقول في تعريفه‪" :‬فالدليل اللساني ل يجمع الشيء أو‬
‫المادة والسم وإنما المفهوم أو المعنى المجرد والصورة السمعية‪ ،‬وليست هذه الخيرة الصوت المادي بعينه بقدر ما‬
‫هي الثر السيكولوجي له أو التمثيل المؤدى من طرف مدركاتنا الحسية(‪ ")4‬فالكلمات ليست سوى صور سمعية حسب‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.502‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.518‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ابن سينا‪ ،‬العبارة‪ ،‬من الشفاء‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪.Cours de linguistique generale- F. de sausure, P.98‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫تعريف "دوسسير"‪ ،‬وأن العلمة اللسانية أو (الدليل) هي التأليف بين التصور الذهني‬
‫(‪ )concept‬والصور السمعية (‪ .)image accoustique‬وإلى الفكرة ذاتها ذهب ابن خلدون في سياق شرحه للعملية‬
‫الدللية حين قال‪" :‬الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس" وأوضح المسألة أكثر‪ ،‬حيث قال‪" :‬كما أن القول‬
‫والكلم بيان عما في النفس والضمير من المعاني"‪ )1(.‬هذه التقريرات تبين عن إدراك ابن خلدون لهمية الجانب‬
‫السيكولوجي في الفعل الدللي‪ ،‬وقد دأب سوسير على التركيز على هذا الجانب في كتابه المحاضرات حيث عرف‬
‫(‪)2‬‬
‫الدال بكونه الدراك النفساني للكلمة الصوتية‪ ،‬والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الفكار التي تقترن بالدال‪.‬‬
‫لقد أسهم ابن خلدون في إرساء قواعد علم التربية مؤكدا على ضرورة الحاطة باللفاظ ودللتها على المعاني‬
‫الذهنية‪ ،‬وحصر تحصيل تلك المعاني في طريقتين‪:‬‬
‫‪-1‬طريق القراءة والتعلّم من الكتاب‪.‬‬
‫‪-2‬طريق التعلم بالمشافهة والتلقين‪.‬‬
‫وعلى أساس هذا التنظير التعليمي‪ ،‬يحدد ابن خلدون مراتب الدوال بحسب أدائها للدللت‪ ،‬ويشير إلى ضرورة‬
‫إدراك السنن والقوانين التي تنتظم المعاني في الذهن‪ ،‬وهي كما نرى عملية سيكولوجية بحتة تصل اللفاظ بمحتواها‬
‫الذهني‪ ،‬يشرح ابن خلدون هذه المسألة بقوله‪" :‬ثم من دون هذا المر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من‬
‫التعليم‪ ،‬وهي معرفة اللفاظ ودللتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان‬
‫بالخطاب‪ ،‬فأولً دللة الكتابة المرسومة على اللفاظ المقولة وهي أخفها ثم دللة اللفاظ المقولة على المعاني‬
‫(‪)3‬‬
‫المطلوبة‪ ،‬ثم القوانين في ترتيب المعاني للستدلل في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق"‪.‬‬
‫هذه‪ -‬بإجمال‪ -‬نظرة ابن خلدون لعلم الدللة‪ ،‬وأقسام المعنى باعتبار اللفاظ ودللتها‪ ،‬وهي نظرة مع قدمها إل‬
‫أنها ذات قيمة علمية معتبرة في الدراسة الدللية الحديثة‪.‬‬

‫‪-IV‬ماهية الدللة عند الشريف الجرجاني (ت‪816:‬هـ)‪:‬‬


‫إن ما يبعث على تقدير جهود الجرجاني حق قدرها في ميدان علم الدللة‪ ،‬هو عمق تحليله وحسن تصنيفه لقسام‬
‫الدللة‪ ،‬وقد قام عدة باحثين في العصر الحديث على إجراء مقاربة علمية بين ما توصل إليه الجرجاني في تقسيماته‬
‫للدللة وما توصل إليه علماء الدللة في العصر الحديث‪ ،‬ومنهم العالم المريكي (بيرس)‪ .‬يعرف الجرجاني الدللة من‬
‫منطلق الثقافة الصولية فيقول‪" :‬الدللة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر‪ ،‬والشيء الول هو‬
‫الدال والثاني هو المدلول‪ ،‬وكيفية دللة اللفظ على المعنى باصطلح علماء الصول محصورة في عبارة النص‬
‫(‪)4‬‬
‫وإشارة النص واقتضاء النص‪.‬‬
‫وعلى أساس هذا التعريف للدللة‪ ،‬فأقسامها عند الجرجاني اثنان‪:‬‬

‫() القدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.520‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪.Cours de linguistique generale- F. de sausure‬‬ ‫‪2‬‬

‫() القدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.698‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الشريف الرجان‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪.215‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫أ‪ -‬الدللة اللفظية‪ :‬إذا كان الشيء الدال لفظا‪.‬‬
‫ب‪ -‬الدللة غير اللفظية‪ :‬إذا كان الشيء الدال غير لفظ‪.‬‬
‫بتحديده لطبيعة العلقة بين الدال والمدلول‪ ،‬يحصي الجرجاني ثلثة مستويات صورية تنتج عنها ثلث دللت‪ ،‬دللة‬
‫العبارة ودللة الشارة ودللة القتضاء‪ ،‬وقد م ّر معنا تعريف المام الغزالي لدللتي الشارة والقتضاء‪ ،‬أما دللة العبارة‬
‫أو النص فهي "المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من صيغة النص وهو الذي قصده الشارع من وضع النص‪ ،‬لن المشرّع‬
‫حين يضع النص يختار له من اللفاظ والعبارات ما يدل دللة واضحة على غرضه ثم يصوغه بعد ذلك بحيث يتبادر‬
‫(‪)1‬‬
‫المعنى المقصود من النص إلى ذهن المطلع بمجرد الطلع عليه‪".‬‬
‫إن هذا الفهم العميق للدللة ينم عن مدى النضج المعرفي الذي أحرزه علماء القرن الثامن الهجري والذي تبلور‬
‫بعد تلك الدراسات الدللية القيمة التي تطورت منذ القرن الثالث الهجري‪ ،‬فالجرجاني يتجاوز بتعريفه الدللة ليشير‬
‫إلى علم آخر أعم من الدللة (‪ )semantique‬وهو ما يعرف بعلم الرموز أو بالسيمياء (‪ )simiologie‬وذلك عندما‬
‫نص على أن "الدللة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر فذكره "الشيء" بدل "اللفظ" يدل على‬
‫إشارته إلى هذا العلم الذي يعني بالرموز والعلمات اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬وقد نلمس بعض القصور في سعي‬
‫الجرجاني في بلورة مفهوم عام يخص الدللة وأنواعها ذلك "لن العرب المتقدمين لم يكونوا يعنون بعلم الدللة‪ ،‬كما‬
‫يحاول العلماء اليوم بناءه‪ ،‬نظرا لتعقد الحضارة وارتباطها الوثيق باستعمال العلمات (‪ )signes‬بالمعارف والفنون‬
‫التي ل تتحقق إل في أنساق من العلمات‪ )2(".‬هذه التصنيفات الثلثة التي حددها الجرجاني في تعريفه تبلورت في علم‬
‫الدللة الحديث على يد علماء أمريكيين وأوروبيين اهتموا بما سمي بالدللت اليحائية‪ ،‬حيث يمير العالم المريكي‬
‫هياكوا (‪ )S.J.Hayakwa‬بين نوعين من المعاني‪ :‬المعنى القصدي (‪ )Sens intentionnel‬والمعنى التساعي (‬
‫‪ ،)Sens extentionnel‬أو كما يسمى في اللسنية الحديثة المعنى اليمائي‪ ،‬وتحت هذين الصنفين يمكن أن ندرج‬
‫دللت الجرجاني الثلث (دللة العبارة‪ -‬دللة الشارة‪ -‬دللة القتضاء)‪ ،‬وإلى التقسيم ذاته نزع العالم اللغوي‬
‫الوروبي غرينبرغ (‪( )J.H.Greenberg‬حيث أقام تقسيمه باعتبار القصد واليماء إلى‪ :‬المعنى الداخلي (‪Sens‬‬
‫‪ )internal‬والمعنى الخارجي(‪ )Sens external( )3‬فالدللة‪ -‬إذن‪ -‬في ضوء معالم الدرس الحديث تتضح عند‬
‫الجرجاني بكونها العلقة بين المحتوى الفكري واللفظ‪ ،‬وعلى هذا الساس يخضع ظهور الدللة أو خفاؤها إلى قرائن‬
‫لغوية تحدد الدللة المقصودة‪ ،‬فهناك السياق الذي يحمل دللة ل تقبل مجازا ول تأويلً‪ ،‬كما يسوق معنى ل يصح‬
‫حمله على غير ظاهره‪ ،‬إذ اللفظ منصرف إلى الحقيقة باعتبار الظاهر بما هو الكلم الذي يظهر المراد منه للسامع‬
‫بنفس الصيغة ويكون محتملً للتأويل والتخصيص(‪ .)4‬ولقد أدرك الجرجاني العلقة بين طرفي العملية الدللية‪ ،‬الدال‬
‫والمدلول‪ ،‬وحدد طبيعتها في وجود صلة مباشرة بين الدال والمحتوى الفكري الذي يتحدد وفقه المرجع أو الموضوع‪،‬‬
‫وإن كان ل يحدّد تحديدا بيّنا طبيعة المدلول‪ ،‬إل أن تجريد عملية الحالة المرجعية يقتضي بداهة التمييز بين المحتوى‬
‫الذهني للعلمة وموضوعها الخارجي‪ .‬والمهم في تعريف الجرجاني أن الدللة تتمثل في وجهة صرف الدال إلى‬
‫مدلوله‪ ،‬ول يمكن أن يغفل الجرجاني عن ذلك المقام الذي ارتقى إليه التفكير الدللي في عصره‪ ،‬بل نرى عالما ناقدا‬
‫قبله بقرنين وهو الكاتب حازم القرطاجيني (ت ‪684‬هـ) يحلل الدللة بقوله‪ …" :‬قد تبيّن أن المعاني لها حقائق‬
‫() عبد القادر عودة‪ ،‬التشريع النائي السلمي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.187 -186‬‬ ‫‪1‬‬

‫() علم الدللة عند العرب‪ :‬عاطف القاضي ص ‪ .127‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ 19 -18‬السنة‪.1982 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫() مدخل إل علم الدللة اللسن‪ ،‬د‪.‬موريس أبو ناضر‪ ،‬ص ‪ -33‬ملة الفكر العرب‪ ،‬عدد‪ 19 -18 :‬السنة‪.1982 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫() منهاج البلغاء ومعراج الدباء‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫موجودة في العيان‪ ،‬ولها صور موجودة في الذهان‪ ،‬ولها من جهة على ما يدل على تلك الصور من اللفاظ وجود‬
‫(‪)1‬‬
‫في الفهام والذهان"‪.‬‬
‫هذه مفاهيم للدللة لم توجد مبوبة مفصلة‪ ،‬كما هي عليه في الدراسات الحديثة‪ ،‬إنما كانت أساس الدراسات‬
‫اللغوية في التراث المعرفي وخصت جميع العلوم بحيث وجدت في ثنايا كتب اللغة والمنطق والفقه وما إلى ذلك‪،‬‬
‫وهي تبرز من جهة أخرى حضور الدرس الدللي بأبوابه الرئيسية في شتى معارف تراثنا‪ .‬كما أن ظهور التحليلت‬
‫العميقة في عدة مستويات من الدللة عند العلماء العرب المتقدمين واتساع اهتماماتهم في كل العلوم ساعدهم على‬
‫تأسيس نظرة دللية ازدادت قيمتها مع مرور الزمن وتبلورت لدى المتأخرين من علماء القرن التاسع الهجري وما‬
‫بعده‪ .‬فقد ألفينا الجاحظ يصنف العلمات الدالة ويعطيها التمثيلت الجرائية في واقع المجتمع العربي‪ ،‬واشتغاله‬
‫بالبيان والمنطق قد كرس عنده دقة التمييز مع عمق التحليل‪ .‬وكذلك لمسنا عند علماء آخرين وضوح الرؤية الدللية‬
‫ضمن كتاباتهم‪ ،‬وحسبنا أن نقرأ بعضا من أبواب ما كتبه سيبويه والجرجاني وابن جني‪ ،‬بل يكاد يجزم النقاد العرب‬
‫المحدثون أن اللغة السيميائية قد مارسها شعراء أقدمون عبروا بها عن مكنوناتهم الوجدانية‪ ،‬وأشاحوا اهتماماتهم في‬
‫مواضع كثيرة عن اللغة الطبيعية المألوفة وقد أشار إلى ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض في موضوعه حول السمة‬
‫والسيميائية‪ )2(".‬وإن المسار التاريخي لعلم السيمياء ليؤكد على إفادة هذا العلم من تلك الروافد التي جعلته يستقطب‬
‫اهتمام المشتغلين في حقول شتى من العلوم يقول في ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض‪" :‬وكذلك ابتدأت السيميائية طبية‬
‫فلسفية‪ ،‬ثم لغوية خالصة ثم تشعبت إلى أدبية‪ ،‬مع احتفاظها بوضعها اللساني‪ )3(".‬وما يعضد هذا الرأي ما أجمع عليه‬
‫الباحثون في نشأة الدللة على أنها بدأت بالمحسوسات ثم تطورت إلى الدللت المجردة بتطور العقل النساني ورقيه‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫فكلما ارتقى التفكير العقلي جنح إلى استخراج الدللت المجردة وتوليدها والعتماد عليها في الستعمال‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الدللة في تعريفات العلماء المحدثين‪:‬‬


‫(المصطلح والبعاد) أو (الماهية والمشروع)‪:‬‬
‫لقد حدث تطور كبير في مفاهيم المصطلحات القديمة في العصر الحديث‪ ،‬واتخذت أبعادا أخرجتها من تلك‬
‫الدراسة "الولية" ووسعت مجال البحث فيها‪ ،‬ومصطلح "الدللة" هو من ضمن تلك المصطلحات التي تبلورت‬
‫مفاهيمها في العصر الحديث وشملت الدراسة فيها ميادين عدة من حياة الناس‪ ،‬بل أضحت ملتقى لهتمامات كثير من‬
‫المعارف النسانية الحديثة‪ ،‬بدءا بعلم النفس ثم علم الجتماع والمنطق وعلوم التصال والشارة‪ .‬وإن هذه الصورة‬
‫التي برز فيها علم الدللة كأساس لعدة معارف حديثة هي نتاج للدراسة اللغوية المتخصصة ذلك "أن معالجة قضايا‬
‫الدللة بمفهوم العلم‪ ،‬وبمناهج بحثه الخاصة وعلى أيدي لغويين متخصصين إنما تعد ثمرة من ثمرات الدراسات‬
‫(‪)5‬‬
‫اللغوية الحديثة‪".‬‬
‫وتبعا لتساع مجالت البحث الدللي الحديث‪ ،‬فلم تعد الدللة حكرا على النظام اللغوي وحسب‪ ،‬وإنما شملتها‬
‫أنظمة سيميولوجية أزاحت الهيمنة اللغوية بل صارت معها في البحث جنبا إلى جنب‪ ،‬ومع ذلك بقيت اللغة إحدى‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عبد الالك مرتاض‪ :‬السمة والسيميائية‪ ،‬ص ‪ ،19‬ملة الداثة‪ ،‬عدد ‪ ،2‬يونيو ‪.1993‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫‪3‬‬

‫() إبراهيم أنيس‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب دللة اللفاظ‪ ،‬ص ‪.158‬‬ ‫‪4‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫أنجع وسائل نظام البلغ والتواصل والخطاب‪ ،‬وأقدرها على الطلق على التجديد والتطور والتكيف بل ل مندوحة‬
‫من القول أن النظمة السيميولوجية التي تتخذ العلمة المطلقة كمدخل أساسي لي مستوى من مستويات الدراسة‬
‫الدللية‪ ،‬ل تستغني في الحوال الغالبة عن اللغة خاصة على مستوى القراءة التعليلية التبيينية‪.‬‬
‫ومقاربة لماهية الدللة وحقولها الدراسية في العصر الحديث‪ ،‬عجنا نسائل البحث الدللي عند لفيف من اللغويين‬
‫وذلك بقصد رسم إطار بين تتضح من خلله معالم الدرس الدللي الحديث إن على مستوى الماهية والمصطلح وما‬
‫أفرزه من تفريعات زادت من توسيع دائرة البحث الدللي‪ ،‬أو على مستوى البعاد والمشروع الذي تأسس بناء على‬
‫اختلف الرؤى والهداف بين مجموع المشتغلين في حقل البحث الدللي والسيميولوجي العام‪ ".‬يرمي [هذا المشروع‬
‫السيميولوجي] من وجهة نظر "إينو" إلى تأسيس وعي بنيوي للستقراء الدللي‪ )1(".‬ولن حلقة تأسيس الدرس الدللي‬
‫لم تكتمل دائرتها بعد‪ ،‬اقتصرنا في مساءلتنا لمعالم البحث الدللي الحديث على بعض اللغويين الذين بدأت معهم عملية‬
‫التأسيس والتشكيل والتقعيد‪ ،‬وبعض المشتغلين في حقول النقد والدب حيث غدا عندهم الدرس الدللي السيميائي أحد‬
‫أهم المناهج النقدية الحديثة‪.‬‬

‫أ‪-‬ماهية الدللة بين الوصفية والمعيارية‪:‬‬


‫بدأ البحث الدللي في العصر الحديث بمنهج وصفي يعاين جزئيات الظاهرة اللغوية معاينة وصفية تعتمد طريقة‬
‫الملحظة والتحليل فالستنتاج‪ .‬وهي طريقة تعد امتدادا "لمنهج" البحث اللغوي القديم‪ .‬ثم ارتقى الدرس الدللي إلى‬
‫مرحلة محاولة التنظير والتقعيد‪ ،‬فغدا يعتمد على المنهج المعياري وذلك لنزوع الباحثين اللغويين نحو تشكيل معالم‬
‫مشروع دللي بدءا ببلورة جهود السابقين في ميدان البحوث اللغوية المختلفة‪ ،‬وارتقاء إلى "بناء هيكل نظري ينظم‬
‫الركام الذي هو هيئة المعلومات السابقة‪ ،‬وبهذا تغدو الدراسة مقدمة لتاليات لها فيدفع العلم خطوات إلى حقول‬
‫جديدة"‪ )2(.‬هذا الندفاع نحو بناء وعي دللي يساهم في تشكيله علماء محدثون تعددت رؤاهم وتكاملت جهودهم التي‬
‫عكفوا من خللها على إبراز اللغة بمفهومها العام‪ ،‬نظاما لتحقيق التواصل والبلغ فبحثوا جزئياتها وغاصوا في‬
‫عوالمها مستعينين في سبيل ذلك بعلوم أخرى‪ ،‬فتوسعت مجالت البحث اللغوي وغدا المبحث الدللي ملتقى لعلوم‬
‫إنسانية واجتماعية وأدى ذلك إلى تنوع الدراسات‪ ،‬وإذا رمنا حصر العلماء الذين ساهموا في تشكيل معالم الدرس‬
‫الدللي والسميولوجي الحديث فإنه يعجزنا ذلك‪.‬‬
‫وقصدا إلى تقديم صورة لماهية الدللة في العصر الحديث استجمعنا آراء للفيف من اللغويين والمشتغلين في حقل‬
‫الدب والنقد‪.‬‬
‫لقد أعلن بر ميلد علم يختص بجانب المعنى في اللغة وهو علم الدللة الذي أتى ليسد تلك الثغرة في الدراسات‬
‫اللغوية التي كانت تهتم بشكل الكلمات ومادتها‪ ،‬أما دراسة المعنى فيها فتمثل الجانب الهزيل قال بر‪" :‬إن الدراسة‬
‫التي ندعو إليها القارئ هي من نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد‪ ،‬نعم‪ ،‬لقد اهتم معظم اللسانين بجسم وشكل‬
‫الكلمات وما انتبهوا قط إلى القوانين التي تنظم تغيّر المعاني وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلدها‬
‫ووفاتها‪ .‬وبما أن هذه الدراسة تستحق اسما خاصا بها فإننا نطلق عليها اسم (‪ )semantique‬للدللة على علم‬

‫() د‪.‬فيدوج عبد القادر‪ ،‬دللية النص الدب‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫المعاني(‪ ")1‬فعلم الدللة‪ -‬عند العالم بر‪ -‬يعني بتلك القوانين التي تشرف على تغير المعاني‪ ،‬ويُعاين الجانب التطوري‬
‫لللفاظ اللغوية ودللتها‪ ،‬ويكون بر بذلك أول من وجه الهتمام إلى دراسة المعاني ذاتها‪ ،‬لكن أهمية التفاتة بر إلى‬
‫جوهر الكلمات لم تقدر حق قدرها قبل محاولة النجليزيين أوجدن (‪ )C.K.Orgdon‬وريتشاردز (‪)I.A.Richards‬‬
‫اللذين أحدثا ضجة في الدراسة اللغوية بإصدار كتابهما عام ‪ 1923‬تحت اسم "معنى المعنى" وفيه تساءل العالمان عن‬
‫ماهية المعنى من حيث هو عمل ناتج عن اتحاد وجهي الدللة أي الدال والمدلول(‪ .)2‬وأضحى علم الدللة ابتداء من‬
‫ذلك يهتم بالصورة المفهومية‪ ،‬باعتبار أن ل علقة مباشرة بين السم ومسماه‪ ،‬إنما العلقة المباشرة تربط الدال‬
‫بالمحتوى الفكري الذي في الذهن يقول مازن الوعر في هذا الصدد في تقديمه لكتاب "علم الدللة" لبيار جيرو‪" :‬إذا‬
‫كانت الصوتيات واللغويات تدرسان البنى التعبيرية وإمكانية حدوثها في اللغة‪ ،‬فإن الدلليات تدرس المعاني التي يمكن‬
‫أن يعبر عنها من خلل البنى الصوتية والتركيبية"(‪.)3‬‬
‫ويوضح سالم شاكر أكثر فيقول‪" :‬إن علم الدللة يعني بظواهر مجردة هي الصورة المفهومية"(‪ .)4‬ونزع علم‬
‫الدللة في العصر الحديث إلى تمثل المنهج الوصفي في بعض مراحل الدراسة خاصة فيما يتعلق برصد تطور الدللة‬
‫وتغيرها وبناء الحقول الدللية يقول ميشال زكريا‪" :‬أما علم الدللت فهو مستوى من مستويات الوصف اللغوي‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ل في تطور معنى الكلمة ويقارن بين الحقول الدللية المختلفة"‪.‬‬
‫ويتناول كل ما يتعلق بالدللة أو بالمعنى فيبحث مث ً‬
‫إن المجال الواسع الذي حظيت به الدراسات الدللية الحديثة‪ ،‬يرجع بالساس إلى تلك الطر المميزة التي رسمها‬
‫العالمان أوجدن وريشاردز وبعدهما بر‪ ،‬ومع تقدم الدراسة بدأت البحوث الدللية تشهد عقبات تكمن صعوبتها في‬
‫استحالة حصرها‪ ،‬وتحديدها من ذلك أن عكف الدرس الدللي الحديث على البحث في ماهية الصورة المفهومية‪،‬‬
‫بحيث استحال معها الحاطة بكل ما يشكل عالم المتكلم حتى يمكن فهم وإدراك المحتوى الفكري المجرد‪ .‬يقول‬
‫(كولردج) محددا مجال البحث الجديد لعلم الدللة‪" :‬ول يتضمن معنى اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها‪،‬‬
‫بل يشمل أيضا جميع الرتباطات التي تبعثها اللفظة في أذهاننا فطبيعة اللغة ل تمكنها من نقل الموضوع فحسب‪،‬‬
‫(‪)6‬‬
‫وإنما تجعلها أيضا تنقل شخصية المتكلم الذي يعرض الموضوع ونواياه"‪.‬‬
‫إن الحديث عن البنى العميقة التي تتحكم في إنتاج الدللة من وجهة نظر مجردة‪ ،‬يبقى بعيد المرام‪ ،‬ولذلك فإن‬
‫جل علماء الدللة والسيمياء المحدثين يركزون أبحاثهم أكثر‪ ،‬على ما يحيط عملية تأدية الدللة من ظواهر منطقية‬
‫نفسية‪ .‬يقول بيار جيرو موضحا ذلك‪" :‬ويبقى علم الدللة بالنسبة لبر واتباعه متجها نحو السمات المنطقية‪ ،‬النفسية‬
‫(‪)7‬‬
‫والتاريخية للظواهر أكثر من اتجاهه نحو عللها اللسانية"‪.‬‬
‫لقد خطا العالمان كاتر وفودر بالبحث الدللي خطوة بعيدة إذ تناوله من ناحية تفاعل مركبات الحدث الكلمي‪،‬‬
‫بل إنهما طرحا إشكالية أساسية تتمحور حول تخصيص العلقة التي يمكن إقامتها بين صورة الجملة ودللتها في لغة‬

‫() ‪.Les grands courants de la linguistique moderne (Maurice le roy) P.45‬‬ ‫‪1‬‬

‫() موريس أبو ناضر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة اللسن‪ ،‬ملة الفكر العاصر‪ ،‬العدد ‪ ،18/19‬السنة ‪ ،1982‬ص ‪.32‬‬ ‫‪2‬‬

‫() بيار جيو‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ترجة منذر عياشي‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سال شاكر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ترجة ممد جباتي‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪4‬‬

‫() ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية‪ :‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪.211‬‬ ‫‪5‬‬

‫() ممد مصطفى بدوي‪ ،‬كلوردج‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪6‬‬

‫() بيار جيو‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ترجة منذر عياشي‪ ،‬ص ‪.133‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫معينة في غياب النحو‪ ،‬إذ قد تصل العملية التواصلية التي تضطلع بأمر نقل الدللة إلى مستوى من التعقيد ل يمكن‬
‫للنحو أن يشرح فيه ذلك‪ ،‬لن السيمانتيك من وجهة نظر هذين العالمين يتناول قدرة المتكلم على إرسال وفهم الجمل‬
‫الجديدة في ميدان يعجز عن شرحها النحو(‪ .)1‬إن البعاد التي اتخذها البحث الدللي الحديث عبر دراسات معمقة‪،‬‬
‫أخرجت النظريات الدللية والفرضيات العلمية اللسانية من مجال التخمين والتقدير إلى ميدان التحقيق والتطبيق‪،‬‬
‫رسمت إطارا مفتوحا على المستقبل لمشروع دللي أوسع يلج من خلل الدرس السيمائي إلى كل مجال من مجالت‬
‫المعرفة والبحث العلمي‪ ،‬ويكفي أن نتأمل كتب (أ‪.‬ج‪ .‬غريماس) مثل كتاب "علم الدللة البنيوي" ‪" ،1966‬السيميوتيكا‬
‫والعلوم الجتماعية" ‪" ،1976‬في المعنى" ‪ ،1970‬لندرك المصاف الذي بلغه علم الدللة بعد ما كان علما يفتقد إلى‬
‫المنهج والموضوع معا‪ ،‬إذ كان منشأه في إطار علم اللسنية العام‪.‬‬
‫يحتل اسم (غريماس) مكانا عليا ضمن الباحثين في الحقل الدللي الحديث ويرجع ذلك إلى قدرته على تحقيق‬
‫الرؤية في قراءاته النقدية للخطاب الدبي‪ ،‬الشعري والنثري‪ .‬لقد تجاوز غريماس المعطى الدللي‪ ،‬الني مفترضا‬
‫وجود معطى ممكن تتجلى فيه العوالم الدللية التي تتمظهر في بنى دللية‪ ،‬وعلى أساس وجود هذه العوالم يتم تنظير‬
‫البنيات الدللية والكشف عن آلياتها‪ ،‬وقد يطرح العالم الدللي فرضية وجود البينة الدللية والعوالم الدللية فيقول‪:‬‬
‫"يجب أن نفهم بالبنية الدللية ذلك الشكل العام لنظام العوالم الدللية‪ -‬المعطى‪ ،‬أو الممكن‪ ،‬ذي الطبيعة الجتماعية‬
‫والفردية (ثقافات أو أفراد) والسؤال عما إذا كانت البينة الدللية ماثلة في عالم الدللة أو تحضن هذا العالم"(‪ .)2‬إن‬
‫احتواء العوالم الدللية في بناء من صنع ألسني للتعبير عنها يفترض وجود مشاكلة بين مستوى التعبير ومكوناته‬
‫ومستوى المعنى وسماته"(‪ .)3‬ذلك أن عالم المعنى يتمظهر في التلفظ ‪ articulation‬ويتموقع في البنى التعبيرية يوضح‬
‫غريماس ذلك بقوله‪" :‬إن فرضية المشاكلة بين المستويين تسمح إذن بالنظر إلى بنية المعنى وكأنها تلفظ لعالم الدللة‬
‫حسب وحداته المعنوية الصغرى [أي السمات] وما يقابلها من سمات مميزة على مستوى التعبير‪ ،‬هذه الوحدات‬
‫(‪)4‬‬
‫الدللية مكونة بالطريقة نفسها المكونة بها سمات التعبير‪ ،‬من فئات سمات ثنائية"‬
‫على الرغم من تباين آراء علماء الدللة حول جوهر العملية الدللية‪ ،‬فإن البحث الدللي أخذ مسارات جديدة بعد‬
‫وقوع التأكيد على أن اللغة هي نظام تتظافر فيه جملة من النظمة الفرعية كنظام البنى التركيبية‪ ،‬ونظام البنى‬
‫المعجمية‪ ،‬والبنى الصوتية‪ ،‬والبنى الدللية‪ ،‬ضمن نسق محكم أطلق عليه العلماء مصطلح النحو الكلي (‪Universal‬‬
‫‪ ،)Grammar‬واتجه الباحثون إلى الكشف عن هذا النسق وتحديد معالمه وسماته‪ ،‬وهذه مرحلة مهمة ارتقى إليها‬
‫البحث الدللي حيث "يلحظ تشومسكي أن ما طبع البحث اللغوي في السنوات الخيرة‪ -‬هو تحول من العناية باللغة‬
‫إلى العناية بالنحو‪ ،‬وهو تحول من تجميع العينات وتنظيمها أو دراسة لغة خاصة أو الخصائص العامة لكثير من‬
‫ل في الدماغ وتساهم في تفسير الظواهر الملحظة"(‪ .)5‬وقد‬ ‫اللغات أو كل اللغات إلى دراسة النساق التي توجد فع ً‬
‫أسهمت فكرة تشومسكي في توليد جملة من الفكار طُرحت كاستفهامات تقتضي أجوبة ولو على وجه الفتراض‪ ،‬من‬
‫ذلك السؤال حول كيف تنتظم اللغة كجملة من البنى في شكل أنساق نظرية داخل الدماغ؟ إن وجود هذه النساق داخل‬

‫() ‪Initiation aux problemes des linguistiques contemporaines, C.Fuches et P. le Goffic,‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.P.72‬‬
‫() ج‪.‬غرياس‪ ،‬البنية الدللية‪ ،‬ص ‪ 97‬من ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬ترجة ميشال زكريا‪ ،‬العدد ‪ 18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫() سات العن‪ :‬وحدات العن الصغرى‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪4‬‬

‫() عبد القادر الفاسي‪ ،‬الفهم ف اللسانيات واللغة العربية‪ ..‬ص ‪.45‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫الدماغ يترتب عليه الكشف عن المعرفة اللغوية الباطنية لمتكلم اللغة وضمنها الهتمام بالجهاز الداخلي الذهني‬
‫للمتكلمين عوض الهتمام بسلوكهم الفعلي‪ ،‬وأقصى ما وصلت إليه البحوث اللغوية الدللية هو بروز نموذج جديد‬
‫للتفكير في نظام اللغة‪ ،‬المركب من أنساق مختلفة بحيث بزغ زمن التركيب مع نظرية تشومسكي(‪ )1‬في النحو التوليدي‬
‫التي تقوم على أساس تحليل السلسلة الكلمية إلى وحدات من الرموز‪ ،‬لتعيد تشكيل ليس السلسلة الكلمية وحسب بل‬
‫سلسل كلمية ل متناهية‪ ،‬وذلك إشارة إلى أن الدماغ البشري مركب فيه قواعد إنتاج لحداث كلمية سليمة في‬
‫التركيب والدللة معا‪ ،‬وعلى الرغم من أن تشومسكي قد أغفل في بحوثه الولى النسق الدللي إل أنه تدارك ذلك‪،‬‬
‫خاصة بعد تلك السهامات التي تقدم بها العالمان كاتر وفودور‪ ،‬وأعاد العتبار إلى الوظيفة الدللية للتركيب‪ ،‬وعدّل‬
‫في رسمه البياني الذي تناول فيه السمات البنيوية التي تتألف منها الجملة‪ ،‬مضيفا المكون الدللي وإن كانت البنية‬
‫الدللية محتواة في ما سماه تشومسكي "بالسلسل المعقدة" وتوضيح ذلك فيما يلي‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫الرسم قبل التعديل‪:‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.66‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫قواعد مركبية‬

‫تحولت إجبارية‬

‫سلسل نووية‬ ‫مكون تركيبي‬

‫تحولت اختيارية‬

‫سلسل معقدة‬

‫قواعد صوتية‬
‫مكون صوتي‬
‫تمثيل صوتي‬
‫ما يلحظ هو غياب المكون الدللي في الرسم البياني‪ ،‬إل أن هناك مرحلة مهمة تقع بين المكون التركيبي‬
‫والمكون الصوتي وهو ما سيغير فيه تشومسكي في الرسم الثاني وذلك بتحليله للسلسل المعقدة‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫الرسم بعد التعديل‪:‬‬
‫قاعد السقاط تمثيلت دللية‬ ‫‪ -1‬قواعد مقولية‬ ‫مكون تركيبي‬
‫‪ -2‬معجم (قواعد معجمية) بنية عميقة‬ ‫قاعدة‬

‫بنية عميقة‬
‫قواعد تحويليلة أحادية‬

‫بنية سطحية‬ ‫مكوّن‬


‫صوتي‬
‫قواعد صوتية‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫ما يلحظ هو بروز البنية العميقة والبنية السطحية ولعل ذلك ما خول تشومسكي إضافة الحلقة المفقودة في الرسم‬
‫الول‪ ،‬ونعني بها‪ ،‬المكون الدللي‪ ،‬إذ البنية العميقة هي التي تنطوي على التمثيل الدللي الذي يتحول إلى بنية‬
‫سطحية وفق قواعد التحويل متشكلً في تمثيل صوتي‪.‬‬
‫وغدا المبحث الدللي‪ ،‬واسع الرجاء بحيث انكب الدارسون يتناولون جانبا واحدا من جوانبه‪ ،‬فيبدو عميقا‬
‫متشعبا فمن ذلك أن اهتدوا إلى وضع قواعد سلمة التركيب‪ ،‬وسلمة الدللة‪ ،‬مستوحين ذلك من قواعد السقاط التي‬
‫وضعها تشومسكي‪ ،‬فلكي يؤدي التركيب الدللة المعنية‪ ،‬وجب أن يكون سليما في عناصره‪ ،‬وكذلك الشأن لسلمة‬
‫(‪)1‬‬
‫الدللة وهو ما يوضحه الرسم البياني التالي‪:‬‬

‫قواعد سلمة الدللة‬ ‫قواعد سلمة‬ ‫معجم‬

‫بنى دللية‬ ‫قواعد السقاط‬ ‫بنى تركيبية‬

‫وبعد تخصيص الدللة في التركيب اللغوي‪ ،‬توسعت الدللة لتشمل ما هو لغوي وغير لغوي من الرموز‬
‫والشارات والسمات‪ ،‬وهو ما انبنى عنه ميلد السيميولوجيا كمنهج جديد في دراسة الدللة بحيث لم تعد اللغة المحتكر‬
‫الوحيد في البحث‪ ،‬إنما برزت أنظمة إبلغية أخرى أهمها النظام الشاري‪" :‬فالسيميولوجية [كما تقول كريستيفا] هي‬
‫لحظة التفكير في قوانين التدليل دون أن تبقى أسيرة اللغة التواصلية التي تخلو من مكان الذات"(‪ .)2‬إذن هناك وسائل‬
‫اتصال‪ -‬واللغة إحداها‪ -‬تستدعي دراسة في ماهيتها وعلقاتها وكيفية حدوثها ثم القوانين التي تنتظمها كما قال‬
‫الدكتور فيدوج‪" :‬إنتاج العلم عبر إشارات هو الموضوع الساسي لعلم السيميولوجية الذي هو بحث في ماهية هذه‬
‫الشارات وعلتها وكيفية حدوثها أو إنتاجها ووظيفتها والقوانين التي تتحكم بها"(‪ .)3‬إن الطلع على القواعد العامة‬
‫التي تتحكم في حياة الدلئل‪ ،‬يسمح بوضح أسس لمشروع سيميولوجي يعنى بمعاينة إنتاج الدللة ويحدد طرق وقواعد‬
‫ذلك كما يبيّنه الكاتب فيدوج بقوله‪" :‬والسيميولوجية منهج يهتم بدراسة حياة الدلئل داخل الحياة الجتماعية ويحيلنا إلى‬
‫معرفة كنه هذه الدلئل وعلتها وكينونتها ومجمل القوانين التي تحكمها‪ ،‬ويعمل من جهة على دراستها بكل أبعادها‬
‫واستعمالتها وتعقيداتها دراسة شاملة وعامة لكل مظاهرها العلمية لن ذلك يشكل جوهر ما يندرج ضمن أهدافها‬
‫(‪)4‬‬
‫وغاياتها ومطامحها في تحقيق المشروع السيميولوجي‪.‬‬
‫إن هذا التحديد المسهب لعلم السيمياء جعله يحتل مكانه المؤثر ضمن المنظومة الجتماعية‪ ،‬إذ أضحى يشمل‬
‫الشارات الدالة اللغوية وغير اللغوية وتشترك جميعها في أدائها للقيمة الدللية وفق شروط عامة‪.‬‬
‫في بحوثه حول فعالية الكلم والكتابة‪ ،‬ميّز (رومان جاكبسون) بين عدة نظم تواصلية تتوزع في إطارين‪:‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬فيدوج‪ ،‬دلئلية النص الدب‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.10 -9‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.7 -6‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫الطار الول‪ :‬نظم لسانية تستخدم التراكيب اللغوية للتواصل والبلغ‪.‬‬
‫والطار الثاني‪ :‬نظم سيمولوجية مستقلة نسبيا‪ ،‬عن النظام اللسني‪.‬‬
‫ثم ميز في النظم اللسانية بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة‪ ،‬والذي يوضحها ذلك التمايز التاريخي الذي أشار‬
‫إليه اللغويون في بحوثهم حول الصوت والحرف وتمييزهم بين السامع والقارئ وبالتالي بين فعالية الكلم وفعالية‬
‫الكتابة‪ ،‬وخلص إلى أن الكتابة تبقى الداة الكثر فعالية في الخطاب التواصلي والبلغي كونها تضمن استمرارية‬
‫(‪)1‬‬
‫ومنفذ إلى المتلقي مهما تباعد المكان والزمان‪.‬‬
‫لقد تطور البحث الدللي تطورا سريعا منذ عهد بر ودسوسير‪ ،‬حتى غدا فيه التنوع والختلف بين العلماء سمة‬
‫مميزة وذلك لغراقه في بحث المجرد‪ ،‬ولتساع مساحة الدرس وظهور نظم جديدة زاحمت النظام اللغوي "إذ لم تعد‬
‫اللغة إل مجرد نقطة في فضاء رحيب تهيمن عليه امبراطورية السمات"(‪ .)2‬وأضحى النموذج السيميولوجي أحد‬
‫النماذج الكثر حضورا في القراءات النقدية الدبية باعتبار النص شبكة من العلمات الدالة‪ ،‬وإن أهم مظهر تطوري‬
‫بدا عليه علم الدللة ضمن السيميولوجية الحديثة هو اقترانه بالتفكير الفلسفي "ويعتبر موريس من الذين قدموا نموذجا‬
‫سيميولوجيا فلسفيا بحيث استطاع أن يميز بين البعاد الدللية والبعاد التركيبية والبعاد الوظيفية للشارة‪ .‬فطبقا لرأيه‬
‫فإن العلقة بين الشارة والمجموعة الجتماعية هي علقة دللية‪ ،‬والعلقة بين الشارة والشارات الخرى هي‬
‫(‪)3‬‬
‫علقة تركيبية أما العلقة بين الشارة ومستعمليها فهي علقة وظيفية"‬
‫إن العامل النفسي في إدراك القيمة الدللية للعلمة ذو أهمية بالغة‪ ،‬فافتراض وجود الكفاية اللغوية عند المتكلم‬
‫يتوق إلى تحليل نفسي (للمتكلم) لضبط هذه الكفاية مرورا بتحليل التركيب اللساني‪ ،‬ولذلك فالتحليل موحد بين‬
‫اللسانيات النفسية‪ ،‬أوعلم النفس اللساني (‪ )psycholinguistiques‬دون إغفال المركب الدللي في العملية التي‬
‫تتناول السلوك الكلمي بقصد الوقوف على البنى الذهنية المشكلة لدللته‪ ،‬فالحاطة بالجانب التصوري في العملية‬
‫التواصلية يساهم بقسط وفير في اكتمال حلقات الفعل الدللي…‬
‫إن ماهية علم الدللة‪ -‬كما أوضحناها‪ -‬تنأى عن كل تأطير وحصر‪ ،‬كما أن المباحث اللغوية الحديثة لتخاذها‬
‫طابع الشمولية في التناول والطرح‪ ،‬ل زال معها الدرس الدللي يراوح مكانه ضمن المبحث السيميولوجي العام بين‬
‫تحديد الماهية العامة‪ ،‬وتحقيق البعاد في إطار النظرية السيميولوجية الشاملة التي تحاول وضع المفاهيم الدللية رهن‬
‫التحقيق في المنظومة الجتماعية الحديثة التي عجت فيها المعارف والعلوم‪ ،‬واحتيج في سبيل استثمارها لنساق‬
‫لسانية دقيقة قد تضاف إلى النظم السيميائية غير اللغوية لحداث وعي سيميولوجية‪ ،‬تتحقق معه النهضة المبتغاة‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫)(‬
‫‪Essais de linguistique generale Roman Jakobson, P.101-102.‬‬
‫‪ )( 2‬د‪.‬عبد الالك مرتاض‪ ،‬بي السمة والسيميائية‪ ،‬ص ‪ 9‬ملة الداثة‪ ،‬العدد الثان‪.1993 ،‬‬
‫‪ )( 3‬دلئلية النص الدب‪ ،‬فيدوج‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫مباحث علم الدللة الحديث‬

‫تمهـــيد‪:‬‬
‫إن المجال الذي يندرج في إطاره البحث الدللي‪ ،‬يمكن حصره في دراسة طرفي الفعل الدللي‪ -‬الدال‬
‫والمدلول‪ -‬وما يتفرع عن ذلك من أبحاث تخص الدال من جهة والمدلول من جهة أخرى والعلقة التي تجمع بينهما‪،‬‬
‫وبناء على هذه الدراسة حدد موضوع علم الدللة الذي يضم مباحث لغوية مختلفة ومتباينة لكنها مترابطة ومتكاملة‪،‬‬
‫فبحث موضوع اللغة من جوانب مختلفة‪ ،‬كما تناول الدلليون مسألة التطور الدللي فدرسوا أشكاله وأسبابه‪ ،‬ونشأت‬
‫عن مبحث علقة الدال بالمدلول مواضيع أخرى كموضوع أنواع الدللة وأقسامها ومبحث الحقول الدللية وما توصل‬
‫إليه اللغويون في هذا المجال من نظريات وآراء علمية‪ ،‬كما برز موضوع المجاز بمفهومه العام وعلقته بالتعبير‬
‫الدللي‪ ،‬وفي هذا السياق سنحدد مباحث علم الدللة في العصر الحديث لنشاكل بها المباحث الدللية التي تناولها‬
‫المدي في مجال الدرس الصولي وهذا من أجل مقاربة علمية بين جانب من مباحث التراث المعرفي والمضامين‬
‫الدللية الحديثة لن المنهج المتوخى في المعارف اللغوية الحديثة يتراوح بين تقديم المضامين اللسانية والبحث عن‬
‫الصول الولية لها من دعائم ذهنية‪،‬وضوابط منهجية‪ ،‬ومصادرات استدللية واستثمارات نفعية‪.)1(.‬‬

‫المبحث الول‪ :‬اللغة‬


‫لقد بحث موضوع اللغة في بداية نشأة علم الدللة وعلوم اللسنية بوجه عام‪ ،‬من الجانب التاريخي‪ ،‬حيث اتسع‬
‫مجال البحث في نشأة اللغة‪ ،‬وهي مسألة شغلت اهتمام العلماء قديما وحديثا‪ ،‬أما في المرحلة الثانية فقد بحث موضوع‬
‫اللغة بمنهج وصفي آني وهو منهج يأخذ دراسة اللغة من جانب بنيتها الداخلية باعتبار اللغة نظاما من الرموز اللسانية‬
‫أو مجموعة من الصوات الدالة‪ .‬كما تناول علماء الدللة وظائف اللغة والنواميس الخفية التي تتحكم في نظام بنيتها‬
‫وحركيتها(‪ )2‬التي وسموها بالتعقيد‪ .‬يظهر ذلك من اختلفهم في تعريفها‪ .‬فيعرفها أحدهم بأنها نظام من الرموز‬
‫والشارات ويعرفها آخر بأنها مجموعة الصوات الدالة أو أداة للفكر‪ ،‬بينما يحددها أنيس فريحة بقوله‪" :‬الواقع أن‬
‫اللغة أكثر من مجموعة أصوات‪ ،‬وأكثر من أن تكون أداة للفكر أو تعبيرا عن عاطفة اللغة جزء من كياننا‬
‫البسيكولوجي الروحي وهي عملية فيزيائية اجتماعية بسيكولوجية على غاية من التعقيد(‪.)3‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ .‬ص ‪7‬‬ ‫‪1‬‬

‫() أطلق عليها سوسي مصطلح "ميكانيزم" ماضرات ف اللسانيات العامة ص ‪.177‬‬ ‫‪2‬‬

‫() أنيس فرية نظريات ف اللغة ص ‪11‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫إن البحث في أصل اللغة من المسائل الفكرية الصعبة التي بقي معها فكر العلماء يدور في حلقة مفرغة‪ ،‬بحيث‬
‫انقسمت آراؤهم حول تحديد نشأة اللغة‪ ،‬وبرزت في ثلثة اتجاهات‪ :‬اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية‪ ،‬واتجاه‬
‫يذهب إلى أن اللغة عرفية اصطلحية واتجاه ثالث يجمع بين الرأيين‪ .‬وكان جل العلماء اللغويين يأملون التوصل إلى‬
‫تفسير شامل لهذه المسألة‪ ،‬ولكنه لم يتمكنوا من ذلك وأضحت أبحاثهم ل تقدم لمسألة نشأة اللغة أي حل مقنع قد يفتح‬
‫المجال أمام جهود الباحثين في هذا الميدان‪ ،‬بل إن المسألة ازدادت تعقيدا‪ ،‬بكثرة الراء والنظريات التي نشأت حولها‬
‫مما حدا بالجمعية اللغوية الفرنسية (‪ )la societe de linguistique‬إلى إصدار قانون يمنع إلقاء محاضرات في‬
‫موضوع نشأة اللغة‪ .‬إن اعتماد النظريات اللغوية الحديثة على معطيات مبنية على الحدس والفتراض‪ ،‬هو الذي‬
‫أبعدها من التوصل إلى نتائج علمية دقيقة‪ ،‬ولقيت بعض هذه النظريات اعترافا علميا‪ ،‬لنها استندت في تعليلها لنشأة‬
‫اللغة على معطيات لغوية ملموسة من ذلك نظرية (‪ )bow waw‬التي تذهب إلى أن أصل اللغة هو محاكاة لصوات‬
‫استقاها النسان من الطبيعة‪ ،‬تدعم رأيها بوجود ألفاظ مأخوذة من أصوات تصدرها عناصر من الطبيعة كالزقزقة‬
‫والخرير‪ ،‬والحفيف‪ ،‬والخشخشة‪ ،‬والعواء‪ ،‬والمواء وما إلى ذلك‪ ،‬رأي مماثل تذهب إليه نظرية الصوات التعجبية‬
‫العاطفية‪ ،‬وتفيد أن الكلمات الولى التي نطق بها النسان‪ ،‬كانت أصوات تعجبية عاطفية تعبر عن ألم أو دهشة أو‬
‫فرح من تلك الكلمات "أف" وي "أنين" وغير ذلك(‪.)1‬‬
‫إن المنهج الوصفي الني‪ ،‬يرمي إلى تحليل البنية الداخلية للغة‪ ،‬وذلك باستنباط الشبكة التنظيمية التي تبدو‬
‫كنواميس خفية تنتظم في إطارها اللغة‪ .‬يرى جان بياجي أن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس خفية مفروضة‬
‫على الفراد‪ ،‬تتناولها الجيال بضرب من الحتمية التاريخية إذ كل ماضي اللغة –راهنا‪ -‬إنما هو منقول عن أشكال‬
‫سابقة‪ ،‬هي الخرى منحدرة من أنماط أكثر بدائية‪ ،‬وهكذا إلى الصل الوحد أو الصول الولية المتعددة(‪.)2‬‬
‫هذه القوانين الخفية التي تنتظم في إطارها اللغة‪ ،‬تعود إلى الصول الولية للغة الخطاب وهي تشكل النظام‬
‫اللغوي‪ ،‬وبذلك سعى اللغويون وعلماء الدللة بوجه خاص‪ ،‬إلى تفكيك بنية هذا النظام لكتشاف اللغة اكتشافا علميا‪ ،‬قد‬
‫ل لمشكلت لغوية‪ ،‬في عالم أصبح يعتمد على اللغة في التصال والعلم في مستويات رفيعة وهامة‬ ‫يقدم تفسيرا مقبو ً‬
‫يقول بيار جيرو‪" :‬إنّ اللغة نظام من الشارات وهي تخدمنا في إيصال الفكار واستدعاء صور مفاهيم الشياء التي‬
‫تكونت في أذهاننا إلى ذهن الخرين(‪.)3‬‬
‫إن الدرس الدللي الحديث يهدف أساسا إلى التعرف على القوانين التي تشرف على النظام اللغوي‪ ،‬وذلك بتحليل‬
‫نصوص لغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي هذا سعي إلى تنويع التراكيب اللغوية لداء وظائف‬
‫دللية معينة‪ ،‬وهذا التنويع هو الذي يثري اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة ول يكون حاجزا أمام تطورها وتجددها‪،‬‬
‫ويمكن في خضم هذا البحث على النواميس الخفية "خلق" نواميس لغوية جديدة لتشرف على النظام الكلمي والخطابي‬
‫بين أفراد المجتمع الواحد‪ ،‬يقول عبد السلم المسدي شارحا ذلك بتعريفه لدور النحوي‪" :‬أما النحوي – نعني فقيه اللغة‬
‫بالصطلح المطرد‪ -‬فمرامه أن يعي وجود اللسان من خلل وجود الكلم‪ ،‬ويأتي عالم اللسان ليكون همه الوعي‬
‫باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلمي(‪ )4‬وأشارت البحوث الدللية‪ ،‬في خضم بحثها في موضوع اللغة‪ ،‬إلى أن‬
‫اكتساب التراكيب اللغوية يخضع إلى التلقائية والعفوية أثناء الحدث الكلمي‪ ،‬غير أن هذه التلقائية تحمل في جوهرها‬
‫() أنيس فرية نظريات ف اللغة ص ‪18 -17‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عبد السلم السدي اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫‪2‬‬

‫() بيار جيو‪ ،‬ترجة د‪ .‬منذر عياشي علم الدللة – ص ‪51‬‬ ‫‪3‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ :‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫تلك القواعد التي تحدد للغة الخطاب والتواصل إطارها‪ ،‬ويتعرف المجتمع اللغوي على سننها ويتمرس في توظيفها‪،‬‬
‫يوضح عبد السلم المسدي ذلك قائلً‪" :‬إن الحدث الكلمي يكتسب تلقائيا عن طريق التحصيل بالمومة‪ ،‬غير أن هذا‬
‫الكتساب المومي‪ ،‬سرعان ما يتحول إلى ضرب من الدراك الخفي بقوانين تلك اللغة ذلك أن الظاهرة اللسانية من‬
‫شروطها الولية‪ ،‬أنها عقد جماعي يلتزم به الفرد ضمنيا بعد أن يحذق استخدام ما تنص عليه بنوده الصوتية والنحوية‬
‫والمعجمية والدللية"(‪ .)1‬وإلى هذه السنن اللغوية ذاتها أشار نوام تشومسكي في سياق حديثه عن البنية السطحية والبنية‬
‫العميقة للغة‪ ،‬محددا مسألة الداء الكلمي والكفاية اللغوية التي تتيح للفرد التوصل إلى نسج جمل كثيرة وجديدة‪،‬‬
‫بواسطة ما يحمل ذهنه من قواعد وسنن لغوية‪ .‬يشرح ريمون طحان هذه العملية اللغوية بكيفية مفصلة فيقول‪" :‬إن‬
‫البنى السطحية نتيجة آلية وميكانيكية لبني كانت في العماق ودفعتها اللغة إلى السطح‪ ،‬ويبدو أن البنى العميقة هي‬
‫أسس التفكير وهي التي تستوعب المفاهيم‪ ،‬وأن البنى السطحية تقوم فقط بصوغ المفهوم على شكل جملة أصولية‪،‬‬
‫ويبدو أن هناك تماثل بين هياكل اللغة وهياكل الذهن‪ ،‬وتصبح البنى الفكرية الخفية‪ ،‬قوالب لغوية بارزة واللسان مرآة‬
‫صادقة تعكس صورة الفكر"(‪.)2‬‬
‫إن تعميق البحث العلمي في اللغة‪ ،‬مكن من تجاوز البنى السطحية لهذه اللغة إلى بنى عميقة تكشف عن الشبكة‬
‫الداخلية التي تصنف الداءات اللغوية وتستمر معها عملية التواصل والبلغ إذ‪" ،‬ليس للساني من مهمة في خاتمة‬
‫المطاف‪ ،‬سوى استنباط الشبكة التصنيفية التي تقوم عليها الظاهرة اللغوية مما يتيح له استطلع مقومات النتظام‬
‫الداخلي عبر اكتشاف النواميس المحددة لبنية اللغة والمحركة لوظيفتها في آن معا"(‪.)3‬‬
‫إن اللغة تشكل مجموعة الخبرات اللغوية للمجتمع والتي تراكمت عبر مراحل التاريخ‪ ،‬وهي لهذا نظام كامل ل‬
‫يمكن أن يوجد لدى فرد واحد‪ .‬وقد عبر أفلطون عن ذلك بقوله‪" :‬إن النسان لن يجرؤ على أن يعبر باللغة على كل‬
‫ما يدور بخلده من أفكار وأشياء"(‪ )4‬ولذلك تقف اللغة عاجزة عن اللمام بكل ما يريد أن يفصح عنه النسان‪ ،‬من أفكار‬
‫ومشاعر‪ ،‬ومع ذلك تبقى اللغة الداة الساسية للتعبير ولتمييز اللغة كنظام واستخدام النسان لهذا النظام قسم سوسير‬
‫دراسة اللغة إلى قسمين‪:‬‬
‫‪ -1‬دراسة جوهرية موضوعها اللغة المعنية التي هي اجتماعية في جوهرها ومتكاملة في نظامها‪.‬‬
‫‪ -2‬دراسة تتناول الستخدام الفردي للغة باعتباره تطبيقا علميا لنظام اللغة المتكامل الذي هو عبارة عن مجموعة‬
‫من العلمات المختزنة في العقل الجمعي‪ ،‬ول تنطق لنها ليست فردية(‪ .)5‬يشرح سوسير بكيفية مفصلة‬
‫التقابل الذي تشكله اللغة بنظامها‪ ،‬والداء الفردي لهذا النظام مشبها اللغة بالقاموس الذي توجد فيه الكلمات‬
‫صامتة غير منطوقة‪ ،‬صالحة للنطق والستعمال‪ ،‬وإنما يستخرج منه الفرد بحسب الحاجة إليها وبحسب‬
‫الختيار وهي القاسم المشترك بين أفراد المجتمع اللغوي وتوجد في حاصل جمع عقولهم جميعا وإذا استطعنا‬
‫أن نستخرج الصور الكلمية المختزنة في عقول جميع الفراد في مجتمع لغوي واحد‪ ،‬فإننا سنلمس تلك‬
‫الرابطة الجتماعية التي تربطهم جميعا وهي ما يسمى "باللغة المعينة" وهي ل تمكن أن تكون كاملة في ذهن‬

‫() الرجع السابق ص ‪.31‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ريون طحان ‪ :‬اللسنية العربية ص ‪.144‬‬ ‫‪2‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ :‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ستيفن أولان ترجة ك مسلم كمال بشر‪ :‬دور الكلمة ف اللغة ص ‪.6‬‬ ‫‪4‬‬

‫() ‪p cours de linguistique generale f. de saussure :38-37‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫(‪)1‬‬
‫‪1=1+1+1+1+1‬‬ ‫أي فرد بعينه‪ ،‬بل ل تكتمل إل في الوعي الجمعي وتمثلها هذه المعادلة الحسابية‪:‬‬
‫وما يلحظ على المناهج التي تناولت اللغة كمادة للبحث‪ ،‬أنها تختلف من مرحلة لخرى لختلف النمط الفكري‬
‫والعلمي السائدين في العصر‪ ،‬فيمكن أن نذكر المنهج السلوكي‪ ،‬الذي يعتبر اللغة مجموعة عادات صوتية يكيفها حافز‬
‫البيئة‪ ،‬ويفترض أصحاب هذا المنهج حصول الستجابة الكلمية للحافز على نحو شبيه في الواقع إلى حد كبير بما‬
‫يحصل عند الحيوان‪ .‬وهناك المنهج العقلي المستمد أساسا من فلسفة ديكارت‪ ،‬وينظر هذا المنهج إلى الداء الكلمي‪،‬‬
‫كونه يخفي وراءه معرفة ضمنية بقواعد معينة‪ ،‬ويحرص العقلنيون على تبيان السنن القاعدية في النظام اللغوي‪،‬‬
‫بغية التوصل إلى إدراك اللية العقلية المحركة لعمل اللغة(‪.)2‬‬
‫هذا التناول اللغوي الموسوم بالتحليل العميق لبنية اللغة الداخلية‪ ،‬يبين المدى الذين توصلت إليه الدراسات‬
‫اللسانية والدللية في العصر الحديث‪ ،‬فلم تعد الدراسة تكتفي بالوصف السطحي للظاهرة اللغوية فحسب‪ ،‬وإنما تلقح‬
‫العلوم الحديثة من فلسفية ونفسية واجتماعية‪ ،‬أثرى المنهج اللغوي المعتمد في استنباطات سنن اللغة وقواعد نظامها‪،‬‬
‫وتمكن العلماء معه إلى تحديد وظائف اللغة حسب العملية التواصلية‪ ،‬حيث يميز رومان جاكسون في الحديث اللساني‬
‫(‪)3‬‬
‫ست وظائف هي‬
‫‪ -1‬الوظيفة المرجعية (‪ :)referentielle‬وهي تعني إشارة اللغة إلى محتوى معين ليصاله إلى أذهان الخرين‬
‫وتبادل الرأي معهم‪.‬‬
‫‪ -2‬الوظيفة التعبيرية أو النفعالية (‪ :)emotive‬وهي التي تشير فيها اللغة إلى موقف المرسل من مختلف‬
‫القضايا التي يتحدث عنها‪.‬‬
‫‪ -3‬الوظيفة النشائية (‪ :)conative‬تظهر في اللغة التي يتوجه بها إلى المخاطب قصد لفت انتباهه إلى أمر أو‬
‫طلب منه القيام بعمل معين‪.‬‬
‫‪ -4‬الوظيفة الورألسنية (‪ :)Metalinguistique‬وهي تعكس شعور المعبّر بنظام التواصل وتتمحور حول اللغة‬
‫نفسها‪.‬‬
‫‪ -5‬وظيفة التصال (‪ :)phatique‬وهي تقوم على تعابير تتيح للمرسل إقامة التصال أو قطعه ‪.‬‬
‫ل من المعاني والقيم الدللية‪.‬‬
‫‪ -6‬الوظيفة الشعرية (‪ :)poetique‬وهي تتمحور حول اللغة باعتبارها تحمل ظل ً‬
‫هذه الوظائف الست هي التي تتمحور في إطارها العملية البلغية التي تتخذ اللغة كخطاب يؤدي الدللت‬
‫المقصودة في الحوال العادية‪ ،‬وهي تشير إلى مدى العمق العلمي التحليلي الذي سارت عليه الدراسات اللغوية‬
‫الحديثة‪ ،‬من أجل إبراز القيم الجوهرية في اللغة باعتبارها أهم نظام للتواصل‪ .‬يقول سوسير‪" :‬إن اللغة هي نظام من‬
‫العلمات المعبرة عن أفكار‪ ،‬وبهذا ومقارنة بالنظمة التواصلية الخرى كنظام لغة الصم البكم أو نظام الطقوس‬

‫() الرجع السابق ص ‪. 38 -37‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪ .‬ميشال زكريا‪ :‬اللسنية (علم اللغة الديث) البادئ والعلم ص ‪.74 -73‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر الرجع السابق ص ‪ 54‬وكتاب ‪intiation aux problemes des lingustiques contemporaires c. fuchs‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪et p. le goffi c. p. 115-116‬‬


‫‪- 39 -‬‬
‫والشعائر أو الشارات العسكرية‪ ،‬وما إلى ذلك تبقى اللغة الهم من هذه النظمة"(‪.)1‬‬
‫ويدعم هذه الفكرة الدكتور أحمد مختار عمر بقوله‪" :‬ورغم اهتمام علم الدللة بدراسة الرموز وأنظمتها حتى ما‬
‫كان منها خارج نطاق اللغة‪ ،‬فإنه يركز على اللغة من بين أنظمة الرموز باعتبارها ذات أهمية خاصة بالنسبة‬
‫للنسان‪.)2(.‬‬
‫هذه الجوانب من مبحث اللغة كما تناولته الدراسات اللسنية والدللية الحديثة‪ ،‬والتي كانت ترمي إلى تأسيس‬
‫رؤية علمية شاملة‪ ،‬تبرز الدور الوظيفة الساسي للغة‪ ،‬وذلك بتفكيك بنيتها الداخلية للتعرف على الشبكة التنظيمية‬
‫التي تشرف على عملية التواصل والبلغ‪ ،‬وهو ما دأب عليه علماء اللسانيات والدللة في دراسات مستفيضة‪،‬‬
‫استعانت بمناهج علمية مختلفة أحدثت في مبحث اللغة نقلة نوعية‪ ،‬وأنتجت نظريات – رغم قدمها‪ -‬ما زالت تعتمد‬
‫كمراجع في البحث اللغوي المعاصر‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الدال والمدلول‪:‬‬


‫من أهم القضايا الدللية التي تناولها علماء اللسنية والدللة‪ ،‬مسألة الدال والمدلول والعلقة بينهما‪ ،‬كانت القضية‬
‫في بداية طرحها في الدرس اللغوي‪ ،‬تقتصر على اللفظ والمعنى وباتساع مجال علم الدللة أضحت المسألة تتعلق‬
‫بالدال والمدلول سواء أكان الدال لفظا أو غير لفظ‪ ،‬واللغة في الخير ما هي إل علقات تربط دال بمدلوله‪ ،‬ضمن‬
‫شبكة تنظيمية‪ ،‬ذلك أن الدال ل يحمل دللته في ذاته إنما منبع الدللة هي تلك التقابلت الثنائية التي تتم على مستوى‬
‫الرصيد اللغوي‪ ،‬يقول في ذلك د‪ .‬عبد السلم المسدي‪" :‬اللغة هي مجموعة من العلقات الثنائية القائمة بين جملة‬
‫العلمات المكونة لرصيد اللغة ذاتها‪ ،‬وعندئذ نستسيغ أيضا ما دأب عليه اللسانيون من تعريف العلمة بأنها تشكل ل‬
‫يستمد قيمته ول دللته من ذاته‪ ،‬وإنما يستمدهما من طبيعة العلقات القائمة بينه وبين سائر العلمات الخرى"(‪.)3‬‬
‫وقد خصص سوسير حيزا واسعا لدراسة مسألة الدال والمدلول‪ ،‬وأطلق مصطلح الدليل اللساني على وجهي‬
‫العملية الدللية (الدال والمدلول) فالدال هو القيمة الصوتية أو الصورة الكوستيكية‪ ،‬أما المدلول فهو المحتوى الذهني‬
‫أو الفكري(‪.)4‬‬
‫إن علم الدللة‪ ،‬يقوم على أساس تحديد العلقة بين الدال والمدلول وهي علقة ل يمكن ضبطها إل إذا تعرفنا‬
‫على طبيعة كل من الدال والمدلول وخواصهما‪ ،‬وفي هذا الطار فإن الدال اللغوي ل يمكن بحال من الحوال أن‬
‫يحيلنا على الشيء الذي يعنيه في العالم الخارجي مباشرة‪ ،‬وإنما مرورا بالمدلول أو المحتوى الذهني الذي يرجعنا إلى‬
‫الشيء الذي تشير إليه العلمة اللسانية‪ ،‬فالعلمات اللسانية حسب النموذج السوسيري تقتضي توفر ثلثة شروط‪:‬‬
‫أ‪-‬أن تكون العلمة اللسانية دالة على المعنى‪.‬‬
‫ب‪-‬أن تكون مستعملة في مجتمع لساني يفهمها‪.‬‬

‫() ‪cours de linguistiques generale f .de sausure‬‬ ‫‪1‬‬

‫() علم الدللة ص ‪.12‬‬ ‫‪2‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ :‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪cours de linguistiques generale f. de saussure p. 99‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫ج‪-‬أن تنتمي إلى نظام من العلمات اللغوية‪.‬‬
‫ويمكن تقديم علقة العلمة اللسانية بالمدلول والموجود في العيان على النحو التالي‪:‬‬
‫‪Signfie‬المدلول‬

‫‪Signe‬‬
‫الدليل (الرمز)‬

‫‪( Referent‬المرجع)‬
‫فالمرجع يعني الشيء الخارجي الذي يحيلنا عليه الدليل اللساني‪ ،‬وهو عالم غير لغوي‪ ،‬وهو ل يحدد فقط‬
‫بالشياء المادية المحسوسة‪ ،‬فكثير من المراجع ل توجد إل في إطار الخطاب اللغوي فمثلً "حب" أو "صداقة" تسجل‬
‫في الخطاب اللساني‪ ،‬ولكن ل نجد قيمتها الدللية الحقيقية إل داخل المجتمع اللغوي‪ .‬وهذا المثلث‪ ،‬الذي يوضح‬
‫العلقات التي يقيمها الرمز اللغوي مع الدال والمدلول والمرجع‪ ،‬يبرز أن العلقة بين الدال والمرجع هي منقطه وذلك‬
‫للدللة على أن استحضار المرجع يمر غالبا عبر المدلول‪ ،‬وتترك حالت قليلة يمكن أن يستحضر فيها المرجع‬
‫ل في السماء العلم(‪.)1‬‬ ‫بواسطة الدال وذلك مث ً‬
‫واتخذ منحى دراسة الدليل اللساني في المباحث الدللية‪ ،‬عدة أبعاد ترمي إلى تعميق الدراسة لرصد العلقة التي‬
‫تجمع الدال بالمدلول‪ ،‬وأخذ علم الدللة بالمبادئ اللسانية التي كتب لها النجاح في علم الصوات الوظيفي‪ ،‬ورسم‬
‫العلماء منهجا لدراسة طرفي الفعل الدللي‪ ،‬أو الدليل اللساني بمصطلح سوسير وحددوا جانبين رئيسيين لهذه الدراسة‪:‬‬
‫‪-1‬التحليل الداخلي للدليل وذلك بتحليل المدلول بأساليب مختلفة برده واختزاله إلى صفاته الدللية‪.‬‬
‫‪-2‬التحليل الخارجي للدليل‪ ،‬أي تحليل علقات الدليل ببقية المعجم في إطار الحقول الدللية(‪ )2‬وتفرعت المباحث‬
‫الدللية في العصر الحديث لتشمل عناصر الدللة الثلث‪ :‬الدال والمدلول والمرجع‪ ،‬وحرص العلماء على‬
‫التأكيد أن علم الدللة يختص بدراسة المدلول محددا في سبيل ذلك معايير علمية "فالمدلول يتحدد بواسطة‬
‫الوحدات المجاورة له‪ ،‬وكل تغير يصيب وحدة ما من وحدات النظام يمكن أن ينعكس على مجموع أو جزء‬
‫من هذا النظام(…) فقيمة وحدة ما هي ذات طبيعية علئقية (‪ )relationnel‬وهذا ل ينفي على كل حال‬
‫الوجود اليجابي للمدلول كوحدة معجمية"(‪.)3‬‬
‫ويمكن أن تجمع عناصر الدللة‪ ،‬في دراسة متكاملة تدخل ضمن مباحث الحقول الدللية‪ ،‬التي تنتظم وفقا للمنهج‬
‫التصنيفي التنظيمي في دراسة الدلة ومحتوياتها‪ ،‬لن الدراسة التي تناولها الدال تنسحب بالضرورة لتتناول المدلول‬

‫() ‪linguistique francaises, intiation a la problematique structurale tomel j. L. chiss. J.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪filliolet, d p. 118-119 maigueneau‬‬


‫() سال شاكر ترجة ممد يياتي مدخل إلىعلم الدللة‪ ،‬ص ‪21‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق ص ‪.18‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫ومن ثم المرجع‪ .‬فتقسيم الدراسة العلمية لمؤلفات الدللة الثلثة ليس سوى تيسير منهجي‪ ،‬يعتمد في تفكيك البنية‬
‫الواحدة ذات المكونات المتحدة ليعيد تركيبها مرة أخرى لتكون الدراسة ذات طابع شمولي متكامل‪.‬‬
‫إذا كانت اللسانيات تركز اهتمامها على دراسة "الدال" من جوانبه المختلفة‪ ،‬فإن علم الدللة‪ -‬كما أسلفنا‪ -‬يعني‪،‬‬
‫بالخص‪ ،‬بالجانب المفهومي "للدال" فيتناول ضمن مباحثه العلقة التي يقيمها "المدلول" مع الشياء‪ ،‬وعلقته ببقية‬
‫المدلولت داخل السياق اللغوي‪ ،‬يوضح موريس أبو ناضر ذلك بقوله‪" :‬يعرف علم المعاني أو علم الدللة بأنه العلم‬
‫الذي يعنى بدراسة الدللت اللسنية‪ ،‬وعلى الخص الجانب المعنوي من هذه الدللت‪ ،‬أي المدلول‪ ،‬والمدلول يدرس‬
‫على ضوء هذا العلم من عدة جوانب‪:‬‬
‫أ‪-‬الجانب الول‪ :‬يتمثل في العلقات التي يقيمها المدلول مع الشياء التي يومئ إليها أو يعبر عنها (المفاهيم –‬
‫العواطف‪ -‬معطيات العالم الخارجي)‪.‬‬
‫ب‪-‬الجانب الثاني‪ :‬يتمثل في العلقات التي يقيمها المدلول مع غيره من المدلولت‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ج‪-‬الجانب الثالث‪ :‬يتمثل في العلقات التي تنشأ بين السمات الساسية التي تتكون منها المدلولت‬
‫فقد يكون للدال أكثر من مدلول يتحدد وفق السياق اللغوي‪ ،‬ومن ثم قد يكون المعنى أساسيا أو ثانويا تصريحيا أو‬
‫إيمائيا‪ ،‬وقد يحمل الدال قيما دللية تسمى القيم التعبيرية أو السلوبية يذهب بيار جيرو إلى التأكيد أن للكلمة أكثر من‬
‫معنى تصريحي وآخر إيمائي‪ ،‬نظرا للتداعيات التي يمكن أن تحدثها أثناء الستعمال‪ ،‬فأي كلمة قد تستدعي قيما‬
‫اجتماعية أو ثقافية أو حتى قيما انفعالية‪ ،‬تعكس صورة قائلها وتحدد بعض ملمح الجانب النفسي فيه (‪.)2‬‬
‫وتوصل علماء الدللة في العصر الحديث‪ ،‬إلى تصنيف للمدلولت بالعتماد على عدة طرق‪ ،‬حددها الدكتور‬
‫موريس أبو ناضر منها‪.‬‬
‫‪-1‬الطريقة الشكلية‪ :‬وهي تعني تصنيف المدلولت وفقا للشكل الذي يجمعها في بنية واحدة بتفرعها عن أصل‬
‫واحد يبرز القرابة بينها مثل‪ :‬علم‪ -‬يعلم‪ -‬تعليم‪ -‬معلم‪..‬‬
‫‪-2‬الطريقة السياقية‪ :‬وتفيد أن المدلولت تصنف باعتبار المعنى الذي ترد من خلله في السياقات المختلفة‪.‬‬
‫‪-3‬الطريقة الموضعية‪ :‬وهي تعني أن المدلول يتحدد من خلل الموضع والموقف الذي يكون فيهما المتكلم‪.‬‬
‫‪-4‬الحقول الدللية‪ :‬وهي تكشف عن القرابة المعنوية بين المدلولت‪.‬‬
‫‪-5‬التحليل المؤلفاتي‪ :‬وهو يفيد أن المدلول يعيّن انطلقا من مؤلفات الكلمة الساسية أو ما يطلق عليه باللكسيم‬
‫"مثل لكسيم" امرأة يحوي المؤلفات التالية‪ :‬أنثى ‪+‬بالغ ‪+‬بشر(‪.)3‬‬
‫أما دراسة (المرجع) عند علماء الدللة فإنها لم تحسم ذلك الجدل الدائر حول تحديد الموجودات في عالم العيان‪،‬‬
‫بحيث أن المرجع الذي يحدّد في السياق اللغوي أو في الصيغة المعجمية ل يمكنه أن يحيل إلى الشيء المعين في‬
‫العالم الخارجي إحالة دقيقة‪ ،‬ذلك أن الموجودات في العالم الخارجي‪ ،‬تتميز بالتصنيف المتعدد والمتداخل حتى داخل‬

‫() انظر مقال‪ :‬مدخل إل علم الدللة اللسن د‪ .‬موريس أبو ناضر‪ ،‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العدد ‪ ،19 -18‬السنة ‪ ،1982‬ص ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬

‫() بيار جيو‪ ،‬انظر علم الدللة‪ ،‬ترجة د‪ .‬منذر عياشي ص ‪.63 -62 -61‬‬ ‫‪2‬‬

‫() مقال‪ :‬مدخل إل علم الدللة النسي‪ .‬موريس أو ناضر‪ :‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العدد ‪ ،18/19‬السنة ‪ ،1982‬ص ‪.35 -34‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫الحقل الواحد الذي يضم موجودات متماثلة‪ ،‬ذلك "أن التحديد المرجعي يقع في الخطأ اعتبار علقة‪ :‬دال‪ -‬مدلول‬
‫علقة تسمية (…) في حين يتعين علينا أول عند إقدامنا على وصف المدلول‪ ،‬استنباط الصفات المشتركة التي تلزم‬
‫(المراجع) التي قد ينطبق عليها (دليل) ما فكوننا قد شاهدنا كرسيا واحدا‪ ،‬ل يخبرنا بالخصائص (الفيزيائية والوظيفية)‬
‫اللصيقة بمجموعة ل متناهية من الشياء التي تكوّن جنس الكرسي"(‪ )1‬وإلى الفكرة ذاتها يشير كولردج بقوله‪" :‬ول‬
‫يتضمن" معنى "اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها بل يشمل أيضا جميع الرتباطات التي تبعثها اللفظة في‬
‫أذهاننا"(‪.)2‬‬
‫ويبقى تحديد الشيء الخارجي في عالم الموجودات بكيفية ل تعيق عملية البلغ والتواصل‪ ،‬من المسائل التي ما‬
‫زالت تشغل اهتمام علماء الدللة في العصر الحديث‪ ،‬خاصة وأنهم توصلوا إلى تنظيم دللي في هذا المجال مفاده أن‬
‫معرفة شيء من الشياء‪ ،‬ينبغي فيه اعتباره جميع مستلزمات هذا الشيء بحيث يتميز عن غيره ول يلتبس في تحديده‬
‫أو تعيينه‪.‬‬
‫أما المسألة الخرى في المبحث الدللي والتي كانت مدار الدارس اللغوي في التراث المعرفي إحدى أسس‬
‫الدرس اللساني الحديث‪ ،‬فهي العلقة بين الدال والمدلول أهي عرفية اصطلحية أم اعتباطية ل تخضع لية معيارية‬
‫قسرية تخلو من العلل؟ وأثارت قضية اعتباطية الدليل اللساني أو عرفيته – منذ سوسير –كثيرا من الجدل‪ ،‬وكان‬
‫دوسوسير أول من وضع نظرية لسانية تنم عن فهم عميق لطبيعة العلقة بين العلمة اللسانية ومدلولها‪ ،‬حيث يقول‬
‫توليودومورو (‪ )tullio de mauro‬وهو يعاين هذه المسألة في كتاب سوسير "محاضرات في اللسانيات العامة"‪" :‬إن‬
‫سوسير وجد في مبدأ اعتباطية العلمة اللساني‪ ،‬ما كان يصبو إليه من أجل إرساء نظرية لسانية‪ ،‬إضافة إلى أن‬
‫سوسير في سياق حديثه عن اعتباطية العلقة بين الدال والمدلول – في بدء إلقاء دروسه على تلميذه‪ -‬لم ينته سوى‬
‫من الخطوة الولى في طريق الفهم العميق لمبدأ العتباطية‪ .‬هذا يعني أن المفهوم العميق لهذا المبدأ عند سوسير‪ ،‬ل‬
‫ينبغي تحديده انطلقا من الصفحتين ‪ 102-101‬من الكتاب لكن من قراءته كله"(‪.)3‬‬
‫إن العتباطية في القتران العرضي بين الدال والمدلول‪ ،‬تعتبر الخلية الحيوية التي تشرف على عملية التوالد‬
‫الداخلي في اللغة‪ ،‬إذ يتم استحداث تراكيب وصيغ لغوية جديدة في صلب اللغة وابتكار مدلولت لها ذلك أن اللفاظ‬
‫تمتلك من المرونة ما يمكنها من عبور المجالت الدللية باعتماد معيار النقل الدللي‪ ،‬أو تغيير مجال الستعمال‪ ،‬وإن‬
‫المدلولت تستطيع كذلك أن تجتاز سلسلة من الدلة مرتدية بعضها مكان البعض الخر‪ ،‬وذلك إذا اعتمدت في سياقات‬
‫معينة يحددها الموقف المعين‪ .‬يشرح ذلك الدكتور عبد السلم المسدي بقوله‪" :‬إن التوالد المستمر في رصيد اللغة سببه‬
‫سمة العرضية في حصول اللفاظ دوال على المعاني‪ ،‬وبهذا يتسنى الجرم بطواعية اللفاظ على عبور المجالت‬
‫الدللية واحدا بعد آخر وبطواعية المدلولت على ارتداء اللفاظ بعضها مكان بعض‪ ،‬كما تسنى البت‪ -‬بحكم علقة‬
‫النسان باللغة وموقعه الفاعل منها – في أمر استحداث المركبات الدللية أصلً بابتكار المدلول الذي لم يكن‪ ،‬ثم‬
‫صناعة دال له فيلتحمان‪ ،‬ومن التحامهما يتكون مثلث دللي جديد"(‪.)4‬‬
‫ول تتوفر للغة هذه الحركية المتجددة في بنيتها‪ ،‬إذا لم تخضع علقة الدال بالمدلول إلى (معيار) العتباطية الذي‬

‫() سال شاكر‪ :‬ترجة ممد جبان‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ص ‪ .23‬يياتي‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ممد مضطفى‪ :‬بدوي كولردج ص ‪97‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ‪notes bio – graphiques et critiques de cours de hnguistique generale p. 343‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.95‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫ل يقيد دال بمدلوله‪ ،‬وإنما يكسب اللغة مرونة وقدرة على تجديدها كلها بابتكار مكونات أخرى‪ .‬وتعميق البحث اللغوي‬
‫في مسألة العلقة بين طرفي الفعل الدللي‪ ،‬أدى إلى العتقاد بأن اتصال الدال بمدلوله لم يبن على(معيار) العتباطية‬
‫إنما الذي يوحي بوجود هذا المبدأ‪ ،‬هو قدم العلة التي ربطت الدال بمدلوله‪ ،‬حتى ليخال إلينا أنه ل وجود لعلة تجمع‬
‫بينهما‪ .‬يوضح بيار جيرو ذلك بقوله‪" :‬إن كل الكلمات تحتوي على العلة في البداية وتحتفظ غالبيتها بها زمنا طويلً‬
‫إلى حد ما‪ .‬وعلى هذا فإن العلة تكون إذن إحدى السمات الرئيسية للشارة اللسانية"(‪.)1‬‬
‫إن (معيار) العتباطية في العلقة الدللية المعتمد في النظام اللغوي‪ ،‬تتحدد على أساسه العملية البلغية‬
‫والتواصلية‪ ،‬ذلك أنه كلما تحققت العلقة العتباطية بكثافة في لغة الخطاب‪ ،‬كلما بلغ النظام التواصلي مداه وانتهى‬
‫الجهاز البلغي إلى حده الوفى‪ .‬ويدل ذلك على الطاقة التعبيرية الكبيرة التي تتوفر عليها اللغة المبينة علقتها‬
‫الدللية على أساس القتران العرضي أو التعسفي‪ ،‬يبيّن المسدي ذلك بقوله‪" :‬إن مقبولية العلقة بين الدال والمدلول في‬
‫كل نظام تواصلي على أساس القتران المنطقي‪ ،‬تتناسب تناسبا عكسيا مع طاقة ذلك النظام المعتمد في البلغ(…)‬
‫فكلما ثقلت كثافة التعسف القتراني في أي نظام إخباري‪ ،‬نزع نسقه الدللي إلى طاقته القصوى‪ .‬فالشحنة العتباطية‬
‫في كل واقعة تواصلية هي المولد الدائم لسعة القدرة البلغية التي تلتئم فيها"(‪.)2‬‬
‫فالدللة تكون قابلة للتساع‪ ،‬كلما كانت العلة مختفية غير معروفة ذلك أن الرتباط القسري الذي جمع الدال‬
‫بمدلوله‪ ،‬كان في البدء عن طريق علة جوهرية هي التي أعطت لهذا الرتباط مرونته‪ ،‬بحيث يحدث امتداد في المجال‬
‫الدللي للفظ‪" ،‬فيجب على العلة أن تختفي إذن لمصلحة المعنى أما إذا حدث العكس فإنها ستقلص المعنى وتهدمه" (‪.)3‬‬
‫هذه – مجملة‪ -‬هي المباحث الدللية التي تناولت في مجالها الدراسي مسألة الدال والمدلول‪ ،‬وما تفرع عنها من‬
‫مسائل أخرى‪ ،‬أضحت مواد الدرس الدللي الحديث الذي اعتمد منهج التحليل والتفكيك لبنية النظام اللغوي‪ ،‬وإظهار‬
‫مكوناته الساسية قصد بحثها‪ ،‬وإيجاد العلئق التي تجمع بينها‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬أقسام الدللة‬


‫من المباحث اللغوية التي أثارها الدرس الدللي‪ ،‬بناء على العلقات التي تجمع الدال بمدلوله‪ ،‬مبحث أقسام الدللة‬
‫وأنواع المعنى‪ .‬فإذا كان تحديد معنى الكلمة يتم بالرجوع إلى القاموس اللغوي‪ ،‬فإن ذلك ل يمكن أن ينسحب على‬
‫جميع الكلمات التي ترد مفردة أو في السياق‪ ،‬ولذلك ميز اللغويون بين معان كثيرة أهمها‪:‬‬
‫‪-1‬المعنى الساسي أو التصوري‪ :‬وهو المعنى الذي تحمله الوحدة المعجمية حينما ترد مفردة ‪.‬‬
‫‪-2‬المعنى الضافي أو الثانوي‪ :‬وهو معنى زائد على المعنى الساسي يدرك من خلل سياق الجملة ‪.‬‬
‫‪-3‬المعنى السلوبي‪ :‬وهو الذي يحدد قيم تعبيرية تخص الثقافة أو الجتماع‪.‬‬
‫‪-4‬المعنى النفسي‪ :‬وهو الذي يعكس الدللت النفسية للفرد المتكلم‪.‬‬

‫() بيار جيو علم الدللة – ترجة د‪ .‬منذر عياشي ص ‪.46‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ :‬ص ‪74‬‬ ‫‪2‬‬

‫() بيار جيو علم الدللة – ترجة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،‬ص ‪50‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫‪-5‬المعنى اليحائي‪ :‬وهو ذلك النوع من المعنى الذي يتصل بالكلمات ذات القدرة على اليحاء نظرا لشفافيتها(‪.)4‬‬
‫وتقسيم المعنى في علم الدللة يخضع لمبدأ عام ملخصه أن القيمة الدللية للوحدة المعجمية ل يمكن اعتبارها‬
‫دللة قارة‪ ،‬إنما يخضع تحديد تلك القيمة لمجموع استعمالت هذه الصيغة في السياقات المختلفة‪ ،‬ولقد قسم العلماء‬
‫الدللت اعتمادا على معايير أخرى ترتكز على الدراك لطبيعة العلقة بين قطبي الفعل الدللي‪ ،‬وهو ل يخرج عن‬
‫ثلث‪ :‬اعتبار العرف‪ ،‬أو اعتبار الطبيعة أو اعتبار العقل‪ ،‬وعلى ذلك فالدللة إما عرفية أو طبيعية أو عقلية‪ .‬وأخضع‬
‫علماء الدللة تصنيف الدللت بناء على أداء السياق للمعنى‪" ،‬فالكلم إما أن يساق ليدل على تمام معناه‪ ،‬وإما أن‬
‫(‪)2‬‬
‫يساق ليدل على بعض معناه‪ ،‬وإما أن يساق ليدل على معنى آخر خارج عن معناه إل أنه لزم له عقل أو عرفا"‬
‫واستنادا إلى ذلك فالدللت ثلثة أصناف‪.‬‬
‫دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام‪ ،‬وهذه الدللت الثلثة تندرج ضمن دللة عامة هي الدللة‬
‫الوضعية التي هي قسم من القسام الدللة اللفظية‪ ،‬وبناء على ذلك فأقسام الدللة في العصر الحديث تتفرع إلى ستة‬
‫أصناف يمكن تمثيلها في الترسيمة التالية‪:‬‬
‫الدللة‬

‫غير لفظية‬ ‫لفظية‬

‫طبيعية‬ ‫وضعية عقلية‬ ‫طبيعية‬ ‫عقلية‬ ‫وضعية‬

‫مطابقة تضمن التزام‬


‫ويمكن تحديد مفاهيم هذه الصناف الدللية‪ ،‬كما درج على تعريفها علماء الدللة‪ .‬فالدللة اللفظية العرفية ل‬
‫تنعقد إل بتوفر ثلثة أركان‪" :‬اللفظ‪ ،‬وهو نوع من الكيفيات المسموعة‪ ،‬والمعنى الذي جعل اللفظ بإزائه‪ ،‬وإضافة‬
‫عارضة بينهما هي الوضع‪ ،‬أي جعل اللفظ بإزاء المعنى‪ ،‬على أن المخترع قال‪ :‬إذا أطلق هذا اللفظ فافهموا هذا‬
‫المعنى"(‪ )3‬فالدللة الوضعية‪ ،‬هي الدللة العرفية أو الصطلحية‪ ،‬حيث يتواضع الناس في اصطلحهم على دللة‬
‫شيء ما‪ ،‬وبعد ذلك فالدللة الوضعية يقتضي لدراكها العلم المسبق بطبيعة الرتباط بين الدال ومدلوله‪ ،‬ففي الدللة‬
‫العرفية يقول المسدي‪" :‬ل يتسنى للعقل البشري من تلقاء مكوناته الفطرية ول الثقافية أن يهتدي إلى إدراك فعل الدللة‬
‫إل إذا ألم سلفا بمفاتيح الربط بين ما هو دال وما هو مدلول‪ ،‬وهذا اللمام ليس بفعل الطبيعة ول هو من مقومات‬
‫العقل الخالص ولكنه من المواضعات التي يصطنعها المجتمع"(‪.)4‬‬
‫أما الدللة العقلية وتسمى كذلك الدللة المنطقية‪ ،‬فهي التي يكون فيها العقل أمر إدراك طبيعة العلقة التي تربط‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ :‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.39 -38 -37 -36‬‬ ‫‪4‬‬

‫() عبد الرحن حسن حبنكه اليدان ضوابط العرفة وأصول الستدلل والناظرة ص ‪27‬‬ ‫‪2‬‬

‫() شرح مطالع النوار‪ :‬التحتاطي ص ‪ .28‬نقلة عادل الفاخوري ف كتابه علم الدللة عند العرب‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 45 -‬‬
‫الدال بمدلوله‪ ،‬ويمثل لتعريفها عادة بدللة الدخان على النار إذ يتم استحضار الدللة الغائبة بحقيقة حاضرة والذي‬
‫يربط بين المرين هو العقل وعلى هذا سميت الدللة المستحضرة بالدللة العقلية‪ ،‬يحدد المسدي هذه الدللة وطرق‬
‫إدراكها بقوله‪" :‬وفيها (أي الدللة العقلية) يتحول الفكر من الحقائق الحاضرة إلى حقيقة غائبة عن طريق المسالك‬
‫العقلية بمختلف أنواعها"(‪ )1‬هذه المسالك المعتمد عليها في رصد الدللة المنطقية تتحدد في ثلثة‪:‬‬
‫‪-1‬مسلك البرهان القاطع‪ :‬وهو الذي يتقيد بقيود المنطق العقلي‪ ،‬فإذا سألت عن جنس الحاضرين فأجبت بأن‬
‫بعضهم ذكور عرفت أن بينهم إناث‪.‬‬
‫‪-2‬مسلك القرائن الراجحة‪ :‬وهو الذي يفضي إلى تسليم ظني يأخذ في البدء بمعطيات هي في منزلة "العلمات‬
‫الدالة" وبواسطة القرائن المنطقية يستكشف "مدلول" تلك العلمات‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫‪-3‬مسلك الستدلل الرياضي‪ :‬وهو يعني النتقال من المعلوم فرضا إلى المجهول تقديرا‬
‫أما الدللة الثالثة فهي الدللة الطبيعية‪ ،‬التي يعتمد في إدراكها على علقة طبيعية يتم على أساسها النتقال من‬
‫الدال إلى المدلول‪ ،‬يقول عادل الفاخوري في تعريفها‪" :‬هي الدللة‪ ،‬يجد العقل بين الدال والمدلول علقة طبيعية ينتقل‬
‫لجلها منه إليه‪ ،‬كدللة الحمرة على الخجل والصفرة على الوجل"(‪.)3‬‬
‫فالدللة الطبيعية – إذن‪ -‬فيها ربط بين حقيقة ظاهرة وحقيقة غائبة يتم على أساسها اقتران الدال بمدلوله اقترانا‬
‫طبيعيا وهذا القتران الطبيعي "يتمثل في الرابطة التي تكوّن ما يقع عليه الحس النساني وبين تفسير النسان لهذا‬
‫المحسوس‪ ،‬فأعراض المراض محسوسات يفسرها الطبيب تغيرات تربط بين كل منها وبين مرض معين" (‪ )4‬ويعزى‬
‫وجود هذا الرتباط بين الدال والمدلول إلى السنن الكونية التي تسير وفقها الطبيعة‪ ،‬فالحدث الطبيعي إذا تكرر أمكن‬
‫للعقل المدرك أن يعقد بينه وبين الشيء الذي أحدثه‪ ،‬وبناء على ذلك "فالدللة الطبيعية هي التي ليس بين الملزوم‬
‫واللزم فيها ارتباط عقلي‪ ،‬إل أن النظام الذي وضعه ال في الطبيعة قد أوجد هذا الترابط فإذا سألنا العقل المجرد عن‬
‫ملحظة النظام الموجود في الطبيعة لم يجد تعليلً عقليا له غير أن الختيار المتكرر للحداث الطبيعية‪ ،‬قد نبه على‬
‫وجود هذا الترابط في الواقع" (‪.)5‬‬
‫أما الدللة من حيث المفهوم فإنها تصنف كذلك إلى ثلثة أصناف –أشرنا إليها سابقا‪ -‬هي التي تمثل القسام‬
‫الثلثة للدللة الوضعية اللفظية وهي‪ :‬دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام "فدللة اللفظ على تمام معناه‬
‫الحقيقي والمجازي هي دللة المطابقة ودللة اللفظ على بعض معناه الحقيقي أو المجازي هي دللة التضمن‪ ،‬ودللة‬
‫اللفظ على معنى آخر خارج عن معناه لزم له عقل أو عرفا هي دللة اللتزام‪ ،‬واللفظ الدال يحمل مقومات تمثل‬
‫مؤلفاته التمييزية فلكسيم "إنسان" يحمل المقومات التمييزية التالية‪" :‬الجسم الحي‪ ،‬الحساس‪ ،‬الناطق"‪ .‬وعليه تكون دللة‬
‫المطابقة‪ ،‬دللة اللفظ الكلّي على مجموع هذه المقومات التي تؤلف الذات أو الكنه‪ ،‬وتكون دللة التضمن دللته على‬
‫ل أو‬‫بعض هذه المقومات ل كلّها‪ .‬فهكذا كلمة "إنسان" تدل بالمطابقة على الحيوان الناطق‪ ،‬وبالتضمن على الجسم مث ً‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪47‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪51 -50‬‬ ‫‪2‬‬

‫() عادل الفاخوري علم الدللة‪ ،‬ص ‪42‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪ .‬تام حسان‪ -‬الصول‪ -‬دراسة إبستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب‪ ،‬ص ‪.319‬‬ ‫‪4‬‬

‫() عبد الرحن حسن حبنكة اليدان‪ ،‬ضوابط العرفة وأصول الناظرة والستدلل‪ ،‬ص ‪26‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫على الناطق أو على الجسم الحي"(‪ )1‬أما دللة اللتزام فإنها تكون خارج اللكسيم ذاته بشيء يلزمه‪ ،‬وعلى ذلك" فدللة‬
‫اللتزام تكون دللة جزء على الجزء المجاور له ضمن مجموعة مرتبة من الجزاء كدللة الحاجب على العين"(‪.)2‬‬
‫وبما أن العلقة بين الدال والمدلول تخضع أساسا لفعل الدراك لطبيعة هذه العلقة‪ ،‬وبناء على ذلك تتحدد‬
‫النساق الدللية‪ ،‬فإن للسياق اللغوي إضافات نوعية على مستوى تحديد الصناف الدللية‪ ،‬فتتميز بذلك الدللة العامة‬
‫من الدللة الخاصة‪ ،‬والدللة الظاهرة من الدللة الخفية اللتان يتحكم فيهما التصريف المزدوج لستعمال اللغة وهو ما‬
‫يمكن أن يدرج تحت ما يسمى بالدللة الصلية والدللة المحولة‪ ،‬فالتراكيب السياقية هي التي تشرف أساسا على‬
‫تحديد الدللة المعينة للصيغة "فإذا استطاع اسم من السماء أن تكون له معان عديدة فيجب أن نعلم أنها معان محتملة‬
‫وأن أحد هذه المعاني يتحدد ضمن سياق معين"(‪ )3‬إن الدللة السياقية‪ ،‬تشير إلى ذلك الترابط العضوي بين عناصر‬
‫الجملة وهو ما يشكل بنية اللغة‪ ،‬بل إن مفهوم الدللة السياقية يتسع ليشمل مجموع الجمل التي تكون النص يوضح‬
‫ستيفن أولمان ذلك قائلً‪" :‬إن السياق‪ ،‬ينبغي أن يشمل – ل الكلمات والجمل الحقيقية السابقة والملحقة –فحسب‪ -‬بل‬
‫والقطعة كلها والكتاب كله – كما ينبغي أن يشمل بوجه من الوجوه كل ما يتصل بالكلمة من ظروف وملبسات"(‪.)4‬‬
‫إن الجملة التي تؤدي قيما دللية‪ ،‬يفترض أن تكون ذات وحدة بنيوية ووظائفية‪ ،‬وهو ما يكرّس مبدأ التركيب‬
‫السياقي ودوره الدائي‪ ،‬وقد تستقل الجملة بدللتها داخل النسيج الدللي للخطاب وهذا ل يعني نفي أية صلة بينها وبين‬
‫السياق العام للنص بحكم انتمائها إلى نفس المجال الدللي للجمل الخرى داخل النص الواحد‪ .‬يبيّن عبد السلم‬
‫المسدي ذلك بقوله‪" :‬إن استقلل التركيب ل يعزل وجود ارتباط معنوي‪ ،‬فالنص بأكمله مجال دللي واحد‪ ،‬والجمل‬
‫من النص تقوم على تسلسل معنوي عام بحكم انتمائها إلى نفس المجال الدللي"(‪.)5‬‬
‫وإضافة إلى الدللة السياقية‪ ،‬يشير الدرس الدللي الحديث إلى دللة أخرى تتحدد وفق موقع الصيغة من السياق‪،‬‬
‫ووفق تركيب عناصر الجملة وترتيبها‪ ،‬وهو ما اصطلح على تسميتها بالدللة الموقعية‪ ،‬فقد تتكون الجملتان من نفس‬
‫الوحدات لكن ترتيبها في كل جملة يختلف فتتميز الدللة تبعا لذلك‪ ،‬إن السياق اللغوي قد يحيل إلى دللت مختلفة‬
‫تتحدد بضوابط خاصة من ذلك المعاني الحافة الجتماعية والفردية‪ ،‬وهي عبارة عن قيم عاطفية إضافية تسمى القيم‬
‫التعبيرية أو السلوبية والتي أضحت من مباحث علم السلوب الذي يهدف إلى الجابة على التساؤل التالي‪" :‬ما الذي‬
‫يجعل الخطاب الدبي الفني مزدوج الوظيفة والغاية يؤدي ما يؤديه الكلم عادة وهو إبلغ الرسالة الدللية‪ ،‬ويسلط مع‬
‫ذلك على المتقبل تأثيرا ضاغطا به ينفعل للرسالة المبلغة انفعالً ما" (‪.)6‬‬
‫وشبيهة بالقيم السلوبية‪ ،‬تلك الدللة التي أطلق عليها مصطلح الدللة النحوية وهي تجمع بين المعنى الموقعي‬
‫والمعنى فوق الدللي أو التعبيري‪ ،‬فالكلمة في سياق الجملة وفي موقع إعرابي معين تشير إلى دللة معينة‪ .‬يشرح‬
‫ذلك فايز الداية بقوله‪" :‬وأما الضافة الثانية فهي الدللة النحوية أي أن الكلمة تكتسب تحديدا وتبرز جزءا من الحياة‬
‫الجتماعية والفكرية‪ ،‬عندما تحل في موقع نحوي معين في التركيب السنادي وعلقاته الوظيفية‪ :‬الفاعلية‪ ،‬المفعولية‪،‬‬

‫() عادل الفاخوري علم الدللة عند الغرب – دراسة مقارنة مع السيمياء الديثة –ص ‪43‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪43‬‬ ‫‪2‬‬

‫() بيار جيو علم الدللة‪ ،‬ترجة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،‬ص ‪56‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ترجة دور الكلمة ف اللغة ستيفن أولان د‪ .‬كمال ممد بشر‪ ،‬ص ‪62‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الدكتور عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ :‬ص ‪153‬‬ ‫‪5‬‬

‫() د‪.‬ميي الدين صبحي‪ ،‬نظرية النقد العرب وتطورها إل عصرنا‪ ،‬ص ‪194‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫النعتية‪ ،‬الضافة‪ ،‬التمييز‪ ،‬الطرفية‪ ،‬فمثلً‪" :‬خاطبت الطحان في شأن تحسين عمله وزيادة مقدار إنتاجه فكلمة "طحان"‬
‫في موقع المفعول به تبرز في جهة من العلقة الجتماعية هي موقع المحاسبة والمسؤولية وهناك من يحاسبها أو‬
‫يسألها"(‪.)1‬‬
‫هذه هي مختلف البحاث الدللية التي دارت حول محور دراسة طرفي الدللة‪ -‬الدال والمدلول‪ -‬تناولت طبيعة‬
‫كل منهما كما عاينت العلئق المختلفة التي تنشأ من اتحاد الدال بمدلوله والتي أنتجت أقساما وأنواعا للدللة‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬التطور الدللي‬


‫لقد كان اهتمام علماء الدللة بمسألة التطور الدللي‪ ،‬منذ أوائل القرن التاسع عشر‪ ،‬حاولوا خلله تأطير تغير‬
‫المعنى بقواعد وقوانين‪ ،‬فبحثوا في هذا المجال أسباب تغير الدللة وأشكاله وصوره‪ ،‬وقد أدركوا أن التطور الدللي‪،‬‬
‫هو تغيير اللفاظ لمعانيها‪ ،‬ذلك أن اللفاظ ترتبط بدللتها ضمن علقة متبادلة فيحدث التطور الدللي كلما حدث تغير‬
‫في هذه العلقة‪ ،‬ول يكون التطور في مفهوم علم الدللة في اتجاه متصاعد دائما إنما قد يحدث وأن يضيف المعنى أو‬
‫يخصص‪ ،‬كما يتسع أو يعمم‪ ،‬فيكون النتقال من المعنى الضيق أو الخاص إلى المعنى التساعي أو العام وقد يحدث‬
‫العكس‪ ،‬ولذلك يفضل بعض علماء اللغة المحدثين مصطلح تغير المعنى عوض مصطلح التطور الدللي يقول المسدي‬
‫في ذلك‪" :‬إن الحقيقة العلمية التي لمراء فيها اليوم هي أن كل اللسنة البشرية ما دامت تتداول فإنها تتطور‪ ،‬ومفهوم‬
‫التطور هنا ل يحمل شحنة معيارية ل إيجابا ول سلبا وإنما هو مأخوذ في معنى أنها تتغير إذ يطرأ على بعض‬
‫أجزائها تبدل نسبي في الصوات والتركيب من جهة ثم في الدللة على وجه الخصوص ولكن هذا التغير هو من‬
‫البطء بحيث يخفى عن الحس الفردي المباشر"(‪.)2‬‬
‫إن التغير الدللي ظاهرة طبيعية‪ ،‬يمكن رصدها بوعي لغوي لحركية النظام اللغوي المرن‪ ،‬إذ تنتقل العلمة‬
‫اللغوية من مجال دللي معين إلى مجال دللي آخر‪ ،‬وهو ما يمكن أن يدرس في مباحث المجاز‪ ،‬وفي حركية اللغة‬
‫الدائبة قد تتخلف الدللة الساسية للكلمة فاسحة مكانها للدللة السياقية أو لقيمة تعبيرية أو أسلوبية‪ ،‬وبذلك تغدو الكلمة‬
‫ذات مفهوم أساسي جديد وقد يحدث أن ينزاح هذا المفهوم بدوره ليحل مكانه مفهوم آخر‪ ،‬وهكذا يستمر التطور‬
‫الدللي في حركة ل متناهية تتميز بالبطء والخفاء‪ .‬يشرح بيار جيرو ذلك بقوله‪" :‬يتغير المعنى لننا نعطي اسما عن‬
‫عمد لمفهوم ما من أجل غايات ادراكية أو تعبيرية‪ ،‬إننا نسمي الشياء ويتغير المعنى لن إحدى المشتركات الثانوية‬
‫(‪)3‬‬
‫(معنى سياقي‪ ،‬قيمة تعبيرية‪ ،‬قيمة اجتماعية) تنزلق تدريجيا إلى المعنى الساسي وتحل محله فيتطور المعنى"‬
‫إن التغيير الذي يطرأ على بنية اللغة‪ ،‬ل يحدث إل إذا توفرت عوامل موضوعية وأخرى ذاتية تدفع العناصر‬
‫اللغوية إلى تغيير دللتها‪ ،‬وقد حصر علماء الدللة هذه العوامل في ثلثة‪ :‬عوامل اجتماعية ثقافية‪ ،‬عوامل نفسية‪،‬‬
‫وعوامل لغوية‪ ،‬وقد توجد غير هذه العوامل تتحكم في التطور الدللي‪ .‬يوضح ذلك ستيفن أولمن بقوله‪" :‬هذه النواع‬
‫الثلثة مجتمعة تستطيع فيما بينها أن توضح حالت كثيرة من تغير المعنى‪ ،‬ولكنها مع ذلك ليست جامعة بحال من‬
‫الحوال"(‪ )4‬وأهم عوامل التطور الدللي‪:‬‬

‫() فايز الداية علم الدللة العرب‪ -‬النظرية والتطبيق‪ -‬ص ‪.21‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪2‬‬

‫() علم الدللة‪ :‬ترجة منذر عياشي‪ ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪3‬‬

‫() دور الكلمة ف اللغة‪ :‬ترجة كمال ممد بشر‪ ،‬ص ‪.157‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫‪-1‬العامل الجتماعي الثقافي‪:‬‬
‫حيث يتم النتقال من الدللة الحسية إلى الدللة التجريدية‪ ،‬نتيجة لرقي العقل النساني ويكون ذلك تدريجيا‪ ،‬ثم قد‬
‫تندثر الدللة الحسية فاسحة مجالها للدللة التجريدية‪ ،‬وقد تظل مستعملة جنبا إلى جنب مع الدللة التجريدية لفترة من‬
‫الزمن(‪ )1‬فالنمو اللغوي لدى النسان الول‪ ،‬عرف في بداية تسمية العالم الخارجي الدللة الحسية فحسب‪ ،‬ومع تطور‬
‫العقل النساني إنزوت تلك الدللت الحسية وحلت محلها الدللت التجريدية‪.‬‬
‫وقد يحدث أن تضيق الدللة بعد أن كانت متسعة أو عامة‪ ،‬ويمكن تمثل ذلك في الدللت التي كانت مستعملة‬
‫قبل السلم مثل الصلة والزكاة والحج‪ ،‬ثم بعد السلم مالت دللت هذه الصيغ اللغوية نحو التخصيص وهذه سنن‬
‫لغوية تنسحب على كل عناصر النظام اللغوي‪ ،‬وقد تتسع الدللة بعد أن كانت ضيقة مثال ذلك يذكر اللغويون ألفاظا‬
‫مثل‪" :‬الدلو‪ ،‬و"القصعة" و"السفينة" وغيرها إذ كانت تدل هذه الكلمات على أشياء مصنوعة من مادة الخشب أو الطين‬
‫ولكن رغم التغير الذي حصل في شكل ومادة هذه الشياء في العصر الحديث‪ ،‬إل أن هذه اللفاظ ما زالت دللتها‬
‫القديمة تشملها ضمن مجالها الدللي‪.‬‬

‫‪-2‬العامل النفسي‪:‬‬
‫قد تعدل اللغة بإشراف المجتمع عن استعمال بعض الكلمات لما لها من دللت مكروهة‪ ،‬أو يمجها الذوق‬
‫النساني وهو ما يعرف باللمساس‪ ،‬ويخضع ذلك لثقافة المجتمع ونمط تفكيره وحسه التربوي‪ ،‬فيلجأ المجتمع اللغوي‬
‫إلى تغيير ذلك اللفظ ذي الدللة المكروهة والممجوجة بلفظ آخر ذي دللة يستحسنها الذوق‪ ،‬فكأن اللمساس يؤدي إلى‬
‫تحايل في التعبير أو ما يسمى بالتلطف‪ ،‬وهو في حقيقته إبدال الكلمة الحادة بالكلمة القل حدة‪ ،‬وهذا النزوع نحو‬
‫التماس التلطف في استعمال الدللت اللغوية هو السبب في تغير المعنى(‪.)2‬‬

‫‪-3‬العامل اللغوي‪:‬‬
‫قد يحدث في صلب اللغة فجوات معجمية ل تجد معها اللفظ الذي يعبر عن الدللة الجديدة فيلجأ اللغويون إلى‬
‫سدها عن طريق القتراض اللغوي أو الشتقاق‪ ،‬وقد يتجه المجتمع اللغوي نحو المجاز فيتم ابتداع دللة جديدة أو‬
‫يحصل نقل لدللة من حقل دللي إلى آخر‪ ،‬وأمثلة ذلك كثيرة في اللغة العربية كقولنا‪ :‬أسنان المشط فدللة "السنان"‬
‫تم نقلها من مجال دللي يخص الكائن الحي بوجه عام إلى مجال آخر يبدو بعيدا ويخص "المشط" ومثل ذلك قولنا‪:‬‬
‫"أرجل الكرسي" و"ظهر السيف" و"كبد السماء" وغيرها من التراكيب اللغوية‪ .‬إن الكلمة قد تقترض معنى جديدا ضمن‬
‫الخطاب اللغوي فنصبح ذات دللة إضافية متداولة مع مجموع المتخاطبين يشرح ذلك بيارجيرو بقوله‪" :‬إني ل أرى‬
‫بأسا من التكرار فأقول مجددا إني أعتقد –مع سوسير‪ -‬بضرورة وجود مفهومين للقيمة البنيوية والمضمون الدللي‪،‬‬
‫ول تنفي هاتان القيمتان بعضها بعضا بل تتكاملن‪ ،‬فالكلمة من جهة أولى منفتحة على إمكانات من العلقة تعدها بنية‬
‫النظام اللساني‪ ،‬ولكن من جهة أخرى كلما تحققت العلقات الفتراضية ضمن الخطاب وعرفها المتكلمون‪ ،‬نجد أن أثر‬
‫المعنى الناتج عنها يتخزن في الذاكرة وانطلقا من هذه اللحظة يتعلق المعنى بالشارة ويعطيها مضمونا(‪.)3‬‬

‫() د‪ .‬إبراهيم أنيس‪ ،‬دللة اللفاظ‪ ،‬ص ‪.162 -161‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.240‬‬ ‫‪2‬‬

‫() علم الدللة‪ ،‬ترجة منذر عياش‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫هذه السباب تعد أهم العوامل التي تتحكم في التطور الدللي أو تغيّر المعنى وقد عقد إبراهيم أنيس فصلً في‬
‫كتابه "دللة اللفاظ" وضح فيه أسباب تغيّر المعنى ومظاهره‪ ،‬والتي شبهها بمظاهر وأعراض المرض وحصرها في‬
‫خمس مظاهر هي‪ :‬تخصيص الدللة‪ ،‬تعميم الدللة‪ ،‬انحطاط الدللة‪ ،‬رقي الدللة‪ ،‬وتغيير مجال الستعمال‬
‫(المجاز)(‪.)1‬‬
‫وتخصيص الدللة‪ ،‬يعني تحويل الدللة من المعنى الكلي‪ ،‬إلى المعنى الجزئي أو تضييق مجال استعمالها‪ ،‬أما‬
‫تعميم الدللة فمعناها أن يصبح عدد ما تشير إليه الكلمة أكثر من السابق‪ ،‬أو يصبح مجال استعمالها أوسع من قبل‪ .‬أما‬
‫رقي الدللة وانحطاطها فيدرجه علماء الدللة تحت مصطلح "نقل المعنى" إذ قد تتردد الكلمة بين الرقي والنحطاط في‬
‫سلم الستعمال الجتماعي‪ ،‬بل قد تصعد الكلمة الواحدة إلى القمة وتهبط إلى الحضيض في وقت قصير‪ ،‬فكانت دللة‬
‫طول اليد كناية عن السخاء والكرم وهي قيمة عليا لكنها أضحت وصفا للسارق إذ يقال له‪ :‬هو طويل اليد‪ ،‬أما تغيير‬
‫مجال الستعمال بنقل الدللة من مجالها الحقيقي إلى مجال المجاز فيمثلون لها بكلمة "رسول" التي كانت تطلق على‬
‫الشخص الذي يرسل لداء مهمة ما‪.‬‬
‫فحوّل مجال استعمالها الدللي فأضحت تطلق على شخص "النبي" بحيث تتبادر إلى الذهن كلما استعملت ضمن‬
‫الخطاب اللغوي العادي(‪.)2‬‬
‫هذه التبدلت التي تحدثت في صلب النظام اللغوي هي من التعقيد والبطء بحيث ل يمكن رصد ذلك إل بوعي‬
‫علمي‪ ،‬متمكن صاحبه من أدوات رصد التطور أو التغير الدللي‪ ،‬ثم إن اللغة ما دامت تخضع علقتها الدللية لمعيار‬
‫العتباطية‪ ،‬فإنها تتطور وتتغير وتنزع نحو احتواء التغيرات الجتماعية والثقافية التي تحدث في المجتمع اللغوي‪ ،‬فما‬
‫اللغة إل انعكاس للمجتمع بكل مكوناته وعناصره وإن المجتمع يؤثر في اللغة سلبا وإيجابا وعلى ذلك فمسألة التطور‬
‫أو التغير الدللي تأخذ في مجالها كل هذه العتبارات الجتماعية والفكرية واللغوية والنفسية التي تخص المجتمع‬
‫اللغوي‪.‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬الحقيقة والمجاز‪:‬‬


‫يوصف الرصيد اللغوي باللمتناهي بناء على تداخل البنى التعبيرية بين حقوله الدللية وتتراوح هذه البنى عند‬
‫الستعمال في مد وجزر بين المعنى الصلي والمعنى المجازي‪ ،‬ذلك أن مرونة النظام اللغوي تسمح بوجود هذا‬
‫التداخل المستمر حتى لتغدو الدللة المجازية بالستعمال المتداول دللة حقيقة تعايش الدللة الصلية القديمة فتخرج‬
‫من مجالها "الستثنائي" إلى مجال الستعمال الحقيقي يوضح الدكتور عبد السلم المسدي ذلك بقوله‪" :‬فاستعمال اللغة‬
‫يقتضي تصريفا مزدوجا لللفاظ بين دللة بالوضع الول وهي الدللة الحقيقية ودللة بالوضع الطارئ وهي الدللة‬
‫المجازية التي تعتبر دللة منقولة ومحوّلة‪ ،‬فكلمات اللغة في وظيفتها الدللية متعددة البعاد تبعا لموقعها من البنى‬
‫التركيبية ومن وراء ذلك الموقع موقف يتخذه المتكلم من أدواته التعبيرية وهو ما يجعل رصيد اللغة ل متناهيا في‬
‫دللته بحكم حركة المد والجزر الواقعة بين حقولها المعنوية طبقا لما تستوعبه الدوال"(‪.)3‬‬
‫إن هذا المد والجزر الواقع بين الحقول الدللية تقتضيه بنية اللغة التي تنزع إلى التجدد والتطور "والعبارات كلما‬

‫() إبراهيم أنيس‪ ،‬دللة اللفاظ‪ ،‬ص ‪ -152‬إل ص ‪.167‬‬ ‫‪1‬‬

‫()د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬انظر علم الدللة‪ ،‬ص ‪.248 -245 -243‬‬ ‫‪2‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ :‬ص ‪.96‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫كثر دورانها على اللسن بدأت مفهوماتها المحددة تتسع وقد تنحرف إلى مدلولت مغايرة من بعض الوجوه لمدلولها‬
‫القديم"(‪ )1‬إن صورة الدللة الجديدة‪ ،‬تحمل سمات الدللة القديمة بحكم أنها كانت دللة أصلية حلت مكانها الدللة‬
‫المجازية التي قد تنزاح أمام حكم الستعمال اللغوي لتنقل إلى مجال دللي آخر‪ ،‬وقد تعود تلك الدللة الصلية القديمة‬
‫إلى مكانها الول يقول السيد أحمد خليل في سياق حديثه عن هذا التداخل بين الحقيقة والمجاز‪" :‬وحتى ذلك اللفظ‬
‫المجاز ل يظل مجازا على طول الزمن وإنما يعرض له أن يكون حقيقة متعارفا عليها في بيئة من البيئات أو لهجة‬
‫من اللهجات‪ ،‬ومتى استقر في البيئة مدلوله وتحدد معناه إلى ما كان عليه أولً من تسميته بالحقيقة مقيدة بعرف هذه‬
‫البيئة وتواضعها"(‪.)2‬‬
‫تملك اللغة –إذن القدرة على وضع أنظمة إبلغية جديدة داخل النظام اللغوي العام‪ ،‬وذلك بوصفها نظاما من‬
‫العلئق الدللية وتبقى الصلة – مع ذلك‪ -‬قائمة بين مختلف أنظمتها اللغوية‪ ،‬فدللة المجاز ل يمكن أن نتصورها على‬
‫أنها دللة جديدة تنفصم كليا عن الدللة الصلية‪ ،‬وإنما يبقى المجال الدللي للفظ المجاز يحتفظ بخيط‪ -‬مهما دقّ‪-‬‬
‫يربطه بالمجال الدللي للفظ الحقيقي "فكل التحولت داخل نظام اللغة تبقى معقودة بنمط تواصلي يفسر ما إذا كان‬
‫المجاز يراد به المستعار بعد أن تجوز عن وضعه أم يراد به ما يقتضي الحقيقة"(‪.)3‬‬
‫إن العلقة التي تربط الدللة الحقيقية بالدللة المجازية‪ ،‬ل تخرج عن تلك النساق الدللية العامة التي تربط الدال‬
‫ل (وهو الدللة الحقيقية) يقود إلى مدلول‬‫بمدلوله‪ ،‬فالبحث في دللة المجاز هو بحث في معنى المعنى‪ .‬إذ أن مدلولً أو ً‬
‫ثان (وهو الدللة المجازية) والنساق الدللية التي حددها علماء الدللة ثلثة‪ :‬دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة‬
‫اللتزام‪ .‬ويمكن أن نلمس هذه الصناف من الدللت في المجاز بأنواعه وهو يشمل كل لفظ أو تركيب حوّل عن‬
‫معناه الصلي وبقيت تربطه معه علقات تحدد عن طريق قرائن ذكرها علماء البيان والبلغة‪ ،‬فالمعنى الذي تفيده‬
‫"الكناية" كصورة بيانية يمكن أن يؤخذ بدللته الصلية أو دللته المجازية فالمدلول الول الصلي مقصود مع المدلول‬
‫الثاني المجازي‪ ،‬فالدللة بناء على ذلك دللة مطابقة‪ ،‬فالكناية في عرف البلغيين هي استعمال اللفظ والتركيب‬
‫ل مع إمكان إيراد المعنى الحقيقي‪.‬‬
‫اللغوي في غير ما وضعا له أص ً‬
‫أما دللة المجاز‪ ،‬ذي العلقة الجزئية حيث يذكر المعنى الجزئي ويراد به المعنى الكلي‪ ،‬فهو يعبر عن دللة‬
‫التضمن الذي يكون فيها المدلول الول وهو الدللة الصلية المذكورة في السياق – محتوى ومتضمن في المدلول‬
‫الثاني‪ -‬وهو الدللة المجازية المرادة من السياق مثال ذلك قوله تعالى‪" :‬والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما‬
‫قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به‪ ،‬وال بما تعملون خبير"(‪ )4‬فاستعمل لفظ "رقبة" وأريد به "العبد‬
‫الذي يعيش الرق" والرقبة هي جزء من الجسم وعلى ذلك فدللتها متضمنة في دللة الجسم‪ .‬وإذا كان المجاز ذا علقة‬
‫كلية بحيث يعبر بالكل ويراد به الجزء فهو إشارة كذلك إلى دللة التضمن ولكن في اتجاه عكسي ذلك أن المدلول‬
‫الثاني –الدللة المجازية المرادة‪ -‬تكون محتواة ومتضمنة في المدلول الول – الدللة الحقيقية المذكورة‪.‬‬
‫وإذا كان بين الدللة الصلية والدللة المجازية علقة تشابه وهي ما تفيده "الستعارة"‪ ،‬إذ تشير هذه الصورة‬
‫البيانية إلى اشتراك في صفة أو أكثر بين مدلول أول ومدلول ثان‪ ،‬فعلقة المدلول الول بالصفة أو الصفات التي‬

‫() د‪ .‬عز الدين إساعيل‪ ،‬السس المالية ف النقد العرب‪ ،‬ص ‪378‬‬ ‫‪1‬‬

‫() دراسات ف القرآن‪ :‬ص ‪.31‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪ .‬عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سورة الجادلة الية ‪.3‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫تجمعه بالمدلول الثاني هي علقة تضمن‪ .‬أما علقة الصفة ذاتها أو الصفات بالمدلول الثاني فهي علقة التزام ومثال‬
‫ذلك قولنا‪" :‬رأيت أسدا في المعركة "فعلقة السد" "بالشجاعة"‪ -‬وهي الدللة المرادة‪ -‬هي علقة تضمن من جهة‪،‬‬
‫وهي علقة إلتزام من جهة أخرى إذ اعتبرت الشجاعة أحد المقومات الساسية "للسد" أما علقة "الشجاعة بالرجل‬
‫المشبه بالسد فهي علقة التزام أيضا باعتبار "الشجاعة" ليست صفة ثابتة في الرجل ومقوم أساسي له إنما هي صفة‬
‫عرضية‪ .‬يشرح عادل الفاخوري علقة الدللة المجازية بالدللة الحقيقة بمنهج نظري فيقول‪" :‬بما أن مدلول اللفاظ‬
‫عامة يؤلف مجموعة من الصفات من حيث المفهوم أو مجموعة من الجزاء من جهة كونه أمرا خارجيا‪ ،‬كان من‬
‫البديهي لتعيين العلقة بين المدلول الصلي والمدلول المجازي أن ينطلق علم البيان من النسب القائمة بين أية‬
‫مجموعتين من الصفات أو من الجزاء"(‪.)1‬‬
‫إن المجاز يعد مبحثا خصبا لعلم الدللة‪ ،‬إذ فيه تتجلى مرونة النظام اللغوي وانفتاحه على كل تغير للمعنى‪ ،‬وهو‬
‫يؤكد من جانب آخر على مطاوعة اللغة لساليب التعبير التي يفرضها الموقف ويتم في صلب النظام اللغوي استحداث‬
‫أنظمة إبلغية جديدة تحافظ على نقل الرسالة البلغية‪ ،‬وهي غاية ما يرمي إليه أي نظام لغوي‪.‬‬

‫المبحث السادس‪ :‬الحقول الدللية‪:‬‬


‫يعد مبحث الحقول الدللية من المباحث التي لم تتبلور فيها نظرية دللية جامعة رغم الجهود اللغوية لعلماء‬
‫اللسنية والدللة‪ ،‬والتي أنتجت رؤى مختلفة حول تصور للحقول الدللية‪ ،‬فقد أشار سوسير في مجال حديثه عن‬
‫اللسانيات الوصفية في باب العلقات الترابطية (‪ )les rapports associatifs‬أن الدليل اللساني بإمكانه أن يخضع‬
‫إلى نوعين من العلقات‪:‬‬
‫‪-1‬علقة مبنية على معايير صورية مثل كلمة "تعليم" توحي بكلمات أخرى مشتقة منها وتنتمي إلى نفس المجال‬
‫الدللي مثل‪ :‬علم‪ ،‬نعلم‪.‬‬
‫‪-2‬علقة مبنية على المعايير الدللية فكلمة "تعليم" توحي بكلمات أخرى مثل‪ :‬تربية‪ ،‬تعلم‪ ،‬تكوين‪ )2(.‬وبذلك‬
‫وضع سوسير الطار العام الذي يمكن أن تدرس فيه الدلة اللغوية‪ ،‬وذلك ببحث العلقات التي تجمعها‬
‫وتصنفها ضمن حقول دللية‪ ،‬وبرزت بعد نظرية سوسير عدة نظريات رائدة في مجال استنباط العلقات‬
‫الساسية بين الدلة واضعة معايير مختلفة من ذلك‪:‬‬
‫أ‪-‬بناء حقول دللية باعتبار العلقات التراتبية بين الدلة اللغوية كنسبة الفرد إلى الجنس‪ ،‬خضوع الجزء‬
‫للكل‪ ،‬خضوع الخاص للعام من أمثلة ذلك‪ :‬رأس ‪/‬جسم‪ ،‬جسم‪ /‬يد‪ ،‬زيد‪ /‬رجال‪.‬‬
‫ب‪-‬وضع حقول دللية بناء على علقة التقابل أو التضاد مثال ذلك‪ :‬نهار ‪/‬ليل‪ ،‬موت‪ /‬حياة‪.‬‬
‫ج‪-‬وضع حقول دللية بناء على علقة البدء بالعاقبة مثال ذلك‪ :‬تعلم ‪/‬معرفة‪ ،‬علج‪ /‬شفاء‪ ،‬سافر‪ /‬وصول‪.‬‬
‫د‪-‬حقول دللية باعتبار علقة التدرج أو التعاقب مثال ذلك‪ :‬غال –دافئ‪ -‬مائل للبرودة –بارد –قارس‪-‬‬
‫متجمد(‪.)3‬‬

‫() علم الدللة عند العرب‪ -‬دراسة مقارنة مع السيمياء الديثة – ص ‪.53‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪Cours linguistiques generale f. de saussure p. 173-174‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫هـ‪-‬وضع حقول دللية بناء على علقة الترادف‪ :‬يتحقق الترادف حين يوجد تضمن من الجانبين يكون (أ)‬
‫و(ب) مترادفين إذا كان (أ) يتضمن (ب) ‪ ،‬و(ب) يتضمن (أ) كما في كلمة "أم" و"والدة(‪.)1‬‬
‫و‪-‬وضع حقول دللية بناء على علقة الشتمال‪ :‬تختلف هذه العلقة عن علقة الترادف في أنه تضمن من‬
‫طرف واحد يكون (أ) مشتملً على (ب) حين يكون (ب) أعلى في التقسيم التصنيفي أو التفريعي (‬
‫‪ )Taxonomic‬مثل "فرس" الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى "حيوان" وعلى هذا فمعنى "فرس" يتضمن معنى‬
‫(‪)2‬‬
‫"حيوان"‬
‫(‪)3‬‬
‫فالحقول الدللية بنا ًء على ذلك هي –مجموعة من الكلمات ترتبط دللتها وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها"‬
‫وانتهى علم الدللة إلى تصنيف للحقول الدللية باعتبار ما تتضمن من الدلة اللغوية‪ ،‬وما تحيله عليه في عالم‬
‫العيان والذهان‪ ،‬وهو ل يخرج عن جنسين من المدلولت‪ :‬مدلولت محسوسة ومدلولت تجريدية‪.‬‬
‫والمدلولت المحسوسة تتفرع إلى قسمين‪ :‬محسوسات متصلة ومحسوسات منفصلة وبنا ًء على ذلك توصل‬
‫أولمان إلى تقسيم الحقول الدللية إلى أنواع ثلثة هي‪:‬‬
‫‪-1‬الحقول المحسوسة المتصلة مثل التي تشتمل على اللوان‪.‬‬
‫‪-2‬الحقول المحسوسة المنفصلة مثل التي تشتمل على الُسر‬
‫‪-3‬الحقول التجريدية وهي تضم عالم الفكار المجردة(‪.)4‬‬
‫إن نظرية الحقول الدللية‪ ،‬قد أسهمت بشكل بارز في إيجاد حلول لمشكلت لغوية كانت تعتبر إلى زمن قريب‪-‬‬
‫مستعصية‪ ،‬وتتسم بالتعقيد ومن جملة تلك الحلول الكشف عن الفجوات المعجمية التي توجد داخل الحقل الدللي‪،‬‬
‫وتسمى هذه بالفجوة الوظيفية أي عدم وجود الكلمات المناسبة لشرح فكرة معينة أو التعبير عن شيء ما‪ ،‬كذلك إيجاد‬
‫التقابلت وأوجه الشبه والختلف بين الدلة اللغوية داخل الحقل الدللي الواحد‪ ،‬وعلقتها باللفظ العم الذي يجمعها‬
‫ويمكن بناء على ذلك إيجاد تقارب بين عدة حقول معجمية‪ .‬كما تتمثل أهمية الحقول الدللية في تجميع المفردات‬
‫اللغوية بحسب السمات التمييزية لكل صيغة لغوية‪ ،‬مما يرفع ذلك اللبس الذي كان يعيق المتكلم أو الكاتب في استعمال‬
‫المفردات التي تبدو مترادفة أو متقاربة في المعنى‪ ،‬وتوفر له معجما من اللفاظ الدقيقة الدللة التي تقوم بالدور‬
‫الساسي في أداء الرسالة البلغية أحسن الداء(‪.)5‬‬
‫هذه التفريعات التي بحثها العلماء‪ ،‬تعتبر أسس الدراسة في مبحث الحقول الدللية الذي برز في شكله الولي في‬
‫صورة المعاجم اللغوية التي صنفت الشياء الموجودة في عالم العيان‪ ،‬ونتيجة لتقدم العلوم وتشعب المعارف‪ ،‬احتاج‬
‫النسان إلى تصنيف علمي جديد يؤطر معارفه ويمنع عنه اللبس المصاحب لستعمال اللغة التي هي أداة المعرفة‬

‫() سال شاكر‪ ،‬انظر مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ترجة ممد يياتي ص ‪.44‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.98‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق ص ‪.99‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع نفسه ص ‪.79‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪s. ullman meaming and style p. 27-31‬‬ ‫‪4‬‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬انظر ف ذلك علم الدلة‪ ،‬ص ‪112 -111 -110‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫والعلم‪ ،‬فتوصل إلى وضع معاجم لغوية جامعة ومصنفة لمفردات اللغة بشكل دقيق‪ ،‬اصطلح على تسميتها –نظرا‬
‫لسيادة النظرة الطبيعية العلمية في ذلك العصر‪ -‬بالحقول الدللية‪.‬‬

‫الخلصة‪:‬‬
‫هذه المباحث التي أجملناها‪ ،‬تمثل مجال الدراسة الدللية التي تهتم بالمعنى وما يتعلق به‪ ،‬فهي تتناوله في صيغته‬
‫الفرادية كما تتناوله في صيغته التركيبية‪ .‬وأوّل ما بحث الدرس الدللي‪ ،‬مسألة اللغة باعتبارها نظام من الرموز‬
‫اللغوية‪ ،‬فتناولها –في البدء‪ -‬من الجانب التاريخي كما تناولها القدمون من العلماء‪ ،‬وبقيت النتائج التي أحرزها‬
‫العلماء في هذا المجال مجرد افتراضات تفتقد إلى الدقة العلمية لنها تكشف عن عالم للغة ل تتوفر حوله معطيات‬
‫كثيرة إنما هو أشبه بالبحث في مسألة ميتافزقية‪ ،‬ولذلك تعددت النظريات حول نشأة اللغة وإن كانت تعود إلى أحد‬
‫التجاهين التاليين‪:‬‬
‫‪-‬اتجاه يقول بعرفية اللغة ومواضعة الناس حول تسمية عالم الشياء ‪.‬‬
‫‪-‬اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية في النسان‪.‬‬
‫وداخل كل اتجاه‪ ،‬توجد آراء مختلفة ومتباينة مما حدا ببعض الهيئات العلمية إلى منع إلقاء محاضرات‪ ،‬أو إجراء‬
‫بحوث تخص النشأة التاريخية للغة‪.‬‬
‫وتناول البحث الدللي والنسني بصفة عامة جوهر العملية الدللية باعتبارها أساس التواصل والبلغ‪ ،‬وبما أن‬
‫موضوع علم الدللة المعنى‪ ،‬فإنه كان لزاما على الباحثين الدلليين أن يتناولوا طبيعة الدال‪ ،‬كما تناولوا طبيعة‬
‫المدلول‪ .‬ولقد أطلق سوسير‪ -‬اختصارا‪ -‬على الدال والمدلول باعتبارهما وجهين لعملة واحدة مصطلح الدليل اللساني‪،‬‬
‫وفي مجال هذا التناول الدللي اهتم علماء الدللة بالعلقة التي تربط طرفي العملية الدللية‪ -‬الدال والمدلول –‬
‫وبرزت على أساس ذلك‪ ،‬نظريات أرادت تأسيس رؤية موحدة تُظهر من خللها القوانين اللغوية التي تنتظم الدليل‬
‫اللساني‪ ،‬فظهر في هذا المجال مبحث العلقات الدللية والتي قسمها العلماء إلى ثلثة أقسام رئيسية هي‪ :‬العلقة‬
‫الوضعية‪ ،‬والعلقة الطبيعية‪ ،‬والعلقة العقلية‪.‬‬
‫إن دراسة طبيعة المدلول‪ ،‬أوحى للعلماء تقسيما آخر للدللة بالعتماد على معايير معينة فإذا كان الدال في‬
‫صيغته الفرادية فالدللة –إذن‪ -‬دللة معجمية وسماها علماء الدللة المعنى المركزي أو التصوري أو المفهومي أو‬
‫الدراكي‪ ،‬أما إذا كان الدال في صيغته التركيبية فالدللة سياقية‪ ،‬وقد أكد كثير من علماء الدللة أن معنى الكلمة هو‬
‫حصيلة مجموع استعمالتها في السياقات اللغوية‪ ،‬وعلى هذا الساس فتكون الدللة موحية لمعان نفسية أو اجتماعية‪،‬‬
‫أو ثقافية‪ ،‬وقد يفيد السياق معانيا فوق دللية اصطلح على تسميتها بالقيم تمييزا لها عن الدللة وهي القيم السلوبية أو‬
‫التعبيرية‪ ،‬وقد اعتمدت معايير أخرى في تقسيم الدللة على أساس المفهوم من جهة‪ ،‬وعلى أساس المجزوء من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬وبناء على ذلك‪ ،‬فالدللة تتوزع إلى ثلثة أقسام‪ :‬دللة مطابقة ودللة تضمن ودللة التزام‪.‬‬
‫ودرس علم الدللة في جملة مباحثه‪ ،‬مسألة التطور الدللي وهو مبحث اتخذ المنهج التاريخي الوصفي أسلوبا في‬
‫الدراسة والتحليل‪ ،‬يتتبع الصيغة في مراحلها المختلفة دارسا تغيرها الدللي واقفا في هذا المجال على أسباب هذا‬
‫التغير وأشكاله وانحصرت هذه العوامل في‪ :‬العامل الجتماعي الثقافي‪ ،‬العامل اللغوي‪ ،‬والعامل النفسي كما بين‬
‫الدرس الدللي الحديث‪ ،‬مظاهر هذا التغير في المعنى منها‪ :‬التخصيص والتعميم‪ ،‬وانحطاط ورقي المعنى‪ ،‬وتغير‬

‫‪- 54 -‬‬
‫مجال الستعمال وهو ما يسمى بمبحث المجاز الذي يعد مبحثا خاصا من مباحث علم الدللة‪ ،‬وذلك لعتماده في‬
‫التخاطب والتواصل اللغوي‪ ،‬فالتعبير اللغوي إما أن يكون ذا دللة أصلية أو دللة مجازية‪ ،‬وعلى هذا الساس فدرس‬
‫المجاز والحقيقة تنتظم فيه معظم مباحث علم الدللة‪ ،‬ففيه تبرز طبيعة العلقة بين الدال والمدلول‪ ،‬وانتقال المدلول‬
‫لن يكون دالً لمدلول آخر وبناء على ذلك فمبحث المجاز هو دراسة لمعنى المعنى‪ ،‬ويمكن أن نلمس في هذا المبحث‬
‫مختلف النساق الدللية من دللة المطابقة والتضمن واللتزام‪ ،‬ومن الدللة العرفية والطبيعية والعقلية‪ ،‬كما يتناول‬
‫درس المجاز مسألة التطور الدللي باعتبار أن وظيفة المجاز تتمثل في توسيع المعنى أو تضييقه‪ ،‬أو نقله من مجال‬
‫دللي إلى مجال دللي آخر‪.‬‬
‫وتمثل نظرية الحقول الدللية "الطريقة الكثر حداثة في علم الدللة فهي ل تسعى إلى تحديد البنية الداخلية‬
‫لمدلول المونمات [الكلمات] فحسب‪ ،‬وإنما إلى الكشف عن بنية أخرى تسمح لنا بالتأكيد أن هناك قرابة دللية بين‬
‫مدلولت عدد معين من المونمات‪ .)1(،‬فتصنيف المدلولت إلى قوائم تشكل كل قائمة حقلً دلليا يتيح استعمال أمثل‬
‫لمفردات اللغة‪ ،‬وفي سبيل ذلك اتخذت معايير معينة منها استنباط العلقات الساسية بين الدلة اللغوية‪ ،‬فقد تكون هذه‬
‫العلقة مبنية على أساس التضاد أو التقابل‪ ،‬أو على أساس التماثل أو الترادف أو على أساس التدرج أو التعاقب‪ ،‬أو‬
‫غير ذلك من العلقات التي يتشكل على أساسها الحقل الدللي وميّز علماء الدللة بين ثلثة أنواع من الحقول الدللية‪.‬‬
‫الحقول الدللية المحسوسة المنفصلة‪ ،‬والحقول الدللية المحسوسة المتصلة‪ ،‬والحقول الدللية التجريدية‪.‬‬
‫وجملة القول‪ ،‬فإن هذه المباحث –مجتمعة‪ -‬تشكل مادة لعلم الدللة‪ ،‬ومن أجل تأسيس نظرة علمية شاملة تؤطر‬
‫هذه المادة‪ ،‬وضع علماء الدللة نظريات مختلفة تباينت نظرتها إلى المعنى لتباين المناهج المعتمدة في البحث‬
‫والدراسة‪ ،‬إذ تأثرت هذه النظريات بالمنحى العلمي والعقلي السائد في العصر‪ ،‬فأخذ بعضها بالمنهج النفسي السلوكي‬
‫في تفسير الظاهرة الدللية وأخذ البعض الخر بالمنهج العقلي التصوري‪ ،‬كما انبنت نظريات أخرى على أسس فكرية‬
‫وفلسفية مختلفة‪.‬‬
‫والفصل التالي فيه عرض لمختلف هذه النظريات التي تناولت مسألة الدللة من جوانبها المتعددة‪ ،‬إذ سنبرز فيه‬
‫أهم النظريات الوربية من جهة والنظريات المريكية من جهة أخرى‪ .‬وسنرسم السس العامة التي ارتكزت عليها‬
‫هذه النظريات بما فيها المنهج العلمي المعتمد في التحليل والدراسة الدللية‪.‬‬

‫‪‬‬

‫() د‪ .‬موريس أبو ناصر‪ .‬مدخل إل علم الدللة اللسن‪ ،‬ص ‪ .35‬ملة الفكر العرب العاصر العدد ‪ 18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫النظريات الدللية الحديثة‬

‫توطئة‪:‬‬
‫إن النزوع نحو تأسيس نظري للمبحث الدللي العام‪ ،‬كان ول يزال دأب الدراسات التي تناولت مسألة ”المعنى"‪،‬‬
‫ورمت إلى بلورة أفكارها ضمن رؤى تنظيرية تتوخى الشمولية في الدراسة والعالمية في الهداف‪ .‬وإن التراكم‬
‫الفكري اللغوي منذ مدرسة "براغ" التي ركزت اهتمامها على الصوت والدللة‪ ،‬ومدرسة "كوبنهاجن" التي اهتمت‬
‫بدراسة العلمة اللغوية‪ ،‬قد رسم للغويين المحدثين اتجاها يكاد يكون واضحا نحو إرساء علمي لنظرية الدللة‪ ،‬ول‬
‫يمكن في هذا الوضع إغفال الجهد المضني الذي قدمه العالم اللغوي دي سوسير‪ ،‬إذ كانت لفكاره وآرائه ومنهجه في‬
‫الدراسة اللسنية‪ ،‬أكبر الثر في مسار علم الدللة الحديث‪.‬‬
‫إن مصطلح "النظرية اللغوية" يدل على اكتمال في الرؤية وحصول النتيجة العلمية‪ ،‬غاية البحث وإطراد في‬
‫السنن اللغوية‪ ،‬لكن المبحث الدللي الحديث لم تكتمل حلقاته بعد‪ ،‬فل زالت توجد الضافات العلمية التي تقدم تأويلت‬
‫جديدة لظاهرة لغوية تخص الدللة‪ ،‬ومع ذلك تأسست نظريات تناولت مسألة "المعنى" من كل جوانبها‪ ،‬مما أدّى إلى‬
‫تشعب البحث في متعلقات المعنى اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬وحاولت تقديم معايير موضوعية تنحسم معها كل قضايا‬
‫الدللة موضوع الخلف بين اللغويين‪ ،‬غير أنها فتحت عوالم أخرى جديدة لتتسع معها رقعة البحث الذي تباينت فيه‬
‫آراء العلماء في التناول وطرائقه‪ ،‬والتأويل ومعاييره‪ ،‬ووجدت بين ذلك أفكار رغم أهميتها إل أنها لم ترتق إلى‬
‫مصاف النظرية العلمية‪ ،‬وذلك لفتقارها لصفة الشمولية في التناول ووقوعها أسيرة لمناخ فكري –أيديولوجي‪ -‬ساد‬
‫العصر‪.‬‬
‫الختلف في الرؤية التنظيرية بين العلماء يرجع إلى اختلف في المنهج أو الطريقة المعتمدة في الدراسة‪ ،‬وإذا‬
‫تأملنا مختلف النظريات الغربية الحديثة التي عكفت على البحث في الدللة‪ ،‬نلقى أغلبها يتوزع على خمسة حقول‬
‫تخضع لخمسة مناهج تبناها اللغويون في التنظير‪ :‬أما المنهج الول فهو المنهج الشكلي الصوري الذي يصف‬
‫المدلولت بالنظر إلى الشكل الذي يجمعها في بنية واحدة وهو تفرعها عن أصل واحد‪ .‬أما المنهج الثاني فهو المنهج‬
‫السياقي الذي يتم من خلله تصنيف المدلولت لعتبارات تركيبة وتعبيرية وأسلوبية‪ .‬أما المنهج الموضوعي المقامي‬
‫النفسي فهو المنهج الثالث الذي يحدد معه مدلول اللفظ والخطاب اللغوي‪ ،‬باعتبار حال المتكلم ومقامه وموقفه‪ ،‬أما‬
‫المنهج الرابع فهو منهج الحقول الدللية المهتم بتحديد البنية الداخلية للمدلول‪ ،‬واعتبار القرابة الدللية والعلئقية بين‬
‫المدلولت (المفاهيم)‪ ،‬أما المنهج الخامس فهو منهج التحليل المؤلفاتي الذي تنكشف معه البنية العميقة للخطاب بتحليل‬
‫اللفظ إلى مؤلفاته وعناصره‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫وتجدر الشارة إلى أن النظريات العربية في أي حقل من حقول العلم والمعرفة‪ ،‬ومنها حقل الدراسة الدللية‪ ،‬لها‬
‫مرجعيتها التاريخية والفكرية‪ ،‬وتخضع لتصورات اجتماعية معينة ل يمكن اسقاطها من أي مقاربة علمية‪ ،‬وهو ما‬
‫حدا ببعض علماء العرب المحدثين إلى الدعوة لضرورة تجديد التراث من داخله دون إغفال "المفاتيح" العلمية الحديثة‪،‬‬
‫ول بد معها من احتياطات منهجية على النتائج التي نصل إليها‪ .‬ومع ذلك ل يثنينا شيء عن إجراء اسقاطات منهجية‬
‫ونظرية واعية على المنظومة المعرفية التراثية‪ ،‬وكون النظريات الغربية استمدت معالم قواعدها وتطبيقاتها من لغات‬
‫أجنبية غير اللغة العربية‪ ،‬ل يعد مانعا من الستفادة من أفكارها في تعاملنا مع التراث العربي‪ ،‬ذلك أن "اللغة العربية‬
‫بصفتها "لغة" تنتمي إلى مجموعة اللغات الطبيعية وتشترك معها في عدد من الخصائص (الصوتية والتركيبة‬
‫والدللية) وتضبطها قيود ومبادئ تضبط غيرها من اللغات"(‪.)1‬‬
‫وتحديدا للطار النظري العام لعلم الدللة‪ ،‬سنعرض لبعض النظريات التي قدمت معايير أولية لمسألة المعنى وما‬
‫تفرع عنها وسنقتصر في عرضنا على أهم معالم النظرية وقواعدها وذلك بما يخدم غايات البحث وأهدافه‪.‬‬

‫‪-1‬النظرية الشارية‪:‬‬
‫تشكل هذه النظرية في مسار علم الدللة الحديث أولى مراحل النظر العلمي في نظام اللغة‪ ،‬بل إلى أصحابها‬
‫يرجع الفضل في تمييز أركان المعنى وعناصره‪ ،‬معتمدين في ذلك على النتائج التي توصل إليها فردينالد دي سوسير‬
‫في أبحاثه اللسانية التي خص بها الشارة اللغوية باعتبارها "الوحدة اللغوية المتكونة من دال ومدلول‪ ،‬الدال هو‬
‫الدراك النفساني للكلمة الصوتية والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الفكار التي تقترن بالدال"(‪ . )2‬ورغم أن أصحاب‬
‫هذه النظرية ل يكادون يجمعون على رأي واحد فإن أغلبهم أطلق على هذه النظرية مصطلح "النظرية السمية في‬
‫المعنى (‪ )theory of meanings naming‬التي تنظر إلى الدللة على أنها هي مسماها ذاته‪.‬‬
‫إن الذي منح لهذه النظرية الصبغة العلمية هما العالمان النجليزيان أوجدن وريتشاردز اللذان اشتهرا بمثلثهما‬
‫الذي يميز عناصر الدللة بدءا بالفكرة أو المحتوى الذهني ثم الرمز أو الدال‪ ،‬وانتهاء إلى المشار إليه أو الشيء‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫الفكرة‪ -‬المحتوى الذهني‬

‫الرمز ‪ -‬الكلمة‬ ‫الشيء الخارجي‪ -‬المشار إليه‬


‫إن هذا التقسيم المتميز للمعنى يعد خطوة جريئة في عصره‪ ،‬وأعطى للمبحث الدللي نفسا جديدا سوف يتولد عنه‬
‫نظريات جديدة وأفكار مهمة‪ ،‬إن الدراسات الدللية التي اضطلع بها العلماء المتأخرون تدور كلها في فلك مثلث‬
‫أوجدن وريتشاردز ذلك أنها تناولت في مباحثها أحد عناصر المثلث بتحليل عميق أو عنصرين اثنين‪ ،‬ومنها ما‬
‫تناولت العناصر الثلثة كلها استنادا على أن "معنى الكلمة هو إشارتها إلى شيء غير نفسها وهنا يوجد رأيان‪:‬‬
‫أ‪-‬رأي يرى أن معنى الكلمة هو ما تشير إليه‪.‬‬

‫() عبد القادر الفاسي الفهري‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.56‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية‪ .‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪.180 -178‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫ب‪-‬رأي يرى أن معنى الكلمة هو العلقة بين التعبير وما يشير إليه‪.‬‬
‫فدراسة المعنى على الرأي الول تقتضي الكتفاء بدراسة جانبين من المثلث وهما جانبا الرمز والمشار إليه‪.‬‬
‫وعلى الرأي الثاني تتطلب دراسة الجوانب الثلثة لن الوصول إلى المشار إليه يكون عن طريق الفكرة أو الصورة‬
‫الذهنية"(‪.)1‬‬
‫وعلى أساس هذا التقسيم نشأت نظريات المدلول التي تناولت أنواع الدللة وأقسامها‪ ،‬كما برزت نظريات عكفت‬
‫على دراسة الشارة اللغوية وأحصت أقسامها‪ ،‬وفي إطارها نشأت فكرة العلمة أو السمة مما ساهم في ميلد علم‬
‫جديد هو علم العلمية أو السيميولوجية‪ .‬وأهم مبحث شكل عقبة كأداء أمام علم الدللة هو دراسة الصورة الذهنية التي‬
‫تتميز بالتجريد‪ ،‬مما فتح المجال واسعا أمام الباحثين في اكتناه عوالم خفية أطلق عليها بعضهم "عالم المفاهيم" وسماها‬
‫البعض الخر "العوالم الدللية"‪ ،‬التي تمثل إحدى الدعامات الرئيسية في نظرية الوضاع التي تشكل المتداد الطبيعي‬
‫للنظرية الشارية‪ ،‬إن مصدر الدللة كما ترمي إلى ذلك نظرية الوضاع –يكمن بالساس في المراجع الموجودة في‬
‫العالم الخارجي وتبرز دللة ما لصيغة معينة بواسطة مجموع العلئق المتشابكة بين جملة الوضاع يقول الدكتور‬
‫الفاسي‪" :‬المكان الطبيعي للمعنى هو العالم الخارجي لن المعنى يبرز في العلئق المطردة بين الوضاع‪ ،‬والمعنى‬
‫اللغوي يجب أن ينظر إليه في إطار هذه الصورة العامة للعالم‪ ،‬عالم مليء بالمعلومات وأجسام موفقة للتقاط جزء من‬
‫هذه المعلومات"(‪ .)2‬وحقيقة أن الدللة ل يتم التعرف عليها معجميا وإنما مرورا برصد جملة العلئق التي تحددها‬
‫الوضاع في العالم الخارجي‪ ،‬إذن "الفكرة الرائدة في دللة الوضاع هي أن معنى جملة يتحدد بعلقة الكلم والوضع‬
‫الموصوف"(‪ .)3‬وتدعيما للنظرية الشارية التي حصل توسع في مفهومها لحظ العالم اللغوي (بوتمن) ‪ putman‬أن‬
‫عالم المفاهيم المودع في العالم الخارجي أضخم بكثير مما هو في الرأس فالمفاهيم هي الساس الذي انبنت عليه‬
‫نظرية الوضاع التي تنظر إلى المعنى أنه علقة بين الكلم المنتج والوضاع الموصوفة‪ ،‬وهذه النظرية ترتكز كذلك‬
‫على الدللة الخارجية للغة وانصهار المعلومات اللغوية ضمن التيار المعلوماتي‪ ،‬وما دفع إلى القول بذلك‪ ،‬أن المعنى‬
‫ل يتموضع في العالم الخارجي ول في النفس وإنما يتموضع في عالم المفاهيم كما ذهب إلى ذلك العالم اللغوي‬
‫(فريجة) الذي اعتبر المفاهيم هي الوسيط الذي يربط العناصر الثلثة‪ :‬الذهان تمسك بالمفاهيم‪ ،‬والكلمات تعبر عنها‪،‬‬
‫والشياء يحل عليها بواسطتها(‪.)4‬‬

‫‪-2‬النظرية التصورية‪:‬‬
‫إن هذه النظرية تمثل مستوى آخر من مستويات الدراسة الدللية‪ ،‬فإذا كانت النظرية الشارية قد عكفت على‬
‫دراسة الشارة كأساس للولوج إلى دراسة ما يتعلق بها من عناصر المعنى‪ ،‬فإن النظرية التصورية ترتكز على مبدأ‬
‫التصور الذي يمثله المعنى الموجود في الذهن‪ ،‬وإذا أردنا أن نقف على جذور هذه النظرية فإننا نلفيها تعود إلى‬
‫الفيلسوف النجليزي (جون لوك) (القرن السابع عشر) الذي سماها النظرية العقلية ونادى فيها بأن استعمال الكلمات‬
‫يجب أن يكون الشارة الحساسة إلى الفكار‪ .‬والفكار التي تمثلها تعد مغزاها المباشر الخاص"(‪.)5‬‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عبد القادر الفاسي الفهري‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.386‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق ص ‪.386‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع نفسه ص ‪.381‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫وقد أطلق بعض الباحثين على هذه النظرية اسم النظرية الفكرية لن "الكلمة تشير إلى فكرة في الذهن وأن هذه‬
‫الفكرة هي معنى الكلمة"(‪ )1‬ونتيجة للطابع التجريدي الذي وسم النظرية التصورية‪ ،‬فإن العلماء المتأخرين أسسوا‬
‫أفكارهم على معطيات حسية تقع تحت الملحظة والمشاهدة‪ ،‬وأرجعوا الدللت كلها إلى تلك التصورات التي تحقق‬
‫الثر العلمي‪ ،‬وهذه الفكرة قريبة من فكرة النظرية السلوكية التي تنبني على مبدأ المنبه والستجابة‪ ،‬إل أن تحديد‬
‫مرجعية الثار إلى التصورات الذهنية‪ ،‬تلحق تلك الفكرة بالنظرية التصورية‪ .‬لقد أسس (تشارلز بيرس) نظريته‬
‫البراجماتية واعتبرت امتدادا للنظرية التصورية‪" :‬رأى بيرس أن تصورنا لشيء ما يتألف من تصورنا لثاره العملية‪،‬‬
‫فالتيار الكهربي مثل ل يعني مرور موجة غير مرئية في مادة ما‪ ،‬وإنما يعني مجموعة من الوقائع مثل إمكان شحن‬
‫مولد كهربي أو أن يدق جرس‪ ،‬وأن تدور اللة‪ ،‬وإذن فمعنى كهرباء هو ما تفعله‪ ،‬وإذن فالتصورات المختلفة التي‬
‫تحقق نتيجة عملية واحدة إنما هي تصور واحد أو معنى واحد‪ ،‬والتصورات التي ل ينتج عنها آثار ل معنى لها"(‪.)2‬‬
‫إن عالم الفكار عالم مستقل بذاته فالدللت واحدة في جميع اللغات وإنما الختلف أتى من تباين اللسنة‪،‬‬
‫وذهب علماء اللسنية المحدثون إلى افتراض وجود عوالم دللية يجب البحث عن معالمها وسننها بناء على البنية‬
‫الدللية حتى أن اللغويين المتأخرين اعتبروا‪ ،‬أن التصورات والفكار هي كيان مستقل قد يستغني عن اللغة إذا أراد‬
‫الفراد ذلك يقول د‪ .‬أحمد مختار عمر‪" :‬الفكار التي تدور في أذهاننا تملك وجودا مستقل‪ .‬ووظيفة مستقلة عن اللغة‬
‫وإذا قنع كل منا بالحتفاظ بأفكاره لنفسه كان من الممكن الستغناء عن اللغة"(‪.)3‬‬
‫وما دام أن النظرية التصويرية تعتبر أن المعنى هو التصور الذي يحمله المتكلم ويحصل للسامع حتى يتم‬
‫التواصل والبلغ‪ ،‬فإن عالم الشياء غير متجانس‪ ،‬كما أن التصورات متباينة من فرد لخر‪ ،‬فتصور "شجرة" مثلً‪،‬‬
‫يحمل جملة من الدللت المختلفة اختلفا قد يكثر أو يقل بحسب وجود هذا التصور داخل عالم الشياء‪ ،‬كما أن هناك‬
‫كلمات ل تحمل تصورا باعتبارها ل تنتمي لعالم الشياء كالدوات والحروف وما إلى ذلك‪" .‬وقد كان رفض النظرية‬
‫التصورية‪ ،‬للمآخذ التي ذكرنا‪ ،‬وغيرها‪ ،‬هو المنطلق لمعظم المناهج الحديثة التي ظهرت خلل هذا القرن"(‪ .)4‬وهو ما‬
‫سيتبلور في نظريات أكثر موضوعية وعلمية‪.‬‬

‫‪-3‬النظرية السلوكية‪:‬‬
‫إن التجديد الذي طبع النظرية التصورية أدى إلى نشأة اتجاه آخر في البحث الدللي‪ ،‬يستبعد الفكار المجردة‪،‬‬
‫وتمثل في النظرية السلوكية‪ ،‬وقد خضع أصحاب هذه النظرية للمنحى العلمي الذي طغى على ساحة البحث وقتذاك‪.‬‬
‫وهو منحى يرتكز على الملحظة والمشاهدة‪ ،‬فقد ولى عهد العلوم التجريدية النظرية‪ ،‬وأعطت هذه النظرية السلوكية‬
‫اهتماما للجانب الممكن ملحظته علنية وهي بهذا تخالف النظرية التصورية التي تركز على الفكرة أو التصور(‪ .)5‬إن‬
‫البحث عن ماهية الدللة وآلية حصونها أدى بالعالم اللغوي المريكي (بلو مفيلد) إلى هجر التجاه العقلي والبحث عن‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪5‬‬

‫() د‪ .‬ممود فهمي زيدان‪ ،‬ف فلسفة اللغة‪ ،‬ص ‪.96‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪2‬‬

‫() علم الدللة‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الرجع نفسه ص ‪59‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫الدللة في السلوك اللغوي الظاهر‪ ،‬وبعد تحقق الفكار التي مال إليها (بلومفيلد) تجلى التجاه السلوكي لدى هذا العالم‬
‫وقد "عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه الموقف الذي ينطقها المتكلم فيه‪ ،‬والستجابة التي تستدعيها من السامع فعن‬
‫طريق نطق صيغة لغوية يحث المتكلم سامعه على الستجابة لموقف‪ .‬هذا الموقف وتلك الستجابة هما المعنى اللغوي‬
‫للصيغة"(‪ .)1‬والقول بمبدأ المثير والستجابة يستدعي الخذ كذلك بالمقام الذي حصل فيه الحدث الكلمي‪ ،‬ولكي يتم‬
‫تحديد دللة صيغة لغوية تحديدا دقيقا وجب حصر جميع المقامات التي صاحبت استعمال الصيغة في الحدث‬
‫الكلمي‪ ،‬ومعرفة شاملة لكل ما يشكل عالم المتكلم‪" :‬فدللة صيغة لغوية ما إنما هي المقام الذي يفصح فيه المتكلم عن‬
‫هذه الدللة والرد اللغوي أو السلوكي الذي يصدر عن المخاطب"‪ )2(..‬لن المقام هو المميّز بين المكانيات المتعددة‬
‫للدللة خاصة وإن الصيغة اللغوية قد أخذت أبعادا اجتماعية وثقافية‪ ،‬وتعلقت بها قيم أسلوبية وتعبيرية مما يعيق‬
‫التواصل والبلغ‪ ،‬وتداخل المعنى الرئيسي والهامشي‪ ،‬ولذا فالخذ بالعلقة المتينة بين القول والمقام سوف يزيل‬
‫كثيرا من اللبس في الحداث الكلمية "إذ أن اللجوء إلى المقام أو حال الخطاب يساعد على الخصوص في‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ استكشاف مرجع الصيغ اللغوية للقول‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اختيار وإيثار تأويل بعينه في حالة الكلم الملبس أو المبهم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ استكشاف قيمة القول (تهديد‪ ،‬وعد‪ ،‬وعيد (…)…)‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تحديد خاصة القول (هل هو موسوم أو غير موسوم) صيغ لغوية خاصة بالفلحين مثلً"(‪..)3‬‬
‫والحقيقة أن النظرية السلوكية بقدر ما كشفت عن عوالم خفية ودفعت بالبحث الدللي خطوات نحو المام‪ ،‬بقدر‬
‫ما فتحت أبوابا عن عوالم أخرى بقيت خفية‪ ،‬ذلك أن الخذ بمبدأ دراسة الفعال الكلمية القابلة للملحظة والمشاهدة‪،‬‬
‫لم يقدم الجوبة الكافية عن تلك التساؤلت حول ضبط دللة الصيغة اللغوية ضبطا يخضع لمعايير علمية دقيقة‬
‫تنسحب على كل الصيغ والتراكيب اللغوية‪ ،‬فوجود القيم الحافة وتكوّن المعنى الديناميكي الذي ل يأخذ صورة قارة‬
‫ثابتة‪ ،‬شكّل أهم العوائق أمام نظرية (بلو مفيلد) السلوكية‪ ،‬وقد تطورت هذه النظرية على يد الفيلسوف المريكي‬
‫(شارل موريس )ـ (‪ )Charles Morris‬الذي لحظ أنه قد تتعدد الستجابات لمثير واحد‪ ،‬يعني اشتراك دللت في‬
‫صيغة لغوية واحدة‪ ،‬وذلك أن المنطوق قد يحمل قيما أسلوبية ومعان حافة يتولد عنها استجابات متنوعة‪ ،‬وقد أخرج‬
‫(موريس) من معنى الصيغة‪ ،‬الستجابة أو رد الفعل‪ ،‬واكتفى بمجرد الميل أو الرغبة"‪ ،‬ويعني ذلك أنه إذا وجد ميل أو‬
‫رغبة صريحة للقيام باستجابة معينة لمثير (منطوق لغوي) فدللة على وجود ارتباط يجعل الستجابة تكون لذلك‬
‫(‪)4‬‬
‫المثير‪ ،‬وهذا الرتباط بمثابة الشتراط وقد مثل ذلك بالعلقة‪" :‬إذا كانت ط حينئ ٍذ تكون س"‪ ،‬حيث ط = اشتراط‪.‬‬
‫ورغم هذا التطور الحاصل في النظرية السلوكية‪ ،‬بلجوء موريس إلى فكرة الميل أو المزاج‪ ،‬فإنه وجدت تراكيب‬
‫وعبارات لغوية ل تخضع لمعايير هذه النظرية‪ .‬وبالتالي وجدت فجوات علمية واضحة لم تستطع النظرية السلوكية‬
‫سدها‪ ،‬مما عجل بميلد اتجاه آخر في الدرس الدللي حاول الجابة عن التساؤلت المطروحة حول تحديد علمي‬
‫موضوعي دقيق للدللة وطرق ضبطها‪..‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.61‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سال شاكر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫‪ 4‬ـ النظرية السياقية‪:‬‬
‫إن نظام اللغة نظام متشابك العلقات بين وحداته‪ ،‬ومفتوح دوما على التجديد والتغيير في بنياته المعجمية‬
‫والتركيبية‪ ،‬حتى غدا تحديد دللة الكلمة يحتاج إلى تحديد مجموع السياقات التي ترد فيها‪ ،‬وهذا ما نادت به النظرية‬
‫السياقية التي نفت عن الصيغة اللغوية دللتها المعجمية‪ ،‬يقول مارتيني‪" :‬خارج السياق ل تتوفر الكلمة على‬
‫المعنى"(‪ .)1‬إن منهج النظرية السياقية يعد من المناهج الكثر موضوعية ومقاربة للدللة‪ ،‬ذلك أنه يقدم نموذجا فعليا‬
‫لتحديد دللة الصيغ اللغوية‪ ،‬وقد تبنى كثير من علماء اللغة هذا المنهج منهم العالم (وتغنشتين) ـ (‪)Wittgenstein‬‬
‫الذي صرح قائلً‪" :‬ل تفتش عن معنى الكلمة وإنما عن الطريقة التي تستعمل فيها"(‪ )2‬إن هذه الطريقة التي تستعمل‬
‫فيها الكلمة هي التي تصنف دللة هذه الكلمة ضمن الدللة الرئيسية أو القيم الحافة التي تتحدد معها الصور‬
‫السلوبية‪ ،‬لن السياق يحمل حقائق إضافية تشارك الدللة المعجمية للكلمة في تحديد الدللة العامة التي قصدها الباث‬
‫يقول ستيفن أولمن‪" :‬السياق وحده هو الذي يوضح لنا ما إذا كانت الكلمة ينبغي أن تؤخذ على أنها تعبير موضوعي‬
‫صرف أو أنها قصد بها أساسا؛ التعبير عن العواطف والنفعالت"(‪ .)3‬لقد حصل تطور هام في مفهوم السياق إذ لم‬
‫يعد يقتصر على الجانب اللغوي في إيضاح دللة الصيغة اللغوية‪ ،‬وإنما وجدت جوانب أخرى قد تنحسم معها الدللة‬
‫المقصودة للكلمة‪ ،‬كالوضع والمقام الذي يحدث فيه التواصل أو الملمح الفيزيولوجية النفسية للمتكلم التي تصاحبه‬
‫يقول الدكتور عبد القادر الفهري الفاسي في ذلك‪" :‬اختيار مفهوم ملئم من بين لئحة المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ‬
‫المشترك يتطلب مجهودا معرفيا خاصا ويتسبب أحيانا في أخطاء ويقع رفع اللتباس عن طريق السياق اللغوي‬
‫(‪)4‬‬
‫المباشر‪ ،‬أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر المعلومات المتوفرة لرفع اللبس" ‪.‬‬
‫إن تعدد المفاهيم التي يدل عليها اللفظ تعني أن هذا اللفظ له معنى مركزي هو "النواة"‪ ،‬ومعان هامشية ثانوية اكتسبها‬
‫بفعل دورانه المتجدد في أنساق كلمية مختلفة‪ ،‬حتى أضحى المعنى المركزي يدور في فلك المعاني الثانوية التي ل‬
‫تفاضل بينهما وأصبح طريق رفع اللبس في الدللة يمر عبر السياق اللغوي أو الخطابي أو معاينة المقام الذي يتمثل‬
‫في المعطيات الخارجية والنفسية‪ .‬ويتضح في ذلك خاصة عند استعمال المشترك اللفظي (‪ )polysemie‬وتبعا لذلك‬
‫فإن دللة الكلمة تتعدد بتعدد السياقات وتنوعها أي تبعا لتوزعها اللغوي وقد توصل العلماء إلى تمييز بين أربعة أنواع‬
‫من السياق‪.)5(:‬‬
‫‪ 1‬ـ السياق اللغوي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ السياق العاطفي النفعالي‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ سياق الموقف أو المقام‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ السياق الثقافي أو الجتماعي‪.‬‬

‫() سال شاكر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬موريس أبو ناضر ‪ ،‬مدخل إل علم الدللة اللسن‪ ،‬ص ‪ ،33‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العددج رقم ‪،18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫() دور الكلمة ف اللغة‪ :‬ستيفن أولن‪ ،‬ترجة ممد كمال بشي‪ ،‬ص ‪.63‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.372‬‬ ‫‪4‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫‪ 1‬ـ السياق اللغوي‪:‬‬
‫فالسياق اللغوي يشرف على تغيير دللة الكلمة تبعا لتغيير يمس التركيب اللغوي‪ ،‬كالتقديم والتأخير في عناصر‬
‫الجملة فقولنا‪" :‬زيد أتم قراءة الكتاب"‪ ،‬تختلف دللتها اللغوية عن جملة‪":‬قراءة الكتاب أتمها زيد"(‪..)1‬‬

‫‪ 2‬ـ السياق العاطفي النفعالي‪.‬‬


‫أما السياق العاطفي النفعالي فهو يحدد دللة الصيغة أو التركيب من معيار قوة أو ضعف النفعال‪ ،‬فبالرغم من‬
‫اشتراك وحدتين لغويتين في أصل المعنى إل أن دللتها تختلف‪ ،‬مثل ذلك الفرق بين دللة الكلمتين‪( :‬اغتال) و(قتل)‪،‬‬
‫بالضافة إلى القيم الجتماعية التي تحددها الكلمتان فهناك إشارة إلى درجة العاطفة والنفعال الذي تصاحب الفعل‪،‬‬
‫فإذا كان الول يدل على أن المغتال ذو مكانة اجتماعية عالية‪ ،‬وأن الغتيال كان لدوافع سياسية‪ ،‬فإن الفعل الثاني‬
‫يحمل دللت مختلفة عن الول وهي دللت تشير إلى أن القتل قد يكون بوحشية وأن آلة القتل قد تختلف عن آلة‬
‫الغتيال فضلً على أن المقتول ل يتمتع بمكانة اجتماعية عالية‪..‬‬

‫‪ 3‬ـ سياق الموقف أو المقام‪:‬‬


‫وهو يعني الموقف الخارجي الذي يمكن أن تقع فيه الكلمة فتتغير دللتها تبعا لتغير الموقف أو المقام وقد أطلق‬
‫اللغويون على هذه الدللة مصطلح "الدللة المقامية"‪..‬‬

‫‪ 4‬ـ السياق الثقافي‪:‬‬


‫وهي القيم الثقافية والجتماعية التي تحيط بالكلمة‪ ،‬إذ تأخذ ضمنه دللة معينة‪ .‬وقد أشار علماء اللغة إلى‬
‫ضرورة وجود هذه المرجعية الثقافية عند أهل اللغة الواحدة لكي يتم التواصل والبلغ‪ ،‬وتخضع القيم الثقافية للطابع‬
‫الخصوصي الذي يلون كل نظام لغوي بسمة ثقافية معينة وهو ما يكون أحد العوائق الموضوعية في تعلم اللغات…‬
‫وتعتبر النظرية السياقية بنموذجها النظري التطبيقي من النظريات العملية الكثر تعلقا بالنظام اللغوي‪ ،‬بل إنها‬
‫بطريقتها الجرائية في تحديد جملة السياقات وما يصاحبها من العوامل الخارجية كالمقام والحال تعد بذلك مرحلة‬
‫تمهيدية مهمة بالنسبة للنظرية التحليلية حيث "يرى أولمن أنه بعد أن يجمع المعجمي عددا من السياقات المتمثلة التي‬
‫ترد فيها كلمة معينة‪ ،‬وحينما يتوقف أي جمع آخر للسياقات عن إعطاء أي معلومات جديدة‪ ،‬يأتي الجانب العملي إلى‬
‫(‪)2‬‬
‫نهايته‪ ،‬ويصبح المجال مفتوحا أمام المنهج التحليلي"‪.‬‬
‫كان آخر ما توصل إليه علماء اللغة في إطار النظرية السياقية هو فكرة "الرصف"‪ ،‬وهو يعني مراعاة وقوع‬
‫الكلمات مجاورة لبعضها حيث يعد هذا الوقوع أحد معايير تحديد دللة الكلمة‪ ،‬إن تسييق الصيغة اللغوية يعد المنفذ‬
‫المهم لتحديد مجالها الدللي‪ ،‬فل يمكن أن ترد الصيغة اللغوية بمعزل عن السياق النفسي أو الجتماعي الثقافي‪ ،‬بل‬
‫يحصل التجاور بين مجموع الصيغ اللغوية داخل التركيب وهو ما يمكن التعبير عنه بمصطلح "النظم"‪ ،‬كما سماه قديما‬

‫() التقد ي والتأخ ي ف الكلم ي ضع لقا صد دلل ية‪ ،‬حدد ها البلغيون ف مبحث هم حول ت صيص الدللة‪ ،‬و قد تبلور ذلك ض من مفاه يم ل سانية‬ ‫‪1‬‬

‫منهامصطلح "التبئي" الذي يعن الهتمام ببؤرة خاصة ف الملة‪...‬‬


‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ .،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫عبد القاهر الجرجاني في كتابه‪" :‬دلئل العجاز"‪ ..‬وقد اعتبر فيرث *(‪ )Firht‬أن قائمة الكلمات المتراصفة مع كل‬
‫كلمة تعد جزءا من معناها(‪ ،)1‬بحيث يستدعي حضور كلمة ما حضور سلسلة من الكلمات التي تتراصف معها سياقيا‬
‫وتتوافق معها في الوقوع‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ النظرية التحليلية‪:‬‬


‫تهتم هذه النظرية بتحليل الكلمات إلى مكونات وعناصر‪ ،‬وقد قدم كاتزو فورد "تحليلً مميزا للكلمات ودللتها‬
‫وأحصيا في ذلك ثلثة عناصر اتخذت كمفاتيح للتحليل وتحديد المؤلفات التي تشكل الكلمة وذلك لتعيين دللتها وهذه‬
‫العناصر هي‪ :‬المحدّد النحوي والمحدّد الدللي والمميز وأهمية هذه النظرية تكمن في طابعها الوظيفي إذ تستخدم في‬
‫كثير من مجالت اللغة كالمجاز والترادف والمشترك اللفظي ولن نظرية الحقول الدللية تهتم بالنمط التصنيفي‬
‫ودللتها بناء على تحليل تفريعي للصيغة‪ ،‬فإنها تلتقي مع النظرية التحليلية التي تعنى بتحديد مؤلفات الكلمة عبر‬
‫خصائصها ومميزاتها الداخلية‪ ،‬فالمحدد الدللي يقوم بتخصيص معنى شامل لكل تركيب‪ ،‬انطلقا من الدللت الفردية‬
‫للمورفامات التي تؤلفه وتبعا للطريقة التي تتألف بها هذه المورفمات(‪ )2‬والمميز يشرف على تلك الوظيفة التمييزية‬
‫ويقتضي ذلك وجود تضاد بين الوحدات المميزة من ذلك التضاد الصوتي القادر على التمييز بين كلمتين من حيث‬
‫المعنى كالتمييز بين الكلمتين‪( :‬تاب) و(ناب) فوجود التاء في (تاب) مكان النون في (ناب) قد ميز بين دللة هاتين‬
‫الكلمتين‪ )3(.‬ويقوم المحدّد النحوي بوظيفة التمييز بين دللتين لصيغة واحدة تأخذ إحداها في التركيب وظيفة "الفعلية"‬
‫والخرى وظيفة "الفاعلية"‪ ،‬كما هو الشأن في كلمة "يريد" إن تحديد دللت الصيغة اللغوية يتم بمقاربة هذه الصيغ‬
‫بصيغ أخرى داخل الحقل المعجمي كما ذهب إلى ذلك العالم دي سوسير بحيث نظر إلى المعنى على أساس أنه‬
‫مجموع تقابلت الصيغة المنتجَة مع بقية الصيغ الخرى "فكل لغة تنتظم في حقول دللية‪ ،‬وكل حقل دللي له جانبان‪:‬‬
‫حقل معجمي وحقل تصوري‪ .‬ومدلول الكلمة مرتبط بالكيفية التي تعمل بها مع كلمات أخرى في نفس الحقل‬
‫المعجمي لتغطية أو تمثيل الحقل الدللي‪ ،‬وتكون كلمتان في نفس الحقل الدللي إذا أدى تحليلها إلى عناصر تصورية‬
‫مشتركة وبقدر ما يكثر عدد العناصر المشتركة بقدر ما يصغر الحقل الدللي"(‪ )4‬إن المكون التركيبي يقوم "بخلق"‬
‫دللت إضافية للصيغة وذلك لحتوائه على المكون الساسي الذي هو جملة من القواعد (إعادة الكتابة) والمكون‬
‫التحويلي الذي تحدد معه المداخل المعجمية‪ ،‬وبكتابة التركيب ببنيته العميقة تتم عملية الستبدال بتحويل القواعد إلى‬
‫جمل وتراكيب (سطحية)‪ ،‬ثم إن تحليل الصيغة إلى مكوناتها هو الذي يحدد مجالها الدللي بتطابقها مع صيغ أخرى‬
‫لها المكونات نفسها‪ ،‬ويكون للصيغة المعجمية دللتها المميزة إذا حوت على مكونات تمييزية يوضح ذلك أحمد مختار‬
‫فيقول‪" :‬إن معنى الكلمة طبقا للنظرية التحليلية هو "طاقم الملمح أو الخصائص التمييزية"‪ ،‬وكلما زادت الملمح‬
‫لشيء ما قل عدد أفراده‪ ،‬والعكس صحيح كذلك‪ ،‬وعلى هذا يمكن تضييق المعنى وتوسيعه عن طريق إضافة ملمح‬
‫(‪)5‬‬
‫أو حذف ملمح"‪.‬‬
‫لقد أحصى أصحاب نظرية الحقول الدللية علقات يتم بموجبها تعيين قيمة الصيغة اللغوية داخل الحقل‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.77‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية (علم اللغة الديث)‪ ،‬البادئ والعلم‪ ،‬ص ‪.213‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.238‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬عبد القادر الفاسي ‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.370‬‬ ‫‪4‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.126‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫المعجمي‪ ،‬فقد أكد ستيفن أولمان ذلك بقوله‪" :‬الكلمة هي مكانها في نظام من العلقات التي تربطها بكلمات أخرى في‬
‫المادة اللغوية(‪ ،)1‬هذه العلقات التي تم إحصاؤها هي كالتالي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ علقة الترادف‪:‬‬


‫وهي تعني أن الكلمتين أو أكثر بمنطق النظرية التحليلية تتضمن نفس المكونات ولديها عناصر تصورية متماثلة‪،‬‬
‫ويكون الترادف إذا كان هناك تضمن من جانبين فـ(أ) و(ب) مترادفان إذا كان (أ) يتضمن (ب) و(ب) يتضمن (أ)‬
‫مثل (أب) و(والد)‪ .‬وعليه تصنف الوحدات المعجمية ضمن حقول بمعيار الترادف‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ علقة الشتمال‪:‬‬


‫ل على (ب) حين يكون (ب) أعلى في‬
‫هي تشبه علقة الترادف إل أنها تضمن من جانب واحد يكون (أ) مشتم ً‬
‫التقسيم أو التفريعي مثل‪( :‬النسان) و(خالد)‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ علقة الجزء بالكل‪:‬‬


‫مثل علقة اليد بالجسم والعجلة بالسيارة‪ ،‬والفرق بين هذه العلقة وعلقة الشتمال أو التضمن واضح‪ ،‬فاليد‬
‫ليست نوعا من الجسم ولكنها جزء منه بخلف (خالد) الذي هو نوع أو جنس من النسان وليس جزءا منه‪.‬‬
‫والسؤال الذي طرحه اللغويون في هذا المجال هو هل يتعدى جزء الجزء فيصبح جزءا للكل؟…‬
‫والجواب أنه قد يتعدى جزء الجزء فينتج جزء كل وقد ل يتعدى‪..‬‬
‫فبالنسبة للحالة الولى مثل (أظافر ـ أصابع) وعلقة جزئية‪( .‬أصابع ‪-‬يد) علقة جزئية‪ ،‬أما علقة الجزء‬
‫(‪)2‬‬
‫بالكل فهي (أظافر ـ يد )‪.‬‬
‫أما الحالة الثانية مثل‪( :‬مقبض ـ باب) علقة جزئية‪( ،‬باب ـ دار)‪ ،‬علقة جزئية ولكن ل علقة جزئية بين‬
‫(مقبض ـ دار) وينسحب هذا المثال على أنواع كثيرة من العلقات‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ التضاد‪ :‬وهو أنواع‪:‬‬


‫أ‪ .‬التضاد الحاد‪ :‬وي سمى التضاد غ ير المتدرج م ثل ( حي ـ م يت) فه ما كلمتان متقابلتان في الدللة ون في أ حد‬
‫طرفي التقابل يعني العتراف بالخر‪.‬‬
‫ب‪ .‬التضاد المتدرج‪ :‬ويصفه المناطقة بأن الحدين فيه ل يستنفدان كل عالم المقال‪ ،‬ولذا فإنهما قد يكذبان معا‪،‬‬
‫بمعنى أن شيئا قد ل ينطبق عليه أحدهما‪ ،‬إذ بينهما وسط‪ ،‬فقولنا‪ :‬الحساء ليس ساخنا ل يعني العتراف‬
‫ضمنيا بأنه بارد فربما يكون فاترا أو دافئا أو ما إلى ذلك‪..‬‬

‫‪..Meaning and style, p31 201‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬

‫أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.101 -99 -98‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫جـ‪ .‬تضاد التضايف‪ :‬ويسميه المناطقة "الضافة"‪ ،‬وهي نسبة بين معنيين كل منهم مرتبط بإدراك الخر‬
‫كإدراك البوة والبنوة‪ ،‬فإن أحدهما ل يدرك إل مع إدراك الخر‪..‬‬
‫د‪.‬علقة التنافر‪ :‬أو ما يطلق عليه في علم المنطق بعلقة التخالف وهي النسبة بين معنى ومعنى آخر من جهة‬
‫إمكان اجتماعهما وإمكان ارتفاعهما‪ ،‬مع اتحاد المكان والزمان أي‪ :‬يمكن اجتماعهما معا في شيء واحد في‬
‫زمان واحد‪ ،‬ويمكن ارتفاعهما معا عن شيء واحد في زمان واحد مثل (أكل ـ باع)‪ ،‬و(الطول ـ البياض)‬
‫(‪.)1‬‬
‫إن العتقاد بضرورة إحداث تقابلت بين مجموع اللفاظ المتماثلة أو المتباينة‪ ،‬يعكس حقيقة العملية الدللية التي‬
‫تتم في مستوى ذهني معقد‪ ،‬إذ التقاطُ دللة صيغة ما يتم بعد سلسلة من التقابلت الذهنية التي يقوم بها السامع‪ ،‬ولذلك‬
‫ذهب سوسير إلى القول بأن إنتاج دللة صيغة ما يتم بواسطة عملية التقابل بينهما وبين صيغ أخرى بإحدى العلقات‬
‫التي حددها اللغويون والتي أشرنا إليها سابقا…‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ النظرية التوليدية‪:‬‬


‫تعتبر النظرية التوليدية من أشهر النظريات اللغوية حاليا‪ ،‬ويعد (نوام تشومسكي) رائد هذه النظرية‪ ،‬وبالرغم من‬
‫أن تشومسكي عاد بالبحث الدللي إلى الطابع العقلني الذهني إل أن نظريته استطاعت أن تقدم تفسيرات علمية‬
‫لظواهر لغوية تخص الدللة‪ ،‬وتستند هذه النظرية على آلية توليد جمل صحيحة اعتمادا على كفاية المتكلم (الكاتب)‬
‫اللغوي ويعني ذلك توفر قواعد تنظيمية ذهنية في عقل متكلم اللغة تتيح له ما شاء من الجمل‪ ،‬وقد انطلق‬
‫(تشومسكي) للتدليل على وجود هذه الكفاية‪ ،‬من تعلم اللغة عند الطفل‪ ،‬بحيث ألفى الطفل ينتج جملً لم يسبق له أن‬
‫سمعها من قبل بناء على القواعد الكائنة ضمن كفايته اللغوية‪ ،‬والنظرية التوليدية "تتخذ شكل قاعدة "إعادة كتابة" أي‬
‫أنها تعيد كتابة رمز يشير إلى عنصر معين من عناصر الكلم برمز آخر أو بعدة رموز"(‪ .)2‬وتكون هذه الكتابة‬
‫بالنسبة للجملة المشتملة على ركن فعلي (مؤلف من فعل وفاعل ومفعول به وشبه جملة عائدة للفعل)‪ ،‬وعلى شبه‬
‫جملة‪ .‬على النحو التالي‪:‬‬
‫رف ‪ +‬شج (حيث ج‪ :‬ترمز إلى الجملة)‪ ،‬وعليه يمكن كتابة الركن الفعلي بمؤلفاته على النحو التالي‪:‬‬ ‫ج‬
‫ف ‪ +‬رأ ‪ +‬رأ ‪ +‬شج (حيث ف ترمز إلى الفعل‪ ،‬ورأ ترمز إلى الركن السمي ويتم اشتقاق الجملة‪:‬‬ ‫رف‬
‫رف شج‪.‬‬ ‫ج‬
‫ف ‪ +‬رأ ‪ +‬رأ ‪ +‬شج‪.‬‬ ‫رف‬
‫تعر ‪ +‬رأ (تعر ترمز إلى تعريف)‪.‬‬ ‫رأ‬
‫ج ‪ +‬رأ ‪.‬‬ ‫شج‬
‫ال‪.‬‬ ‫تعر‬

‫() عبد الرحان حسن حبنكة اليدان‪ ،‬انظر ف ذلك‪:‬ضوابط العرفة‪ :‬ص ‪ .56 -53‬ود‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة ‪ ،‬ص ‪.105 -103 -102‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪ .‬ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية‪ ،‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪.203‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫كتب ‪ ،‬ذهب‪ ،‬سأل‪…،‬‬ ‫ف‬
‫رجل‪ ،‬رسالة‪ ،‬أستاذ‪ ،‬أمس‪..‬‬ ‫أ‬
‫وباستبدال الرموز بعناصر الكلم في نظام اللغة تحصل جمل كثيرة من بينها الجملة‪:‬‬
‫كتب الرجل الرسالة إلى الستاذ بالمس‪ .‬ويمكن رسم تلك الرموز التي تدل على القواعد التنظيمية ضمن كفاية‬
‫المتكلم اللغوية" بالمشجر(‪."arbre" )1‬‬

‫ويبدو أن اعتماد هذه القواعد من شأنه أن يعقد عملية التواصل والبلغ‪ ،‬ولذلك تشترط القاعدة التوليدية وجود‬
‫متكلم ومتقبل مثاليين‪ ،‬لن عملية التحام المعنى بالبنى اللغوية هي ليست بالعملية السهلة ذلك أنها تقتضي علما كافيا‬
‫بقواعد السقاط وبناء على ذلك "يحتوي المكون الدللي إذا على المعجم أو اللئحة بمفردات اللغة وعلى القواعد‬
‫السقاطية التي تشكل قدرة المتكلم على استدلل معنى الجمل من خلل معنى المفردات"(‪..)2‬‬
‫لقد تحدث (تشومسكي) على وجهي الظاهرة اللغوية السطحي والعميق‪ ،‬أو كما سماه الظاهر والخفي وعليه حدد‬
‫مصطلح "الكفاية اللغوية" و"الداء اللغوي" وقد أرجع العلماء هذه الفكرة إلى أصول فلسفية تعود إلى نظرية أفلطون‬
‫حول العالم‪ " .‬تقول نظرية أفلطون أن للعالم وجه ظاهري نعتمد في إدراكه على شهادة الحواس وقد تكون هذه‬
‫الحواس خادعة ل موضوعية فيها ووجه خفي حقيقي يدرك بالعقل‪ ..‬أو كما يقول كانط أن العالم الظاهري يخفي‬
‫عالما حقيقيا(‪ ،)3‬فالداء اللغوي يمثل ظاهرة الخطاب في النظرية التوليدية‪ ،‬والكفاية اللغوية تمثل حقيقة الخطاب‪،‬‬
‫وعلى اللغوي ـ كما يقول (تشومسكي)ـ أن ل يبني أحكامه على بنية اللغة السطحية‪ ،‬وإنما عليه أن يصل إلى البنية‬
‫التحتية العميقة‪ ،‬ليطلع على القواعد الذهنية التي تنتظم اللغة‪ .‬وقد توصل (تشومسكي) إلى أن العقل النساني يحوي‬
‫آلية مكونة من مجموعة قواعد متناهية بمقدورها تحليل الجمل ومساعدة متكلم اللغة على إنتاج جمل ل متناهية بمعجم‬

‫() د‪ .‬ميشال زكريا‪ ،‬انظر اللسنية‪ ،‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪ 202‬إل ‪.205‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬الكون الدلل ف القواعد التوليدية والتحويلية‪ ،‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬رقم ‪ ،18/19‬لسنة ‪.1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪.‬ممد فهمي زيدان‪ .‬ف فلسفة اللغة‪ ،‬ص ‪.142‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫ل على فهم الجمل التي لم يسبق له أن سمعها‪ ،‬ورصد اللتباس الحاصل في الجملة‪ ،‬وقد أضاف‬ ‫لغوي متناه فض ً‬
‫(تشومسكي) فكرة جريئة ل زالت موضع بحث وجدل بين علماء اللغة وهو ما سمي بالعموميات اللغوية‪ ،‬وتعني أن‬
‫جميع اللغات متشابهة في بنياتها الداخلية وهو ما يفسر خضوع التركيب في أي لغة لتلك المدخلت العميقة‪ ،‬وما يشد‬
‫من عضد هذه الفكرة هو أن المعاني كما تنص نظرية الوضاع ـ ل تتموقل في عالم اللغة إنما توجد في عالم‬
‫الوضاع وقد تمخض عن هذه الفكرة‪ ،‬البحث عن العلقة بين البنية الدللية والعوالم الدللية "فإن كانت الكلمة على‬
‫مستوى الدال عبارة عن صرّة من الصوات"‪ ،‬وإذا كانت كذلك فلم ل تكون على مستوى المعنى "صرّة من الوحدات‬
‫البدائية للمعنى"(‪ .)1‬وعوّض التحليل المفهومي في النظرية التوليدية التحليل التوزيعي‪ ،‬الذي اتبعته النظريات السابقة‬
‫في اللغة‪ ،‬فما الدللة إل مجموعة سمات تتحدد بواسطة المشير الدللي وذلك "في تعيين العلقات الدللية بين الكلمات‬
‫المترادفة والمتزايلة أو المتضمنة الواحدة الخرى"(‪..)2‬‬
‫إن الهدف السمى الذي رسمته النظرية التوليدية هو معرفة الطاقة الكامنة في اللغة على مستوى التعبير ولذلك‬
‫تأثرا بآراء المدرسة الفلسفية العقلنية التي سادت القرن السابع عشر‪ ،‬اتخذ ( تشومسكي) منهجا عميقا ل يعتمد‬
‫الوصف‪ ،‬وإنما التحليل والتفسير للوصول إلى وضع معايير تحدد قدرة اللغة على الخلق والبداع والبتكار بإعادة بناء‬
‫"نسق المعاني" عن طريق قواعد التوليد والتحويل‪ ،‬ولذلك عُدّت النظرية التحويلية التوليدية من أحدث النظريات التي‬
‫قدمت تفسيرا علميا موضوعيا لنظام اللغة ووضعت قواعد مرنة تصلح لي لغة‪ ،‬لنها قواعد تتسم بالشمولية‬
‫والعالمية‪ ،‬وهذه المرونة في التقعيد النظري ضرورية للنظام اللغوي الذي ينزع نحو التجدد والتكيف والتطور فضلً‬
‫على شمولية التناول والدراسة‪ ،‬وغدا (تشومسكي) يرسم المنهج القويم في الدرس اللغوي مميزا بين الميتودولوجيا‬
‫والنظرية‪ ،‬فقد كان اشتغال البنيويين ـ قبل تشومسكي ـ منحصرا على وصف التجاه ووضع نظريات تقوم بتطبيق‬
‫مجموعة عمليات وإجراءات على العينات اللغوية‪ ،‬مهمتها معاينة الوحدات الدالة الصغرى‪ ،‬فأشار (تشومسكي) في‬
‫كتابه (البنى التركيبية) إلى ضرورة الهتمام بالمنهج الذي يكمن في الطرق التي تمكن من بناء النحاء‪ ،‬وغدا‬
‫ل من الهتمام بسلوكهم الفعلي‪ ،‬فلم يعد‬ ‫المبحث اللساني مع (تشومسكي) يهتم بالجهاز الداخلي الذهني للمتكلمين بد ً‬
‫النتاج الكلمي الذي هو عبارة عن سلسل فيزيائية بمفهوم الفونولوجيا قادرا على تقديم تفسير كاف لليات حدوث‬
‫التركيب اللغوي‪ ،‬ولذلك اتجه الدرس اللساني‪ ،‬ل إلى تحديد ما هو موجود من السلسل اللغوية السليمة فحسب‪ ،‬بل‬
‫أيضا إلى ما يمكن أن يوجد من التراكيب اللغوية غير اللحنة بواسطة مجموعة من القواعد التوليدية‪ .‬يكون بذلك‬
‫موقف (تشومسكي) قد انحرف بالدرس اللغوي إلى وجهة جديدة تختلف عن وجهة البنيويين الذين لم يميزوا بين‬
‫صورة النحو‪ ،‬والوسيلة التي تقود إلى اكتشافه‪ ،‬وهو ما عكف تشومسكي على اتخاذه مبدأ للدراسة اللغوية بحيث فرق‬
‫بين المنهج والنظرية وولج بذلك إلى كل ما يشكل العالم الداخلي الذهني للمتكلم‪ ،‬وشأن كل نظرية دللية فإن النظرية‬
‫التوليدية‪ ،‬وصلت إلى الباب المسدود‪ ،‬وإن نجحت في الكشف عن البنية العميقة لعدد ل متناه من الجمل إل أنها‬
‫عجزت عن تفسير عدم التوافق بين معاني المفردات المنتظمة في جملة واحدة‪ ،‬وهو ما فسح المجال لنظرية كاتز‬
‫وفودر التي تعتبر مكملً لقواعد (تشومسكي) التوليدية التي ارتكزت على ما يسمى بالمؤلفات الساسية لمعاني الكلمات‬
‫وهي مؤلفات تتجاوز الرموز التي اعتمدها (تشومسكي) في القواعد التوليدية‪ ،‬وعلى ضوء نظرية كاتزوفودر يمكن‬
‫مثلً تحليل كلمة "رجل" على النحو التالي‪:‬‬
‫اسم ‪ +‬محسوس ‪ +‬معدود ‪ +‬حي ‪ +‬بشري ‪ +‬ذكر ‪ +‬بالغ‪..‬‬

‫() علم الدللة‪ ،‬بيار جيو ترجة‪ :‬د‪.‬منذر عياش ‪ ،‬ص ‪.187‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬الكون الدلل ف القواعد التوليدية والتحويلية‪ ،‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العدد رقم ‪ 18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫وتختلف عنها كلمة "امرأة" بمؤلف "الجنس" فقط(‪ )1‬وهكذا بالنسبة للكلمات الخرى‪..‬‬

‫(‪)2‬‬
‫‪ 7‬ـ نظرية الوضعية المنطقية في المعنى‪:‬‬
‫تصور معنى الكلمة أو الجملة عند أصحاب نظرية الوضعية المنطقية‪ ،‬ينبني على نظرات متباينة‪ ،‬وإن كانت كل‬
‫نظرة من هذه النظرات هي عبارة عن امتداد معرفي لفكار سبقتها وتأسست فلسفتها على جملة من النتقادات التي‬
‫وجهها لها علماء اللغة عامة وأهل المنطق والفلسفة خاصة‪ ،‬من رواد هذه النظرية "مورتس شليك (‪")M.Chilik‬‬
‫المؤسس الول‪ .‬والعالم "أتونيراث" (‪ ، )A/ NEURATH‬وهمبل (‪ ،)Hempel‬و"كارنب (‪ ،")Carnap( )3‬و"الفرد‬
‫جولر أير (‪ ،")A.J.Ayer‬و"فردريك وايزمان (‪ ،")F. Waisman‬ذهب "شليك" (‪ )1882-1936‬إلى أن معنى قضية‬
‫ما‪ ،‬هو طريقة تحقيقها وذلك بتوفر شروط للتحقيق تكون على إثرها القضية صادقة‪ ،‬من ذلك الواقع التجريبي للمعنى‬
‫وهو ما وسم نظريته "بالنظرية التجريبية في المعنى"‪ ،‬وقد وضع "شليك" معايير ثلثة لتحديد معنى الكلمة‪ :‬إما‬
‫بالشارة إلى مسماها المعيّن (الشيء في العالم الخارجي)‪ ،‬أو بالتكافؤ والترادف ويخص ذلك الكلمات التي تعتبر‬
‫محمولت تجريبية مثل‪:‬مربع‪ ،‬شجرة‪ …،‬أو بالستخدام في السياق اللغوي وذلك خاص بالكلمات التي ل تعتبر‬
‫محمولت تجريبية مثل‪:‬إذا‪ ،‬الن‪ …،‬وغيرها من الصيغ التي ل معنى لها إل داخل السياق‪ .‬ماذا يعني "شليك"‬
‫بمصطلح "التحقيق"؟‪ ..‬التحقيق عند "شليك" يعني مطابقة المعنى للواقع ممايدل على صدق القضية في الواقع‬
‫التجريبي‪ ،‬ول يشترط أن يكون التحقيق بالمعنى القوي فتلك غاية بعيدة الحصول وإنما يعني "شليك" التحقيق بالمعنى‬
‫الضعيف‪ ،‬أو ما سماه بإمكان التحقيق‪ .‬والمكان كما يوضح "شليك" نوعان‪ :‬إمكان تجريبي‪ :‬وهو المعنى الذي يتسق‬
‫وقوانين الواقع والطبيعة‪ ،‬وإمكان منطقي‪ :‬وهو ما يطابق قواعد التركيب والنحو واستخدامنا المألوف للكلمات وفق‬
‫نسق صحيح‪ ،‬والحقيقة أن نظرية "شليك" توقفت عن العطاء العلمي وتقديم التفسيرات الكافية لتمثيلت من المعنى لم‬
‫تخضع لقواعد هذه النظرية ومعاييرها‪ ،‬وذلك لنحصار نظرية "شليك" في تفسير الكلمات ذات الواقع الحسي بينما‬
‫وجدت قضايا وصيغ ل يشملها الدراك الحسي المباشر لكنها محققة المعنى مثال ذلك تركيب الذرة الذي قال عنه‬
‫"شليك" أن ل معنى له‪.‬‬
‫ويأتي بعد "شليك" العالمان "أوتونيراث" (‪ ،)1945-1882‬و"همبل" (‪ ،)-1905‬اللذان دعيا إلى معيار جديد‬
‫يعتمد في رصد المعنى ل يرتد إلى الواقع التجريبي كما كان يقول "شليك" وإنما يرتد إلى قضية "بروتوكول" وتعني‬
‫تسجيل دقيق لما عاناه المتكلم في خبرته‪ ،‬ويشترط في هذه القضية أن تصدر بضمير المتكلم وتلحق كل جملة بحسب‬
‫اتساقها مع جمل بروتوكول سبق وأن قبلناها وذلك للحكم بصدقها‪ ،‬وإن تنافرت معها كان الحكم بكذبها وعدم تحققها‪،‬‬
‫فالمعيار الذي اعتمده "نيراث وهمبل"‪ ،‬هاهنا هو معيار التساق (‪.)consistance‬‬
‫أما كارنب (‪ )1975-1891‬بعد جملة أفكار قدمها حول تصوره لمعنى الجملة أو القضية‪ ،‬انتهى إلى رد ذلك‬
‫إلى الواقع التجريبي وذلك بعد إدراكه أن اللغة هي حاملة لواقع ومعبرة عنه وليس عبارة فقط عن تراكيب وأنساق‬
‫لغوية‪.‬‬

‫() موريس أبو ناضر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة اللسن‪ :‬ص ‪ ،26‬ملة الفكر العرب العاصر العدد ‪ ،18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪ .‬ممد فهمي زيدان‪ .‬ف فلسفة اللغة‪ ،‬ص ‪ 125‬إل ‪.128‬‬ ‫‪2‬‬

‫() إن إسهام "كارنب" ف مال السيميولوجيا الديثة قد عد عم ًل ف غاية الهية‪ ،‬خاصة وأن سعي هذا العال الفيلسوف كان يتجه إل بناء لغة مثالية‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫(علم الشارة ـ بيار جيو ـ الوعي) القدمة مازن الوعر‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫وبالرغم مما وجهت لنظرية الوضعية المنطقية من انتقادات‪ ،‬إل أنها قدمت للدرس الدللي الحديث طرقا أخرى‬
‫للبحث عن المعنى تتسم بالعمق في التحليل‪ ،‬وإن كان أصحاب هذه النظرية قد وقعوا تحت سلطة النظرة الحسية‬
‫للشياء وهو ما جعلهم يخلطون بين البحث في المعنى وبين صدق الجملة‪ .‬وذلك ما سوف يعرض نظريتهم إلى مآخذ‬
‫شديدة أدت إلى تعديل في مواقفهم بحيث عزفوا عن القول بمبدأ التحقيق التجريبي بالمعنى القوي‪ ،‬إلى القول بمبدأ‬
‫التحقيق التجريبي بالمعنى الضعيف‪ ،‬ويعني ذلك نسبية تحقيق معنى الجمل والكلمات والقضايا واستحالة تحقيقها تحقيقا‬
‫مطلقا تاما بينما ظل موقف القائلين بالتساق في الحكم بصدق ومعنى الجملة ثابتا‪ ،‬بالرغم من الملحظات الكثيرة‬
‫التي وجهت إليهم وهو ما جعل موقفهم يضعف مما أدى إلى إجراء تعديل في المصطلح "تحقيق" الذي استبدل‬
‫بمصطلح تدعيم (‪ )confrmation‬وسوف ينشأ اتجاه آخر على يد "ألفريد جولزير (‪ ")Ayer‬و(فردريك وايزمان) (‪F.‬‬
‫‪..)waisman‬‬
‫يذهب "أير" إلى أنه ل يكون للجملة معنى إل إذا أمكن تدعيمها إلى درجة كبيرة بإشارتها إلى واقع يمكن‬
‫ملحظته‪ .‬ول يعد هذا تحديدا تاما لمعنى الجملة وإنما مجرد تدعيم لها‪ ،‬بحيث يكون لها احتمال كبير في المعنى‬
‫المحدد بواسطة التدعيم‪ ،‬خاصة وأن الجملة مسندة إلى ضمير المتكلم وبالتالي فهي تعبر عن إحساسات وإدراكات‬
‫ذاتية وقد وصل "أير" إلى قناعة علمية تتلخص في المتناع عن اعتماد معيار عام لمعنى الجملة‪ ،‬وربط ذلك المعنى‬
‫بمجموعة الخبرات التي تحققت بفعل الملحظة المباشرة عن طريق التحقيق التجريبي الذي يصدقه الواقع وحتى في‬
‫(‪)1‬‬
‫هذه الحالة تصدق الجملة صدقا احتماليا ل صدقا تاما‪.‬‬
‫أما (وايزمان) فقد سار على نهج "أير" ولكن بأسلوب مختلف وذلك بدعوته إلى أن البحث عن مكافئ تام يشرح‬
‫معنى الجملة سيبقى مفتوحا لنه ناقص‪ ،‬ذلك أن الجملة المطلوب رصد معناها تحوي على حالت جزئية يصعب‬
‫حصرها وتحديدها‪ ،‬كما أن التركيب المعد لقامة تحقيق القضية لن يكون هو التركيب الخير المناسب‪ ،‬وإنما قد‬
‫نحصل على تركيب جديد يشرح أو يحلل أو يضيف إلى معنى الجملة الصلية‪ .‬معان جديدة وبالرغم من الجهود‬
‫المضنية في البحث عن تصور ثابت للمعنى بقي البحث بين دور وآخر يفاجأ‪ ،‬بمسائل جديدة مرتبطة بمسألة "المعنى"‪،‬‬
‫فيخوض من أجل تفسيرها وتحليلها ودراسات مستفيضة‪ ،‬فالقول باعتماد معيار الترادف لتحديد معنى القضية أدى‬
‫إلى البحث حول‪ ،‬ماهية الترادف‪ ،‬وهل الترادف خال من المعنى؟‪ ..‬بالطبع ل يقدم الترادف تفسيرا لمعنى الجملة‬
‫حتى يكون للجملة المرادفة معنى كذلك‪ ،‬وهو يحتاج إلى إيجاد مكافئ له في المعنى‪ ،‬وهكذا يقع الدرس في هذا‬
‫المجال‪ ،‬في حلقة مفرغة‪..‬‬

‫(‪)2‬‬
‫‪ 8‬ـ النظرية البراجماتية‪:‬‬
‫قريبة هي نظرية (تشارلز بيرس ـ (‪ ))CH. Pierce‬من نظرية أصحاب الوضعية المنطقية وذلك في اعتمادها‬
‫على الملحظة الحسية المباشرة‪ ،‬وتحقق المعنى في الواقع التجريبي‪ ،‬وقد أشار (أير) إلى نظرية (بيرس) لنها تعد‬
‫تدعيما لرأيه وموقفه‪ ،‬يرى (بيرس) أن تصورنا لشيء ما يتألف من تصورنا لثاره العملية فالطابع الوظيفي للشيء‬
‫ل ل يعني مرور موجة غير مرئية في مادة ما وإنما يعني مجموعة‬ ‫هو الذي يحدد تصورنا حوله فالتيار الكهربي مث ً‬

‫() إن الشارة إل السس الفلسفية الت أرسيت عليها قواعد النظرية النطقية ف العن‪ ،‬تقدم الصورة القيقية لوظيفة اللغة الت ل تقتصر على اليصال‬ ‫‪1‬‬

‫والبلغ فحسب أو تسمية الواقع الفيزيائي للنسان وإنا ف فهم هذا الواقع وخلقه باستمرار‪ ،‬وتستأثر هذه النظرية بالهتمام التزايد لكونا تتناول‬
‫اللغة ف شكلها السياقي التعدد‪...‬‬
‫() د‪.‬ممود فهمي زيدان ‪ ،‬ف فلسفة اللغة‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫من الوقائع مثل‪ :‬إمكان شحن مولد كهربي أو أن يدق جرس أو أن تدور آلة‪ ،‬وإذن فمعنى لفظ "كهرباء" هو ما تفعله‪،‬‬
‫ويبقى همّ نظرية "بيرس" هو إثبات المعادل المادي للشيء‪ ،‬حتى يتحقق معناه‪ ،‬فمع أن الكهرباء غير مرئية فل يمكن‬
‫أن ننفي وجودها وإنما ننظر إلى آثارها العملية ولذلك رأى "بيرس" أن التصورات التي ل تنتج عنها آثار‪ ،‬ل معنى‬
‫لها‪ ،‬وقد أوضحنا في نظرية (بلومفيلد) السلوكية(‪ ،)1‬التي تقترب منها نظرية (بيرس)‪ ،‬من حيث المبدأ‪ ،‬كيف عجزت‬
‫معاييرها عن تقديم تفسير كاف لجمل وعبارات ل يبدي أمامها المتلقي أية استجابة‪ ،‬هل يعني ذلك حسب (بيرس) أنها‬
‫ل تشتمل على معنى‪ ،‬ومع ذلك يبقى (بيرس) أهم فيلسوف مؤسس لعلم الشارات لم تقدر جهوده حق قدرها إل بعد‬
‫موته سنة ‪ ،1914‬حيث استثمر العالمان رومان جاكسون وشارل موريس جهوده في علم الشارات فحاول تطبيق‬
‫نظرياته على علم اللغة العام‪ ،‬ول يمكن أن نغفل تلك التصانيف التي وضعها (بيرس) حول الشارات محددا في ذلك‬
‫نظاما سيميائيا يضم العلمات اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬وما يلفت النتباه في حديث (بيرس) عن الشارات هو ربطه‬
‫للشارة مع مدلولها من جهة والمرسل إليه من جهة ثانية إذ قد تكون الشارة رمزا (‪ )symbole‬أو إيقونة (‪)Icone‬‬
‫أو قرينة (‪ ،)Indice‬وأثناء عملية التواصل قد تستعمل الشارة نفسها تارة رمزا وتارة أخرى أيقونة أو قرينة‪ ،‬يتوقف‬
‫استعمال الشارة للتواصل والبلغ على معرفة مسبقة بدللتها الصطلحية فرمز "الدخان" على سبيل المثال هو‬
‫إشارة طبيعية أو قرينة قد تدل على النار أو علمة تدل على الخطر أو رمز التصال كما عند بعض قبائل الهنود‬
‫الحمر"(‪..)2‬‬

‫(‪)3‬‬
‫‪ 9‬ـ نظرية ‪":‬مور ـ كواين" ‪:‬‬
‫يرى جورج مور (‪ )G.Moore‬أن تصور معنى كلمة أو جملة يمر عبر إجراءات تحليل صحيح يقوم على‬
‫خطوتين‪ :‬التقسيم والتمييز وعلى معايير ثلث هي‪ :‬التكافؤ المنطقي والترجمة والترادف‪ .‬ويقصد (مور) بالتقسيم‪،‬‬
‫تحليل تصور معنى ما إلى مؤلفاته ويعني ذلك أن تصور المعنى مركب من جملة تصوراته الجزئية‪ ،‬وشبيه تقسيم‬
‫(مور) بتصنيفات أصحاب النظرية التحليلية الذين قسموا معنى الكلمات إلى ما يؤلفها‪ ،‬من سمات دللية(‪ .)4‬أما‬
‫التمييز فله ارتباط عند (جورج مور) باستخدام الكلمة في السياق اللغوي وذلك بإحصاء جملة الستخدامات الممكنة‬
‫للكلمة الحاملة لتصور المعنى موضوع البحث‪ ،‬ومحاولة جمع الخصائص المشتركة التي تجمعها وتميزها عن المعنى‬
‫الذي نحن بصدد البحث عنه‪ ،‬وإذا تحقق ذلك تميز تصور المعنى عما عداه من التصورات الخرى‪..‬‬
‫أما معايير التحليل الصحيح فهي تهدف إلى إيجاد معادل دللي للمعنى‪ ،‬فمعيار التكافؤ المنطقي عند "مور" يعني‬
‫تحليل مقارب لتصور المعنى (موضوع البحث) إلى جملة تصورات أخرى تكافئه وتساويه وذلك من أجل التحقق من‬
‫المعنى‪..‬‬
‫أما معيار الترجمة فليس يعني نقل كلمة من لغة إلى أخرى وإنما يعني ترجمة التصور إلى تصورات تصل معه‬
‫إلى حد التكافؤ وينتج عن ذلك تساو في المعنى بين التحليل وموضوعه‪ ،‬وهو ما يسمى بـ"الترادف"‪ .‬فالترجمة تفضي‬
‫إلى التكافؤ الذي يفضي بدوره إلى الترادف‪.‬‬
‫() انظر‪" :‬النظرية السلوكية" ص ‪ ،63‬للعال المريكي بلومفيلد‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر‪ :‬ذلك ف مقال "الشارة‪ ،‬الذور الفلسفية والنظرية اللسانية"‪ ،‬بسام بركة‪ ،‬ص ‪ ،51 -50‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العدد رقم ‪،31 -30‬‬ ‫‪2‬‬

‫سنة ‪.1984‬‬
‫() د‪.‬ممود فهمي زيدان‪ ،‬ف فلسفة اللغة‪ :‬ص ‪.105 -103 -100 -99‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر "النظرية التحليلية"‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫وبالرغم مما سجلته نظرية (مور) من تقدم في البحث حول المعنى إل أنها تعرضت لمآخذ وانتقادات كثيرة‬
‫كانت وراء نشوء نظريات أخرى قدمت البديل لنظرية (مور) ومن تلك النظريات نظرية (كواين (‪W.V.Quine‬‬
‫‪ ))1908‬الذي تتلمذ على (كارنب (‪ ،))Carnap‬بدأ (كواين) من حيث انتهى عنده (مور) الذي قال‪ :‬أن تصور معنى‬
‫الكلمة هو التيان بتصورات أخرى تكافئه منطقيا ويسمى المعنى الناتج ترادفا‪ ،‬ولكنه يجد نفسه قد وقع في حلقة‬
‫مفرغة أشرنا إليها من قبل عند أصحاب نظرية الوضعية المنطقية وهو أن المعنى يعتمد على التيان بترادف‪ ،‬لكن‬
‫الترادف غير ممكن إل إذا كان المعنى قد استقر في ذهننا من قبل‪ ،‬فخاض كواين بحثه الول في مسألة الترادف‬
‫كأساس للبحث عن المعنى‪ ،‬فاستعان في بادئ المر بالنظرية السلوكية التي تنبني على مبدأي المنبه والستجابة؛ أي‬
‫أن معنى جملة ما بالنسبة لشخص ما تحدده مجموعة المنبهات التي تفضي إلى تقبل الشخص للجملة‪ ،‬ويعني (كواين)‪،‬‬
‫بذلك أن القول بأن جملة ما أو كلمات تعتبر مترادفة إذ حققت استجابة واحدة‪ ،‬ولكن هذه النظرية ل تشتمل كل الجمل‬
‫أو الكلمات‪ ،‬كما أوضحنا ذلك في النظرية البراجماتية (لبيرس) ذلك أن أساس تصور المعنى ـ عند هذه النظرية ـ‬
‫نفسي‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬يختلف من شخص لخر‪ ،‬فعدّل (كواين) من نظريته واعتمد على معيار (الصدق)‪ .‬نقول عن جملتين‬
‫أو كلمتين أنهما مترادفتان إذا كانتا لهما قيمة صدق واحدة‪ ،‬وكانتا تشترك في المصادقات‪ .‬و(كواين) يربط تصوره‬
‫حول المعنى بتحققه في الواقع‪ ،‬ويرتد(كواين) إلى ما آلت إليه نظرية المعنى التجريبي عند (شليك) ويقر بصعوبة‬
‫البحث عن المعنى باعتماد معيار الترادف‪..‬‬
‫(‪)1‬‬
‫(‪.)- )Frege‬‬ ‫ـ دللة العوالم الممكنة عند (فريجة‬
‫لم يرتق (فريجة) بأفكاره حول تصور المعنى إلى مستوى النظرية‪ ،‬وإنما لهمية ما طرحه في هذا المجال‬
‫ارتأينا الشارة إليه‪.‬‬
‫ما يميز فكر (فريجة) في بحثه حول المعنى هو افتراضه لوجود عالم دللي مستقل‪ .‬كيف وصل (فريجة) إلى‬
‫ذلك؟‪ ..‬لقد تبلورت فكرته هذه منذ أن أثبت التمييز بين معنى اسم العلم وإشارته‪ ،‬بحيث فرق بين السم ومسماه من‬
‫جهة ودللته من جهة ثانية‪ ،‬وخلص إلى أن المسمى ليس هو المعنى‪ ،‬وهو ما استقر لدى علماء اللسنية والدللة‬
‫المحدثين فيما يخص السماء كلها الدالة على معنى أو على ذات‪ ،‬ارتقى (فريجة) إلى التمييز بين الصورة الحسية‬
‫التي تنشأ عن إدراك ضمني سابق لشيء ما أوتوهم هذا الدراك‪ ،‬وهذه الصورة تختلط بالمشاعر والنطباعات الذاتية‪،‬‬
‫ولذلك يختلف الدراك الحسي من شخص لخر فكانت عندئ ٍذ الصورة الحسية ذاتية‪ ،‬أما المعنى فله موضوعيته‬
‫(‪)2‬‬
‫واستقلله ومن هنا تأتي فكرة (فريجة) من افتراض عالم المعاني‬
‫بحيث يكون السعي لكتشافه ل لخلقه‪ ،‬وهو ما طرحه العالم الفرنسي (غريماس) في موضوعه "البنية‬
‫الدللية"(‪ ،)3‬وقد ميز (فريجة) في العالم الدللي ثلثة عوالم هي‪:‬‬
‫العالم المادي (عالم الشياء) والعالم الذاتي (عالم التصورات والفكار)‪ ،‬وعالم المعاني‪ .‬إل أن افتراض (فريجة)‬
‫بوجود دللة العوالم الممكنة (‪ )4( )possible world semantics‬قد قوبل بالنتقاد وذلك لستحالة الحديث عن عالم‬
‫غامض ل نعرف كيف نكتشفه‪ .‬وقد كان (فريجة) نفسه قد أعلن أن المعاني ليست في حاجة إلى البحث عن معيار‬

‫() د‪.‬ممود فهمي زيدان‪ ،‬ف فلسفة اللغة‪ :‬الصفحة ‪.117 -116 -115‬‬ ‫‪1‬‬

‫() أخذت السيميولوجيا الديثة أبعادها الفلسفية على يد الفيلسوف (فرية) خاصة‪ ،‬انظر علم الشارة‪ ،‬السيميولوجيا‪ ،‬بيار جيو‪ ،‬ص ‪.15‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر مقالة "البنية الدللية" ف ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ ،18/19‬سنة ‪ ،1982‬ص ‪.97‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬عبد القادر الفاسي الفهري‪ ،‬انظر اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪..351‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫بفضله نستطيع تحديد معنى كلمة أو جملة ما‪ ،‬ولكن يجب أن ننطلق من مبدأ أن فكرة معنى كلمة هي فكرة معروفة‬
‫لدى كل من يتكلم اللغة‪ ،‬وبالتالي فهي متروكة لعتبارات أخرى تتضح بفعل الستخدام لعناصر اللغة والتعامل في‬
‫مجال البلغ والتواصل‪.‬‬
‫وجملة القول‪ ،‬أن البحث عن ماله معنى في اللغة وما ل معنى له‪ ،‬قد أخذ من فكر العلماء المحدثين كثيرا وما‬
‫استقر لديهم هو صعوبة المسلك نحو تحديد معنى الجملة‪ ،‬تحديدا تاما‪ ،‬واستحالة إقامة معيار صارم ثابت يمكن‬
‫بواسطته رصد دللة الجملة‪ ،‬وما يمكن تسجيله‪:‬‬
‫أ ـ إن الب حث في دللة الج مل أو القضا يا‪ ،‬ب حث يت سم بالخطورة وذلك لطبي عة الل غة ال تي تنزع ن حو التطور‬
‫والتجدد وترفض أبدا منطق "المعيارية"‪..‬‬
‫ب ـ إن ما توصل إليه العلماء في مجال بحثهم عن المعنى‪ ،‬يفتقر إلى طابع الشمولية والعموم ولذلك وجدت‬
‫ثغرات في نظرياتهم التي ضعفت على إثرها وزال تأثيرها‪..‬‬
‫ج ـ إن اعتماد معيار التحقيق أو مطابقة الواقع أو معيار التّساق أو معيار التدعيم كما نادى بذلك العلماء ـ‬
‫الذين استعرضنا أفكارهم ـ يربط اللغة بالتحقيق المادي للدللة‪ ،‬والملحظة المباشرة للمعنى وهو ما فتح‬
‫المجال لعتماد معيار "الصدق والكذب"‪ ،‬بالنسبة للقضايا أو الجمل‪..‬‬
‫د ـ إن النزوع نحو هدف إثبات معنى محدد للكلمة أو الجملة‪ ،‬كان دأب علماء اللغة والفلسفة والمنطق‪ ،‬آخذين‬
‫في سبيل ذلك‪ ،‬بمستويين اثنين هما‪ :‬مستوى التركيب ومستوى المضمون وهما معياران أساسيان ولكنهما ل‬
‫يكفيان لتحديد شامل كامل لدللة الجملة أو الكلمة‪ ،‬وإنما وجب تظافر عدة أنظمة تأخذ في اعتبارها عالم‬
‫المتكلم وعالم المتلقي وطبيعة الخطاب وعناصره‪ ،‬والمقام الذي يجمع ذلك كله…‬

‫‪‬‬

‫‪- 72 -‬‬
- 73 -
‫الباب الثاني ‪:‬‬

‫الدللـــة عند المــدي‬

‫الفصل الول‪ :‬جهود العرب القدامى في الدراسات الدللية‪.‬‬


‫الفصل الثاني‪ :‬العلمة اللسانية عند المدي‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الخطاب البلغي عند المدي‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬الحقيقة والمجاز عند المدي‪.‬‬

‫‪- 74 -‬‬
- 75 -
‫الفصل الول‪:‬‬
‫جهود العرب القدامى في الدراسات الدللية‬
‫الشافعي ـ الجاحظ ـ ابن جني ـ ابن سينا ـ الجرجاني‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫مما يكاد يجمع حوله جل علماء اللغة والدب المحدثين أنه ل يمكن عزل النص عن سياقه الحيوي الذي نشأ في‬
‫أجوائه وتأثر بمناخه المعرفي‪ ،‬بل لولوج فضاء النص العام وتفكيك بنيتة تفكيكا يبرز الصول التي تتحكم في نتاج‬
‫العصر المعرفي والضافات التي جاء النص بها وأبعادها الفلسفية‪ ،‬وجب مراعاة الروافد المعرفية التي أفاد النص‬
‫منها أو اتخذ موقفا إزاءها يقول مطاع الصفدي‪" :‬ل يمكن تأويل نص إل باسترجاع السياق اللغوي والبيئي‬
‫والنثربولوجي العام الذي نما وترعرع النص فيه"(‪ ،)1‬ثم إن مفهوم التراث المعرفي ل ينحصر زمانيا في الماضي‪،‬‬
‫وإنما المفهوم الحديث الذي بلوره غادامير (‪ )Hans – Gorg Gadamer‬هو امتزاج التراث مع ذاتية الباحث عنه‬
‫والملتمس لسس بنائه‪ ،‬وهذا التراث الحاصل كل مشكل من جدلية الحاضر مع الماضي‪ ،‬فل وجود لتراث ساكن لنه‬
‫ل جدوى منه وإنما الفهم المعاصر المتوافق وكينونتنا الراهنة هو الذي يعطي للتراث أبعاده وذلك بما يتحدد على‬
‫أساسه من رواسب ثقافية محمولة في وعاء لغوي‪ ،‬ومعنى ذلك أن مساءلتنا للتراث العربي تقوم على أساس من‬
‫الحوار العادل إذ يتحول التراث إلى ذات محاورة تمتلك رواسبها الثقافية ذات أبعاد معرفية وفلسفية‪ ،‬وتقوم ذاتنا‬
‫المحملة بمعارف مسبقة تشتمل كل خصائص الوجود الثقافي العلمي الراهن وبذلك ينتفي أي تسلط من أي طرف‪،‬‬
‫وتتغير نظرتنا إلى اللغة الحاملة للفكر التراثي عن كونها كومة رموز خالية من أي عمق دللي ذلك‪" :‬إن إرجاع‬
‫النص إلى مجرد كومة رموز لعمق دللي وراءها هو منهج مادي ساذج‪ ،‬يريد أن يناقض المنهج التجريدي الساذج‬
‫( )‬
‫كذلك الذي يجرد عالم الدللت بمعزل عن النص وسياقه الحيوي الذي قيل أو خط ضمن إطاره ‪ ، 2‬وفي هذا الطار‬
‫النظري العام تأتي ضرورة تحديد المناخ المعرفي الذي أنتج فيه المدي كتابه "الحكام في أصول الحكام"‪ ،‬بما اشتمل‬
‫عليه من مفاهيم دللية ولسانية تستند ـ بالطبع ـ إلى منهج يملك رؤية معينة في التعامل مع النصوص اللغوية‬
‫وتأويل دللتها بما يتوافق والوعي بعمق الحدث اللغوي مكتوبا أو منطوقا أو مسموعا‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن المدي‬
‫عاش في عصر الملخصات للنتاج التراثي المتقدم الذي تأثر بحركة النقل في القرنين الثاني والثالث الهجريين واللذين‬
‫شهدا ترجمة لعلوم وآداب اليونان والفرس وغيرهما من القوام‪ ،‬وظهر جليا أثر الفلسفة اليونانية عامة والمنطق‬

‫() استراتيجية التسمية‪ ،‬التأويل وسؤال التراث ـ ملة الفكر العرب العاصر ص ‪ 4‬ـ عدد ‪30/31‬ـ ‪.1984‬‬ ‫‪1‬‬

‫() مطاع الصفدي‪ ،‬الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.5 -4‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫ل عن الفلسفة المسلمين الذين اتخذوا‬ ‫الرسطوطاليسي خاصة في مؤلفات علماء الصول من المتكلمين(‪ .)1‬فض ً‬
‫مواقف متباينة من المنطق اليوناني‪ ،‬فحرصا منا لمقاربة المنهج المعرفي الذي اعتمده المدي في تقديم قراءاته‬
‫التأويلية لبنية الخطاب اللغوي في القرآن الكريم‪ ،‬عجنا نسائل مجموعة من العلماء الذين افتخر بهم عصرهم‪ ،‬وذلك‬
‫بما قدموه من عطاءات أسهمت بشكل بارز وواضح في بلورة العلوم النسانية في شتى مجالتها في العصر الحديث‪،‬‬
‫وقد اعتمدنا في سبيل ذلك التدرج الزمني بدءا بالقرن الثاني الهجري وانتها ًء إلى القرن الذي سبق المدي‪ ،‬وحددنا‬
‫مجالت معرفية تتباين من قرن لخر‪ ،‬ففي مجال علم أصول الفقه اخترنا الشافعي ـ رضي ال عنه ـ لكونه أول‬
‫من سن قواعد عامة لستنباط الحكام والدللت من القرآن الكريم‪ ،‬معتمدا أساسا على القياس والفهم العميق لمعاني‬
‫اللغة العربية‪ ،‬وقد كان اعتمادنا لبراز إسهامات الشافعي في مجال الدللة على كتابه "الرسالة" خاصة‪ ،‬وملخصه‬
‫كتاب‪" :‬أحكام القرآن" وبما أن البلغة وفن النظم لها صلة أساسية بعلقة اللفظ بالمعنى والتركيب بالدللة السياقية‪،‬‬
‫أبرزنا إسهامات علماء البلغة ملخصة في كتابي الجاحظ "البيان والتبيين"‪ ،‬خاصة وكتاب "الحيوان" إل أن القرن‬
‫الخامس الهجري قد شهد بروز عالم فذ له حس لغوي نافذ في مجال النظم وهو عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلئل‬
‫العجاز"‪ ،‬ولم نكتف بالجاحظ كمسهم في إرساء نظرية بلغية ذات أهمية بالغة لكون عبد القاهر قد تخطى المفاهيم‬
‫الولية التي كانت معروفة بها البلغة العربية إلى مفاهيم جديدة ل زالت أحكامها نافذة إلى يومنا هذا رغم تقادم‬
‫الزمان وبعد المسافة بيننا وبين صاحبها ـ الجرجاني ـ… وقبل الجرجاني توقفنا عند صاحب كتاب "الخصائص"‬
‫لنجليَ فيه بعض الحكام اللغوية التي أضحت سننا مطردة في فن النشاء والتعبير اللغويين‪ ،‬ول تخفى على أي مطلع‬
‫على التراث اللغوي العربي مكانة ابن جني في التأسيس لبنية الخطاب اللغوي‪ ،‬بما أرساه من نظريات في اللغة انبنت‬
‫بطول المعاينة للياتها في التشكيل الحرفي واللفظي والسياقي‪ ،‬تنم عن امتلك حقيقي لدوات المساءلة اللغوية لسنن‬
‫العرب في كلمها‪ ،‬وآخر ما ختمنا به رسم الجواء المعرفية التي ول شك أفاد منها المدي ـ هو الشيخ الرئيس‬
‫ابن سينا فرصدنا عطاءاته التي تخص الدللة في كتبه‪" :‬منطق المشرقين"‪ ،‬وكتابه "العبارة"‪ ،‬و"الشفاء" ثم كتابه‬
‫"الشارات والتنبيهات"‪ ..‬وقد حاولنا في كل ذلك أن نقدم مجمل السهامات في مجال الدرس اللغوي عامة والدللي‬
‫على وجه الخصوص التي يكون علي بن محمد المدي قد أفاد منها إفادة تدل على النضج المنهجي الذي وسم أبحاثه‬
‫في كتابه الحكام‪ ،‬وقد اكتفينا عند بعض المتقدمين ـ ممن وقع عليهم اختيارنا كنماذج لقرن معرفي معين ـ ببعض‬
‫كتبهم عن البعض الخر وذلك خاضع للبرنامج الذي سطرناه حيث ل ينبغي أن نخوض في مباحث الدللة عند عالم‬
‫من هؤلء المتقدمين خوضا شاملً وعميقا وكأنه موضوع البحث الذي عكفنا فيه على تجلية جهود المدي اللسانية‬
‫والدللية‪ ،‬واضعين مقاربة علمية نحاول من خللها ممارسة فعل الحفر والبناء في عطاءات المدي اللغوية بناء ل‬
‫يسلب التراث اللغوي خصائصه وسماته وأبعاده المعرفية‪ ،‬كما ل يقدم تقديما مشوها ومزيفا نتيجة لتلك الدوات‬
‫ل معرفيا لغويا نراعي فيه شروط المثاقفة التي تتنافى وشروط المشاكلة‪،‬‬ ‫النظرية الحديثة التي عقدنا من خللها جد ً‬
‫فيغدو كتاب المدي مشروعا ثقافيا متجدد الفعالية يطلب قراءة لغوية تتماشى وسنن الكلم والكتابة آنذاك وبذلك نكون‬
‫قد وصلنا بين حلقات المعرفة اللغوية‪ ،‬وإن لم نعرض لكل فعاليات التراث اللغوي قبل عصر المدي‪ ،‬ولكن حسبنا أن‬
‫نثير مسائل تخص حقل الدللة المعرفي عند بعض العلماء‪ ،‬الذين اعتبروا كمقدمات مهمة لم تتضح معالم نتائجها إل‬
‫في القرون التالية لها‪ ،‬وخاصة مع المدي الذي تعد أبحاثه وأفكاره حلقة مهمة ل يمكن إسقاطها في عطاءات القرنين‬
‫السادس والسابع الهجريين…‬

‫() سنعرض لذه الفكرة ف مبحثنا حول الشافعي ‪ ،‬وطرق الستدلل عنده‪ ،‬والمدي ف كتابه "الحكام ف أصول الحكام"‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫‪ 1‬ـ الجهود الدللية عند الشافعي (‪ 150‬هـ ‪204‬هـ)‪:‬‬
‫من خلل كتابه "الرسالة"‪.‬‬
‫يعد المام الشافعي أول من وضع البواب الولى لعلم أصول الفقه‪ ،‬بحيث بيّن العام من اللفاظ والخاص‪ ،‬كما‬
‫أشار إلى طرق تخصيص الدللة وتعميمها باعتماد القرائن اللفظية والعقلية‪ ،‬وكيفية استنباط الحكام بالعتماد على‬
‫التحليل المستند على النقل‪ ،‬يقول الشافعي‪ :‬و"رسول ال عربي اللسان والدار‪ ،‬فقد يقول القول عاما يريد به العام‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وعاما يريد به الخاص"‪.‬‬
‫وأقدم ما وصلنا مكتوبا في علم أصول الفقه هو كتاب "الرسالة" للشافعي يُجمع على ذلك العلماء المحدثون‬
‫والقدمون على السواء‪ ،‬وكان الكتاب محاولة لوضع قواعد لفهم النصوص القرآنية وتحديد الدللة المقصودة وفق‬
‫منهج أظهر مافيه هو القياس الفقهي‪ .‬يقول الدكتور علي سامي النشار‪":‬يجمع مؤرخو "علم الصول" على أن أول‬
‫محاولة لوضع مباحث الصول كعلم نجدها عند الشافعي‪ ،‬وأنه لم يكن قبل هذا العهد ثمة محاولت لوضع منهج‬
‫أصولي عام يحدد للفقيه الطرائق التي يجب أن يسلكها في استنباط الحكام" ولم ينفرد المحدثون من باحثي المسلمين‬
‫أو من المستشرقين بهذا القول وحدهم‪ .‬بل إن علماء المسلمين القدمين شاركوا فيه بحيث نرى إماما عظيما كابن‬
‫حنبل (‪ 214‬هـ ـ ‪285‬هـ)‪ ،‬يقول‪" :‬لم نكن نعرف العموم والخصوص حتى ورد الشافعي"‪ ،‬كما يقول الجويني‬
‫(شارح ممتاز من شراح الرسالة)‪" :‬أنه لم يسبق الشافعي أحد في تصنيف الصول ومعرفتها"‪ ،‬كما يقول ابن رشد‪:‬‬
‫"النظر في القياس الفقهي وأنواعه هو شيء استنبط بعد الصدر الول(‪ )2‬تلك المصطلحات التي أعطاها الشافعي أبعاده‬
‫الدللية‪ ،‬وأضحت معروفة الحدود في علم أصول الفقه إلى يومنا هذا‪ ،‬ل يمكن أن نعطيها قدرها من البداع العلمي‪،‬‬
‫إل إذا أخذناها في عصرنا الول الذي ظهرت فيه‪ ،‬ذلك أنه ليس من اليسير أن يتوصل عالم إلى حصر أدوات علمه‬
‫النظرية في بداية تشكل بنية العقل العربي‪ ،‬وخاصة وأن فقه القرآن وتأويل معانيه الراجحة‪ ،‬كانت آنذاك تعتمد على‬
‫النقل والثر لقرب عهدها بعصر الرسول ـ عليه الصلة والسلم ـ وقد طرح هذا النضج المبكر لدى الشافعي‬
‫بمعرفته طرق تحديد الدللت عدة أسئلة تحاول إيجاد التحليل الكافي لذلك النضج المعرفي المبكر‪ ،‬وتقف على أصول‬
‫منهج الشافعي وروافده المعرفية‪ ،‬فمن المحققين من رد تلك القواعد الفقهية التي استنبطها الشافعي إلى تلك‬
‫الرهاصات الولية التي تمظهرت في تعامل جمهور الصحابة العلماء مع المسائل المستجدة بعد وفاة النبي ـ صلى‬
‫ال عليه وسلم ـ‪ ،‬يقول ابن خلدون‪":‬ثم نظرنا في طرق استدلل الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقايسون‬
‫الشباه منها بالشباه‪ ،‬ويناظرون المثال بالمثال بإجماع منهم (…)‪ ،‬فإن كثيرا من الواقعات بعده ـ صلوات ال‬
‫عليه وسلمه ـ لم تندرج في النصوص الثابتة فقايسوه بما ثبت وألحقوها بما نص عليه‪ ،‬بشروط في ذلك اللحاق‪،‬‬
‫تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين (…) واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي "أصول الدلة"(‪ )3‬ويكاد‬
‫يجمع المؤرخون أن مناهج العلماء المسلمين مدينة بشكل بارز إلى منهج الشافعين بل إن من تل الشافعي ما وسعه‬
‫إل أن يقتفي أثر منهجه ويسير على سنن القواعد الصولية‪ ،‬التي أرساها والتي يكون قد أخذها‪ ،‬أو استوحاها ممن‬
‫سبقه من العلماء الحناف ومن جمهور الصحابة الفقهاء‪ ،‬يقول الدكتور سامي النشار‪ …":‬وفي الحقيقة إن تاريخ‬
‫وضع المنهج الصولي يذهب إلى حد أبعد من عصر الشافعي بكثير‪ ،‬بحيث ل يجب أن نلتمسه فقط عند العلماء‬
‫الحناف في السنوات التي تسبق عصر الشافعي‪ ،‬بل في عصر الصحابة أنفسهم ولدى الكثير من فقهائهم‪ ،‬وعن هؤلء‬
‫() الرسالة ـ ص ‪.213‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فصل القال فيما بي الكمة والشريعة من التصال ـ ص ‪.15‬‬ ‫‪2‬‬

‫() القدمة ـ ص ‪.551‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫الفقهاء أخذت معظم القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الحكام"(‪ )1‬ونشير في هذا المجال إلى تلك البحاث التي‬
‫أثارها المتكلمون معتمدين على المنهج العقلني في تحليل الحكام وتأويل النصوص‪ ،‬ولشك أن علماء الصول بدءا‬
‫من الشافعي قد أفادوا من طرق المتكلمين في استنباط الحكام ومقايسة الشباه وإلحاق المثال ببعضها لتشكيل القانون‬
‫المنطقي المطرد‪ ،‬وقد أخذ العلماء الحناف بالقياس العقلي حيث كانوا يلحقون الصول بالفروع على نقيض الشافعي‬
‫الذي سوف يطلع فيما بعد بمنهج يقيم فيه الفروع على الصول(‪ )2‬ويتجاوز القياس الحنفي إلى نظرية للمعرفة تعتمد‬
‫أساسا على النصوص المنقولة وعلى علقة اللفاظ بالمعاني يقول فخر الدين الرازي‪" :‬كان الناس قبل الشافعي‬
‫يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون‪ ،‬ولكن ماكان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلئل‬
‫الشريعة‪ ،‬وفي كيفية معارضتها وترجيحها‪ ،‬فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونا كليا يرجع في‬
‫(‪)3‬‬
‫معرفة مراتب أدلة الشرع إليه‪.‬‬
‫بينما يذهب بعض المؤرخين إلى إلحاق فكر الشافعي في استنباط الحكام وتحديد القواعد الصولية‪ ،‬بفكر‬
‫اليونان ويسوقون لذلك علل وأدلة ترجح ذلك‪ ،‬منها أن كتب اليونان في المنطق والفلسفة كانت قد نقلت إلى اللغة‬
‫ل على ذلك كان المام ـ كما يذكر هؤلء المؤرخون ـ على معرفة باللغة اليونانية‪ .‬كما‬ ‫العربية قبل الشافعي‪ ،‬فض ً‬
‫(‪)4‬‬
‫ذهب ابن القيم إلى أن الشافعي في قوله بالقياس الصولي يشارك أرسطو في قوله بالتمثيل ظنيا ‪ ،‬أي كل من‬
‫قياس الشافعي وتمثيل أرسطو ل يفضيان إلى اليقين‪ .‬غير أن هذه العلل والدلة وغيرها مما ذكره المتقدمون أو‬
‫المتأخرون من المؤرخين ل تثبت إثباتا قطعيا تأثر الشافعي بالمنطق الرسطي خاصة إذا علمنا أن الشافعي في طرق‬
‫الستدلل ل يعتمد على العقل إل لمما‪ ،‬بل إن اعتماده يكاد يقتصر كليا على النقل‪ ،‬ومقارنة النصوص ببعضها‪،‬‬
‫وإسناد بعضها ببعض في إثبات الدللة يقول مصطفى عبد الرازق وهو يصف منهج الشافعي في كتابه "الرسالة"‪:‬‬
‫ل ثم الخذ في التقسيم مع التمثيل والستشهاد لكل قسم‪ ،‬وقد يعرض‬ ‫"التجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتعاريف أو ً‬
‫الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها‪ ،‬وينتهي به التمحيص إلى تخيير ما يقتضيه منها ـ ومنها أسلوبه في‬
‫الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه‪ ،‬حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم وحسن التصرف‬
‫في الستدلل والنقض ومراعاة النظام المنطقي حوارا فلسفيا على رغم اعتماده على النقل أولً وبالذات واتصاله‬
‫بأمور شرعية خالصة"‪ )5(.‬وما هو ثابت لدى المحققين في حياة الشافعي العلمية‪ ،‬أنه كان يدعو إلى ضرورة اللمام‬
‫الشامل بفنون اللغة العربية‪ ،‬لن فهم النصوص ل يتأتى بغير ذلك‪ ،‬فأصحاب العربية أخلق بتأويل وفهم معاني القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬ينقل معروف الدواليبي إشادة الشافعي بأهل العربية فيقول‪" :‬أصحاب العربية جن النس يبصرون ما ل‬
‫يبصر غيرهم"(‪ ..)6‬ومصطلح "العربية" كان يطلق عصرئ ٍذ على علوم العربية كالنحو والبلغة‪ ،‬ويعني ذلك أن‬
‫الشافعي كان ذا اطلع واسع بعلم العربية‪ ،‬وطرق تأدية المعاني من غير لبس‪ ،‬وظاهر ذلك من المباحث اللسانية‬
‫والدللية التي أثارها في كتابه "الرسالة"‪ ،‬وملخصه كتاب‪":‬أحكام القرآن"‪ ،‬لقد عقد المام الشافعي بابا عن الختلف‬
‫بين الحاديث في رسالته مثبتا أن اتفاق العبارات ل يعني اتفاق المدلولت‪ .‬يقول الشافعي موضحا وكاشفا أسرار‬

‫() منهج البحث عند مفكري السلم ـ ص ‪.81‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق ـ ص ‪.82‬‬ ‫‪2‬‬

‫() مناقب الشافعي ـ ص ‪ 102 -98‬ـ نقله د‪ .‬سامي النشار ف كتابه منهج البحث عند مفكري السلم ـ ص ‪.83‬‬ ‫‪3‬‬

‫() مفتاح السعادة ـ ج ‪ 2‬ـ ص ‪.232‬‬ ‫‪4‬‬

‫() تهيد لتاريخ الفلسفة السلمية ـ ص ‪.245‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الدخل وإل علم أصول الفقه ـ ص ‪.76‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫بلغة الحديث الشريف‪" :‬ويسن بلفظ مخرجه عام جملة بتحريم شيء أو بتحليله ويسن في غيره خلف الجملة فيستدل‬
‫على أنه لم يرد بما حرم ما أحل ول بما أحل ما حرم"(‪ ..)1‬إن هذا الفهم العميق لمقاصد الكلم ينم عن امتلك الشافعي‬
‫لحس لغوي‪ ،‬مطّلع على سنن القول ودللته‪ ،‬ومراس طويل للفصيح من لسان العرب‪ ،‬بل إن رصف اللفاظ وحسن‬
‫وقوعها في سياق الجملة‪ ،‬مما يبين عن دللة اللفظ الذي كان مبهما في صيغته المعجمية‪ ،‬وهي إشارة إلى فضل‬
‫تسييق اللفظ من أجل تحديد دللته‪ ،‬وهو ما نادت به النظرية السياقية (‪ )Theorie Contextuelle‬حيث استقر لدى‬
‫أصحابها من علماء الدللة‪ ،‬أنْ ليس للفظ من دللة إل دللته السياقية‪ ،‬يقول الشافعي في إشارته إلى معنى اللفظ‬
‫السياقي عند العرب في كلمها‪" :‬وتبتدئ الشيء من كلمها يبين أول لفظها فيه عن آخره‪ ،‬وتبتدئ الشيء يبين آخر‬
‫لفظها منه عن أوله(‪ ،)2‬وتأكيدا لذلك يضع المام عنوانا لباب سماه‪":‬الصنف الذي يبين سياقه معناه"(‪ ..)3‬ويمكن أن‬
‫نلمس نظرية الشافعي المعرفية بعرض السبل التي يدرك بها النسان معنى السياق وقد حصرها المام في النصوص‬
‫الدينية وفي اللغة العربية وسنن العرب في كلمها فضلً عن الحس السليم في تمييز الخاص والعام والظاهر والخفي‬
‫الدللة ونظرية المعرفة تعني الطرق المنطقية التي توصلنا إلى إدراك ماهية المور المعقولة والمحسوسة وهي نظرية‬
‫أسقطت من تناولها البحث في ذات ال تعالى‪ ،‬وفي الفضاء والقدر (الجبر والختيار)‪ ،‬وفي الخلود (بعد الموت) كما‬
‫قال بذلك كبار الفلسفة(‪ ،)4‬ومن تمام المعرفة اللغوية التي ينص عليها الشافعي‪ ،‬هو العلم بمعاني اللغة واتساع لسانها‪،‬‬
‫وهي الشارة إلى وجود المجاز الذي عدّ عند أهل العربية القدامى من طرق توسيع المعنى‪ ،‬وكذلك ينبه الشافعي إل‬
‫أن الكلم قد يخرج عن ظاهره كما يخرج عن عمومه وطريق معرفة ذلك هي القرينة اللفظية‪ ،‬يقول موضحا ذلك‬
‫كله‪ ،‬ومحددا طرق المعرفة والستدلل‪" :‬فإنما خاطب ال بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها‪ ،‬وكان مما‬
‫تعرف من معانيها اتساع لسانها‪ ،‬وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر ويستغني بأول‬
‫هذا منه عن آخره‪ ،‬وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص‪ ،‬فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه وعاما‬
‫ظاهرا يراد به الخاص‪ ،‬وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهرة(‪ ،)5‬إن هذا التعيين الدقيق لمنافذ المعرفة‪،‬‬
‫وهذا التقسيم الواضح لصناف اللفظ والدللة‪ ،‬يؤكد أن الشافعي في الصدر الول كان ذا وعي لغوي كبير بمستويات‬
‫الكلم‪ ،‬وهو ما جعله حقيقة في طليعة العلماء الذين وضعوا منهجا بيّنا في استنباط الحكام‪ ،‬وحصر الدللت‬
‫المختلفة‪ ،‬بالنظر الدقيق لظاهر الخطاب اللغوي وباطنه‪ ،‬ثم إن المادة اللغوية التي كان الشافعي يرتكز عليها أساسا‬
‫لصدار السنن الدللية المطردة هو نصوص القرآن الكريم وما صح من الحديث الشريف‪ ،‬وهذا ما يعطي لتلك‬
‫الحكام مكانتها من الدقة وصيرورتها لن تكون شاملة لكلم العرب‪ ،‬وسننها في فن القول والكتابة‪ ،‬ويكفي أن نعرض‬
‫لعناوين بعض البواب التي بحثها الشافعي لنستشف عمق التقسيم لمستويات الكلم عنده‪ ،‬يقول‪":‬باب بيان ما أنزل من‬
‫الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص"‪" ،‬باب ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام‬
‫والخصوص"‪"،‬باب مانزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص(‪ ،)6‬وغيرها من البواب‪ ،‬إن أحاديث النبي ـ‬
‫صلى ال عليه وسلم ـ وهي أدنى مستوى من الفصاحة وحسن التأليف من القرآن الكريم تكتسي عند الشافعي مقاما‬
‫رفيعا وهي أقرب إلى كلم العرب الفصحاء‪ ،‬مستوى من القرآن الكريم الذي يبقى من أعلى مستويات الكلم على‬

‫() كتاب الرسالة ـ ص ‪.214‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪3‬‬

‫() بوث ومقارنات ف تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة ف السلم‪ ،‬ص ‪.107‬‬ ‫‪4‬‬

‫() كتاب "الرسالة"‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.58 -56 -53‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫الطلق‪ .‬وفي ذلك مايجيز سحب تلك القوانين التي خصها الشافعي أحاديث النبي على كلم العرب‪ .‬والقصد من ذلك‬
‫تبيين معالم المشروع اللساني الذي يهدف اللغويون إلى وضعه في العصر الحديث‪ ،‬بحيث تكتسب تلك القواعد‬
‫الصولية التي شملت نصوص القرآن والحديث الشريف طابع الشمولية لكل أقسام الكلم في اللغة العربية‪ ،‬وقد ربط‬
‫الشافعي تحليله لبنية الخطاب على أساس موقعه من المتلقي الذي يتخذ منه موقفا من محموله‪ ،‬وذلك ظاهر في أن‬
‫الخطاب يحمل تأليفا لمدلولته ليس غريبا عما اعتاد سماعه المتلقي الذي يقوم بعملية تفكيك لبنية الخطاب بعد حصر‬
‫مدلولته‪ ،‬والوقوف على مقاصد صاحب الخطاب‪ .‬ويقول الشافعي مبينا موقف المسلمين الفقهاء من الحديث النبوي‬
‫الذي التبست دللته فلم يعرف أظاهر عام هو أم باطن خاص‪ .…" :‬وهكذا غير هذا من حديث رسول ال ـ صلى‬
‫ال عليه وسلم ـ هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدللة عنه كما وصفت [بطرق تحديد الدللة لفظيا] أو بإجماع‬
‫المسلمين‪ :‬أنه على باطن دون ظاهر‪ ،‬وخاص دون عام‪ ،‬فيجعلونه بما جاءت عليه الدللة ويطيعونه في المرين‬
‫(‪)1‬‬
‫جميعا"‪.‬‬
‫كما كان للشافعي رؤية دلئلية للعلمة غير اللغوية إذ في معرض تفسيره للفظ "العلمات" الوارد في القرآن‬
‫الكريم‪ .‬استند في تحديد مدلولها على العقل‪ ،‬يقول ال تعالى‪" :‬وعلمات وبالنجم هم يهتدون"(‪ )2‬قال الشافعي‪" :‬فخلق ال‬
‫لهم (أي للمسلمين) علمات ونصب لهم المسجد الحرام‪ ،‬وأمرهم أن يتوجهوا إليه‪ .‬إنما توجههم إليه بالعلمات التي‬
‫خلق لهم‪ ،‬والعقول التي ركبها فيهم التي استدلوا بها على معرفة العلمات(‪ )3‬وأثار الشافعي مسألة الترادف في اللغة‬
‫وقد أثبته في معرض بحثه عن دللة لفظ "شطر" الوارد ذكره في قوله تعالى مخاطبا نبيه ـ عليه الصلة والسلم‬
‫ـ‪" :‬ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام"(‪ ،)4‬لقد أحصى الشافعي ألفاظا تناظر لفظ "شطر" في الدللة‬
‫منها‪ :‬وجهة ـ قصد ـ تلقاء‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وكلها بمعنى واحد وإن كانت بألفاظ مختلفة"(‪ )5‬وقد أُدرج موضوع "الترادف" ضمن مباحث الدللة في‬
‫العصر الحديث‪ ،‬لكونه له ارتباط بتأدية المعنى بأشكال لغوية مختلفة وهي مسألة أضحت مدار جدل كبير بين علماء‬
‫اللغة المحدثين أثبتها البعض وأنكرها البعض الخر‪ ،‬كما ناقشها القدمون وانقسموا إلى قسمين‪ :‬مثبت للترادف ومنكر‬
‫لوجوده في اللغة‪ ،‬وقد ألف هؤلء كتبا عديدة للتدليل على صحة زعمهم‪ ،‬نذكر من بينهم الرّماني صاحب كتاب‬
‫"اللفاظ المترادفة"‪ ،‬وكراع النمل صاحب كتاب "المنتخب" والفيروز آبادي الذي ألف كتابا أسماه "الروض المسلوف‬
‫فيما له اسمان إلى ألوف"‪ .‬أما المنكرون لوجود الترادف من القدمين فنذكر منهم‪ :‬ابن فارس في كتابه "الصاحبي"‬
‫وأبو هلل العسكري في كتابه "الفروق في اللغة"‪..‬‬
‫أما المحدثون فقد وسعوا من دائرة الجدل اللغوي حول مسألة الترادف‪ ،‬وساق كل فريق دلئل تثبت أو تنكر‬
‫وجود الترادف في اللغة النسانية كلها‪ ،‬فقال المثبتون أنه ل خلف في وجود الترادف بأقسامه‪( :‬المتقارب دلليا ـ‬
‫شبه الترادف ـ الترجمة ـ التفسير)(‪ )6‬وإنما الخلف في وجود الترادف الكامل بين لفظين أو أكثر ذلك أن هذا النوع‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.322‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سورة النحل‪ ،‬الية ‪.16‬‬ ‫‪2‬‬

‫() كتاب "أحكام القرآن"‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سورة البقرة‪ ،‬الية ‪.150‬‬ ‫‪4‬‬

‫() كتاب الحكام‪ ،‬ص ‪.69 -68‬‬ ‫‪5‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬انظر علم الدللة‪ ،‬ص ‪.223 -221 -220‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫يقتضي التطابق التام بين المكونات الساسية لجميع اللفاظ التي تبدو مترادفة فضلً عن التناظر التام بين سماتها‬
‫الدللية‪ ،‬أما المنكرون فقد استندوا على نفي الترادف‪ ،‬لكون الختلف الفونولوجي بين اللفاظ يقتضي اختلفا في‬
‫المعنى(‪ )1‬ويبدو أن ما قدمه المثبتون من العلل ومن التقسيم لصناف الترادف في اللغة‪ ،‬هو أرجح وأقوى مما قدمه‬
‫المنكرون‪ ،‬وذلك هو ما مال إليه الشافعي بعد معاينته لتلك العلقات التي تربط اللفاظ ببعضها في القرآن الكريم‪ ،‬ول‬
‫يفوتنا أن نسجل كذلك إثارة الشافعي لمسألة المشترك اللفظي في لسان العرب ففي تفسيره لقوله تعالى في حق نبيه‬
‫الكريم‪" :‬وأزواجه أمهاتهم"(‪ )2‬حيث يقول‪" :‬مثل ما وصفت‪ :‬من اتساع لسان العرب وأن الكلمة الواحدة تجمع معان‬
‫مختلفة"(‪ )3‬وبذلك غدا الشافعي بما خطه من القواعد ووضعه من السنن‪ ،‬مصدر إلهام لجميع علماء الصول‪ ،‬بحيث‬
‫اتخذت "رسالته" كأساس لي استنباط دللي من القرآن الكريم‪ ،‬والحديث الشريف‪ ،‬وغدت أبوابها معروفة لدى علماء‬
‫الدين الذين عكفوا عليها شرحا وتمحيصا‪ .‬يقول الدكتور سامي النشار‪" :‬واستمرت رسالة الشافعي سنوات طويلة‬
‫تسيطر على المناهج الصولية في العالم السلمي‪ .‬ولم يبدأ التحقيق والتمحيص فيها إل بعد أكثر من قرن حين بدأ‬
‫(‪)4‬‬
‫المام محمد بن عبد ال أبو بكر الصيرفي (‪320‬هـ ـ ‪ )932‬يضع شرحه عليها‪ .‬وقد حفظ لنا التاريخ أسماء تسعة‬
‫من شراح الرسالة"(‪ ،)5‬وكما أثبت المؤرخون إفادة الشافعي من تلك الحركة العلمية التي قام بها المتكلمون‪ ،‬فقد أعطى‬
‫الشافعي دفعا قويا لعلم الكلم‪ ،‬وذلك أن أضحى بفضله صنف من الصوليين يمزجون بين طريقة المتكلمين وطريقة‬
‫الفقهاء في الستدلل آخذين بالمنهج الذي أرسى أطره الشافعي‪ ،‬من ذلك تجريد القواعد العامة من المسائل الفقهية‪،‬‬
‫كما صنع صاحب الحكام في أصول الحكام‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الجهود الدللية عند الجاحظ (‪ 160‬هـ ـ ‪255‬هـ)‪:‬‬


‫من خلل كتابيه (البيان والتبيين والحيوان)‪:‬‬
‫إن الجاحظ في علم البلغة والجمال‪ ،‬يضاهي مكانة الشافعي في علم أصول الفقه‪ ،‬فهو أول من فتق أبواب‬
‫البيان‪ ،‬وأبان عن مكامن اللغة العربية الجمالية‪ ،‬آخذا في ذلك جمع الصور اللفظية وغير اللفظية التي تحتضن الفكر و‬
‫تعبر عن الدللت والمعاني المختلفة‪ .‬كما عكف على الدراسة الصوتية للحرف واللفظ لكون ذلك يفضي إلى استقامة‬
‫البيان وحصول البلغ‪ ،‬بحيث يراعي فيه حسن التأليف بين الحرف والكلمة‪ ،‬وقد أشار الجاحظ في هذا المجال إلى‬
‫تلك المراض النطقية التي تؤدي إلى اختلل في آلة التعبير خاصة في مخارج الصوات وعدّ منها الكثير(‪ .)6‬وقد‬
‫أضحى ذلك في العصر الحديث فرعا من اللسانيات وقد التمس له العلماء أسبابا فوجدوها عصبية نفسية تؤدي إلى‬
‫اضطراب أساسي في بنى اللغة وأطلقوا على ذلك المبحث العصب السني (‪ )7()Neurolinguistique‬تناول الجاحظ‬
‫في كتابيه‪" :‬البيان والتبيين" وكتاب "الحيوان"‪ .‬مباحث لها ارتباط وثيق بموضوع الدللة‪ ،‬وعلقتها بطرق تأديتها فلقد‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.224‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سورة الحزاب‪ ،‬الية ‪.06‬‬ ‫‪2‬‬

‫() أحكام القرآن‪ ،‬ص ‪.167‬‬ ‫‪3‬‬

‫() هؤلء التسعة هم‪ :‬الصيف ‪ :‬النيسابوري‪ .‬حسان بن ممد‪ .‬القفال ممد بن علي‪ ،‬الافظ أبو بكر الورف‪ ،‬أبو زيد الروي‪ ،‬يوسف بن عمر ‪ .‬جال‬ ‫‪4‬‬

‫الدين الفهمسي أو ابن الفاكهان وأبو قاسم عيسى بن ناجي‪.‬‬


‫() منهج البحث عند مفكري السلم‪ ،‬ص ‪.87‬‬ ‫‪5‬‬

‫() من هذه الفات الت تصيب النطق‪ :‬التعتع‪ ،‬التمتمة ـ البسة ـ العقدة ـ العقلة… انظر البيان والتبيي باب عيوب البيان‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪6‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب‪" :‬اللسنة‪ ،‬علم اللغة الديث ـ ص ‪.70‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫قسم العلقة إلى أصناف‪ ،‬كما وقف على وظائف الكلم‪ ،‬لن ذلك هو جوهر البيان وفي إطاره تناول الدللة السياقية‪،‬‬
‫واختيار المكان والمقام الملئمين لموقع اللفظ والمعنى‪ ،‬كما خاض الجاحظ في ذلك الجدل الذي دار حول نشأة اللغة‪:‬‬
‫أتوفيقية هي أم اصطلحية توفيقية؟… تلك بعض البحاث التي تناولها الجاحظ ضمن مباحث البيان‪ ،‬نحاول أن نعبر‬
‫إليها بغية اقتناص ما نستطيع أن نعثر عليه من مفاهيم لسانية‪ ،‬ودللية…‬

‫أ ـ حسن التأليف بين الحروف واللفاظ‪:‬‬


‫إن دراسة أصوات اللغة في الدرس اللساني الحديث تتم ضمن نمطين اثنين‪..‬‬
‫‪ 1‬ـ الدراسة الصوتية النطقية ‪ Articulation‬التي تتوخى وصف كيفية إنتاج أصوات الكلم‪ ،‬ووصف مخارج‬
‫الحروف التي تشكل الصوت اللغوي الصحيح بحيث ل تتنافر الحروف مراعاة ليسر النطق وثبات الصوت‬
‫في الستعمال إذ تأكد لدى علماء اللغة أن الكلمات المندثرة كان أغلبها مؤلفا من حروف صعبة التجاور‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أما النمط الثاني فهي الدراسة الصوتية السمعية ‪ Acoustique‬التي تدرس الخصائص الفيزيائية للصوت‬
‫اللغوي المنطوق‪ ،‬يقول الجاحظ وهو يعرض صفات الحروف التي تتوافق لتشكل لفظا صحيحا والحروف‬
‫المتنافرة التي تجتمع ليس في لسان العرب فحسب‪ ،‬بل وفي ألسنة العجم من الفرس والجناس غير‬
‫العربية(‪" :)1‬فأما في اقتران الحروف فإن الجيم ل تقارن الظاء ول القاف ول الطاء ول الغين‪ ،‬بتقديم ول‬
‫بتأخير‪ ،‬والزاي ل تقارن الظاء ول السين ول الضاد ول الذال بتقديم ول بتأخير"(‪ .)2‬إن الجاحظ بهذا‬
‫التحليل لطبيعة الحروف يحاول وضع أسس للصوت بحسب قوته من الجهر أو الهمس‪ ،‬فالحروف التي‬
‫تختلف في السمات الصوتية تكون أقرب إلى المجاورة من الحروف التي تتفق في ذلك‪ ،‬فالجيم صوت‬
‫مجهور ل يقع مجاورا لصوت الظاء أو القاف أو الطاء ول الغين لكون هذه الحروف لها سمات الجهر‬
‫كذلك‪ ،‬وهو ما استخلصته اللسنية الحديثة التي صنفت الحروف إلى مخارج وتأكد استحالة تأليف لفظ من‬
‫حروف تنتمي لذات المخرج النطقي وإنما اللفظ الذي تتوفر فيه سمات النطق الصحيح هو المؤلف من‬
‫حروف متباعدة المخارج مختلفة السمات الصوتية‪..‬‬
‫والبيان ـ عند الجاحظ ـ يقتضي عدم التنافر بين مجموع اللفاظ التي تؤلف الجملة حتى أنه ينقل قول الشاعر‪:‬‬

‫وليس قرب قبر حرب قبر‪.‬‬ ‫وقبر حرب بمكان قفر‬

‫ولصعوبة إنشاده ثلث مرات متتالية ظن البعض من اللغويين أنه من أشعار الجن‪ ،‬وذلك لما بين كلماته من‬
‫تنافر يعسر نطقها مجتمعة في سياق واحد‪ ،‬ولما في إنشادها من الستكراه والنبو‪ ،‬والبلغة عند الجاحظ ليس إل أن‬
‫تؤلف في نسق صحيح بين كلمات أو بين حروف اللفظ ثم تراعي حسن موقع المعنى من ذلك لتقذفه إلى سمع‬
‫المتكلم فإذا هو يعيَه ويستوعبه يقول الجاحظ‪" :‬ل يكون الكلم يستحق اسم البلغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه‬
‫معناه‪ ،‬فل يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"(‪ ،)3‬ثم إن القدر المساوي بين اللفظ والمعنى يقتضي أن‬
‫يصرف المتكلم كلمه على وجه ل إطناب فيه‪ ،‬ول حشو لن تآليف الكلم سليمة واقتضاؤها للمعنى صحيح يقول‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.51‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.77‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫الجاحظ‪" :‬وإنما اللفاظ على أقدار المعاني فكثيرها لكثيرها وقليلها لقليلها‪ ،‬وشريفها لشريفها‪ ،‬وسخيفها لسخيفها‪،‬‬
‫والمعاني المصغرة البائنة بصورها وجهاتها تحتاج من اللفاظ إلى أقل ما تحتاج إليه المعاني المشتركة والجهات‬
‫الملتبسة"(‪ )1‬فعلى قدر المعاني تأتي اللفاظ‪ ،‬فقد تكفي الشارة الحقيقية للمعنى الظاهر البعيد عن اللبس وقد تتطلب‬
‫المعاني الخفية التي تحتمل دللت كثيرة إلى ألفاظ كثيرة قصد إجلء الدللت المشتركة والبانة عن المعنى المراد‪.‬‬
‫وإن إدراك الجاحظ إلى أن اللفظ هو عبارة عن مقاطع صوتية تنتج عنها حروف وأصوات‪ ،‬ليعبر عن القدرة التي‬
‫أوتيها في معاينة اللغة يضاهي في ذلك ما أشار إليه أندري مارتينه في قوله بالتلفظ المزدوج ‪Double articulation‬‬
‫يقول الجاحظ‪" :‬الصوت وهو آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه يوجد التأليف… ول تكون الحروف كلما‬
‫(‪)2‬‬
‫إل بالتقطيع والتأليف"‬

‫ب ـ أصناف العلمة عند الجاحظ‪:‬‬


‫إن الدللة كامنة مستترة ل ظهور لها دون العلمة التي تجسدها وتحققها في الواقع اللغوي‪ ،‬هذه العلمة عند‬
‫الجاحظ تشمل كل الوسائل التعبيرية الممكنة‪ ،‬اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬وبذلك يكون قد أوضح المسألة الدللية في بعدها‬
‫الكلي وهو ما أضحى يعرف بعلم الرموز (‪ ،)semiologie‬فقد عدّ الجاحظ خمسة أصناف من العلمة هي‪ :‬اللفظ‬
‫والشارة والعقد والخط والحال أو النصبة‪ .‬يقول الجاحظ موضحا أدوات البيان الخمس‪" :‬وجميع أصناف الدللت‬
‫على المعاني من لفظ وغير لفظ‪ .‬خمسة أشياء ل تنقص ول تزيد‪ :‬أولها اللفظ‪ ،‬ثم الشارة‪ ،‬ثم العقد‪ ،‬ثم الخط‪ ،‬ثم‬
‫الحال‪ ،‬التي تسمى نصبة(…‪ ،).‬ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها‪ ،‬وحيلة مخالفة لحيلة‬
‫أختها‪ ،‬وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة‪ ،‬ثم عن حقائقها في التفسير…"(‪ )3‬وكان الجاحظ قد أشار‬
‫إلى أن هذه التقسيم لدوات البيان كان من الحسن أن يكون في أول الكتاب‪ ،)4(،‬وذلك لشمولية تلك الدوات لكل‬
‫مرامي البيان‪ ،‬ومستويات الكلم البليغ‪.‬‬
‫إن الداة الولى للبيان هو اللفظ اللغوي ـ كما ينص على ذلك الجاحظ ـ وذلك لن اللغة تبقى في إمبراطورية‬
‫ص الجاحظ اللفظ الدال بجملة سمات تعني بنيته الدللية وبنيته‬ ‫العلمات‪ ،‬تهيمن على كل النظمة البلغية‪ ،‬وقد خ ّ‬
‫الصورية يقول الجاحظ‪" :‬ثم إن حكم المعاني خلف حكم اللفاظ‪ ،‬لن المعاني مبسوطة إلى غير نهاية وممتدة إلى‬
‫غير نهاية‪ ،‬وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة"(‪ .)5‬إن تصورا لنفصالية العلقة بين اللفظ والمعنى‬
‫يكرسه تعريف الجاحظ للفظ أو للمعنى فهما ـ كما أشار إلى ذلك دو سوسوسير ـ أشبه بوجهي الورقة الواحدة أو‬
‫العملة الواحدة‪ ،‬فنرى الجاحظ في كتبه يبرزهما دائما في شكل ثنائية تقابلية‪ ،‬إن اللفاظ ـ على نقيض المعاني ـ‬
‫متناهية‪ ،‬محدودة‪ ،‬لنها مشكلة من أصوات‪ ،‬والصوت محدود معدود‪ ،‬ولذلك كانت المعاني مما يتوصل إليها بأشكال‬
‫مختلفة من اللفاظ‪ ،‬فاللغة قاصرة على أن تحيط بعالم المتكلم أو بالعوالم الدللية كما سماها "غريماس"‪.‬‬
‫أما الشارة فهي علمة غير لغوية تشمل التعبير عن حالت نفسية وبيولوجية مختلفة‪ ،‬وتكون بأعضاء النسان‬

‫() اليوان‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.08‬‬ ‫‪1‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ 1‬ص‪.84 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.82‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.82‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫كاليد والرأس أو بأشياء أخرى خارجة عن أعضائه كالثوب والسيف‪ .‬والحقيقة أن الجاحظ قد استطاع أن يحصر‬
‫الشارة غير اللفظية حصرا يتجاوز به عصره الذي نشأ فيه إلى عصر انبثاق علم الرموز‪ .‬يقول الجاحظ‪" :‬فأما‬
‫الشارة فباليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب إذا تباعد الشخصان وبالثوب وبالسيف‪ ،‬وقد يتهدد رافع السيف أو‬
‫السوط فيكون ذلك زاجرا ومانعا رادعا ويكون وعيدا وتحذيرا"‪ )1(.‬أما علقة الشارة باللفظ فهي تفصح عن مدلوله‬
‫وقد تنوب عنه في الدللة عليه‪ ،‬كما تعتبر الشارة إيجازا أو حذفا أستغني فيه اللفظ في موضع ل يختل فيه البيان‬
‫بالشارة‪ .‬يقول الجاحظ‪" :‬والشارة واللفظ شريكان‪ .‬ونعم العون هي له ونعم الترجمان هي عنه وما أكثر ما تنوب‬
‫عن اللفظ وما تغني عن الخط… ولول الشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص‪ )2(:‬إن للشارة مجالها الوظيفي‬
‫قد ل يلجه اللفظ‪ ،‬وهو الدللة على "معنى خاص الخاص"‪ ،‬ويقصد به الجاحظ المعنى الموجز إيجازا‪ ،‬ل يكون إل‬
‫بالشارة دون غيرها من أدوات البيان الخمس‪ ،‬وقد يكون اللفظ ناقصا في الدللة على المعنى ل يرفع عنه النقص إل‬
‫بمصاحبة الشارة له‪ .‬يوضح الجاحظ ذلك بقوله‪" :‬وحسن الشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان"(‪ ،)3‬أما‬
‫الدللة بالعقد أو الحساب فهي كذلك من شمول أصناف البيان الخمس‪ ،‬فالرقم الحسابي الذي تضمنته آيات القرآن‬
‫الكريم يحمل دللت ومنافع جليلة‪ ،‬بل إن دللة الرقم الرياضي هي من الدللت المنطقية‪ ،‬فسواء كانت مفردة أو‬
‫أضيفت لبعضها البعض فإنما هي دوال تهدي إلى مدلولت‪ ،‬إذ تُتخذ مدرجا يُرتقى به من المعلوم فرضا إلى المجهول‬
‫تقديرا‪ .‬يقول الجاحظ‪ ،‬مؤكدا على قيمة دللة العقد ضمن أنظمة البلغ الخرى‪ .." :‬والحساب يشمل على معانٍ‬
‫ل ـ معنى الحساب في‬ ‫كثيرة‪ ،‬ومنافع جليلة‪ ،‬ولول معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن ال ـ عز وج ّ‬
‫الخرة‪ ،‬وفي عدم اللفظ وفساد الخط‪ ،‬والجهل بالعقد فساد جل النعم وفقدان جمهور المنافع واختلل كل ما جعله ال ـ‬
‫ل ـ لنا قواما ومصلحة ونظاما"(‪..)4‬‬
‫عزّ وج ّ‬
‫أما الدللة بالنصبة أو الحال‪ ،‬فهي في حقيقتها امتداد للدللة بالشارة لنها دللة كل صامت أو ماكان في حكمه‬
‫من جماد أو إنسان أو حيوان‪ ،‬فصورته المرئية أو المسموعة تحمل مدلولت ترتبط بشكل علئقي مع دوالها‪ .‬وبذلك‬
‫يكون الجاحظ قد نظر إلى عالم الشارة نظرة شاملة وهو في ذلك يستلهم أحكامه من القرآن الكريم‪ ،‬الذي جعل ال فيه‬
‫ل ـ يقول‬‫كل شيء هو آية أو علمة من علمات الكون الفسيح ودليل من دلئلية ألوهيته وربوبيته ـ عزّ وج ّ‬
‫الجاحظ‪" :‬وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد‪ ،‬وذلك ظاهر في خلق السموات والرض‪،‬‬
‫وفي كل صامت وناطق‪ ،‬وجامد ونام ومقيم‪ ،‬وظاعن وزائد وناقص‪ .‬فالدللة التي في الموت الجامد‪ .‬كالدللة التي في‬
‫الحيوان الناطق‪ .‬فالصامت ناطق من جهة الدللة والعجماء معربة من جهة البرهان"(‪ .)5‬إن البلغة عند الجاحظ ـ‬
‫إذن ـ تهدف إلى تحقيق غاية من الكلم البشري تتلخص في حسن البلغ بوسائل مختلفة ذات نسق تنظيمي محكم‪،‬‬
‫وهو بذلك يؤسس لمفاهيم لسانية ودللية تتوخى الشمولية في التناول‪ ،‬منطلقاتها شروط توصيل الدللة كما يقصد إليها‬
‫المتكلم مع وعي دقيق بأوضاع المستمع المتلقي‪ ،‬وأجوائه النفسية والحالية العامة‪ .‬يقول الجاحظ ملخصا ذلك كله‪:‬‬
‫"وعلى قدر وضوح الدللة وصواب الشارة وحسن الختصار ودقة المدخل يكون إطار المعنى"(‪ ..)6‬ويحصل ثمة‬

‫‪.83‬‬ ‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪.83‬‬ ‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.84‬‬ ‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‬ ‫‪3‬‬

‫‪.85‬‬ ‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.86‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫البلغ بتوافر سمات تعود إلى الشارة وإلى طريق تأديتها من دقة الختيار وتناسبها مع المعنى المؤدي‪ ،‬دون النظر‬
‫إلى أداة ذلك من أدوات البيان الخمس‪ .‬وقد أورد الجاحظ تلخيص هذه الدوات في كتاب الحيوان إل أنه لم يشر‬
‫صراحة إلى أداة النصبة أو الحال وذلك لكون الكتاب كان قد ألفه قبل كتاب البيان والتبيين الذي وردت فيه الدوات‬
‫خمسا مفصلة ومحددة‪ ،‬يقول الجاحظ‪" :‬وجعل [ال] آلة البيان التي بها يتعارفون (الناس) معانيهم والترجمان الذي إليه‬
‫يرجعون عند اختلفهم في أربعة أشياء‪ ،‬وفي خصلة خامسة وإن نقصت عن بلوغ هذه الربعة في جهاتها‪ ،‬فقد نزل‬
‫بجنسها الذي وضعت له‪ ،‬وصرفت إليه‪ .‬وهذه الخصال هي‪ :‬اللفظ والخط والشارة والعقد‪ ،‬والخصلة الخامسة ما‬
‫أوجد من صحة الدللة‪ ،‬وصدق الشهادة ووضوح البرهان‪ ،‬في الجرام الجامدة والصامتة والساكنة"(‪..)1‬‬

‫ج ـ وظائف الكلم عند الجاحظ‪:‬‬


‫لقد أوضح "رومان جاكبسون (‪ ")R.Jackobson‬الوظائف التي يؤديها الخطاب اللغوي انطلقا من فحوى‬
‫ل عدة من ردود الفعل تجاه‬ ‫مضمونه الذي يحدد قصد المتكلم‪ ،‬وغايته من إعلم السامع‪ ،‬الذي بدوره يتخذ أشكا ً‬
‫الخطاب اللغوي الذي استفزّه وأثاره‪ ،‬هذه الوظائف هي ‪ :‬الوظيفة المرجعية‪ ،‬والوظيفة النفعالية‪ ،‬أو التعبيرية‪،‬‬
‫والوظيفة النشائية‪ ،‬ووظيفة إقامة التصال‪ ،‬والوظيفة الشعرية‪ ،‬والوظيفة ما بعد اللسنية…‪ )2(.‬بعض هذه الوظائف‬
‫يمكن مقاربتها بوظائف أشار إليها الجاحظ في معرض حديثه عن البيان‪ .‬يقول‪" :‬ل يعرف النسان ضمير صاحبه‬
‫ول حاجة أخيه وخليطه ول معنى شريكه المعاون له على أموره وعلى ما ل يبلغه من حاجات نفسه إل بغيره‪ ،‬وإنما‬
‫يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها"(‪ …)3‬وذلك أن المعاني كامنة مستترة ل يمكن أن‬
‫يعلمها (الخر) إل إذا تمظهرت في أنماط مقولية‪ ،‬بها يطلع على ما في ضمير مخاطبه‪ ،‬ول ينعقد التصال العلمي‬
‫بينهما حتى يفصح أحدهما عما في نفسه من الحاجات للخر‪ ،‬فكأن تلك المعاني كانت ميتة فأحييت بالذكر والخبار‬
‫والستعمال‪ ،‬وهذا مايكاد (جاكبسون) يعنيه من الوظيفتين المرجعية (‪ )referentielle‬والوظيفة التعبيرية أو النفعالية‬
‫(‪ )emotive‬إذ الولى تعني التخاطب بهدف الشارة إلى محتوى معين نرغب في إيصاله إلى الخرين وتبادل الراء‬
‫(‪)4‬‬
‫معهم‪ ،‬أما الثانية فهي تتمحور حول إبراز موقف المتكلم ـ خاصة ـ من مختلف القضايا موضوع حديثه‪.‬‬
‫وكان الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين " يسوق نصوصا وأخبارا تخص بعض البلغاء وبعض الذين استشهد‬
‫بكلمهم‪ ،‬قصد تعليل رؤيته اللغوية حول قضية من قضايا اللغة‪ ،‬ويمكن أن نلتمس وظيفة التصال (‪ )Phatique‬في‬
‫حوار أقامه مع صديق له يقول الجاحظ‪" :‬فقلت له ـ أي للعتابي ـ قد عرفت العادة والحبسة [وهما من عيوب‬
‫النطق] فما الستعانة؟ قال‪ :‬أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلمه‪ :‬يا هناه‪ ،‬ويا هذا ويه هيه‪ ،‬واسمع مني واستمع‬
‫إليّ‪ ،‬وافهم عني أو لست تفهم أو لست تعقل…"‪ )5(.‬فالجاحظ يرصد هاهنا بعض "المداخل" اللغوية التي كانت توظف‬
‫لعادة إقامة التصال الذي قد يتعرض لضطراب في قناته‪ .‬فتأتي هذه "المداخل" لتضمن وتؤمن للتصال‬
‫استمراريته‪ .‬هذه بعض الوظائف التي رصدناها من خلل معاينة ما أورده الجاحظ في كتابه‪ ،‬وهي تعبر بصدق عن‬
‫امتلك قوي وكبير لناصية اللغة وآلياتها في البلغ والتواصل‪..‬‬

‫() اليوان‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.40‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪ .Essais de linguistique generale. p. 98‬ـ وانظر شرح ذلك ف الباب الول‪ :‬مبحث اللغة‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪2‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا ‪" :‬اللسنية‪ ،‬علم اللغة الديث" ص ‪.54‬‬ ‫‪4‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.112‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫د ـ أصل اللغة عند الجاحظ ‪:‬‬
‫يذهب الجاحظ في البحث عن أصل اللغة مذهب القائلين بالتوقيف ل التوفيق‪ ،‬ويقدم لصحة مذهبه أدلة وحجج‬
‫منها كلم عيسى ـ عليه السلم ـ بالحكمة وهو صبي‪ ،‬كما أن آدم وحواء كانا محتاجين للغة‪ ،‬للتفاهم والتحاور‬
‫والتشاور فأخذ ال بأيديهم وألهمهم لغة‪ ،‬وحيا من عنده‪ ،‬ثم إن القرآن الكريم قد أتى بألفاظ لم يعرفها العرب في‬
‫جاهليتهم وذكر الجاحظ بعضا منها كتسمية كتاب ال قرآن‪ ،‬والتيمم مسح على التراب‪ ،‬والقذف فسق‪ ،‬إن ذلك كله لم‬
‫يكن في لغة أهل الجاهلية‪ )1(.‬ومع ذلك أقر الجاحظ بوجود ألفاظ جديدة كانت ثمرة للتواضع والصطلح بين أهل‬
‫اللغة استدعتها ظروف مستجدة‪ ،‬وعلوم فرضت مصطلحات جديدة حتى غدا لجمهور الفقهاء وعلماء أصول الفقه‬
‫وأهل اللغة والدب‪ ،‬لكل معجمه الخاص‪ ،‬فكان ذلك اصطلح على نظام علمي داخل نظام علمي عام‪ .‬فالجاحظ‬
‫كان يميل إلى القول بأن اللغة إلهام في الصل إل أنه يقول بالصطلح كذلك لن المعاني غير متناهية‪ ،‬والعالم‬
‫الدللي غير محصور ولذلك قد يلجأ المتكلم إلى الحتيال على نفسه وعلى اللغة‪ ،‬وذلك ليغطي عن قصوره‬
‫وقصورها‪ ،‬لنه ل يستطيع أن يحيط بعالم المعنى كما أن اللغة ل يمكنها أن تعبر عن كل ما يشكل عالمه الدللي‪،‬‬
‫فيلجأ عندئ ٍذ إلى اختراع أنظمة جديدة للتواصل يكون للصطلح فيها المحل الول ولكنها ـ هذه النظمة الجديدة ـ‬
‫تعيش داخل نظام كلي عام هو اللغة الصلية الولى‪.‬‬

‫هـ ـ الدللة السياقية عند الجاحظ ‪:‬‬


‫إن مفهوم الجاحظ للمعنى ينبني على رصد موقعه من جملة المعاني ومقابلته باللفظ‪ ،‬فيحدد المعنى بأنه مدلول‬
‫الكلمة من الشياء والفكار والمشاعر(‪ ،)2‬كما أن طبيعة المعنى تخالف طبيعة اللفظ‪ ،‬فالمعنى مستتر خفي واللفظ هو‬
‫المستخدم لبيانه وظهوره وعلى ذلك فالمعاني محلها النفس وصورتها في الذهن‪ ،‬كما أن الفكر هو الذي يشكلها‬
‫ويحدثها‪ .‬يقول الجاحظ ‪" :‬قال بعض جهابذة اللفاظ ونقاد المعاني‪ :‬المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في‬
‫أذهانهم والمختلجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم والحادثة عن فكرهم"(‪ )3‬هذه هي مواصفات المعنى عند الجاحظ‬
‫يضاف إليها ل محدوديتها ول نهائيتها مقابل لمحدودية اللفاظ ونهائيتها‪ .‬يقول الجاحظ في ذلك‪":‬ثم إن حكم المعاني‬
‫خلف حكم اللفاظ‪ ،‬لن المعاني مبسوطة وممتدة إلى غير نهاية وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة‬
‫محدودة"(‪.)4‬‬
‫وبعد أن أوضح الجاحظ مقام المعاني بالنسبة لللفاظ ومقامها في ذهن المتكلم إذ هي أقدار وأحوال وليست‬
‫على درجة واحدة من الستعمال‪ ،‬فما يصلح لهذا المقام والحال قد ل يصلح لمقام وحال آخرين‪ ،‬وهذا ما عنته‬
‫النظرية المقامية‪ ،‬يقول الجاحظ كاشفا عن الدللة المقامية أنه ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني‪ ،‬ويوازن بينها‬
‫وبين أقدار المستمعين وحالتهم‪ ،‬فيجعل لكل طبقة منهم كلما يخصهم به حتى يقسم بالتساوي أقدار الكلم على أقدار‬
‫المعاني ويقسم المعاني على أقدار المقامات التي هم عليها المستمعون وحالتهم(‪ .)5‬فالمعاني إذن تصنف وترتب‬

‫() انظر اليوان‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.281 -280‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬ميشال عاصي‪ ،‬مفاهيم المالية والنقد ف أدب الاحظ‪ ،‬ص ‪.166‬‬ ‫‪2‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.131‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 87 -‬‬
‫بحسب أصناف الناس في المجتمع وتباين مقاماتهم وأحوالهم‪ .‬وتلك رؤية علمية في غاية الدّقة لطبيعة وجوهر العملية‬
‫البلغية‪ ،‬التي يراعى فيها الشروط الموضوعية (الخارجية) والشروط الذاتية التي يتصف بها الخطاب وصاحبه وهو‬
‫ما تنادي به بعض المدارس اللسانية الحديثة التي تدعو إلى ضرورة الحاطة بوضع المتلقي النفسي والجتماعي حتى‬
‫ل يقع المعنى في انسداد دللي‪ .‬وتلك إشارة إلى وجوب التوفيق عند المتكلم بين خطابه ومقام المستمع المتلقي‪ ،‬ويعني‬
‫ذلك أن المتكلم كان قد قام بمطابقات تركيبية تشمل المطابقة النحوية (التأليف على سمت كلم العرب)‪ ،‬والمطابقة‬
‫ل على المطابقة بين اللفظ والمعنى وحسن موقع الكلمة من السياق‪ ،‬وهو ما‬ ‫البلغية (معرفية الفصل من الوصل) فض ً‬
‫تشير إليه نظرية الوقوع أو الرصف (‪ )collocational theory‬حيث يعرف ستيفن أولمان الوقوع أو الرصف‬
‫بقوله‪" :‬هو الرتباط العتيادي لكلمة ما في لغة ما بكلمات أخرى معينة"‪ )1(.‬ثم إن عرض الجاحظ لموضوع التنافر‬
‫الحادث بين الكلمات يقدم التقدير الكافي لمنع الوقوع أو الرصف في بعض السياقات‪ ،‬وقد أكدت دراسات دللية تالية‬
‫في النظرية السياقية‪ ،‬أن الجملة ل تعتبر كاملة المعنى إل إذا صيغت طبقا لقواعد النحو‪ ،‬وراعت توافق الوقوع بين‬
‫مفردات الجملة وتقبلها أبناء اللغة بحيث يعطونها تفسيرا ملئما وهو ما سمي باسم التقبلية(‪ ،)Acceptability( )2‬كما‬
‫اتضح في الدرس الدللي الحديث أنه كلما كان المتلقي على علم مسبق بفحوى الخطاب‪ ،‬كلما كان استيعابه للدللة‬
‫ل مفصلً‬ ‫أكثر‪ ،‬واتخذ الخطاب نمط اليجاز والقتصاد‪ ،‬أما إذا كان المتلقي ممن ل يستوعب الخطاب إل إذا كان كام ً‬
‫لعتبارات شتى‪ ،‬فإنّ ذلك يقتضي التبسيط في بنيته ولذلك يقول الجاحظ‪" :‬رأينا ال تبارك وتعالى إذا خاطب العرب‬
‫والعراب‪ ،‬أخرج الكلم مخرج الشارة والوحي والحذف‪ ،‬وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطا‬
‫وزاد في الكلم"(‪ .)3‬وقد يبلغ الحذف تمامه في الضراب حيث يزول كل شيء وتبقى المعاني عارية "غفلً غير‬
‫موسومة"(‪.)4‬‬
‫إن المقام ومحدودية الدراسة‪ ،‬ل تسمح لنا أن نفيض في المباحث اللغوية التي أثارها الجاحظ‪ ،‬ولو استرسلنا في‬
‫عرض عطاءات الجاحظ اللسانية والدللية لضاق بنا المجال ولحتاج ذلك لدراسة مستقلة‪ ،‬تحاول أن تقارب بين ما‬
‫أبدعه الجاحظ وما قررته الدراسات اللغوية الحديثة‪ .‬وحسب الجاحظ –من خلل ما قدمناه من عرض مقتضب‪ -‬أنه‬
‫كرّس رؤية علمية شاملة‪ ،‬إذ نظر إلى بنية اللغة نظرة كلية آخذا في ذلك بمبدأ أن الدللة ل تتحقق إل بتفاعل النساق‬
‫اللغوية المختلفة‪ ،‬منها ما يخص المرسل ومنها ما يخص المتلقي من أهل اللغة‪ ،‬كما لم يغفل نسق المحتوى‬
‫والمضمون فضلً على قناة الرسال وعنى بها التركيب وسماته الصورية من تآلف الكلم وفق قواعد التركيب والنحو‪،‬‬
‫وما أظهره الجاحظ هو مرونة النظام اللغوي‪ ،‬وقابلية الشكل والمحتوى إلى التغيير في ظل معطيات البلغ‬
‫والتواصل‪ ،‬وأقرب تمثيل لذلك هو النزياح الدللي المعبر عنه بالمجاز‪.‬‬

‫‪-3‬الجهود الدللية عند ابن جني‪320( :‬هـ‪392-‬هـ)‬


‫من خلل كتابه "الخصائص"‪:‬‬
‫في القرن الرابع الهجري‪ ،‬ينهض ابن جني عالما لغويا‪ ،‬قدم دراسات كانت ولزالت لها فاعليتها في الثقافة‬
‫اللغوية‪ ،‬والنشاط الفكري‪ ،‬إنْ على المستوى النظري المنهجي أو على المستوى الجرائي التطبيقي‪ .‬ولذلك يعد ابن‬
‫() ‪Meaning and style… p.. 10‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر علم الدللة‪،‬د‪.‬احد متار عمر‪ ،‬ص ‪.77‬‬ ‫‪2‬‬

‫() اليوان‪،‬ج ‪،1‬ص ‪.94‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ممد الصغي بنان‪ ،‬النظريات اللسانية والبلغية والدبية عند الاحظ –من خلل البيان والتبيي‪ ،‬ص ‪.270‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫جني من أعظم العلماء الذين قدموا نموذجا مشرقا لمباحث اللغة في التراث العربي المعرفي‪ ،‬فبدت اللغة العربية في‬
‫"خصائصه" لغة ل تدانيها لغة لما اشتملت عليه من سمات حسن تصريف الكلم‪ ،‬والبانة عن المعاني بأحسن وجوه‬
‫الداء‪ ،‬كما فتح أبوابا بديعة في العربية ل عهد للناس بها قبله كوضعه لصول الشتقاق بأقسامه‪ ،‬ومناسبة اللفاظ‬
‫للمعاني(‪ )1‬ومنها "تصاقب اللفاظ لتصاقب المعاني"‪ ،‬كما ناقش ابن جني مسألة نشأة اللغة التي كانت تشغل مكانا مهما‬
‫في البحوث اللغوية آنذاك‪ ،‬وأوضح بتعليل منطقي أن اللغة أكثرها مجاز صار في حكم الحقيقة‪ ،‬وما يبرز قدرة ابن‬
‫جني على رصد الظواهر اللغوية وتحليلها بمنطق علمي‪ ،‬هو ما قدمه حول التفريع الدللي للفعل في "خصائصه"‪.‬‬
‫وفيما يلي سنعرض لبعض تلك المسائل عرضا نحاول من خلله إبراز جهود ابن جني في ميدان "الدللة"‪.‬‬

‫أ‪-‬اللفظ والمعنى‪:‬‬
‫تناول ابن جني في كتابه الخصائص عرض ثلث علئق متصلة هي‪ :‬العلقة بين اللفظ والمعنى‪ ،‬والعلقة بين‬
‫اللفظ واللفظ‪ ،‬ثم العلقة بين الحروف ببعضها‪ .‬وأفرد لذلك أبوابا من ذلك "باب في تلقي المعاني على اختلف‬
‫الصول والمباني" حيث عرض فيه لشتراك السماء في المعنى الواحد ورده لوجود تقارب دللي بين تلك السماء‪،‬‬
‫يقول في مستهل هذا الباب‪" :‬هذا فصل من العربية حسن كثير المنفعة‪ ،‬قوي الدللة على شرف هذه اللغة‪ ،‬وذلك أن‬
‫تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة‪ ،‬فتبحث عن أصل كل اسم منها فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه "وفي ذلك‬
‫إشارة إلى وقوع الترادف في اللغة الذي كان ينكره بعض علماء اللغة في عصر ابن جني ومنهم أستاذه أبو علي‬
‫الفارسي‪ .‬وما اشتهر به صاحب الخصائص هو إبراز لظاهرة لغوية تتمثل في تقارب الدللت لتقارب حروف‬
‫اللفاظ‪ ،‬وهو ما سماه "تصاقب اللفاظ لتصاقب المعاني" سجل فيه أن مخارج حروف اللفظ التي تقترب من مخارج‬
‫حروف لفظ آخر‪ ،‬هما متقاربان دلليا لتقاربهما فنولوجيا وتلك خاصية من خصائص اللغة العربية‪ .‬وهذه الملحظة‬
‫تنم عن دقة وعمق رؤية ابن جني لنظام اللغة ففي شرحه للفظ "أزا" الوارد ذكره في قوله تعالى‪" :‬ألم تر أنا أرسلنا‬
‫الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا"(‪ )2‬يقول ابن جني في قوله تعالى‪" :‬تأزهم أزا"‪ :‬أي تزعجهم وتقلقهم‪ ،‬فهذا في معنى‬
‫تهزهم هزا والهمزة أخت الهاء‪ ،‬فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين‪ ،‬وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لنها أقوى من‬
‫الهاء‪ ،‬وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز‪ ،‬لنك قد تهز مال بال له‪ ،‬كالجذع وساق الشجرة‪ ،‬ونحو ذلك"(‪ .)3‬كما‬
‫قدم ابن جني تطبيقات أخرى مست ألفاظا وجد بين حروفها اشتراكا في الصفات الفنولوجية‪ ،‬فأفضى ذلك إلى تقاربها‬
‫في الدللة من ذلك المقابلة بين فعل (ج ع د) والفعل (ش ح ط)‪ .‬يقول ابن جني‪" :‬فالجيم أخت الشين والعين أخت‬
‫الحاء والدال أخت الطاء"‪ .‬كما كان يرى أن هناك مناسبة طبيعية بين الصيغة المعجمية ودللتها‪ ،‬وذلك فيما يخص‬
‫أصوات الطبيعة‪ .‬وهي مسألة لم تكن محل خلف بين العلماء في عصره‪ ،‬إل أن ابن جني قدم تعليلً بديعا‪ ،‬للخليل بن‬
‫أحمد ولسيبويه‪ ،‬يفسر العلقة الطبيعية بين الصوت ودللته‪ ،‬فيقول الخليل‪" :‬كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة‬
‫ومدا فقالوا‪ :‬صر وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا‪ :‬صرصر"‪ .‬ويقول سيبويه في المصادر التي جاءت على‬
‫وزن فعلن أنها تأتي للضطراب والحركة نحو القفزان والغليان‪ ،‬والغثيان فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي‬
‫حركات الفعال"(‪ .)4‬وهذا ما أدرجه ابن جني في باب "إمساس اللفاظ أشباه المعاني"‪ ،‬إذ التأليف الصوري للفظ يرسم‬
‫القيمة الدللية للمعنى الذي يقابله‪ ،‬وإن كان ذلك صعبا تطبيقه على كل عناصر النظام اللغوي إل أن ذلك يبقى طرحا‬
‫() الصائص‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ .28 -27‬كان لستاذه أب علي الفارسي تقسيمات ف الشتقاق ولكن ليست كتقسيماته خاصة ف الشتقاق الكبي‪،‬انظر‬ ‫‪1‬‬

‫كذلك ج ‪ -2‬ص ‪.133‬‬


‫() سورة مري‪ ،‬الية ‪.83‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصائص‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.146‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 89 -‬‬
‫جريئا من قبل ابن جني له قيمته العلمية وسبقه المعرفي في عصره‪ ،‬وهي محاولت كانت تنتظر من يعطيها طابع‬
‫النظرية الشاملة بعد ابن جني‪ ،‬ولكن وجد أتباع لم يكملوا ما بدأه أبو الفتح ابن جني وإنما انتحلوا بحوثه ونسبوها إلى‬
‫أنفسهم كابن سيده صاحب كتاب "المحكم" المتوفى سنة ‪458‬هـ(‪ .)1‬وقد قام ابن جني بذات الصنيع في باب الشتقاق‪،‬‬
‫خاصة في تلك التقلبات المورفولوجية الستة التي تنتج عن الصيغة المعجمية الثلثية‪ ،‬إل أنه بعد أن ربط تلك الصيغ‬
‫دلليا بالصيغة الم‪ ،‬وجد صيغا مهملة ل واقع لغوي لها‪ ،‬وكان في بعض الحيان يلحق المثلة قسرا بالقاعدة وتلك‬
‫ملحظة أخذه عنها علماء اللغة‪ ،‬بل إن ابن جني نفسه قد أقر بصعوبة المسلك في إجراء التقلبات الستة وربطها بدللة‬
‫الصل الثلثي فقال‪" :‬وهذا أعوص مذهبا‪ ،‬وأحزن مضطربا وذلك أنا عقدنا تقاليب الكلم الستة على القوة‬
‫والشدة…"(‪ )2‬إن علقة الرمز اللغوي بدللته ل يمكن –كما قرر الدرس اللساني الحديث‪ -‬أن تكون قسرية ول طبيعية‪،‬‬
‫لن ذلك سيبقى النظام اللغوي في حالة من الجمود ولكن القول بالعلقة العتباطية أو الكيفية (‪ )arbitraire‬بين اللفظ‬
‫ودللته‪ ،‬يعطي للغة‪ ،‬المرونة اللزمة خلل التغيّر الذي يطرأ على البنية اللغوية من جراء الحداث الناجمة عن‬
‫الستعمال اللغوي وعن تطور بعض المدلولت‪ ،‬ما كان التغير ليحصل لو لم تكن الشارة بالحقيقة "كيفية" أي‬
‫اعتباطية"(‪.)3‬‬
‫ب‪-‬التفريع الدللي للفعل‪ :‬يعقد ابن جني تفريعا دلليا للفعل يضبط سماته الذاتية والنتقائية‪ ،‬فأبرز معايير تنتظم‬
‫ص ابن جني الفعل وكان يسميه اللفظ‪ .‬بهذا التوزيع لكونه "يعد القطب الرئيسي في‬ ‫وفقها العلمة اللسانية الدالة‪ ،‬وقد خ ّ‬
‫العملية البلغية إذ أنه النواة الدافعة للحركة المتجددة المتوخاة من الحداث المحققة في الواقع اللغوي‪ ،‬ولذلك فإن‬
‫الفعال كما قال آدم سميث (‪ )A.smith‬نطفة اللغات(‪ .)4‬فالفعل يحمل دللة بنيته المورفولوجية‪ ،‬كما يقدم لنا سمات‬
‫الفاعل ومكوناته الساسية‪ ،‬إضافة إلى الدللة الزمانية التي تعين على تحديد قيمة الدللة العامة للصيغة المعجمية‪.‬‬
‫يقسم ابن جني الدللة إلى ثلثة أقسام‪ :‬الدللة اللفظية والدللة الصناعية والدللة المعنوية‪ ،‬ويفاضل بينها جاعلً الدللة‬
‫اللفظية على رأس الدللت الثلثة ثم تليها الدللة الصناعية فالمعنوية‪ .‬يقول ابن جني‪" :‬فمنه جميع الفعال‪ ،‬ففي كل‬
‫واحد منها الدلة الثلثة‪ .‬أل ترى إلى قام و(دللة لفظه على مصدره) ودللة بنائه على زمانه‪ ،‬ودللة معناه على‬
‫فاعله فهذه ثلث دلئل من لفظه وصيغته ومعناه"(‪ )5‬ويمكن توضيح ذلك بالرسم التالي‪:‬‬
‫الدللة اللفظية (المعنى)‪.‬‬
‫الدللة الصناعية (الزمن)‪.‬‬ ‫الدللة التفريعية للفعل‬
‫الدللة المعنوية (الفاعل)‪.‬‬
‫‪-1‬الدللة اللفظية‪ :‬وهي الدللة المعجمية ودللة البنية المورفولوجية على الحدث‪ ،‬وقد عدّها ابن جني على رأس‬
‫الدللت الثلثة لنها "دللة أساسية تعد جوهر المادة اللّغوية المشترك في كل ما يستعمل من اشتقاقاتها‬

‫() الصدر السابق‪،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ 152‬وانظر الكتاب لسيبويه‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.14‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه –ج ‪ -1‬ص ‪( 29‬كلم الحقق ممد علي النجار)‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه –ج ‪ -2‬ص ‪.135 -134‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية (علم اللغة الديث) –ص ‪.183‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الكون الدلل للفعل ف اللسان العرب –ص ‪.33‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصائص –ج ‪-3‬ص ‪.98‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫وأبنيتها الصرفية"(‪ )1‬ففعل "قعد" مثلً يدل بصيغته المعجمية على حدث خاص ذي دللة معينة وهو المصدر‬
‫"القعود"‪ ،‬وإنه متعلق بفاعل تعلقا معنويا‪ ،‬ومنه اشتقت صيغ أخرى لها ارتباط بالدللة الساسية للفعل منها‪:‬‬
‫مقعد –متقاعد‪ -‬قاعدة وما إلى ذلك من الصيغ‪ .‬وما يجدر ذكره أن قيمة الدللة الساسية للصيغة الصرفية‪،‬‬
‫تعتبر المركز الذي يستقطب كل الدللت المتفرعة عنه‪ ،‬بحيث تدْخل في علئق وظيفية مختلفة وتبقى‬
‫مشدودة إلى الدللة اللفظية للفعل‪.‬‬
‫‪-2‬الدللة الصناعية‪ :‬وهي دللة بنية (اللفظ) المورفولوجية على الزمن‪ ،‬وهي تلي الدللة اللفظية لن اللفظ‬
‫يحمل صورة الحدث الدللي المستغرق لحيز زماني يقول ابن جني "وإنما كانت الدللة الصناعية أقوى من‬
‫المعنوية من قبل إنها وإن لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ‪ ،‬ويخرج عليها ويستقر على المثال المعتزم‬
‫بها‪ ،‬فلما كانت كذلك لحقت بحكمه وجرت مجرى اللفظ المنطوق به فدخل بذلك في باب المعلوم‬
‫بالمشاهدة"(‪ .)2‬فكانت الدللة الصناعية مع أنها دللة غير لفظية وإنما يستلزمها اللفظ في حكم الدللة اللفظية‪،‬‬
‫التي هي صورة تلزم الفعل‪ ،‬فأين كان هو مشاهدا معلوما كان الزمن المقترن به معلوما بالمشاهدة أيضا‪،‬‬
‫من مسموع اللفظ‪ ،‬وينظر ابن جني في هذا المجال إلى المصدر على أنه مجال مفتوح على الزمنة الثلثة‬
‫فيقول‪" :‬وكذلك الضرب والقتل‪ :‬نفس اللفظ يفيد الحدث فيهما‪ ،‬ونفس الصيغة تفيد فيهما صلحهما للزمنة‬
‫الثلثة على ما نقوله في المصادر"(‪.)3‬‬
‫‪-3‬الدللة المعنوية‪ :‬إن الفعل يحدّد سمات فاعله الذاتية والنتقائية‪ ،‬الساسية والعرضية‪ ،‬وذلك من جهة دللته‪،‬‬
‫ويعرف ذلك بطريق الستدلل‪ ،‬فيتحدد جنس الفاعل‪ ،‬وعدده‪ ،‬وحاله‪ ،‬ليس من الصيغة الفونولوجية للفعل بل‬
‫من مؤشرات خارجة عن الفعل‪ .‬ففعل (قعد) يدل على حادث مقترن بزمن ماض‪ ،‬وقد يتعرض مجاله‬
‫الزمني إلى التّساع ليشمل زمن الحاضر أو المضارع المستقبل في سياق لغوي يحمل خصائص تركيبية‬
‫ودللية ومقامية معينة‪ ،‬أما دللته على (الفاعل) فهي دللة إلزام‪ ،‬يقول ابن جني "أل تراك حين تسمع‬
‫(ضَرَب) قد عرفت حدثه وزمانه‪ ،‬ثم تنظر فيما بعد‪ ،‬فتقول‪ :‬هذا فعل ولب ّد له من فاعل‪ ،‬فليث شعري من‬
‫هو؟ وماهو؟ فتبحث حينئذ إلى أن تعلم الفاعل من هو وما حاله‪ ،‬من موضع آخر ل من وضع مسموع‬
‫ل غير مفصّل"(‪ .)4‬إن السمات‬
‫ل مذكر يصحّ منه الفعل مجم ً‬
‫ضرب‪ ،‬أل ترى أنه يصلح أن يكون فاعله ك ّ‬
‫المعنوية التي رصدها ابن جني في هذا المقام يمكن على ضوئها وضع نسق تفريعي لفئة (الفاعل) تخصّ‬
‫كل فعل من اللسان العربي وتوضيحه كالتي‪:‬‬
‫فعل يلزم فاعل مكوناته الذاتية والنتقائية‬
‫حاله‬
‫جنسه‬
‫فعل يلزم فاعل مكوناته الذاتية والنتقالية‬

‫() د‪.‬فايز الداية علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصائص –ج ‪ ، 3‬ص ‪.98‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.101‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.99 -89‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫عدده‬
‫تعيينه‬
‫ص الفعل‬‫ويورد ابن جني تفريعا دلليا لصيغ مختلفة من اللفاظ (الفعال)‪ ،‬يحدّد على ضوئها سمات عامّة تخ ّ‬
‫وصاحبه فيقول‪" :‬وكذلك (قطّع) و(كسّر)‪ ،‬فنفس اللفظ ها هنا يفيد معنى الحدث‪ ،‬وصورته تفيد شيئين‪ :‬أحدهما‬
‫الماضي‪ ،‬والخر تكثير الفعل‪ ،‬كما أن (ضارب) يفيد بلفظه الحدث‪ ،‬وببنائه الماضي‪ ،‬وكون الفعل من اثنين‪ ،‬وبمعناه‬
‫أنّ له فاعلً فتلك أربعة معان…"(‪ )1‬فالتفريع الدللي الضافي الذي يكمل به ابن جني تفريعه الول يمكن توضيحه‬
‫كالتالي‪:‬‬

‫الدللة اللفظية (دللة الحدث)‬


‫الدللة الصناعية (دللة الزمن)‬
‫ل –(فعّل) (مضعف العين) على‬
‫يد ّ‬
‫الدللة اللفظية (دللة إضافية (تكبير الفعل))‬
‫الدللة المعنوية (مكونات الفاعل الجوهرية والعرضية)‬

‫إن هذه السمات الدللية للفعل وما ينضوي تحتها من سمات فرعية محدّدة‪ ،‬هي في جورها سمات مميزة للفعل‬
‫ل عمّا‬
‫(كسّر)‪ ،‬الذي له توارد خاص في سياق معيّن‪ ،‬ويستلزم فاعلً يحمل مكونات تمييزية جوهرية وعرضية‪ ،‬فض ً‬
‫يوحيه (الفعل) فيما يخص (المفعول به)‪ ،‬وذلك بحسب قواعد الوقوع أو الرصف التي تتحكم في بنية التركيب‬
‫ل معيّنا أيضا…‬
‫الصحيح‪ ،‬حيث يستدعي الفعل‪ ،‬فاعلً معيّنا‪ ،‬ومفعو ً‬
‫أمّا فعل (ضَارَب) وهو ذو لصيغة مورفولوجية مختلفة عن (كسّر) يمكن توضيح سماته على النحو التالي‪:‬‬
‫الدللة اللفظية (الحدث)‬
‫الدللة الصناعية (زمن الماضي)‬
‫ب –(فاعل) على‬
‫ضار َ‬

‫الدللة المعنوية (مكونات الفاعل خاصة (العدد))‬


‫الدللة المعنوية (دللة إضافية (المشاركة في الحدث))‬

‫إن جملة التفريعات التي أوردها ابن جني للركن الفعلي تؤكد على أهمية (الفعل) في الموروث اللساني إذ غدا‬
‫ص كلّ متعلقاته‪ ،‬التي يحدّد معها تواردا سياقيا صحيحا‪ ،‬ويمكن أن يتخذ ذلك‬
‫حقلً ألسنيا يغطي مفاهيم مختلفة‪ ،‬تخ ّ‬

‫() الصائص‪ ،‬ص ‪.101‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫كتصنيف مهم في حصر السمات الدللية وضبطها ضبطا محكما لتغتدي فيصلً فارزا للمداخل المعجمية‪ ،‬وهي‬
‫المداخل التي تكتسب مجالها الدللي من خلل توافقها‪ ،‬أو عدم توافقها مع السمة المميزة(‪ )1‬وإنّ تلك النماط التي‬
‫عقدها ابن جني مع كل بنية مورفولوجية ل تختلف كبير اختلف‪ ،‬مع تلك السمات المميزة المعتمدة في الدرس الدللي‬
‫الحديث(‪ .)2‬حيث تلعب الملمح المشتركة بين وحدات السياق اللغوي دورا مهمّا في تأمين التوارد الصحيح‪.‬‬
‫ج‪-‬الحقيقة والمجاز‪ :‬في مبحث الحقيقة والمجاز يعقد ابن جني بابين أولهما في‪:‬‬
‫الفرق بين الحقيقة والمجاز‪ ،‬وثانيهما في‪ :‬أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة‪.‬‬
‫في الباب الوّل تناول أبو الفتح بن جني تعريف الحقيقة والمجاز على أساس الوضع الوّل الذي يحدّد الستعمال‬
‫الصلي للصيغة‪ ،‬أمّا دواعي انتقال اللفظ من دللته الحقيقية إلى دللة المجاز فقد حصرها ابن جني في ثلث‪ :‬التساع‬
‫والتوكيد والتشبيه‪ .‬فانتقاء هذه الدواعي يبقي اللفظ على دللته الحقيقية‪ ،‬يعرّف ابن جني الحقيقة والمجاز فيقول‪:‬‬
‫"الحقيقة‪ :‬ما أق ّر في الستعمال على أصل وضعه في اللغة‪ .‬والمجاز‪ :‬ما كان ض ّد ذلك"(‪ .)3‬ثم يحدد دواعي التجوز‬
‫فيقول‪" :‬وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلثة‪ ،‬وهي‪ :‬التساع والتوكيد والتشبيه‪ ،‬فإن عدم هذه‬
‫الوصاف كانت الحقيقة البتة"(‪ .)4‬فالمجاز في أصله هو إضافة معنى جديد إلى المعنى القديم (الحقيقة)‪ ،‬وفي ذلك توكيد‬
‫للمعنى وتشبيه المعنيين الوّل بالثاني‪.‬‬
‫أمّا التساع فلن في لئحة الملمح الحقيقية للدال يُضاف ملمح جديد على سبيل المجاز‪ ،‬يقرّر ابن جني بتطبيق‬
‫إجرائي فيقول"… وكذلك قول ال سبحانه‪( :‬وأدخلناه في رحمتنا) هذا هو مجاز‪ ،‬وفيه الوصاف الثلثة‪ ،‬أمّا السعة‬
‫ل اسما هو الرحمة‪ ،‬وأمّا التشبيه فلنه شبّه الرحمة ‪ -‬وإن لم يصح دخولها –‬‫فلنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحا ّ‬
‫بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه‪ .‬وأمّا التوكيد فلنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر‪ .‬وهذا تعال‬
‫بالعرض‪ ،‬وتفخيم منه إذ صيّر إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين"(‪ .)5‬وإنّ تحقق هذه المعاني مرتبط بوجود قرينة‬
‫صارفة من إتيان المعنى الحقيقي لفظية في المجاز اللغوي وعقلية في المجاز المرسل‪.‬‬
‫أمّا في الباب الثاني فبعد طول معاينة للغة‪ ،‬يرى ابن جني أنّ أكثر كلم العرب إنّما هو مجاز وذلك ناتج عن‬
‫كثرة دوران اللفظ على اللسنة‪ ،‬بدللته المجازية اكتسب سمة الدللة الحقيقية‪ ،‬وإنّ تلك التراكيب اللغوية التي تخالها‬
‫ذات دللة حقيقية هي في الصل ذات دللة مجازية محققة لتلك المعاني الثلثة التي ذكرنا‪ ،‬ويسوق ابن جني في‬
‫سبيل أمثلة كثيرة‪ ،‬يقول‪" :‬إعلم أن أكثر اللغة مع تأملّه مجاز ل حقيقة‪ ،‬وذلك عامّة الفعال‪ ،‬نحو قام زيد‪ ،‬وقعد عمرو‬
‫(…‪ ).‬وجاء الصيف‪ ،‬وانهزم الشتاء…"(‪ )6‬ويلمس ابن جني البحث في الزمن الطويل الغابر‪ ،‬عن الصل الذي وظّفت‬
‫لسببه الكلمة وهو محاولة الجمع بين التكوين اللغوي للكلمة ودللتها المتداولة آنيا‪ ،‬ففي بحثه عن أصل فعل (ع ق ر)‬
‫ل قطعت إحدى رجليه فرفعها‪ ،‬ووضعها على‬ ‫ودللته على الصوت في قولنا‪( :‬رفع عقيرته) يقول ابن جني‪" :‬أنّ رج ً‬

‫() الستاذ أحد حسّان‪ ،‬الكون الدلل للفعل ف اللسان العرب – ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر الباب الول من البحث –الفصل الثالث‪ :‬النظرية التحليلية –ص ‪.72‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصائص ج ‪ ،2‬ص ‪.442‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.442‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.443‬‬ ‫‪5‬‬

‫() انظر الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ 2‬من‪ ،‬ص ‪ 442‬إل ص ‪.458‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 93 -‬‬
‫الخرى ثم صرخ بأعلى صوته فقال الناس (رفع عقيرته)(‪ .)1‬فكان الصل في استعمال (ع ق ر) للدللة على الصوت‬
‫المرتفع كالصراخ ولكن خفيت أسباب التسمية لبعدها الزمني فأضحت تدل على من رفع رجله دللة حقيقية مع أنها‬
‫في أصل وضعها كانت تدل على الصوت‪ .‬فحصل نقل لدللة اللفظ من مجال إلى مجال‪ ،‬انتقلت عبره المجازات إلى‬
‫الستعمال العادي الحقيقي‪ .‬ويلجأ ابن جني إلى تقديم العلل المنطقية الفلسفية(‪ )2‬على صحة ما ذهب إليه‪ .‬وإن كنّا نرى‬
‫أن رؤيته هذه في علقة الدللة بالحقيقة والمجاز أن فيها بعض التعسف لنه إذا قلنا أن أكثر اللغة مجاز وحاولنا أن‬
‫نردّ كل صيغة إلى دللتها الصلية للفينا صيغا قد تعرّضت لحركة نقل متتالية فنردّها إلى أصل هو بذاته مجاز‪،‬‬
‫ل على الفروع‪ .‬وهذا حقيقة ماهو سمة في اللغة التي من مميزاتها المرونة والتغيير‬ ‫ولظللنا نتبع الصول فل نعثر إ ّ‬
‫ورفض كل قاعدة تريد أن تبقيها متحجرة جامدة‪.‬‬
‫ل ذلك‬ ‫‪-5‬نشأة اللغة‪ :‬يناقش ابن جني قضية نشأة اللغة التي نجد لها حضورا مكثّفا في مؤلفات القدمين ولع ّ‬
‫راجع إلى ارتباط هذه القضية بمشكلة كانت نقطة خلف كبيرة بين العلماء‪ ،‬بل تعدّ سبب الصطدام الذي حصل بين‬
‫السياسي والديني ونعني بها مشكلة "خلق القرآن" يعرض ابن جني لراء علماء عصره في مسألة نشأة اللغة فيصرح‬
‫في باب القول على أصل اللغة أنها إلهام أم اصطلح‪" :‬هذا موضع محوج إلى فصل تأمّل‪ ،‬غير أن أكثر أهل النظر‬
‫على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلح ل وحي وتوقيف‪ .‬إل أن أبا علي رحمه ال –قال لي يوما‪ :‬هي من‬
‫عند ال‪ ،‬واحتج بقوله سبحانه‪" :‬وعلّم آدم السماء كلها"(‪ )3‬وهذا ل يتناول موضع الخلف‪ .‬وذلك أنّه قد يجوز أن يكون‬
‫تأويله‪ :‬أقدر آدم على أن واضع عليها‪ ،‬وهذا المعنى من عند ال سبحانه ل محالة"(‪ .)4‬وبهذا التعليق الخير على قول‬
‫أبي علي الفارسي يكون ابن جني قد أفصح عن مذهبه فكان أميل إلى القول بعرفية الدللة اللغوية مقدّما تأويلً للية‬
‫الكريمة السابقة الذكر‪ .‬يكاد يجمع عليه أغلب العلماء الذين قالوا بالصطلح‪ ،‬يعني‪ ،‬أن النسان قد ركّبت فيه‬
‫استعدادات فطرية‪ ،‬وقواعد ذهنية بها يستطيع أن يسمّي الشياء‪ ،‬ويضع نظاما علميا مطردا مع كل الشياء الجديدة‬
‫على غرار وضعه للرموز التي تخصّ نظام المرور أو تلك المستعملة في نظام الملحة البحرية (الشارات الضوئية)‬
‫فهذا كلّه من باب التواضع والتوفيق‪ ،‬والحقيقة أن ابن جني ل يكاد يستقّر على رأي حيث ذكر مذهب الذين قالوا‬
‫بطبيعية اللغة‪ ،‬المستلهمة من أصوات الطبيعة‪ ،‬واستحسنه وقبله‪ .‬يقول في ذلك‪" :‬وذهب بعضهم (أي بعض العلماء)‬
‫ي الريح‪ ،‬وحنين الرعد‪ ،‬وخرير الماء‪ .‬وشحيح‬ ‫إلى أن أصل اللغات كلها إنّما هو من الصوات المسموعات كدو ّ‬
‫الحمار‪ ،‬ونعيق الغراب وصهيل الفرس وتريب الظبي‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ثم وُلدت اللغات عن ذلك بينما بعد‪ .‬وهذا عندي‬
‫وجه صالح‪ ،‬ومذهب متقبل"(‪ .)5‬ولكن ابن جني ما يلبث أن يقوي في نفسه شعور يجذبه إلى العتقاد بكون اللغة توقيفا‬
‫من عند ال تعالى‪ ،‬وذلك ظاهر من تناسق أجزائها وموافقتها لكل حال ومقام‪ ،‬ثمّ ما اجتمع لديه من أقوال العلماء من‬
‫أساتذته من أنّ اللغة وحي وإلهام من عند ال‪ .‬كل ذلك دفع ابن جني إلى ترجيح المذهب القائل بتوقيفية اللغة يقول في‬
‫ذلك‪" :‬إنّني إذا ما تأملت حال هذه اللغة الشريفة‪ ،‬الكريمة اللطيفة‪ ،‬وجدت فيها من الحكمة والدقة والرهاف والرقّة ما‬
‫يملك عليّ جانب الفكر‪ ،‬حتى يكاد يطمح به أمام غلوة(‪)6‬السحر‪ ،‬فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا –رحمهم ال‪ ،-‬ومنه ما‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.66‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ :488‬انظر التعليل الذي قدمه للتركيب (قام زيد) على اعتباره تعبيا مازيا‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() سورة البقرة الية‪.31 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصائص ج ‪ ،1‬ص ‪.41 -40‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصائص‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.46‬‬ ‫‪5‬‬

‫() غلوة السحر‪ :‬الغاية ف سباق اليل‪ ،‬يريد أنه يدنو من غاية السحر‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫حذوته على أمثلتهم‪ ،‬فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وأماده صحّة ما وفّقوا لتقديمه منه"(‪.)1‬‬
‫وخلصة موقف ابن جني من نشأة اللغة أنه وقف موقفا وسطا فقال باللهام والصطلح معا‪ ،‬يوضّح ذلك ما‬
‫ختم به هذا الباب حيث افترض أن يكون ال تعالى قد خلق قبلنا أقواما كانت لهم القدرة التي مكنتهم على الصطلح‬
‫والتواضع في تسمية الشياء‪ ،‬يقول أبو الفتح موضحا موقفه ومعبّرا في ذات الوقت عن حيرته بين القول بعرفية اللغة‬
‫أو القول باللهام‪" :‬فأقف بين تين الخلتين (اللهام والعرف) حسيرا‪ ،‬وأكاثرهما فأنكفئ مكثورا وإن خطر خاطر فيما‬
‫بعد‪ ،‬يعلّق الكف بإحدى الجهتين ويكفها (أو يفكها) عن صاحبتها قلنا به"(‪ .)2‬وما يجدر ملحظته هو أن موضوع نشأة‬
‫اللغة كان من ضمن المواضيع التي أسهب البحث فيه علماء اللغة المحدثون‪ ،‬وجدّوا في تقديم العلل الراجحة لذلك‪،‬‬
‫تهدف إلى تأسيس رؤية موضوعية تأخذ الظواهر اللغوية النموذجية (القرآن الكريم –الحاديث الشريفة –كلم العرب‬
‫الفصيح) كمعطى لوضع معايير مطردة تتناول اللغة في بعدها الشامل وفي جميع مستوياتها المعجمية والتركيبية‪ ،‬وإنّ‬
‫ذلك من شأنه أن ينقل البحث في أصل اللغة –الذي عدّه بعض اللغويين بحثا ميتافيزيقيا –إلى البحث في آلياتها التي‬
‫تشرف على ضبط الدللت المختلفة‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن الدللة قد ولجت كل مجالت المعرفة والثقافة في العصر‬
‫الحديث بل وكل ميادين الحياة‪.‬‬

‫‪-4‬الجهود الدللية عند ابن سينا (‪373‬هـ‪427-‬هـ)‪:‬‬


‫ن ما يميز التحليل الدللي عند ابن سينا هو وقوفه على البعد النفسي والذهني اللذين يصاحبان العملية الدللية‪،‬‬ ‫إّ‬
‫وهو ما يعطي لتحليله طابع الدقة والعمق اللزمين خاصة إذا استحضرنا دراية ابن سينا بعلم النفس واعتماده منهج‬
‫التشريح‪ ،‬وذلك ما يتطابق مع نشاطه كطبيب وفيلسوف في آن واحد(‪ ،)3‬فهو يكثر من ذكر الوجود الذهني للعلمات‬
‫اللغوية وارتسامها في النفس والخيال في رصده لمراحل العملية الدللية‪ ،‬حيث يتم نقل المفاهيم المودعة في الذهن‬
‫لمدلولت في العالم الخارجي إلى أدوات دالة كاللفاظ والكتابة‪ ،‬وبما أنّ اللفظ اللغوي يع ّد أساس العملية الدللية أقام له‬
‫ابن سينا تقسيما بحسب الفراد والتركيب والتأليف‪ ،‬وبحسب الكلي والجزئي ثم أبان عن اللفظ الخاص واللفظ المشترك‬
‫والجامع بين الصفتين‪ ،‬أما الدللة فقد صنفها ابن سينا إلى أصناف لم تخرج عن تلك التي كانت متداولة بين‬
‫معاصريه‪ ،‬من العلماء وممن سبقه من الفلسفة كالفارابي(‪( )4‬ت ‪339‬هـ)‪ ،‬وفيما يلي عرض لهذه المسائل التي أثارها‬
‫ابن سينا وجمعناها في ثلثة عناوين وهي‪ :‬أقسام اللفظ –أقسام الدللة‪-‬العملية الدللية‪.‬‬
‫أ‪-‬أقسام اللفظ‪ :‬يحدّد ابن سينا ماهية اللفظ المفرد بالنظر إلى دللته‪ ،‬فما كانت دللته واحدة ل تتجرأ فهو اللفظ‬
‫المفرد‪ ،‬ثم بحيث إذا تجزأت دللته لم تفصح عنه وإنما تتحول إلى دال غيره‪ ،‬ومعنى ذلك أن اللفظ المفرد قد يكون‬
‫لفظا مركبا فقولنا "عبد شمس" فإنّه وإن جاز فيه أن يجزأ إلى "عبد" و "شمس" ولكن ل تكون دللته من حيث يراد أن‬
‫يقال "عبد شمس" يعرف ابن سينا اللفظ المفرد فيقول‪ :‬اللفظ الدّال المفرد هو اللفظ الذي ل يريد الدال به على معناه أن‬
‫يدل بجزء منه البتة على شيء"(‪ .)5‬وقريبة ماهية دللة اللفظ المفرد عند ابن سينا بماهية المعنى التعييني (‪Sens‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.47‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،47‬وانظر باب ف اللغة‪ :‬أف باب واحد وضعت أم تلحق تابع منها بفارط –ج ‪ -2‬ص ‪.30 -29 -28‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪.‬فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب –ص ‪.13‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر مبحث‪ :‬مفاهيم الدللة عند الفاراب‪ -‬الفصل الول‪ :‬ماهية علم الدللة كما عرفها القدمون‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪4‬‬

‫() منطق الشرقيي –ص ‪.31‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫‪ )denotatif‬عند اللسنيين المحدثين ومنهم العالم الدللي جون ليونز (‪ )John Lyons‬وهو ل يختلف كثيرا عن‬
‫معنى الرجاع الذي تتحدد معه العلقة القائمة بين الوحدة المعجمية وماهو خارج من النظام اللغوي من أشخاص‬
‫ل أنّ (ليونز) يميّز بين التعيين والرجاع في أنّ الول يحدّد مدلول الوحدة المعجمية خارج السياق‬ ‫وأماكن وأشياء‪ .‬إ ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫اللغوي أما الثاني فيحدّد مدلولها داخل العبارات المرتبطة بالسياق ‪ .‬يبرز ابن سينا المعنى التعييني للفظ المفرد‬
‫فيقول‪" :‬والمعنى المفرد –هو المعنى من حيث يلتفت إليه الذهن كما هو‪ ،‬ول يلتفت إلى شيء منه يتقوم أو معه‬
‫يحصل‪ ،‬وإن كان للذهن أن يلتفت وقتا آخر إلى معان أخرى فيه ومعه أو لم يكن"(‪ .)2‬وكإشارة إلى صعوبة تعيين‬
‫دللة اللفظ المفرد يرى ابن سينا أنه لكي تحصل الدللة المعينة وجب أن يرجع إلى معنى اللفظ المفرد دون متعلقاته‪،‬‬
‫وإن كان ذلك يبقى مجرد شرط نظري بحيث أن الذهن يُضمّن الصورة المفهومية للفظ متعلقات أخرى وهو ما يشكل‬
‫إحدى العقبات القائمة أمام التحديد التام لرجاع دللة اللفظ في العالم الخارجي‪ ،‬وقد طرح (ليونز) الشكالية ذاتها في‬
‫حديثه عن التعيين ووصل إلى حدّ القول بوقوع البهام في البحث عن تعيين بعض العبارات والجمل‪ ،‬بل ووجد بعض‬
‫(‪)3‬‬
‫الصيغ التي تخلو من التعيين مثل الصفات والنعوت منها‪ :‬جميل‪ ،‬قبيح‪ ،‬زكي‪ ،‬شريف وغيرها‪..‬‬
‫وما نلحظه في تعريف ابن سينا للفظ المفرد أنه تعريف يختلف عن التعريف الذي أورده في كتابه "الشارات‬
‫والتنبيهات" حيث يقول‪" :‬اللفظ المفرد هو الذي ل يراد بالجزء منه دللة أصلً‪ ،‬حين هو جزؤه مثل تسميتك إنسانا‬
‫بعبد ال فإنك حين تدل بهذا على ذاته ل على صفته من كونه "عبد ال" فلست تريد بقولك "عبد" شيئا أصلً‪ ،‬فكيف إذ‬
‫سميته بـ"عيسى"؟ بلى‪ ،‬في موضع آخر قد تقول "عبد ال" وتعني بـ"عبد" شيئا‪ ،‬وحينئذ يكون "عبد ال" نعتا له‪ ،‬ل‬
‫اسما‪ ،‬وهو مركب ل مفرد"(‪.)4‬‬
‫ومدار الدللة عند ابن سينا هو القصد والرادة‪ ،‬لنها "دللة وضعية متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية على قانون‬
‫الوضع فما يتلفظ به ويراد به معنى ما‪ ،‬ويفهم منه ذلك المعنى‪ ،‬يقال له‪ :‬إنه دال على ذلك المعنى‪ ،‬وما سوى ذلك‬
‫المعنى‪ ،‬مما ل تتعلق به إرادة التلفظ‪ ،‬وإن كان ذلك اللفظ أو جزء منه –بحسب تلك اللغة‪ ،‬أو لغة أخرى أو بإرادة‬
‫أخرى‪ -‬يصلح لن يدل به عليه فل يقال له‪ :‬إنه دال عليه‪ -‬أو ل يراد"(‪ .)5‬ولذلك قد يقال أن جزء "عبد ال" يحمل‬
‫دللة في نفسه ولكن ليست دللة مقصودة يقول ابن سينا موضحا ذلك‪" :‬إذا لم يرد باللفظ دللة لم يكن دالً‪ .‬لن معنى‬
‫قولنا‪" :‬لفظ دال" هو أنه يراد به الدللة ل أن له نفسه حقا من الدللة"(‪ .)6‬والواقع اللغوي يؤكد على أهمية التحقق من‬
‫بنية الكلمة لرصد دللتها وضرورة الوقوف على قصد المتكلم من الصيغ المتشابهة‪ ،‬خاصّة ما يشكل عالمه الدللي‬
‫وهو مرمى مستحيل التحقيق‪ ،‬لن اللغة وجدت للمحاورة والمشاركة لوجود المجاورة كما قال ابن سينا ولو احتفظ كل‬
‫إنسان بعالمه الدللي لما احتجنا إلى اللغة‪ ،‬فالتواصل والبلغ يقتضي أن يكون قدر من الشتراك في سنن اللغة بين‬
‫جمهور المتكلمين من أهلها لنها ثمرة لتواضع بينهم‪ ،‬ولذلك نجد من يعترض على تعريف ابن سينا للفظ المفرد‪ ،‬وما‬

‫() ان ظر الف صل‪ :‬التعي ي ( ‪ )denotation‬من كتا به ( ‪ )Element de semantique‬وان ظر مقال التعي ي والتضم ي ف علم الدللة –‬ ‫‪1‬‬

‫الدكتور جوزيف شاري عدد ‪ 18/17‬سنة ‪ 1982‬ملة الفكر العرب العاصر‪.‬‬


‫() منطق الشرقيي –ص ‪.32‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر‪ .‬فصل "التعيي" ف كتابه‪ )Element desemantique ( :‬ص ‪.85‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ص ‪( 192‬الشارات والتنبيهات)‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصفحة نفسها‪ .‬والصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫() منطق الشرقيي‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫سبب ذلك إل سوء في الفهم وقلة العتبار لما ينبغي أن يفهم ويعتبر(‪ .)1‬وقد شرح العالم المريكي هياكوا (‪S.J.Haya‬‬
‫‪ )kwa‬كيف تحمل الكلمات المعاني اليحائية التي لها إسقاطات نفسية تخص المتكلم وقد ل يتنبه المتلقي لها وميّز بين‬
‫نوعين من المعنى‪ :‬المعنى التصريحي (‪ )Sens intentionnel‬والمعنى الثانوي أو اليحائي (‪Sens‬‬
‫‪ )extensionnel‬أو كما سمى ذلك غرينيبزغ (‪ )J.H.Greeberg‬المعنى الداخلي مقابل المعنى الخارجي وقد "علّق‬
‫الشارح على التعديل الذي أدْخله ابن سينا على تعريفه الول للفظ المفرد بقوله قد‪" :‬زاد في الرسم القديم ذكر (الرادة)‬
‫تنبيها على أن المرجع في دللة اللفظ هو إرادة المتلفظ"(‪.)2‬‬
‫ويورد ابن سينا تفريعا آخر للفظ الدال بحسب ما يغطيه من الدوال الفرعية فكأنه لكسيم رئيسي يشرف على حقل‬
‫ل واحدا ل غير وهنا يحصل التطابق التام بين اللفظ العم وما يضمه‪ ،‬يسمي ابن‬
‫من اللفاظ‪ ،‬قد يضم هذا الحقل دا ً‬
‫سينا ذلك النوع من اللفاظ‪:‬‬
‫بالخاص المطلق‪ ،‬يقول في ذلك‪" :‬إعلم أن أصناف الدال على ما هو من غير تغيير العرف (وفي نسخة "مفهوم‬
‫العرف") ثلثة‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬بالخصوصية المطلقة مثل دالة الحد على ماهية السم مثل دللة الحيوان الناطق على النسان"(‪ .)3‬فالمثال‬
‫الذي قدمه ابن سينا يخصّ الحدود والتعاريف وينسحب على الوحدات المعجمية‪ ،‬كما تقوم به نظرية الحقول الدللية‬
‫فالتعريف‪" :‬الحيوان الناطق" يعد لكسيما رئيسيا يغطي أو يتضمن الدللة على ماهية لفظ النسان‪ .‬معنى ذلك أن النوع‬
‫يشتمل على الجنس من حيث المفهوم‪ ،‬لن النوع يحتوي صفات الجنس كلها مضافا إليها الفصول النوعية في حين‬
‫يكون الجنس أشمل من النوع من حيث الماصدق كما يقول المناطقة(‪.)4‬‬
‫أما النوع الثاني من اللفاظ فهي تلك التي تغطي ألفاظا فرعية غير متجانسة‪ ،‬وهي ذات حقل من الفراد تشترك‬
‫في أن اللفظ العام يتحقق فيها مفهومه الذهني‪ ،‬يقول ابن سينا موضحا ذلك‪" :‬والثاني‪ :‬بالشركة المطلقة مثل ما يجب أن‬
‫يقال –حين يسأل عن جماعة مختلفة فيها مثلً‪ :‬فرس وثور وإنسان‪ :‬ماهي؟ وهناك ل يجب ول يحسن إل الحيوان"(‪.)5‬‬
‫إن تحديد العلقات التقابلية داخل الحقل المعجمي بناء على معجم المفاهيم‪ ،‬يوضح مجالت الستعمال أكثر مما‬
‫يوضحه المعجم التقليدي‪ ،‬ويسمح ذلك بمعرفة أن هذا اللفظ يدرس ضمن مجموعة مترابطة مع ألفاظ أخرى لنها‬
‫تنتمي إلى حقل مفهومي مشترك‪.‬‬
‫ل أوسع مما خص به النوعين الوليين‪،‬‬ ‫أما النوع الثالث من أنواع اللفظ المفرد‪ ،‬فيقيم على أساسه ابن سينا حق ً‬
‫وذلك لن هذا النوع يحمل سمات الخصوصية المطلقة والشركة وهما صفتا النوعين السابقين‪ .‬يقول ابن سينا في‬
‫تحديد هذا النوع من اللفظ المفرد‪" :‬وأما الثالث فهو ما يكون بشركة وخصوصية معا‪ ،‬مثل ما إنّه إذا سئل عن جماعة‬
‫هم‪ :‬زيد وعمرو وخالد‪ ،‬ماهم؟ كان الذي يصلح أن يجاب به على الشرط المذكور أنّهم أناس"(‪ .)6‬ومن ضمن العلقات‬

‫() انظر تعليق الشارح‪ :‬من كتاب الشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.192‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.193‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.244‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر الامش ف كتاب‪ :‬علم الدللة ص ‪ .99‬أحد متار عمر‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() انظر الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الشارات والتنبيهات –ج ‪ ،1‬ص ‪.227‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫التي حددها علماء الدللة داخل الحقل المعجمي‪ ،‬علقة الجزء بالكل‪ ،‬ذلك أن مجموع السمات التي يحملها الكل تنطبق‬
‫ص جزءا واحدا فقط‪ ،‬ويشرح المناطقة هذه العلقة بكون الكل يضم تحته أجزاء ل‬
‫على جزئياته ول يمكن أن تخ ّ‬
‫جزئيات وهذه الجزاء مجتمعة في هيئتها التركيبية يطلق عليها اسم الكل ول يصح إطلق الكل على جزء من‬
‫أجزائه(‪ )1‬فلفظ "أناس" لفظ كلّ يضم تحته أجزاء من اللفاظ‪ ،‬ل يطلق عليها إل وهي مجتمعة ل مفردة‪.‬‬
‫وعلى أساس هذه الصناف الثلثة للفظ المفرد يمكن بناء العلقات الدللية بين جملة الحقول التي يؤسسها وبين‬
‫الدللة التي يحملها‪ .‬فالنوع الول يشير إلى علقة المطابقة بين النسان والحيوان الناطق‪ ،‬أما النوع الثاني والثالث‬
‫فهو يحقق علقة التضمن‪ ،‬وما هو حريّ بالملحظة في هذا المقام هو أن ابن سينا يسعى إلى وضع قواعد كلية تنتظم‬
‫اللفاظ‪ ،‬وهذا هو "دأب المناطقة‪ ،‬بل إنه لينادي بأن تكون تلك القواعد عامّة لجميع اللغات ينتفع بها كل القوام خاصة‬
‫فيما تعلق بالجانب الدللي الذي يسعى المنطقي إلى تحقيقه بضبطه لللفاظ في حالتها الفرادية والتركيبية يقول ابن‬
‫(‪)2‬‬
‫سينا‪" :‬يلزم المنطقي أيضا أن يراعي جانب اللفظ المطلق من حيث ذلك غير مقيد بلغة قوم دون قوم‪ .‬إل فيما يقل" ‪.‬‬
‫فابن سينا بخبرته في التحليل يدرك أن بين اللغات قدرا من الشتراك وتبقى كل لغة تتميّز بخصوصيتها‬
‫الموفورلوجية‪ ،‬والفونولوجية بحيث تتفاوت في ذلك اللغات‪ ،‬وتختلف‪.‬‬
‫ب‪-‬أقسام الدللة‪ :‬إنّ تعيين العلقة بين اللفظ والمعنى‪ ،‬تناوله ابن سينا من جوانب ثلثة‪- :‬دللة المطابقة ودللة‬
‫التضمن ودللة اللتزام‪ ،‬فإذا كان النتقال بواسطة العقل من الدال إلى مدلوله‪ ،‬لعلمه بعلقة الوضع وأنّه كلّما تحقق‬
‫مسموع اسم ارتسم في الخيال مدلوله‪ ،‬فإن الدللة عندئذ دللة وضعية تمنع من وقوع اللتباس بين الدللت الثلث‪.‬‬
‫لنّه قد يطلق اللفظ ول يعني به مدلوله المطابق له كما إذا أطلقنا لفظ "الشمس" وعنينا به "الجرم" كانت الدللة بينهما‬
‫مطابقة وإذا عنينا به "الضوء" كانت العلقة بينهما تضمن"‪.‬‬
‫ولكن بتدخل الوضع وتوسط العرف الصلي يمنع انتقاض الدللت بعضها ببعض يورد ابن سينا أمثلة يوضح‬
‫فيها كل قسم من أقسام الدللة الثلث فدللة المطابقة هي التطابق الحاصل بين اللفظ وما يدل عليه كالنسان فإنه يدل‬
‫على الحيوان الناطق‪ ،‬أمّا دللة التضمن فهو ما يتضمنه اللفظ من معان جزئية تدخل في ماهيته كقولهم النسان فإنه‬
‫يتضمن الحيوان‪ .‬أما دللة اللتزام فهي تحتاج إلى أمر خارجي لعقد الصلة بين الدال ولزمه‪ ،‬فقولنا الب يلتزم البن‬
‫يقول ابن سينا معرفا ذلك‪" :‬أصناف دللة اللفظ على المعنى ثلثة‪:‬‬
‫دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام"(‪ .)3‬وهي دللت تجمع النساق كلّها‪ .‬ويشرح علقة اللتزام‬
‫فيقول‪" :‬ودللة اللتزام مثل دللة المخلوق على الخلق والب على البن والسقف على الحائط والنسان على‬
‫الضاحك‪ ،‬وذلك أن يدل أولً دللة المطابقة على المعنى الذي يدّل عليه أولً‪ ،‬ويكون ذلك المعنى يصحبه معنى آخر‪،‬‬
‫فينتقل الذهن أيضا إلى ذلك المعنى الثاني الذي يوافق المعنى الول ويصحبه‪ .‬وتشترك دللة المطابقة ودللة التضمن‬
‫في أن كل منها ليس دللة على أمر خارج عن الشيء"(‪ .)4‬وينصّ ابن سينا هاهنا على أمر مهم يخصّ العلقة بين‬
‫دللة المطابقة ودللة اللتزام إذ الوصول إلى دللة اللفظ على معناه بطريق اللتزام يمرّ عبر إجراء دللة المطابقة‬
‫بين اللفظ وما يطابقه من مدلولت بتوسط الذهن الذي ينجز هاتين المرحلتين (بشكل سريع جدا) فدللة الب على‬

‫() ضوابط العرفة ص ‪ .32‬حسن حبنكة اليدان‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الشارات والتنبيهات –ج ‪ ،1‬ص ‪.181‬‬ ‫‪2‬‬

‫() منطق الشرقيي –ص ‪.37‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الشارات والتنبيهات –ج ‪ ،1‬ص ‪.189‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫البن دللة التزام ولكن هذه الدللة لم تنعقد حتى وجد العقل أن بين الب ومدلوله (أنه والد له أبناء) هناك علقة‬
‫مطابقة‪ ،‬ثمّ تختلف دللة اللتزام عن دللتي التضمن والمطابقة في أنها تستدعي مدلولً خارجا عن اللفظ‪ ،‬أما دللتا‬
‫التضمن والمطابقة فإنهما تستدعيان مدلولهما من لفظيهما‪ .‬لن دللة اللفظ على كل أجزائه هي دللة مطابقة‪ ،‬أما‬
‫علقته بجزء من هذه الجزاء فهي علقة تضمن‪ ،‬ولذلك نجد ابن سينا في حصره للعلقة القائمة نظريا بين اللفظ‬
‫والمعنى ل يقيّدها فيقول في ذلك‪" :‬ولن بين اللفظ والمعنى علقة ما"(‪ .)1‬ثم لتعيين العلقة بين الدال والدلول يستدعي‬
‫إدراك العلقة بين المدلول والشيء الخارجي وذلك ما أشارت إليه المباحث اللسانية الحديثة التي أكدت أنْ ل علقة‬
‫مباشرة بين الدال والمدلول وإنما العلقة الحقيقية هي بين الرمز اللغوي ومحتواه الذهني (‪ ،)concept‬إل أن وعي‬
‫النسان اعتاد على ربط الدال بالشيء الخارجي ربطا مباشرا دون وعي بالمحتوى الذهني في العلقة الدللية بين‬
‫الدال والمدلول‪ ،‬ولذلك يرى ابن سينا أن العلقة الدللية تنعقد بين المعنى (المدلول) والشيء في العالم الخارجي تأكيدا‬
‫أن ل علقة مباشرة بين الدال والمدلول يقول موضحا ذلك‪" :‬فما يخرج بالصوت يدل على ما في النفس وهي التي‬
‫تسمى آثارا والتي في النفس تدل على المور وهي التي تسمى معاني"(‪ .)2‬ويمكن توضيح ذلك بالمثلث التالي‪:‬‬
‫ما في النفس (المحتوى الذهني)‬

‫الصوت (الرمز اللغوي)‬ ‫المور الخارجية (المعاني)‬


‫ول تكفينا المقارنة لنقارب مثلث ابن سينا الدللي بمثلث ريشتاردز وأوجدن‪ ،‬بل إن ابن سينا كان أعمق في‬
‫إدراك جوهر الدللة من المحدثين‪ ،‬فسمى الرمز اللغوي (صوتا) وذلك إشارة كذلك إلى الرمز غير اللغوي‪ ،‬فما كل‬
‫صوت‪ ،‬لفظ لغوي‪ ،‬ثم سمّى ما في النفس آثارا وذلك لنّ ارتسام صورة الرمز في النفس يشكل آثارا تتحول إلى‬
‫تراكمات للمعاني الذهنية في الذاكرة فكلما تحقق مسموع صوت ارتسمت في الخيال صورته‪.‬‬
‫إنّ أهمية مباحث ابن سينا في الدللة ل تكمن في عمق تصورّها لجوهر الفعل الدللي فحسب‪ ،‬وإنما في بعدها‬
‫الشمولي للسان البشري‪ ،‬وهو هدف يعكف عليه علماء الدللة المحدثين وعلى رأسهم (نوام تشومسكي) في بحثه عن‬
‫القواسم المشتركة بين اللغات يحاول وضع قواعد أو نحو كلي (‪ )Universal Grammar‬ينتظم اللسان البشري‪ .‬إن‬
‫ما يجمع بين اللغات هو اشتراكها في التصورات الذهنية اشتراكا عاما أما ما يفرقها فهي النساق الدللية وكيفية‬
‫تحقيقها في واقع اللغة‪ ،‬مع أنّ العالم الدللي واحد في كل اللغات‪ ،‬يعني ذلك –حسب تشومسكي‪ -‬أن البنية العميقة‬
‫مشتركة بين جميع اللغات أما الختلف فيكمن في البنية السطحية‪ ،‬ودليله في ذلك أن الطفل في طور تعرّفه الول‬
‫على الشياء المحيطة به تتحكم في منطقه البنية العميقة أو الكفاية اللغوية وهذا ما يفسّر اشتراك الطفال من مختلف‬
‫الجناس في ترميزهم للمدلولت في العالم الخارجي‪ ،‬والتعبير عن أحوالهم السيكولوجية يقول ابن سينا شارحا ذلك‪:‬‬
‫"وأمّا دللة ما في النفس على المور فدللة طبيعية ل يختلف الدال ول المدلول عليه‪ ،‬كما في الدللة بين اللفظ والثر‬
‫النفساني‪ ،‬فإن المدلول عليه وإن كان غير مختلف‪ ،‬فإن الدال مختلف ول كما في الدللة بين اللفظ والكتابة‪ ،‬فإن الدال‬
‫والمدلول عليه جميعا قد يختلفان"(‪ .)3‬ثم إن الصورة السمعية (‪)Image acoustique‬هي التي تعكس مفهوم المدلول‬

‫() الشارات والتنبيهات –ج ‪ ،1‬ص ‪.189‬‬ ‫‪1‬‬

‫() العبارة من الشفاء‪ ،‬ص ‪.4 -2‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫في النفس فيكون المعنى‪ ،‬ويرتسم في الذهن‪ ،‬ضمن الذاكرة اللغوية ارتباط اللفظ بمعناه‪ ،‬فكلما ت ّم ارتسام مسموع السم‬
‫في الخيال توارد إلى النفس معناه‪ ،‬وذلك تأكيد على ما سجلناه عند ابن سينا من أن العلقة الحقيقية الدللية هي بين‬
‫الدال والصورة والذهنية يقول ابن سينا مبرزا ذلك‪" :‬فمعنى دللة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم‪،‬‬
‫ارتسم في النفس معنى‪ ،‬فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم‪ ،‬فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى‬
‫معناه"(‪.)1‬‬
‫ج‪-‬العملية الدللية‪ :‬يشير ابن سينا‪ ،‬في رصده لليات الفعل الدللي‪ ،‬إلى تلك القدرة التي أوتيها النسان المتكلم‪،‬‬
‫بحيث مكنته من نقل المفاهيم التي التقطها من العالم الخارجي إلى نفسه وقد انتقل معها من الحس إلى التجريد‬
‫ويطالعنا في هذا الموضوع الدرس الدللي بأبحاث مستفيضة حول معاينة وجود العوالم الدللية‪ ،‬ومن ضمن المواضع‬
‫التي أظهرها العلماء مواضع أربع وهي‪ :‬الفكار و الحداث و الوضاع و المفاهيم‪( .‬ففريجه) ‪ Frege‬ذهب إلى أن‬
‫تموضع العوالم الدللية هو عالم المفاهيم لنها الوسيط الذي يربط الفكار والحداث والوضاع‪ :‬الذهان تمسك‬
‫بالمفاهيم والكلمات تعبّر عنها والشياء يحال عليها بواسطتها"(‪ .)2‬فأين يرى ابن سينا تموضع العوالم الدللية؟ يقول في‬
‫ذلك‪" :‬إن النسان قد أوتي قوة حسية ترتسم فيها صور المور الخارجية وتتأدى عنها إلى النفس فترتسم فيها ارتساما‬
‫ثانيا ثابتا‪ ،‬وإن غاب عن الحس‪ .‬فللمور وجود في العيان ووجود في النفس يكوّن آثارا في النفس‪ .‬ولمّا كانت‬
‫الطبيعة النسانية محتاجة إلى المحاورة لضطرارها إلى المشاركة والمجاورة انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به‬
‫إلى ذلك (…) فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت ووفقت من عند الخالق بآلت تقطيع الحروف وتركيبها معا‪ ،‬ليدل‬
‫بها على ما في النفس من أثر‪ .‬ثم وقع اضطرار ثان إلى إعلم الغائبين من الموجودين في الزمان أو من المستقبلين‬
‫إعلما بتدوين ما علم… فاحتيج إلى ضرب آخر من العلم غير النطق‪ ،‬فاخترعت أشكال الكتابة"(‪ .)3‬إن هذا النص‬
‫يحمل دللة علمية عميقة‪ ،‬يقف فيه ابن سينا على تاريخ وجود الدللة وأشكالها المقولية صوتا وكتابة‪ ..‬فقد جعل‬
‫النسان ذاته‪ ،‬مستودع للبنيات الدللية التي عكست صورا من العالم الخارجي إلى النفس‪ ،‬ولكنها ليست نفس الصور‬
‫وإنّما أخذَت شكلً ثانيا ليس هو شكلها الوّل ولكنّه شكل ثابت ل يتغيّر من هنا تنسج العمليات الدللية –بحسب ابن‬
‫سينا‪ -‬حيث تأخذ الطابع التجريدي البحث في غياب صور عالم العيان‪ .‬وتحتاج عندئذ لنماط مقولية بعد المواضعة‬
‫عليها وهنا يشير ابن سينا إلى الطابع الجتماعي للغة فلول الحاجة الجتماعية للمحاورة التي اقتضاها المجتمع‬
‫ل ما يبقي الصلت الجتماعية راسخة‪ .‬ولكن‬ ‫البشري لستغنى عن اللغة‪ ،‬فاللغة حاملة للقيم الجتماعية وهي وعاء لك ّ‬
‫ابن سينا يميل إلى القول بأن اللغة إلهام من عند ال تعالى الذي وهب النسان (آلت) لنتاج تقاطيع صوتية اصطلح‬
‫عليها‪ ،‬وحمّلها مدلولت متعلقة بها‪ ،‬وكان الصوت اللغوي يقوم بالعملية الدللية‪ ،‬التي هي جوهر فعل البلغ‬
‫والتواصل‪ ،‬في حيّز زماني ومكان ضيّق‪ ،‬ولما احتاج النسان إلى نقل معارفه إلى الغائبين من الموجودين‪ ،‬أو ما كان‬
‫في حكمهم من التين مستقبلً‪ ،‬كانت الكتابة شكلً متطورا‪ .‬وقد ميّز في الدرس اللساني الحديث العالم اللغوي (رومان‬
‫جاكسون) بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة وفي إطار ذلك قابل بين الصوت والحرف‪ ،‬والمستمع والقارئ ووقف‬
‫على فعالية الكلم وفعالية الكتابة وخلص إلى أن الكتابة ستبقى الداة الكثر فعالية في الخطاب التواصلي والبلغي‬
‫كونها تضمن له استمرارية كبرى ومنفذا إلى المتلقين مهما تباعد المكان والزمان‪ .‬وأن الكتابة تفضل الكلم المنطوق‪،‬‬
‫في أن المستمع بعد أن يقوم بتركيب ثان لسلسلة الكلم المنطوق قد يحصل له بعض المعنى لنه ستكون عندئذ‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية –ص ‪ .381‬د‪.‬عبد القادر الفاسي الفهري‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الشفاء (العبارة)‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫عناصر الكلم قد تلشت(‪.)1‬‬
‫ويكون ابن سينا بما أوتي من سبر عميق لبنية اللغة‪ ،‬وتحليل علمي لفعاليات الدللة قد وضع أسس نظرية لغوية‬
‫ذات رؤية متميزة في التراث العربي‪ ،‬ظهر فيها بوضوح أهمية العامل النفسي والذهني في تقديم التفسيرات الكافية‬
‫للفعل الدللي الموصوف بالتعقيد‪ ،‬وإنّ الذي أعان الشيخ الرئيس في استنباط تلك القواعد‪ ،‬التي تنتظم العالم الدللي‪،‬‬
‫هو امتلكه للمنهج المنطقي القائم على الستدلل والتعليل الذي يسوّغ رسم الصول بأكبر قدر من التفصيل والتدقيق‪،‬‬
‫وقد كان للبحث الدللي الحظ الوفر في أنه تُ ُنوّل ضمن اهتمامات لغوية أخرى اتخذت الموضوع الدللي كمنفذ‬
‫أساسي لبسط مصنفاتها خاصة تلك العلوم التي ورثت منهجا علميا في غاية الدقة كعلم المنطق‪ ،‬الذي اشتغل به ابن‬
‫سينا‪ ،‬وكان يهدف معه إلى وضع قوانين المعنى بكشف أسراره وإيضاح أنماطه وتمظهراته في الواقع اللغوي وذلك‬
‫حتى يغدو أداة عاصمة من الوقوع في اللحن بإحداث اضطراب في سنن النظام اللغوي‪ ،‬ويتماشى مع علم المنطق‬
‫الذي يسعى أهله من العلماء إلى تبيّن معالمه ليَعصِم من الوقوع في الزلل والغلط‪.‬‬

‫‪-5‬الجهود الدللية عند عبد القاهر الجرجاني (ت ‪421‬هـ)‪:‬‬


‫من خلل كتابه‪" :‬دلئل العجاز"‪ .‬ل يمكن بحال أن نغلق حلقات البحث البلغي من وجهة نظر دللية وأسلوبية‪،‬‬
‫بما قدّمه الجاحظ في هذا المجال‪ ،‬رغم قيمته العلمية‪ ،‬دون أن نضيف إليها حلقة مهمّة وأساسية تتلخص في جهود عبد‬
‫القاهر الجرجاني في إرساء نظرية النظم‪ .‬ويمكن أن نجزم بأن البحث في (المعاني) باعتبارها جوهر عملية تأليف‬
‫الكلم وإتقان نظمه‪ ،‬بدأت بإسهامات الجاحظ وتعريفه‪ ،‬بأدوات البيان ومصطلحات (النظم) وتأسست على يد عبد‬
‫القاهر الجرجاني من خلل كتابه "دلئل العجاز" الذي لم يرد من وراء تأليفه إثبات إعجاز القرآن على سمت‬
‫المتكلمين والمناطقة‪ ،‬وإنّما رام به الكشف عن إعجاز القرآن من زاوية نظرة لسانية وأسلوبية‪ ،‬فتناول ضمنها مباحث‬
‫تتمحور كلها حول قيمة اللفظ في حالتيه الفرادية والتركيبية‪ ،‬وعلقته بالمعنى وما تفرع عنهما من مباحث أخر‪،‬‬
‫وسنبسط ها هنا الكلم عن بعض هذه المباحث بما يجلّي إسهامات الجرجاني في الحقل الدللي‪ ،‬وقيمة ذلك بالنظر إلى‬
‫التطور الحاصل في ميدان علم اللغة بشكل عام‪.‬‬
‫أ‪-‬العلمة اللسانية (علقة اللفظ بالمعنى)‪ :‬هناك –كما تشير إليه السلوبية‪ -‬عمليتان تتمان مع كل تلفظ أو إنشاء‬
‫كلمي‪ ،‬إحداهما سابقة على الخرى فأما الولى فتتمثل في انتظام المعاني في الذهن ويصحبها حسن اختيار الدللت‬
‫المناسبة للموقف الكلمي‪ ،‬أمّا الثانية فتتمثل في انتظام المعاني في ألفاظ وتراكيب بأنساق مختلفة يحدّد الجرجاني‬
‫بصورة دقيقة كيفية اختيار المتكلم للمعاني واللفاظ أثناء الموقف الكلمي‪ .‬فيقول‪" :‬إن اللفاظ إذا كانت أوعية للمعاني‬
‫فإنها ل محالة تتبع المعاني في مواقعها‪ ،‬فإذا وجب لمعنى أن يكون أولً في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون‬
‫مثله أولً في النطق"(‪ )2‬وما يلحظ أن الجرجاني يعطي السبقية للمعاني في الوجود النفسي واللفاظ تابعة لها في‬
‫الواقع الكلمي‪ ،‬وهذا ما يفسّر ل نهائية المعاني التي أقرّها علماء الدللة المحدثون مقابلة نهائية اللفاظ‪ ،‬واستخلصوا‬
‫أن المتكلم يلجأ‪ ،‬لذلك –في غالب الحيان‪ -‬إلى توظيف النزياح الدللي لس ّد ثغرة دللية ل يستطيع المعجم ملها‬
‫وهو "احتيال من النسان على اللغة وعلى نفسه لس ّد قصوره وقصورها معا‪ ،‬لن النسان عاجز عن الحاطة باللغة‬
‫وطرائقها‪ ،‬مثلما هي عاجزة عن نقل كل ما في نفسه"(‪ .)3‬ويضع الجرجاني تعليلً منطقيا لسبقية المعاني على اللفاظ‬

‫() ‪P.101-102 Essais de linguistique generale‬‬ ‫‪1‬‬

‫() دلئل العجاز‪،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪2‬‬

‫() نظرية النقد العرب‪ ،‬وتطورها إل عصرنا –ص ‪ ،202‬د‪.‬مي الدين صبحي‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫مستندا على معيار التغيّر الذي يطرأ على المعنى دون اللفظ وهذا ما يؤكد على اعتباطية الدليل اللساني الذي يعطي‬
‫للغة مرونتها في ملءمة الوضاع المختلفة ومسايرة الحوال المتغيرة‪ ،‬فلو كان اللفظ له ارتباط طبيعي بدللته لما‬
‫وسع اللغة أن تتميّز بطابعها الجتماعي حيث تماشِي المجتمع في تطوراته النفسية والعلمية‪ .‬يقول الجرجاني في ذلك‪:‬‬
‫ل أن تتغيّر المعاني واللفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها فلما‬‫"لو كانت المعاني تكون تبعا لللفاظ في ترتيبها لكان محا ً‬
‫رأينا المعاني قد جاز فيها التغيّر من غير أن تتغيّر اللفاظ وتزول عن أماكنها علمنا أن اللفاظ هي التابعة والمعاني‬
‫هي المتبوعة"(‪ .)1‬كما أن الدرس الدللي الحديث يقرّ أن الصيغة المعجمية تكتسب دللة ثانية عندما تدخل في تجاور‬
‫سياقي مع وحدات كلمية أخرى يُراعىَ في ذلك حسن التناسق بين المعاني وحسن الموقع لللفاظ فل تبدو نابية ول‬
‫مستكرهة وبذلك تكتسب الصيغة المعجمية داخل التركيب (الفضيلة) وفي ذلك تأكيد على أهمية التلزم بين مكونات‬
‫الجملة بالنظر إلى الوظيفة الدللية لهذه المكونات يشرح ذلك الجرجاني بقولـه‪" :‬فقد اتضح إذن اتضاحا ل يدع للشك‬
‫ل أن اللفاظ ل تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة ول من حيث هي كلم مفردة‪ ،‬وإنما اللفاظ تثبت لها الفضيلة‬ ‫مجا ً‬
‫(‪)2‬‬
‫وخلفها في ملءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما ل تعلق له بصريح اللفظ" ‪ .‬إنّ تلك المزايا‬
‫التي كان يخص بها أهل الشعر ومحترفو صناعة النقد في التراث الدبي العربي للفظ دون المعنى يعطيه الجرجاني‬
‫تأويلً آخر‪ ،‬إذ ينظر إلى اللفظ والمعنى كطرفين ل ينفكان يشكلن ما سمّاه علماء اللسنة المحدثون بالعلمة اللسانية‬
‫ض الطرف‬ ‫أو الدليل اللساني (‪ )Signe linguistique‬ومنهم العالم دوسوسير الذي يقيمه على الدال والمدلول ويغ ّ‬
‫على مفهوم المدلول في عالم الماديات وتعيينه كطرف ثالث في العملية الدللية(‪ .)3‬فأولئك النقاد الذين عناهم الجرجاني‬
‫ل يبنون انطباعهم الجمالي على الصورة الصوتية للكلمة بمعزل عمّا توحيه من دللة بديعة بل ينظرون إلى اشتراك‬
‫اللفظ والمعنى معا في إحداث صورة دللية‪ .‬فالجرجاني يضيف طرفا ثالثا في معادلة الفعل الدللي ويجدر التنبيه ها‬
‫هنا أن طبيعة المعنى عند اللغويين القدامى ل تختلف عن الشيء الخارجي الذي يومئ إليه اللفظ وهو المدلول‪،‬‬
‫فيحصل أن الصورة الخاصة التي حدثت في المعنى إنّما يعني بها الجرجاني ما عناه علماء الدللة واللسنية المحدثون‬
‫بالمحتوى الذهني للشارة اللغوية‪ .‬يفصّل ذلك الجرجاني بقوله‪" :‬فيعلموا (أي محترفو الشعر والنقد) أنّهم لم يوجبوا ما‬
‫أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ‬
‫وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصّة التي حدثت فيه"(‪.)4‬‬
‫ويمكن على أساس هذا النص مقاربة رؤية الجرجاني للدليل اللساني برؤية المحدثين من العلماء الذين أوضحوا‬
‫المكونات الثلثة للعلمة اللغوية وهي‪ :‬الدال والمدلول والمحتوى الذهني على الشكل الذي بيّناه بمثلث ابن سينا في‬
‫هذا المجال والذي قاربنا به مثلث أوجدن وريتشاردز(‪ .)5‬فالجرجاني يحدّد ثلثة مكونات تنشأ عن علقة اللفظ بالمعنى‬
‫وهي‪ :‬اللفظ –المعنى (الشيء الخارجي)‪ -‬الصورة الذهنية‪ ،‬والمثلث التالي يوضّح توزيع هذه المكونات‪.‬‬
‫الصورة الذهنية (محتوى الدال الفكري)‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.338‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.60‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ‪Cour de linguistique generale p.100‬‬ ‫‪3‬‬

‫() دلئل العجاز ص ‪.425‬‬ ‫‪4‬‬

‫() انظر ذلك ف مبحث أقسام الدللة عند ابن سينا‪ ،‬ص ‪.112‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫اللفظ (الدال)‬ ‫المعنى (الشيء الخارجي) –المدلول‬
‫إنّ اللغة عند الجرجاني تتمظهر في تقابلت ثنائية قطباها اللفظ والمعنى‪ ،‬وهي أعمق ممّا قيّدها به بعض‬
‫البلغيين الذين وضعوا معايير منطقية ونحوية (قواعدية) تمكن كل من قدر على النطق بها مراعيا أدواتها‪ ،‬من أن‬
‫يبلغ الغاية من البيان في اللغة‪ ،‬وكأن النقص في بلوغ البيان يكمن فقط في النقص من جهة العلم باللغة‪ ،‬ومعرفة‬
‫الشارة بالعين وبالرأس ودللتهما والخط والعقد والحال واتصالهم بتحقيق البيان‪ .‬إن الذي يعطي المزية لخطاب لغوي‬
‫هو مراعاته للسرار والدقائق التي تتعلق بجوهر اللغة ل بمظهرها‪ ،‬آخذا من أجل بلوغ الغاية التي ل مبلغ بعدها تلك‬
‫الرتباطات الدللية التي يلتحم فيها الدال بمدلوله ضمن شبكة من العلقات‪ ،‬تقتضي معرفة بالصول القواعدية‪،‬‬
‫ل عن ذلك العلقة اللغوية كتجسيد لدللة هي‬ ‫ووعي بأسرارها‪ ،‬حيث ل تقف عند حدود المنطق والنحو إنّما تأخذ فض ً‬
‫عبارة عن نسيج حي متشعب الصور‪ .‬يقول الجرجاني في ذلك متجاوزا نظرة الجاحظ إلى البيان المؤسّس على‬
‫معايير هي أشبه بالقواعد النحوية‪" :‬ترى كثيرا منهم ل يرى له (أي للنحو) معنى أكثر مما يرى للشارة بالرأس‬
‫والعين وما تجده للخط والعقد يقول‪ :‬إنّما هو خبر واستخبار وأمر ونهي‪ .‬ولكل من ذلك لفظ قد وضع له‪ ،‬وجعل دليلً‬
‫عليه فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات عربية كانت أو فرنسية وعَرَف المغزى من ذلك من كل لفظة ثم ساعده‬
‫اللسان على النطق بها وعلى تأدية أجراسها وحروفها فهو بيّن في تلك اللغة كامل الداة‪ ،‬بالغ عن البيان المبلغ الذي‬
‫ل مزيد عليه‪ .‬مُنت ٍه إلى الغاية التي ل مذهب بعدها (‪ )..‬وجملة المر أنه ل يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك‬
‫إل من جهة نقصه في علم اللغة‪ ،‬ل يعلم أن هاهنا دقائق وأسرار‪ ،‬طريق العلم بها الرواية والفكر ولطائف مستقاها‬
‫العقل‪.)1("...‬‬
‫وبذلك يكون الجرجاني قد أعطى للنحو قيمته في اللغة‪ ،‬فهو ليس جملة من القواعد الجافة التي تعتني بضبط‬
‫أواخر الكلمات وتعيين المبني منها والمعرب‪ ،‬إنّما النحو هو النظم الذي يكشف عن المعاني ويعطي لللفاظ البعد‬
‫المطلوب من أجل الفصاح عن الدللة‪ ،‬وتوليد المواقف المطلوبة المناسبة للتعبير فهو بذلك يساير اللغة في تجدّدها‬
‫وتطورها لتحتضن المواقف الجديدة عبر الزمان والمكان ونلحظ أن الجرجاني ناقم على تلك التجاهات التي كانت‬
‫تنظر إلى النحو نظرة تفضي إلى أن تجمد اللغة‪ ،‬وتبقى عاجزة عن احتواء المواقف‪ ،‬وذلك بتكبيل تراكيبها بقيود‬
‫النحو والقواعد‪ ،‬كما أنّ النقاد الذين سبقوا الجرجاني كانوا يسرفون في الهتمام باللفظ (الشكل) ويعطون له شرف‬
‫إصابة الغرض وبلوغ البيان دون أن يكون للمعنى أثر في ذلك‪ ،‬ولذلك نرى ردّ فعل الجرجاني معاكسا لهذا التجاه‬
‫فهو يقيم نظريته في النظم على المعاني(‪ )2‬وليس على اللفاظ يقول معبّرا عن هذا التجاه‪" :‬أتتصوّر أن تكون معتبرا‬
‫مفكرا في حال اللفظ مع اللفظ حتى تضعه بجنبه أو قبله‪ ،‬وأن تقول هذه اللفظة إنما صلحت هاهنا لكونها على صفة‬
‫كذا؟ أم ل يعقل إل أن تقول‪ :‬صلحت هاهنا لن معناها كذا‪ ،‬ولدللتها على كذا‪ ،‬ولن معنى الكلم والغرض فيه‬
‫يوجب كذا‪ ،‬ولن معنى ما قبلها يقتضي معناها؟ فإن تصوّرت الول فقل ما شئت‪ ،‬واعلم أن ما ذكرناه باطل‪ .‬وإن لم‬
‫تتصوّر إل الثاني فل تخدعن نفسك بالضاليل ودع النظر إلى ظواهر المور‪ ،‬واعلم أن ما ترى أنه لب ّد منه من‬
‫ترتيب اللفاظ وتواليها على النظام الخاص ليس هو الذي طلبته بالفكر‪ ،‬ولكنه شيء يقع بسبب الول ضرورة من‬
‫حيث أن اللفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها ل محالة تتبع المعاني في مواضيعها"(‪ .)3‬إن احتفاء الجرجاني بالمعنى‬
‫وإعطائه القيمة العليا في العملية الدللية‪ ،‬وإحلله المحل الول في النشاء لكونه يعبر عن المقاصد والغراض‪ ،‬يمكن‬

‫() دلئل العجاز ‪ ،‬ص ‪.21 -20‬‬ ‫‪1‬‬

‫() قضايا النقد الدب بي القدي والديث‪ :‬ص ‪– 291‬د‪.‬ممد زكي العشماوي‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.68 -67‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫ص باهتمام كبير لدى النقاد الذين سبقوا الجرجاني في تقديمهم للشكل على‬
‫أن نجد له تعليلً في أن اللفظ قد خ ّ‬
‫المضمون‪ ،‬هذا الهتمام المفرط باللفظ على حساب المعنى سعى الجرجاني إلى الحدّ منه وذلك بالنظر إلى أن اللغة‬
‫تذوب فيها ثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬وهذا ما كرّسه في نظرية النظم التي أقامها على النحو (العلم بالتركيب) وعلم المعاني‬
‫(العلم بالدللة)‪.‬‬
‫‪-2‬دللة الحدث الكلمي‪ :‬تأكد بما ل يدع للشك مجالً‪ ،‬أنّه كلّما كان المخاطب على علم بمحتوى الخطاب‬
‫اللغوي‪ ،‬كلما كانت الدللة أسرع إلى فهمه وإدراكه‪ ،‬وكلما كان جهله بمحتوى الخطاب كلما صعب عليه إدراك‬
‫الدللة‪ ،‬ووسعه الخذ بجملة من المعطيات الموضوعية والذاتية في سبيل ذلك‪ ،‬يعني أن هناك تناسبا عكسيا بين طاقة‬
‫التصريح في الكلم وعلم السامع بمضمون الرسالة يقول الدكتور عبد السلم المسدي‪" :‬ويتعين علينا –ونحن على‬
‫مسار تحديد الطاقة الستيعابية في اللغة‪ -‬استنباط قانون من التناسب بين طاقة التصريح في الكلم وعلم السامع‬
‫بمضمون الرسالة الدللية إذ بموجبه تكون الطاقة الختزالية ممكنة بقدر ما يكون السامع مستطلعا على مضمونها‬
‫الخبري"(‪ .)1‬ويشرح الجرجاني هذه الطاقة التي يتضمنها الخطاب والتي يكون على إثرها قابلً للمتداد أو التقلص‬
‫ل بذلك‪ ،‬فإن كان عالما‬‫فيقول‪" :‬ل يخلو السامع من أن يكون عالما باللغة وبمعاني اللفاظ التي يسمعها أو يكون جاه ً‬
‫لم يتصوّر أن يتفاوت حال اللفاظ معه فيكون معنى اللفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر وإن كان جاهلً كان ذلك‬
‫في وصفه أبعد"(‪ .)2‬وحتى على مستوى الخطاب الذي يكون للسامع علم بمحتواه‪ ،‬تتفاوت اللفاظ فيه والمعاني من‬
‫حيث وقوعها من إدراك المتلقي فبعضها يكون أسرع إلى الفهم من بعضها الخر‪ ،‬وهذا يتوقف أساسا على بنية‬
‫الخطاب وموقعها من التعقيد والبساطة‪ ،‬وعلى قدرة المتلقي في تفكيك الخطاب بحسب ما توفر له ذاكرته اللغوية‪ .‬كما‬
‫يردّ الجرجاني وضوح دللة الخطاب إلى حسن التأليف بين أجزائه ونظم كلماته‪ ،‬وإلى توخي معاني النحو وأحكامه‬
‫فيقول‪" :‬إذا كان النظم سويا والتأليف مستقيما‪ ،‬كان وصول المعنى إلى قلبك تلو وصول اللفظ إلى سمعك وإذا كان‬
‫على خلف ما ينبغي وصل اللفظ إلى السمع وبقيت في المعنى تطلب وتتعب فيه وإذا أفرط المر في ذلك صار إلى‬
‫التعقيد الذي قالوا إنه يستهلك المعنى"(‪ .)3‬إن ما أوضحه الجرجاني في مقام سلمة الدللة في الحدث الكلمي قد بحثه‬
‫ص مادّة الحدث الكلمي ومحتواه معا‪،‬‬ ‫علماء الدللة في العصر الحديث حيث وضعوا قواعد تضمن وضوح الدللة تخ ّ‬
‫أطلقوا على الولى قواعد سلمة التركيب وعلى الثانية قواعد سلمة الدللة وهي قواعد تنهض بعملية توصيل الدللة‪،‬‬
‫وكل واحدة من هاتين القاعدتين تتوفر على وجود مستقل وإنّما يتم التعالق بينهما بقواعد السقاط‪ ،‬ويجدر التنبيه أن‬
‫الباث للحدث الكلمي والمتلقي‪ ،‬وجب أن يكونا على وعي بهذه القواعد المنتجة للتمثيلت الدللية والتمثيلت التركيبية‬
‫في الحدث الكلمي الرامي إلى البلغ ويمكن توضيح ذلك بما يلي‪:‬‬

‫قواعد سلمة الدللة‪.‬‬ ‫قواعد حسن النظم واستقامة التأليف‬

‫بنى دللية سليمة‬ ‫قواعد السقاط‬ ‫بنى تركيبية سليمة‬

‫إن هذه القواعد ل تحقق الغاية من التواصل والبلغ إل في وجود باث ومتلق واعيين بآليات الحدث الكلمي‪،‬‬
‫ذلك أنّ الحفاظ على خط التواصل سليما ليس بالمر الهيّن‪ ،‬فقد يتعرض قانون التخاطب إلى تعديل فيحصل بين‬
‫() اللسانيات رأسها العرفية‪ :‬ص ‪.767‬‬ ‫‪1‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.254‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.257‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫المتخاطبين تواضع جديد واصطلح غير مطرد وهنا يتعرض الحدث الكلمي إلى موجة من الشحن التعبيري يتحول‬
‫بواسطته المدلول إلى دال على ملول ثان على النحو التي‪:‬‬
‫مدلول ‪1‬‬ ‫دال‬
‫مدلول ‪2‬‬ ‫مدلول‬
‫يحلّل ذلك الجرجاني بقوله‪" :‬ومن الصفات التي تجدهم يجرونها على اللفظ ثم ل تعترضك شبهة ول يكون منك‬
‫توقف في أنّها ليست له ولكن لمعناه قولهم‪ :‬ل يكون الكلم يستحق اسم البلغة حتّى يسابق معناه لفظة معناه‪ ،‬ول‬
‫يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك وقولهم‪ :‬يدخل في الذن بل إذن فهذا مما ل يشك العاقل في أنه يرجع‬
‫إلى دللة المعنى على المعنى وأنّه ل يتصوّر أن يراد به دللة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة"(‪.)1‬‬
‫فالجرجاني بتحليله هذا يعطي تأويلً لقول الجاحظ‪" :‬ل يكون الكلم يستحق اسم البلغة حتّى يسابق معناه لفظه معناه‪،‬‬
‫ول يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك"(‪ .)2‬ويرسم به ما يعرف في علم الدللة الحديث بتعالق البنية‬
‫الدللية والبنية التصورية فالمعجم الذهني التصوّري يحمل بنى دللية تتعالق مع مجموعة من المفاهيم التي ترتبط بها‪.‬‬
‫وعند إنتاج الحدث الكلمي في عملية التواصل يتم إحضار كل هذه التصوّرات والمفاهيم مما يؤدّي إلى التوالد‬
‫الدللي‪ .‬فالمعنى التصوّري –باعتبار أن الذاكرة المعجمية للفرد تعلّق كل كلمة بتصور دللي واحد‪ -‬يتولّد عنه معنى‬
‫مفهومي أو معان مفهومية وجدت نتيجة لتعالق البنية الدللية بالبنية التصوّرية‪ ،‬ولذلك نرى الجرجاني يميّز بين‬
‫الصنفين فيقول‪" :‬أن تقول المعنى ومعنى المعنى تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة‪،‬‬
‫وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"(‪ .)3‬ويكفي الجرجاني بما قدّمه من‬
‫جهود أنّه أثار قضية البحث في معنى المعنى‪ ،‬وهي قضية أحدث بها العالمان ريتشاردز وأوجدن ضجّة بإصدار‬
‫كتابيهما‪" :‬معنى المعنى" (‪ The meaning of meaning) 1923‬وفيه يتساءل العالمان ليس عن تطور المعنى كما‬
‫كان سائدا آنذاك في الدرس اللسني التاريخي‪ ،‬وإنما عن ماهية المعنى(‪ .)4‬وتشعّب البحث الدللي في قضية "المعنى"‪.‬‬
‫فأثيرت مسألة تموضع الدّللة فخاض العلماء اللغويون غمار ذلك وانطلقوا من معطيات منطقية إذ أدركوا أن المعاني‬
‫موجودة قبل اللفاظ‪ ،‬بل قبل الرموز التي اتّخذها النسان القديم للتواصل والبلغ ودليلهم على ذلك أن العوالم الدللية‬
‫غير محدّدة و ل تقبل التحديد بينما الدوات الدالة على بعض هذه العوالم معلومة محدّدة سواء اللغوية منها أو غير‬
‫ل عليها‪،‬‬ ‫اللغوية‪ ،‬فالمعاني غير متناهية ولزال النسان يضع للمعاني‪ ،‬التي توّصل إلى إدراكها‪ ،‬حديثا اللفاظ التي تد ّ‬
‫إذن أين تتموضع المعاني؟ لقد افترض "غريماس" وجود عالم دللي معطى وذلك ليقابل به البنيات الدللية في تقسيمها‬
‫إلى سمات صوتية صغرى (‪ )Phemes‬فشرع في تقسيم العالم الدللي المفترض إلى سمات (‪ ،)Semes‬والحقيقة أنّ‬
‫عمل غريماس‪ ،‬لم يرق إلى مستوى العمل الجرائي الذي يخرج الفرضيات والنظريات إلى الواقع اللغوي‪ ،‬فإذا كان‬
‫قد استطاع تحليل البنية الدللية إلى سماتها الصوتية فإن تحليل الدللة إلى سمات قد ل يقدّم للبحث اللغوي –الدللي‬
‫شيئا عدا الوقوف على السمات الدللية (‪ )Semantic markers‬التي تعتبر –إضافة إلى المميزات‪ -‬البجدية الدللية‬
‫التي تؤلف منها القراءات‪ ،‬إذ المميز يمثل ماهو خاص في معنى وحدة معجمية‪ .‬وتمثل السمة الدللية ماهو نسقي أو‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.253‬‬ ‫‪1‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪2‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.251‬‬ ‫‪3‬‬

‫() مدخل إل علم الدللة‪ .‬د‪.‬موريس أبو ناضر‪ .‬ملة الفكر العرب العاصر‪ -‬عدد ‪ .19 -18‬ص ‪ .31‬سنة ‪.1982‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫علئقي في المعنى‪ ،‬أي ما يربط بين المفردة ومفردات أخرى(‪ .)1‬بينما موضع علماء آخرون المعنى في عالم المفاهيم‬
‫ومنهم العالم (‪ ،)Frdge‬لكنّ علماء التُراث المعرفي العربي كانوا يربطون إنتاج الحدث الكلمي بتشكل المعنى في‬
‫النفس ومنهم الجاحظ وابن سينا‪ ،‬والجرجاني الذي يقول محدّدا تموضع المعنى‪" :‬إنّ الخبر وجميع الكلم معان ينشئها‬
‫النسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه‪ ،‬ويراجع فيها عقله‪ ،‬وتوصف بأنّها مقاصد وأغراض‪ ،‬وأعظمها‬
‫شأنا الخبر الذي يتصوّر بالصور الكثيرة"(‪.)2‬‬
‫ج‪-‬النظام السنادي والدللة‪ :‬يضع الجرجاني للدللة التي يؤديها الخطاب اللغوي أثناء عملية التواصل "معيار‬
‫العلم المقصود" إما عن طريق نفي الخبر أو إثباته‪ ،‬فليس كل ما يحمله الخطاب يوصف بأنّه (دللة) إنّما الدللة كما‬
‫يقول الجرجاني – "هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه إذا كان الخبر إثباتا‪ ،‬والحكم بعدمه إذا كان‬
‫نفيا"(‪ ،)3‬فالدللة تتوقف على أمر خارجي غير لغوي يرجعه الجرجاني إلى قصد المتكلم من إعلم السامع‪ ،‬إذ يدلّ‬
‫صدقا على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه‪ ،‬أمّا إن نقل المتكلم الخبر ليعلم السامع على وجود المخبر‬
‫به من المخبر عنه‪ ،‬دون إثبات أو نفي فكأنه أخلى اللفظ من معناه والخطاب من محتواه‪ ،‬وجلّ الدراسات الدللية‬
‫واللسنية الحديثة أضحت تركّز في رصدها للعملية البلغية والتواصلية على "الباث" أو ما سمّاه الجرجاني "المُخبر"‬
‫حتى صارت طبيعة الدللة المحمولة في الكلم موقوفة على قصد المتكلم في إعلمه المتلقي بالخبر‪ ،‬وذلك أمام‬
‫ل من خلل سلسلة الكلم وحدها‪ ،‬خاصّة أنّه تأكد على يد علماء الدللة المحدثون‬ ‫صعوبة تحديد المعنى تحديدا كام ً‬
‫ومنهم العالم (بيرس) (‪ )Pierce‬أن المعنى ليس ما تحمله الوحدة المعجمية في نظام علئقي مع وحدات معجمية‬
‫أخرى‪ ،‬وإنما المعنى عبارة عن علقة معقدة بين أحداث كلمية وأوجه أخرى للواقع الموضوعي‪ .‬ويذهب العالم‬
‫اللغوي بيار جيرو (‪ )Piere Giraud‬إلى العتقاد بأن للكلمة أكثر من معنى تصريحي وآخر إيمائي نظرا للتداعيات‬
‫التي يمكن أن تحدثها أثناء الستعمال"(‪ .)4‬يقول الجرجاني محدّدا أهمية إسناد الخبر إلى المخبر والخذ بقصده في‬
‫الخبر‪" :‬الدللة على شيء هي ل محالة إعلمك السامع إياه‪ ،‬وليس بدليل ما أنت ل تعلم به مدلولً عليه‪ ،‬وإذا كان‬
‫كذلك وكان مما يعلم ببداءة المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده‪ ،‬فينبغي‬
‫أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره وماهو؟ أهو أن يعلم السامع وجود المخبِر به من المخبَر عنه؟ أم أن يعلمه‬
‫إثبات المعنى المخبِر به للمخبَر عنه؟(‪ .)5‬فالجرجاني يرتكز هاهنا في تحديد الدللة على‪:‬‬
‫أ‪-‬إثباتُ الخبر للمخبر عنه= علقة المسند بالمسند إليه‪.‬‬
‫ب‪-‬إثبات الخبر من المخبر عنه= علقة المسند بناقل السناد‪.‬‬
‫ولذلك فإن الجرجاني يقيم دللة الخطاب اللغوي على قاعدة السناد التي توفر لنا النظر إلى ثلثة أطراف في‬
‫عملية البلغ وهي‪:‬‬
‫‪-‬المسنَد –والمسنَد إليه‪ -‬وناقل السناد‪.‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية –ص ‪ -363‬د‪.‬عبد القادر الفاسي الفهري‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.460‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.463‬‬ ‫‪3‬‬

‫() علم الدللة‪ ،‬ص ‪ .63‬ترجة د‪.‬منذر عياشي‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.642‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫فالمسنَد هو محتوى الخطاب البلغي (العلمي) وهو يقتضي جملة من القواعد الدللية المعيارية التي توفّق‬
‫بين المفهوم المجرّد للمعنى والماصدق الذي يغطيه الخطاب‪ ،‬ويتحقق فيه المفهوم المجرّد لمحتواه الدللي‪ ،‬فالجملة‬
‫الخبرية (كوحدة اتصال) يجب أن تخبر السامع ما يعتبر بالنسبة إليه جديدا في الموقف الكلمي الراهن(‪ .)1‬وهو ما‬
‫يحققه (المسنَد) الذي يظهر محمولً في‪ :‬البنية الشكلية للجملة‪ .‬أمّا المسنَد إليه (المخبَر عنه) فعليه يتوّقف حقيقة‬
‫(الخبَر) وذلك بناء على الحكم بوجود المعنى أو عدمه وهو مرتبط بحصول الفائدة للسامع من الكلم البلغي‪،‬‬
‫والجرجاني بذلك ل يهتم إلّ بالتراكيب السنادية أمّا التراكيب غير السنادية فإنّها جمل غير وظيفية لنها ل تضطلع‬
‫بمهمة البلغ‪ ،‬فالفائدة الدللية من الكلم متلزمة ونظام السناد‪ ،‬وأيّ تغيير في البنية الشكلية للتركيب يترتب عليه‬
‫تغيير في المعنى‪ ،‬فالسياق الكلمي عند الجرجاني يتميّز بمستويين‪:‬‬
‫أ‪-‬مستوى البنية النحوية الساكنة التي تتحدد بتحقّق السناد‪.‬‬
‫ب‪-‬مستوى البنية البلغية المتغيرة حسب المقام والتي تتحدد بتحقق الفائدة من الخبر(‪.)2‬‬
‫أما ناقل السناد أو المخبِر ‪-‬بمصطلح الجرجاني‪ -‬أو الباث‪ -‬بمصطلح اللسنية الحديثة‪ ،‬فهو الذي يثبت وجود‬
‫المعنى للمخبَر عنه (المسند إليه) وقبل ذلك يكون (ناقل السناد) قد قام بترتيب الخطاب في نفسه قبل أن يصرفه إلى‬
‫المتلقي‪ ،‬وقد أخذ في ذلك مقام (المتلقي) وحاله‪ .‬يعيب الجرجاني على الذين جعلوا اللفظ أساس النظم والبلغ فيقول‪:‬‬
‫"فترى الرجل منهم يرى ويعلم أن النسان ل يستطيع أن يجيء باللفاظ مرتبة إل من بعد أن يفكر في المعاني‬
‫ويرتبها في نفسه على ما أعلمناك‪ ،‬ثم تفتشه فتراه ل يعرف المر بحقيقته‪ ،‬وتراه ينظر إلى حال السامع فإذا رأى‬
‫المعاني ل تقع مرتبة في نفسه‪ ،‬إل من بعد أن تقع اللفاظ مرتبة في سمعه نسي حال نفسه واعتبر حال من يسمع منه‪.‬‬
‫وسبب ذلك قصر الهمة وضعف العناية وترك النظر والنس بالتقليد‪ ،‬وما يغني وضوح الدللة مع من ل ينظر فيها‪،‬‬
‫وإنّ الصبح ليمل الفق ثم يراه النائم ومن قد أطبق جفنه"(‪ .)3‬أمّا ما يجب اعتباره أثناء عملية البلغ فيراه الجرجاني‬
‫في النظر إلى حال المتكلم وكيف يصرف المعاني ويرتبها فيقول‪" :‬فإن العتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلم‬
‫والمؤلف له‪ ،‬والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه ل مع السامع"(‪.)4‬‬
‫نلمح من هذا كله أن الجرجاني الذي اهتم بطرق صرف الدللة على وجهها الصحيح‪ ،‬اتخذ من النظر إلى لغة‬
‫إعجاز القرآن مطية إلى رصد القواعد النمطية التي تزخر بها اللغة العربية‪ ،‬وبعرضه لتعالق النظام النحوي (النظام‬
‫السنادي) بالنظام السياقي العام في تحديد دللة الخبر يكون الجرجاني قد سَبق إلى وضع نظرية في التّصال‬
‫والبلغ‪.‬‬
‫الخلصة‪ :‬وجملة القول عن ذلك المناخ المعرفي الذي سبق علي بن محمد المدي‪ ،‬أن الدرس اللغوي بدءا من‬
‫القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس قد تحدّدت مسائله‪ ،‬ووضُحت أسسه وطرائقه‪ ،‬فقد أرسى الشافعي قواعد للفهم‬
‫والتأويل وإن كانت خاصّة بالنص الديني إل أنّها تنسحب على كلّ تأليف كلمي انتظمت ألفاظه ومعانيه باللغة التي‬
‫أحكمت بها دللت النص الديني‪ ،‬كما أثار الشافعي مسألتين دار حولهما حديث كثير وهما‪ :‬الترادف والمشترك‬
‫اللفظي وذهب إلى القول بوقوعهما في اللغة‪ ،‬كما أبان عن دور السياق في تحديد دللة اللفظ القابلة للتساع وهي‬

‫() التراكيب النحوية وسياقاتا الختلفة ‪،‬عند عبد القاهر الرجان‪ ،‬ص ‪ ،96‬صال بلعيد‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.466‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.375‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫إشارة إلى قضية "المجاز"‪ .‬وما يجدر ذكره عند الشافعي هو قدرته على وضع منهج بيّن في استنباط الحكام‪ ،‬يعتمد‬
‫التقسيم والتمثيل وحسن التصرف في الستدلل والنقض‪ ،‬ومراعاة النظام المنطقي إل أنّ أظهر ما يميّز الشافعي هو‬
‫بسطه للقياس الفقهي الذي ذهب بعض المؤرخين للحاقه بالتمثيل عند أرسطو‪ ،‬لكن وُجد أن القياس الفقهي يفضي إلى‬
‫اليقين على نقيض التمثيل الرسطي المبني على الظن ول يفضي إلى اليقين‪ .‬وقد استفاد علماء الصول من جهود‬
‫الشافعي خاصّة في اقتباسه لبعض طرائق علماء الكلم‪ ،‬وكان من نتائج ذلك ظهور علماء أصول الفقه الذين مزجوا‬
‫بين طرائق الستدلل الفقهي‪ ،‬والعتماد أساسا على النقل‪ ،‬وبين طرائق المتكلمين في الستدلل العقلي‪ ،‬وقياس الغائب‬
‫على الشاهد‪ ،‬وأطلق على هؤلء‪ ،‬المصطلح‪" :‬الصوليون المتكلمون" ومنهم‪ :‬علي بن محمد المدي‪.‬‬
‫وفي القرن الهجري ذاته الذي عاش فيه الشافعي يبرز في حقل معرفي آخر عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬علَم من‬
‫أعلم البلغة والبيان‪ ،‬ومؤسس مهمّ لمباحث لغوية لزالت مرجعا لدراسات لسانية ودللية معاصرة‪ ،‬فلقد عكف‬
‫الجاحظ على الدراسة الصورية لعناصر اللغة موضحا قيمتها الصوتية وأهمية ذلك في حسن التأليف بين الحروف‬
‫قصد تشكيل الوحدات الكلمية‪ ،‬أدوات البيان‪ ،‬وفي ذلك يفصح الجاحظ عن الوظائف التي يضطلع بها الخطاب‬
‫س لغوي كبير أظهر صاحب "البيان والتبيين" أبعاد العلمة في التُراث المعرفي مقسما إياها إلى العلمة‬ ‫البلغي‪ ،‬وبح ّ‬
‫اللسانية والعلمة غير اللسانية وجمع ذلك فيما سماه "أدوات البيان" الخمس‪ ،‬كما أثار الجاحظ قضية نشأة اللغة وأبان‬
‫عن موقفه من ذلك‪ ،‬وقد استمر في إرساء قواعد البيان والكشف عن قوانين اللغة إلى منتصف القرن الثالث الهجري‪.‬‬
‫أمّا ابن جني "بخصائصه" فقد مثل فعاليات القرن الرابع الهجري ول يمكن أن نقدّر ما قدّمه هذا العالم حقّ قدره إلّ إذا‬
‫نظرنا إلى جرأته في وضع قواعد تنتظم اللغة على الرغم مما آخذه عليها علماء عصره ومن تأخّر منهم‪ ،‬كقوله‬
‫بالتقلبات الستة للوحدة المعجمية وربطها بدللة أصلية واحدة‪ ،‬وذلك التفريع الدللي الذي خصّ به الفعل محدّدا دللته‬
‫الثلث‪ ،‬كما أثار قضية نشأة اللغة ومبحث الحقيقة والمجاز‪.‬‬
‫أمّا ابن سينا فيمثّل حقلً معرفيا أفاد منه الدرس الدللي كثيرا‪ ،‬خاصّة وأنّ الدللة هي بحث في المعنى وطرق‬
‫تشكله وتمظهره في أنماط مقولية مختلفة‪ ،‬فابن سينا العالم النفساني الخبير بمكامن وأسرار النفس‪ ،‬والمشرّح البارع‬
‫الممتلك لدواته الجرائية في التشريح‪ ،‬قد استطاع أن يلج إلى عالم الدللة ليرصد لنا آليات الفعل الدللي وأقسام‬
‫ل عن أقسام اللفظ باعتبار الشركة والخصوصية‪ ،‬وعلى أساس ذلك يمكن بناء‬ ‫الدللة والعلقة بين هذه القسام‪ ،‬فض ً‬
‫ص السماء‪ ،‬وما يمكن إبرازه هاهنا هو العلقة التي عقدها ابن سينا بين اللفظ والمعنى "والثار" التي‬‫حقول دللية تخ ّ‬
‫في النفس‪ ،‬وهي تقارب ما وضعه اللسنيون المحدثون في ذلك ممثلً إياه بالمثلث –كمثلث (‪)ogden et richards‬‬
‫المعروف‪ ،‬والذي ينص أن ل علقة مباشرة بين اللفظ والمعنى‪ ،‬أو ما يصطلح عليه بالدال والمدلول وهو ما يوضحه‬
‫الخط المنقط في قاعدة المثلث‪ .‬وما ختمنا به جهود العرب القدامى في ميدان الدللة هو جهود العالم اللغوي عبد‬
‫القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم‪ ،‬التي ولدت مع الجاحظ وتبلورت مع ابن جني‪ ،‬وتأسست على يد الجرجاني‬
‫قاعدة بيّنة المعالم واضحة الهداف تأخذ (النحو) بمفهومه الواسع أساسا لضبط قواعد سلمة التركيب‪ ،‬والنظام الدللي‬
‫العام‪ .‬وما يميّز جهود الجرجاني هو تحديده بشكل دقيق لليات الفعل البلغي‪ ،‬واضعا في سبيل ذلك أسسا تتلخص‬
‫في ضرورة الهتمام بالسياق العام لكل عناصر البلغ بدءا بالمخبر ومرورا بالخبر وانتها ًء إلى المستمع المتلقي‬
‫للخبر‪ ،‬ثم هناك علقة مهمة بين المخبِر والخبَر من جهة والخَبر والمتلقي من جهة ثانية وعليها تتحدد دللة الحدث‬
‫الكلمي المتضمن للخبر‪ .‬فإدراك الجرجاني هذه العناصر كلها في عملية البلغ‪ ،‬جعله يتبوأ مكانة كبيرة في‬
‫عطاءات الدرس اللساني الحديث عامّة والدللي خاصّة‪ .‬ويكفيه جهدا أنّه أعاد للمعنى مكانته في الدرس اللغوي‪،‬‬
‫وعدّل الكفّة بينه وبين اللفظ لنهما معا جوهر العملية الدللية‪ ،‬وبذلك يأتي الجرجاني في قسم البلغة ليضع حدّا لذلك‬
‫الفراط في العلء من شرف اللفظ وقداسة الشكل عند من سبقه من نقاد الشعر‪.‬‬
‫‪- 108 -‬‬
‫في هذه الجواء المفعمة بالنشاط اللغوي الدؤوب والمتنوع‪ ،‬وبعد وضع أسس لنظرية معرفية تعطي السلطة‬
‫الكبرى لفهم معاني اللغة‪ ،‬واللمام بطرقها في التعبير‪ ،‬ووضوح منهج البحث الذي استفاد من روافد معرفية وافدة‬
‫يأتي العالم الصولي المتكلم سيف الدين المدي في منتصف القرن السادس لتتضح على يده معالم ذلك المشروع‬
‫المعرفي الشامل الذي بدأه الشافعي وتبلور على يد من تعاقب من العلماء ليتأسس على يد المدي علما أصوليا واضح‬
‫البواب بيّن المسائل طيّع الدوات وهذا ما سوف نلمسه في كتابه "الحكام في أصول الحكام"‪.‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫العلمة اللسانية عند المدي‬

‫‪-1‬مدخل عام‬

‫‪ -1‬علم أصول الفقه والدللة‪:‬‬


‫لمّا كان عهد النبوة وإشعاعه المعرفي ل يزال يؤثر في مجرى المعارف والعلوم‪ ،‬لم يحتج العرب إلى علوم‬
‫يبسطون فيها قواعد النظر والستنباط‪ .‬ولكن ما إن تقادم عهد النبوة‪ ،‬ودخلت أجناس مختلفة إلى المصار السلمية‬
‫وبدأت تتفشى العجمة في اللغة العربية‪ ،‬وتبدت مناهج الفلسفة والمنطق الوافدة من علوم الفرس واليونان‪ ،‬رأيت نزوع‬
‫العلماء نحو الشتغال العقلي‪ ،‬ومزج فنون النقل بعلوم العقل فكان لزاما عصرئذ من وضع طرق للستنباط والنظر‬
‫خاصّة ما تعلّق منها بنصوص مقدّسة كالقرآن الكريم وأحاديث الرسول الشريفة‪ ،‬فاهتدى العلماء إلى وضع علم‬
‫أصول الفقه‪ .‬وكان أوّل من فتق قواعد هذا العلم وأجراه مجرى التطبيق هو صاحب أول مصنّف في هذا المجال‬
‫المام الشافعي –رضي ال عنه‪ -‬في كتابه "الرسالة"‪ .‬وموقع أصول الفقه بالنسبة للفقه هو كموقع المنطق بالنسبة‬
‫للفلسفة‪ ،‬إذ به تبرز الطرق الموصلة إلى إدراك ماهية المعاني والحكام المستنبطة من مظانها‪ ،‬كذلك المنطق به‬
‫بعضهم الذهن من الوقوع في الخطأ‪ ،‬يقول الدكتور علي سامي النشار‪" :‬وأول مسألة ينبغي توضيحها‪ :‬هي اعتبار علم‬
‫الصول بالنسبة إلى الفقه كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسلفة (…) وفي الواقع أن اعتبار الصول بالنسبة إلى الفقه‪،‬‬
‫كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسفة‪ ،‬يبدو واضحا تماما إذا ما بحثنا في علم الصول نفسه"(‪ )1‬وحقيقة إن علم أصول‬
‫الفقه يضع أدوات الستنباط هي أشبه بأدوات المنطق في ضبط القضايا‪ .‬يقول المام الزركشي في كتابه "البحر‬
‫المحيط" معرفا أصول الفقه‪" :‬فأصول الفقه هو مجموع طرق الفقه من حيث أنها على سبيل الجمال وكيفية الستدلل‬
‫بها وحالة المستدل بها"(‪ )2‬ويتقدم المدي قبل الزركشي في تعريف علم أصول الفقه فيقول‪" :‬فأصول الفقه هي أدلة‬
‫الفقه وجهات دللتها على الحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها"(‪ .)3‬ث ّم احتاج علم أصول الفقه في مرحلة من‬
‫مراحل تشكله إلى ضوابط لغوية أخذها من تقسيمات المناطقة لللفاظ من حيث دللتها على المعاني ومن حيث‬
‫عمومها وخصوصها ومن حيث إفرادها وتركيبها‪ .‬وإنّ نظرة عجلى إلى استهللت كتب الصوليين وتلك التي في‬
‫كتب المنطق لتؤكد ما مدى صلة علم أصول الفقه بالمنطق‪ ،‬خاصّة‪ ،‬يقول الدكتور علي سامي النشار وهو يتحدث عن‬

‫() منهاج البحث عند مفكري السلم‪ .‬ص ‪.79‬‬ ‫‪1‬‬

‫() البحر الحيط‪ ،‬ج ‪ -1‬ص ‪.19‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ -1‬ص ‪.7‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫تلك المداخل اللغوية في كتب الصوليين‪" :‬وتبدأ هذه البحاث اللفظية كما تبدأ كتب المنطق الخرى بالبحث المشهور‬
‫"دللة اللفاظ على المعاني"(‪ )1‬ومنذ عهد الغزالي دأب الصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلمية كمظهر‬
‫من مظاهر تأثرهم بالمنطق اليوناني ومنهم المدي صاحب كتاب "الحكام في أصول الحكام" وقد عدّت المباحث‬
‫اللغوية في تلك الكتب من مسائل المنطق لن الصوليين المتكلمين خاصّة‪ ،‬نصّوا على قواعد نظرية المعرفة وذكروا‬
‫من ضمنها المبحث اللغوي الذي يتناول اللفظ والمعنى وما يتفرع عنه من مسائل‪ ،‬وقد أطلقوا على تلك المقدمات‬
‫اللغوية المنطقية بشكل عام اسم الكلمية وذلك لعتبارهم أن المنطق جزء من علم الكلم‪ ،‬إل أنّ ما يجدر ذكره هو‬
‫عمق النظرة اللغوية عند الصوليين بلجوئهم إلى طرق وأدلة خاصّة في تعاملهم مع اللغة‪ ،‬ل يتوفر عليها اللغويون‬
‫أنفسهم يقول الدكتور علي سامي النشار‪" :‬إن المباحث الصولية اللغوية ليست من نوع علوم اللغة أو النحو العادية‪.‬‬
‫فقد دقق الصوليون نظرهم في فهم أشياء من كلم العرب لم يتوصل إليها اللغويون أو النحاة‪ .‬إن كلم العرب متسع‬
‫وطرق البحث فيه متشعبة‪ ،‬فكتب اللغة تضبط اللفاظ والمعاني الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي يتوصل إليها‬
‫(‪)2‬‬
‫الصولي باستقراء يزيد على استقراء اللغوي‪ .‬فهناك دقائق ل يتعرض لها اللغوي ول تقتضيها صناعة النحو" ‪ .‬إن‬
‫المباحث اللغوية ومنها الدللية على الخصوص‪ ،‬في كتب الصوليين تتسم بعمق ودقّة الستقراء‪ ،‬فتخريج الدللة يتم‬
‫عبر تفكيك لبنية الخطاب بتحليل عناصره وربط ذلك بالمقام العام الذي يقتضي تلك الدللة دون غيرها‪ .‬إن اللغة‬
‫منظومة لسانية وسيمائية بأنماطها المختلفة في التعبير وأسرار البيان تبدو بارزة بشكل ناضج في بحوث غير‬
‫اللغويين‪ ،‬كالصوليين الذين أسقطوا منهج الستقراء والتدقيق في الجزئيات على اللغة‪ ،‬ذلك لعتقادهم أن من السس‬
‫الرئيسة لنظرية المعرفة هي اللغة فخاضوا في أقسام اللفاظ والدللت‪ ،‬فبحثوا الشتراك والترادف وأفاضوا الجدل‬
‫حولهما وقسّموا الدللت بحسب المنطوق والمفهوم من الخطاب‪ ،‬كما أبانوا عن قدرة لغوية في تحديد أدوات ضبط‬
‫الدللة المعيّنة فبحثوا الستغراق والعموم والشرط والستثناء والتقديم والتأخير والطلق والتقييد وغير ذلك مما سيرد‬
‫ل على وضوح المنهج الصولي الذي يبدأ بما هو عملي وإجرائي قبل‬ ‫ذكره في مباحث المدي في هذا المجال‪ ،‬وفض ً‬
‫مناقشة المسائل النظرية المجردة فقد أكّد الصوليون على ضرورة اللمام الشامل بحيثيات الخطاب وظروفه وتجاوز‬
‫البنية اللسانية للخطاب إلى رصد المعالم الدللية العميقة‪ ،‬وذلك من أجل الفهم الكلي لفحوى الخطاب‪ ،‬وهو ما أشار‬
‫إليه علماء الدللة المحدثون ومنهم (تشومسكي) الذي ذهب إلى أنّه لفهم جملة ما يجب أن يكون لدينا معارف أخرى‬
‫تتجاوز التحليل اللساني لهذه الجملة في كل مستوى لساني‪ ،‬ويجب كذلك أن نعرف مرجع ومعنى المورفامات أو‬
‫الكلمات التي تؤلفها"(‪.)3‬‬

‫‪-2‬لمحة عن حياة المدي وكتابه الحكام في أصول الحكام‪:‬‬


‫إن الركام المعرفي الذي اجتمع في القرن السادس الهجري‪ ،‬كان له أكبر الثر في بروز أعلم سخّروا حياتهم‬
‫لعادة ترتيب ذلك الركام المعرفي وتمحيصه وتذليله حتى يدخل في تفاعل جدلي مع عطاءات القرن‪ ،‬وحاجات أهله‬
‫من المعرفة والعلم‪ .‬لقد وقر في الذهان أن فكر النسان ل يمكن أن يعزل عن مجرى عصره وحوادث زمانه‬
‫ونتوءات أيامه البارزة‪ ،‬فالطار التاريخي الحضاري الذي نشأ في أجوائه المدي جعله يتبوأ مكانة عليّة في عصره‪،‬‬
‫خاصّة وأنّه أتى بعد أولئك العلم الذين رسموا المنهاج القويم في العلوم وتركوا آثارا بقيت على مرّ الزمن‪ ،‬معالم‬

‫() منهاج البحث عند مفكري السلم‪ .‬ص ‪.45‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.91‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ص ‪ Structures syntaxique ,N. chomsky 117‬ترجه إل الفرنسية‪ .‬ميشال برودو ( ‪.)Michel Braudeau‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫بارزة ومنارات نيّرة يهتدي بها كل عالم متأخر‪ .‬فقد سبق المدي –كما أوضحنا في الفصل السابق‪ -‬الشافعي‪ -‬رضي‬
‫ال عنه‪ -‬والجاحظ وابن جني وابن سينا وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم‪.‬‬
‫المدي هو سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي‪ .‬كانت ولدته في سنة إحدى‬
‫وخمسين وخمسمائة‪ ،‬ففيه أصولي مقدّم في زمانه‪ ،‬اعجب علماء عصره بحسن كلمه وقوّة حجته في الجدل‬
‫والمناظرة يقول عنه معاصره بن أبي أصيبعة‪ ،‬الذي كانت تجمع أباه والمدي مودة أكيدة‪" :‬كان أذكى أهل زمانه‬
‫وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية‪ ،‬والمذاهب الشرعية والمبادئ الطبية (…) فصيح الكلم جيّد التصنيف"(‪ .)1‬بدأ المدي‬
‫يشتغل بالمذهب الحنبلي مدّة من الزمن ثم ما لبث أن انتقل إلى المذهب الشافعي‪ ،‬وقد عدّه ابن السبكي فيما ع ّد من‬
‫علماء الشافعية في كتابه "طبقات الشافعية"‪ ،‬كَثُر ترحال المدي كما كَثُر حسّاده من العلماء الذين ألّبوا عليه المراء‬
‫والحكام بحجة الشتغال بالمنطق والفلسفة حتّى وصل بهم المر‪ ،‬إلى استحلل دمه‪ ،‬وأمضوا في عارضة قدموها إلى‬
‫حاكم مصر فخرج متخفيا إلى الشام يقول عنه ابن خلكان‪" :‬كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب (…) وبقي على ذلك‬
‫مدّة ثم انتقل إلى مذهب المام الشافعي رضي ال عنه‪ .‬ثم انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الكثير‬
‫وتمهر فيه وحصّل منه شيئا كثيرا ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم"(‪ .)2‬لمّا قدم إلى دمشق أكرمه الملك‬
‫المعظم شرف الدّين بن أيوب وأنعم عليه وولّه التدريس‪ .‬وكان نابغة في الشام‪ ،‬لم يرق إلى مقامه أحد من العلماء‬
‫يقول ابن أبي أصيبعة في ذلك‪" :‬وكان إذا نزل وجلس في المدرسة وألقى الدرس والفقهاء عنده يتعجب الناس من‬
‫حسن كلمه في المناظرة والبحث‪ ،‬ولم يكن أحد يماثله في سائر العلوم"(‪ .)3‬للمدي منهاج فريد في التصنيف والمحاجة‬
‫إلى درجة تبعث على الندهاش‪ ،‬وذلك لتمكنه الشديد من أدوات الجدل والكلم‪ ،‬ومنها اللغة وعلومها والمنطق ومسائله‬
‫ولذلك "كان (المدي) قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال‪ ،‬كثير التشقيقات في تفصيل المسائل‪ ،‬والترديد والسبر‬
‫والتقسيم في الدلة إلى درجة قد تنتهي بالقارئ أحيانا إلى الحيرة"(‪.)4‬‬
‫وقد نقل الذهبي في كتابه "الميزان" أمورا هي محل ريبة وشك تخصّ عقيدة المدي وهي أنّه كان مستهترا تاركا‬
‫للصلة‪ ،‬وقد لوحظ ذلك بأن وضعت علمة من الحبر في أسفل قدمه بينما هو نائم ثم تبين أنّ تلك العلمة لم َتزُل من‬
‫تحت قدمه بعد ذلك اليوم‪ ،‬وقد ر ّد ابن كثير هذه الشكوك في كتابه "البداية والنهاية" خاصّة وأنّ هناك من العلماء من‬
‫ل يرى الدّلك في الوضوء من فرائض الطهارة بل إنّ الحبر قد يبقى أياما ول يزول بفعل الوضوء‪ ،‬ومهما يكن فإنّ‬
‫المصنفات التي تركها المدي وخاصّة كتابه "الحكام في أصول الحكام" يدل على احترام ظاهر وتقدير عالم ورع‬
‫ليات ال وأحاديث رسوله الكريم وقد نقل عنه ولده جمال الدين محمد بعض ممّا أنشده أبوه لنفسه(‪ )5‬من ذلك قوله‪:‬‬

‫ول غريبة إل وهو منشأها‬ ‫فل فضيلة إلّ من فضائله‬

‫به الممالك لما أن تولها‬ ‫حاز الفخار بفضل العلم وارتفعت‬

‫() عيون النباء ف طبقات الطباء ج ‪ -3‬ص ‪.285‬‬ ‫‪1‬‬

‫() وفيات العيان‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.293‬‬ ‫‪2‬‬

‫() عيون النباء ف طبقات الطباء‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.285‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام (القدمة) الشيخ عبد الرزاق عفيفي‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() عيون النباء ف طبقات الطباء‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪.285‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 112 -‬‬


‫وهو الطريق إلى الزلفى بأخراها‬ ‫فهو الوسيلة في الدنيا لطالبها‬

‫لقد ترك المدي مصنّفات تربو على العشرين مصنّفا اختصر بعضها في كتاب جامع‪ ،‬من ذلك كتاب "أبكار‬
‫الفكار" في علم الكلم اختصره في كتاب‪ ،‬سمّاه "منائح القرائح" وله كتاب "رموز الكنوز" و "دقائق الحقائق" ولباب‬
‫اللباب" و "كتاب منتهى السؤل في علم الصول" و "كتاب كشف التمويهات في شرح التنبيهات" و كتاب "غاية المل‬
‫في علم الجدل" وغير ذلك من الكتب فضلً على كتاب "الحكام في أصول الحكام"‪.‬‬
‫ل في بيته‬
‫وأقام المدي في آخر حياته بدمشق مدرسا بالمدرسة العزيزية ثم ما لبث أن عزل منها وأقام بطا ً‬
‫(‪)1‬‬
‫وتوفي على تلك الحال في رابع صفر يوم الثلثاء سنة إحدى وثلثين وستمائة ودفن بسفح جبل قاسيون بدمشق‬
‫‪-‬رحمه ال‪.-‬‬

‫‪-‬كتاب "الحكام في أصول الحكام"‪ :‬موضوعه وخطته‪:‬‬


‫أهم دافع يحفّز على قراءة كتاب "الحكام في أصول الحكام" قراءة دللية‪ ،‬هو وضوح منهجه ودقة موضوعاته‪،‬‬
‫وبسطه لقواعد لغوية وسنن كلمية وتعبيرية‪ ،‬تبدو فيه اللغة العربية منظومة دللية في حاجة إلى الحاطة بأسرارها‬
‫ومعانيها وقدراتها على تحديد المعاني‪ ،‬تحديدا يتجاوز النص المكتوب إلى رؤية تأويلية تعطي لفحوى النص أبعاده‬
‫الدللية الخاصّة‪ .‬وقد أشاد علماء كثيرون بقيمة كتاب "الحكام في أصول الحكام" وعدّوه أحد العمدة الساسية التي‬
‫أقامت علم أصول الفقه‪ ،‬علما له قواعده وأصوله وطرائقه ومناهجه‪ ،‬فقد اعتبر ابن خلدون علم أصول الفقه من العلوم‬
‫المستحدثة في الملّة وذكر علماء هذا الفن السابقين فقال‪" :‬وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون‪ ،‬كتاب البرهان لمام‬
‫الحرمين(‪ ،)2‬والمستصفى للغزالي وهما من أشعرية‪ ،‬وكتب (العمد) لعبد الجبّار وشرحه "المعتمد" لبي الحسين‬
‫البصري وهما من المعتزلة‪ ،‬وكانت الربعة قواعد هذا الفن وأركانه ثمّ لخّص هذه الكتب الربعة فحلن من المتكلمين‬
‫المتأخرين‪ ،‬وهما المام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول‪ ،‬وسيف الدين المدي في كتاب الحكام"(‪.)3‬‬
‫كان مشروعنا الول‪ ،‬هو دراسة أفكار المدي الدللية من خلل كتبه أو على القل من خلل أهم كتبه التي بسط‬
‫فيها هذه الفكار‪ ،‬لكننا ما إن قطعنا بعض الخطوات في دراسة كتاب "الحكام في أصول الحكام" حتّى تبيّن لنا‬
‫استحالة ذلك‪ ،‬وأدركنا أن ما جاء في هذا الكتاب وحده ل يمكن أن نفيَ بدراسته في هذا المقام فعدلنا عن الهدف الوّل‬
‫واقتصرنا على دراسة جهود المدي الدللية من خلل كتابه الحكام معتمدين على الطريقة الستقرائية التي استندنا‬
‫فيها على ما قررته الدراسات الدللية والسيميائية الحديثة‪ ،‬وحاولنا إعادة قراءة ما كتبه المدي في الحكام قراءة‬
‫جديدة آخذين بعين الحذر صعوبة إجراء إسقاطات علمية منهجية لها مرجعيتها التاريخية والبستيمولوجية‪ ،‬على فترة‬
‫معرفية من فترات التراث العربي‪ ،‬واحتطنا على ذلك بإجراء مقاربات بين ما أرساه المدي من قواعد وسنن لغوية‬
‫ص الخطاب اللغوي بتجلياته المختلفة‪ ،‬وبين ما تأسّس حديثا من أفكار ونظريات سيميائية‬ ‫وضوابط دللية وسيميائية تخ ّ‬
‫لدى بعض علماء السيمياء المحدثين‪.‬‬
‫لقد اعتمدنا في دراستنا حول جهود المدي الدللية على كتابه "الحكام في أصول الحكام" بتحقيق وشرح‬

‫() وفيات العيان –ابن خلكان‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.294‬‬ ‫‪1‬‬

‫() القدمة‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.554‬‬ ‫‪2‬‬

‫() إمام الرمي هو عبد ال بن يوسف الوين الشافعي‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫العلمة الشيخ عبد الرزاق عفيفي‪ ،‬ونسخة ذات طبعة ثانية بسنة ‪1402‬هـ الموافق لـ ‪1981‬م‪ ،‬هذه الطبعة التي‬
‫نشرت في دار "المكتب السلمي" في أربعة أجزاء يضمّها مجلّدان‪ ،‬لكننا كنّا نرجع بين الفينة والخرى إلى طبعتين‬
‫أخريين هما‪ :‬طبعة دار الكتب العلمية بشرح وتعليق الشيخ إبراهيم العجوز‪ ،‬وهي طبعة أولى بسنة ‪1402‬هـ الموافق‬
‫‪1985‬م‪ .‬أما النسخة الثانية التي كنت أرجع إليها هي طبعة دار الكتاب العربي‪ ،‬بشرح وتحقيق الدكتور سيّد الجميلي‬
‫في طبعة ثانية سنة ‪1406‬هـ الموافق‬
‫لـ ‪1986‬م‪.‬‬
‫لقد رسم المدي في كتابه "الحكام" المنهج والخطة الواضحة لبحثه بحيث يتخذ طرق النظر والملحظة العميقة‬
‫مع الجمع بين البحث في المبنى والمعنى كليهما‪ ،‬وفي ذلك تحديد مسبق لطار الدراسة التي تهدف إلى الكشف عن‬
‫أفكار الموضوع مادة البحث‪ .‬ول عجب في ذلك إذا علمنا أنّ المدي قد برع في السبر والتقسيم وتفريع المسائل‪،‬‬
‫وكان أستاذا يلقن قواعد البحث للمتعلمين وصاحب منهج في التدريس لم يعرف أحسن منه في عصره‪ ،‬بعد تبيانه‬
‫لمكانة الحكام الشرعية‪ ،‬والقضايا الفقهية وفضلها على مصالح العباد في الدنيا والدين وضّح المدي السبيل إلى‬
‫استثمار ذلك فقال‪" :‬وحيث كان ل سبيل لستثمارها دون النظر في مسالكها ول مطمع في اقتناصها من غير التفات‬
‫إلى مداركها‪ .‬كان من اللزمات والقضايا الواجبات البحث في أغوارها والكشف عن أسرارها والحاطة بمعانيها‬
‫والمعرفة بمبانيها حتى تذلل طرق الستثمار وينقاد جموع غامض الفكار"(‪ .)1‬ث ّم إنّ تحديد الدللت اللفظية يم ّر عبر‬
‫معرفة الحكام اللغوية في علم العربية كالحقيقة والمجاز وموضوعاتهما الفرعية‪ ،‬والتعميم والتخصيص وأدواتهما‬
‫ل مهمّا لستنباط الحكام وقاعدة‬‫والضمار والتنبيه والطلق والتقييد والمفهوم والمنطوق وغير ذلك ممّا يعد مدخ ً‬
‫ينطلق منها الصولي من أجل إثبات حكم أو نفيه أو تأويله‪ ،‬يحدّد المدي أدوات البحث الصولي فيحصرها في‬
‫ثلث‪ :‬علم الكلم‪ ،‬وعلم العربية‪ ،‬والحكام الشرعية فيشرح علم العربية فيقول‪" :‬أما علم العربية فلتوقف معرفة‬
‫دللت الدلة اللفظية من الكتاب والسنة‪ ،‬وأقوال أهل الحل والعقد من المة‪ ،‬على معرفة موضوعاتها لغة‪ ،‬من جهة‬
‫الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والطلق والتقييد والحذف والضمار والمنطوق والمفهوم والقتضاء والشارة‬
‫والتنبيه واليماء وغيره ممّا ل يعرف في غير علم العربية"(‪.)2‬‬
‫إن المباحث اللغوية التي ذكرها المدي تعدّ مفاتيح ضرورية للولوج إلى المسالك المتعلقة بأصول الفقه الذي‬
‫يتناول القرآن الكريم والسنة الصحيحة‪ ،‬كمادتين للبحث عن قواعد علمية موضوعية‪ ،‬لضبط دللة نصوصهما ضبطا‬
‫ل يحتمل تأويلت قد تفقد النص دللته التي تقف وراءها مصالح أمّة بأسرها‪ ،‬أو ضرورة من الضرورات الشرعية‪.‬‬
‫ولذلك كان لزاما التحقق من الدلة الفقهية ودللتها وموقع المستدل بها‪ ،‬يقول المدي شارحا ذلك‪" :‬فأصول الفقه هي‬
‫أدلة الفقه وجهات دللتها على الحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها"(‪ .)3‬وهو بذلك كأنه يشير إلى علم الدللة‬
‫الحديث الذي يقتضي وجود أدلة لغوية وغير لغوية ودللت الدلة ثم مراعاة حال المتكلم ومقامه وحال المخاطب‬
‫وموقعه‪.‬‬
‫لقد نصّ المدي في مقدمة كتابه على دواعي تأليفه "للحكام" بحيث جعله خاصا بالملك المعظم شرف الدين بن‬
‫أيوب ملك دمشق وأهداه إليه وجعل كتابه هذا "حاويا لجميع مقاصد قواعد الصول‪ ،‬مشتملً على حل ما انعقد من‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ص ‪.3‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 114 -‬‬


‫غوامضها على أرباب العقول‪ ،‬متجنبا للسهاب وغث الطناب مميطا للقشر عن اللباب…"(‪ )1‬وقد حدّد المدي مسائل‬
‫هذا الكتاب وقسمها إلى أربع‪:‬‬
‫‪ -‬المسألة الولى‪ :‬في مفهوم أصول الفقه ومبادئه وموضوعه وغاياته تناول فيه المبادئ الكلمية واللغوية‪،‬‬
‫وأقسام اللفظ ودللته‪ ،‬كما بحث موضوع الحقيقة والمجاز والفعل وأقسامه والحرف وأصنافه وعرض لنشأة‬
‫اللغة وأصلها‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الثانية‪ :‬في مفهوم الدليل الشرعي وأقسامه وما يتعلق به من أحكام‪ ،‬فبحث مسائل شرعية مختلفة‬
‫تخصّ الكتاب الكريم والسنة المطهرة بالخصوص فبحث الخبر‪ ،‬والخطاب وأقسامه فعرض للمر والنهي‬
‫وبسط القول فيهما‪ ،‬كما تناول موضوع العموم والخصوص وأدلة التعميم والتخصيص‪ ،‬كما أسهب القول في‬
‫الطلق والتقييد والجمال والضمار والتأويل‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الثالثة‪ :‬في أحكام المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الرابعة‪ :‬في الترجيحات الواقعة بين الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصوّرية والحدود‬
‫الموصلة إلى التصديقات‪ ،‬تحدث فيها كذلك عن القياس والجتهاد‪.‬‬

‫‪-2‬العلمة اللسانية أنماطها وأنساقها الدللية عند المدي‪:‬‬


‫لقد خصص المدي في كتابه "الحكام" مجالً واسعا‪ ،‬تناول من خلله ما يصطلح على تسميته في الدرس الدللي‬
‫الحديث بأنماط العلمة اللسانية من خلل البناء الصوري منها وبنائها المفهومي فبحث الشكال التي تتمظهر فيها‬
‫العلمة اللسانية ضمن نمطية تخضع لطراد مفهومي تحدده معايير لغوية من ذلك تناوله للفظ المطلق واللفظ المقيد‬
‫واللفظ المجمل وما إلى ذلك مما سيرد الكلم عنه‪ ،‬كما قدم المدي تحليلً مستوفيا لقضية أثارها الدرس اللساني‬
‫الحديث على يد العالم اللغوي دي سوسير‪ ،‬ونعني بها اعتباطية العلمة اللسانية‪ ،‬وقد تناول ذلك المدي في إطار بحثه‬
‫حول نشأة اللغة‪ ،‬وقد أبان فيه عن قدرة كبيرة على التصنيف والتحليل خاصة في تحديده للنساق الدللية أو العلقات‬
‫الدللية التي تربط الدال بمدلوله‪ ،‬أو الدول ببعضها البعض أو المدلولت مما يعرف بالحقول الدللية‪.‬‬

‫أنماط العلمة اللسانية‪:‬‬


‫يتخذ المدي في تحديده لنواع العلمة اللسانية مسلكين اثنين‪ :‬مسلك صوري ومسلك مفهومي يقول في تعيين‬
‫اللفظ المطلق‪" :‬أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الثبات أو هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه"(‪ .)2‬إن‬
‫ل من اللفاظ تتحدد صورته نحويا‪ ،‬فهو نكرة في سياق الثبات من ذلك قوله تعالى‪:‬‬ ‫اللفظ المطلق الذي يغطي حق ً‬
‫(فتحرير رقبة مؤمنة)‪ .‬هذا من ناحية القيود الشكلية‪ ،‬أما من ناحية القيود المفهومية فاللفظ المطلق يدل على اشتراك‬
‫غير محدد في الدللة بينه وبين حقل من المدلولت‪ ،‬فالمدي يأخذ في العتبار مظهرين متكاملين لكل مدلول في‬
‫الحقل المفهومي‪ ،‬المظهر الول يظهر من خلل العلقة الحتمية التي تربطه بالدال وهذه العلقة تسجل مكان الدال إل‬
‫أنها ل تسمح لنا بتحديده بكيفية إيجابية‪ .‬والمظهر الثاني يقوم على علقة هذا المدلول بكل المدلولت الخرى داخل‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ -‬ج ‪ .3‬ص ‪.3‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫منظومة العلمات‪ ،‬فكل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور تغطيها صورة اللفظ المطلق‪ ،‬وموقعه من حقل‬
‫مدلولته هو موقع اللكسيم الرئيسي في الحقول الدللية كما صنفها علماء الدللة المحدثون‪ ،‬ويمكن أن نجد تقاسيم‬
‫مشتركة بين اللفظ المطلق وبين اللفظ العام واللفظ الكلي‪ ،‬بحيث يكمن اللتقاء بينها في اتساع مجال إرجاع كل منها‪،‬‬
‫وفي مقابل اللفظ المطلق يأتي اللفظ المقيد وفيه تتحقق الوظيفة الرجاعية بحيث يعين اللفظ مرجعا محددا في عالم‬
‫العيان والذهان‪ ،‬وهذا التعيين يرتكز على أساسين اثنين‪ :‬أولهما تعيين أسماء العلم(‪ )1‬التي لها مرجع واحد محدد ل‬
‫ل للبس مثل قولنا‪ :‬هذا‬ ‫أكثر وقد تقوم (السابقة) (‪ )prefixe‬بالدور الحاسم في تحديد المرجع تحديدا لها يترك معه مجا ً‬
‫الرجل‪ ،‬وهذه المرأة‪ ،‬وذلك المكان وما إلى ذلك‪ .‬وثاني الساسين هو التعيين بالصفة وهذا ما بحثه العالم اللساني (‬
‫‪ )pierre leriat‬في كتابه(‪ )2‬حيث يقول‪ :‬التعيين "هو عملية مرتبطة بالكلم ترتكز على تعيين أشياء (خارج النظام‬
‫اللغوي‪ ،‬قد تكون حسية أو مجردة‪ ،‬مادية أو تحليلية)‪ ،‬نسمي الرجاع الوظيفة التعيينية والمرجع الشيء المعين الذي‬
‫قد يكون شيئا ماديا أو مفهوما مجردا‪ .‬وقد أحصى المدي طرق تقييد المطلق فذكر منها التعيين باسم العلم والتعيين‬
‫بصفة زائدة يقول موضحا ذلك‪" :‬وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما كان من اللفاظ الدالة على مدلول معين كزيد وعمرو‪ ،‬وهذا الرجل ونحوه‪.‬‬
‫ل على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك دينار مصري ودرهم مكي‪،‬‬
‫الثاني‪ :‬ما كان من اللفاظ دا ً‬
‫وهذا النوع من المقيد‪ .‬وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي‪.‬‬
‫غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم فهو مطلق من وجه ومقيد من وجه"(‪ .)3‬وفي هذا الموضع يجري‬
‫المدي تقاطعا تمييزيا بين اللفظ المطلق واللفظ المقيد‪ ،‬فالمطلق قد تضيق دللته فيضحي مقيدا إل أن اللفظ المقيد قد‬
‫يقع بين الطلق والتقييد كما بين ذلك المدي من المثلة التي ساقها آنفا‪ ،‬ول يأخذ صاحب الحكام مفهوم الطلق أو‬
‫التقييد قاصرا إياه على الصيغة المعجمية فحسب‪ ،‬بل ويتناوله في سياقات التركيب المختلفة ولذلك يطرح إشكالت‬
‫نوعية منها إذا وجدت جملتان قد ورد في إحداهما لفظ مطلق وفي الثانية لفظ مقيد من جنس واحد‪ ،‬هل يجوز إلحاق‬
‫المطلق بالمقيد أو العكس؟‪.‬‬
‫يستند المدي في حل هذا الشكال على اتحاد السبب واختلفه بين جملة الطلق وجملة التقييد‪ ،‬فإذا اتحد السبب‬
‫كان اللحاق وإذا اختلف السبب فالنظر إلى العلة الموجبة لللحاق وإل ل يلحق مطلق بمقيد‪.‬‬
‫يشرح ذلك في قوله‪" :‬العهدة على اتحاد السبب واختلفه فإذا اتحد السبب فل خلف في إلحاق المطلق بالمقيد كما‬
‫لو جاء في الظهار‪" :‬اعتقوا رقبة" ثم جاء "اعتقوا رقبة مؤمنة"‪ .‬أما إذا اختلف السبب فالنظر حينئ ٍذ إلى العلة الموجبة‬
‫لللحاق وإل فل ينزل المطلق منزلة المقيد كما لو جاء في الظهار قولهم‪" :‬فتحرير رقبة" وفي القتل الخطأ‪" :‬فتحرير‬
‫رقبة مؤمنة(‪ .)4‬إن ما أثاره المدي في موضوع اللفظ المطلق يمكن فهمه على ضوء ما حدده (ليونز) (‪ )j. Lyons‬في‬
‫مناقشة العلقة بين التعيين ‪ denotation‬والرجاع ‪.)5(Reference‬‬

‫() انظر فعل مباحث علم الدللة الديث‪ :‬الدال والدلول‪ :‬ص ‪.42‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪.Semantique descriptive, p65-66‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ .‬ج ‪ .3‬ص ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ .‬ج ‪.3‬ص ‪.5‬‬ ‫‪4‬‬

‫() انظر –التعيي والتضمي ف علم الدللة‪( -‬د‪ .‬جوزيف شري)‪ -‬ملة الفكر العاصر‪ ،‬عدد ‪ 18/19‬سنة ‪ .1982‬ص ‪.73 -72‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫ل معجميا مفتوحا وغير محصور‪ ،‬فإن التعيين هو العلقة القائمة بين وحدة‬ ‫فإذا كان اللفظ المطلق يحدد حق ً‬
‫معجمية وما تعينه خارج النظام اللغوي من أشياء أو أشخاص أو غير ذلك‪ ،‬ولنسق لذلك مثل كلمة (رجل) فإنها‬
‫تشرف على حقل غير محصور من جنس معين له سمات ومميزات مخصوصة وإذا كان لكل كلمة تعيينها فإن ذلك‬
‫يحدد إرجاعها‪ ،‬إل أن الرجاع مرتبط أساسا بتسييق الوحدة المعجمية وهذا ما يكاد يكون سمة عامة عند المدي الذي‬
‫يأخذ الصيغة المعجمية غالبا‪ ،‬داخل سياقات مختلفة لن ذلك هو التعيين الساسي لدللتها‪.‬‬
‫إذا ورد لفظ دال على معنيين أو أكثر ويتعين كلهما عند إطلقه‪ ،‬فهو اللفظ المشترك ويدخل في باب المشترك‬
‫اللفظي‪ ،‬أو ما سماه المدي باللفظ المجمل‪ ،‬يقول في تعريفه‪" :‬المجمل ماله دللة على أحد أمرين ل مزية لحدهما‬
‫على الخر بالنسبة إليه"(‪ .)1‬وهذا التصنيف للدوال‪ ،‬يرتكز أساسا على المدلول المتعدد كقولهم‪ :‬العين‪ :‬للذهب وللشمس‬
‫ولمورد الماء‪ ،‬وإذا ورد هذا اللفظ في سياق عام لم يتعين أحد هذه المدلولت مثل قولنا‪" :‬رأيت العين"‪ .‬فلفظ "العين"‬
‫ل دلليا وهو ما رصده المدي في تسجيل ذلك التردد في إنزال اللفظ على أحد المدلولين‬ ‫يطرح في هذا السياق إشكا ً‬
‫بسبب التردد في عود الضمير‪ ،‬أو بسبب تردد اللفظ بين جمع الجزاء‪ ،‬وجمع الصفات أو بسبب الوقف والبتداء أو‬
‫بسبب تردد الصفة أو تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته فقولك‪" :‬كل ما علمه الفقيه فهو‬
‫كما علمه "فإن الضمير (هو) متردد بين العود إلى الفقيه أو ما علمه الفقيه‪ ،‬وتعدد هذه القضايا اللغوية من المسائل‬
‫التي أثارها علماء الدللة المحدثون‪ ،‬يسجل ذلك الدكتور الفاسي الفهري فيقول‪" :‬إختيار مفهوم ملئم من بين لئحة‬
‫المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ المشترك يتطلب مجهودا معرفيا خاصا ويتسبب أحيانا في أخطاء(‪ )2‬ولكن كيف يرفع‬
‫اللبس الدللي ويتعين مفهوم واحد من جملة المفاهيم التي يحتوي عليها المعجم الذهني‪ ،‬حول لفظ (العين) في المثال‬
‫السابق يقول المدي‪" :‬والصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة إما بالوضع الصلي أو بعرف الستعمال‪:‬‬
‫والجمال منتف بكل واحد منهما ولهذا كان الجمال منتفيا عند قول القائل‪" :‬رأيت دابة" لما كان المتبادر إلى الفهم‬
‫ذوات الربع بعرف الستعمال وإن كان على خلف الوضع الصلي"(‪ )3‬فالمدي يحدد منفذين لتعيين مفهوم ملئم من‬
‫جملة لئحة من المدلولت يختزنها المعجم الذهني وهما‪ :‬الوضع الصلي وحقيقة اللفظ أما الثاني هو عرف‬
‫الستعمال‪ ،‬إذ اللفظ قد اكتسب عبر السياق اللغوي وقوعا خاصا‪ ،‬لنه أضحى بؤرة لتجميع كل حيثيات المقام الذي‬
‫يستعمل فيه‪.‬‬
‫يقول الدكتور الفاسي الفهري محددا طرق رفع اللبس عن اللفظ المجمل وتعيين مدلول واحد له‪" :‬ويقع رفع‬
‫اللتباس عن طريق السياق اللغوي المباشر أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر‬
‫المعلومات المتوفرة لرفع اللبس"(‪ .)4‬ولكن رغم تسييق الصيغة المعجمية‪ ،‬أو بالنظر إلى إطارها التواصلي‪ ،‬فإن اللبس‬
‫قد ل يرفع وهذا ما كان يشكل نقطة الخلف بين جمهور علماء الصول في تأويل النصوص القرآنية المتشابهة التي‬
‫يحمل فيها اللفظ أكثر من مدلول واحد‪ ،‬ولذلك دأب علماء الدللة المحدثون يبلورون مشروعا يقضي بأن يكون لكل‬
‫لفظ معنى نواة‪ ،‬وذلك بالرجوع إلى حقيقة الوضع الصلي الذي أنتج فيه تعدد المدلولت حول الدال الواحد‪ ،‬ولذلك‬
‫نرى المدي يسوق الشاهد ويردفه بتأويل اللفظ المشترك‪ ،‬ففي قوله تعالى‪( :‬والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة‬
‫قروء)‪ .‬يقول العلماء‪ :‬القرء هو الحيض أو الطهر‪ ،‬وقد ترتب عن ذلك الختلف في تحديد مدلول واحد للفظ (القرء)‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.10‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية‪ .‬ج‪ .‬ص ‪.372‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.372‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫اختلف بين علماء الصول محل تحديد مدة مكوث المرأة المطلقة معتّدة‪ .‬ومع ذلك عَدّ بعض اللغويين المحدثين تعدد‬
‫ل على حيوية اللغة‪ ،‬لن اللفظ أحادي المدلول قد يرهق الجهد الذاكري‪ ،‬يقول الدكتور الفاسي‬ ‫مفاهيم اللفظ الواحد دلي ً‬
‫في ذلك‪" :‬وعليه يكون تعدد المعاني دليلً على حيوية اللغة ورواجها فكيف يمكن أن ننادي بتركه لفائدة أحادية‬
‫المعنى؟ علما بأن أحادية المعنى ل يمكن أن تقوم إل بتحجير اللغة والقضاء على حركيتها‪ ،‬أي قتلها‪ ،‬وعلما كذلك بأن‬
‫المجاز والسياق يعرضان اللفظ للتوسع الدائم"(‪ .)1‬وعموما فإن لتعيين المدلول الرئيسي للفظ المجمل أو المشترك‪ ،‬هو‬
‫في حاجة إلى مزيد من الوعي اللغوي بحيث ل يلزم من تحديد مدلوله النواة‪ ،‬تعطيل لمطاطية اللفاظ داخل النظام‬
‫اللغوي التي هي طبيعة كل عناصر اللغات التي تنزع نحو التجدد والتغير والتكيف مع الوضاع المستجدة‪ ،‬وإن كان‬
‫الغالب من العناصر اللغوية هي المفيدة لمدلول واحد نواة‪ .‬ومن جهة ثانية فإن محاولة إثارة قضايا تخص الدللة من‬
‫قبل المدي‪ ،‬تؤخذ على أنها وعي لغوي بأهمية الليات الذاتية للجملة العربية‪ ،‬معتمدا في ذلك سبيل تفكيك عناصرها‪،‬‬
‫والوقوف على بؤرة الفعل الدللي فيها‪ ،‬وذلك قصد استنباط قواعد عامة تصلح لن تكون قوانين مطردة‪ ،‬لفهم كل‬
‫الجمل وإمكانية إعادة الكتابة‪.‬‬
‫إن الشكال الدللي الذي يكتنف السياق اللغوي يمكن حله بصيغ التوضيح والتأويل‪ ،‬تلك الصيغ أطلق عليها‬
‫المدي مصطلح "البيان"‪ .‬وهو ل يخرج في مفهومه عن الدليل الذي يفضي إلى العلم أو الظن‪.‬‬
‫يقول المدي معرفا "البيان"‪ :‬أما البيان فاعلم أنه لما كان متعلقا بالتعريف والعلم بما ليس بمعروف ول‬
‫معلوم‪ ،‬وكان ذلك مما يتوقف على الدليل‪ ،‬والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل ولم‬
‫يخرج البيان عن التعريف‪ ،‬والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل"(‪ .)2‬ورغم أن الدليل ل يوصل إلى العلم اليقيني بل‬
‫إلى الظن‪ ،‬يبقى في عرف المدي بيانا‪ ،‬لنه يعتقد أن الظن هو في حد ذاته مطلوب خبري يترتب عليه دللة خاصة‬
‫ليست هي بالتأكيد دللة القطع واليقين‪ ،‬وللبيان صيغ متعددة قد تكون حسية أو عقلية أو شرعية أو عرفية‪ ،‬بل إن‬
‫السكوت يعد بيانا إذ يقول المدي‪" :‬فحد البيان ما هو حد الدليل(…) ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيدا للقطع أو‬
‫ل أو سكوتا أو فعلً أو ترك فعل "إلى غير ذلك"‪ )3(.‬فإذا‬
‫الظن وسواء كان عقليا أو حسيا أو شرعيا أو عرفيا أو قو ً‬
‫اتضح مفهوم البيان وصيغته التي قد تكون صيغا لغوية أو غير لغوية‪ ،‬فهل كل سياق لغوي في حاجة إلى بيان أم أن‬
‫هناك سياقات مخصوصة لذلك؟ إن السياق اللغوي ل يخلو إما أن يكون واضح الدللة‪ ،‬أو حد المعنى‪ ،‬معين المدلول‪،‬‬
‫فهو في طبيعته التركيبية والدللية مبيّن‪ ،‬أو يكون السياق اللغوي مجمل المعنى‪ ،‬عام اللفظ‪ ،‬مطلق الدللة فهو يحتاج‬
‫لظهار دللته وتعيينها إلى صيغ البيان‪ ،‬وقد بُحث موضوع "البيان" في الدرس اللغوي الحديث تحت مصطلح التأويل‬
‫الذي عُدّ البحث في لغة اللغات‪ ،‬أي فيما يجعل منظومات الرموز مؤسسة بالنسبة للمتكلم والمخاطب‪ ،‬للكاتب والقارئ‪،‬‬
‫والتأسيس هنا يعني إقامة الروابط الطبيعية والبيئية بين الخطاب وسياقه الحيوي من اجتماعي وانثربولوجي وذاتي"(‪.)4‬‬
‫إن ذلك النص الذي يحتاج إلى بيان أو تأويل لمنظومات رموزه‪ ،‬وكشف القناع عن سياقه الحيوي سماه المدي‬
‫"المبيّن" الذي يحتوي على بؤرة فاعلة في تركيبه تعطّل مفهوم دللته الكلية يقول المدي شارحا ذلك‪" :‬وأما المبيّن فقد‬
‫يطلق‪ .‬ويراد به ما كان من الخطاب المبتدئ المستغني بنفسه عن بيان‪ ،‬وقد يراد به ما كان محتاجا إلى البيان وقد‬
‫ورد عليه بيانه‪ ،‬وذلك كاللفظ المجمل إذا بيّن المراد منه‪ ،‬والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترنت‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.374‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.25‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ ،3‬ص ‪.26‬‬ ‫‪3‬‬

‫() استراتيجية التسمية‪ ،‬التأويل وسؤال التراث‪ ،‬مطاع الصفدي‪ ،‬ص ‪ ،4‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ 31 -30‬سنة ‪.1984‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫به ما يدل على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك"(‪ )1‬ولعل أهم كاتب خص البيان بشرح مستوف لجوانبه هو بل‬
‫ريب "الجاحظ" الذي عاش في حدود القرن الثاني الهجري‪ ،‬يقول الجاحظ معرفا البيان‪" :‬والبيان اسم جامع لكل شيء‬
‫كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير‪ ،‬حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائنا ما‬
‫كان ذلك البيان‪ ،‬ومن أي جنس كان الدليل‪ ،‬لن مدار المر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع‪ ،‬إنما هو الفهم‬
‫والفهام‪ ،‬فأي شيء بلغت الفهام‪ ،‬وأوضحت على المعنى‪ ،‬فذلك هو البيان في ذلك الموضع"(‪ .)2‬والظاهر أن المدي‬
‫قد حصل مفهوم البيان من تعريف الجاحظ ذلك أنه ليس هناك كبير اختلف بين التعريفين‪ ،‬إل أن المدي كان أعمق‬
‫بيان من الجاحظ ذلك لربطه بين البيان كأداة لتأويل الدللة‪ ،‬ووضوح المدلول وتعيينه‪ ،‬وعموم مصطلح البيان لدللتي‬
‫العلم والظن معا‪ ،‬لن حاصل البيان قد يكون علما وقد يكون ظنا‪ ،‬أما الجاحظ فالغاية عنده من البيان هو الفهم‬
‫والفهام بأي شيء حصل ذلك‪ ،‬ولعل مرد التباين بين العالمين إلى مادة تطبيق كل منهما‪ ،‬فالمدي إذا كان قد اتخذ من‬
‫نصوص القرآن والحاديث الشريفة مادة لتطبيقاته اللغوية ولستنباط القواعد والسنن المطردة في كل خطاب لغوي‬
‫عربي‪ ،‬فإن الجاحظ يكاد يقصر مفاهيمه اللغوية على كلم العرب وما فيه من عيّ وفصيح‪ ،‬وضرورة تحقيق غاية‬
‫الفهم والفهام من الخطاب اللغوي‪ ،‬على نقيض المدي‪ ،‬والصوليين بصفة عامة‪ ،‬الذين تعارفوا على وجود دللت‬
‫مختلفة منها‪ :‬الدللة القطعية والدللة الظنية‪.‬‬
‫إن المبيّن يتفاوت إجماله وإيهامه‪ ،‬فهو ليس على درجة واحدة‪ ،‬وتبعا لذلك فإن البيان وجب أن يجانس المبيّن‬
‫ولقد أوضح المدي هذه المسألة وأظهر أن البيان ل يخلو من أحد المظهرين‪ :‬إما أن يكون أقوى دللة من المبيّن أو‬
‫أدنى دللة منه‪ ،‬إما أن يتساويا في ذلك فهو ممتنع يقول في ذلك‪" :‬إن كان المبيّن مجملً‪ ،‬كفى في تعيين أحد احتماليه‬
‫أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاما أو مطلقا‪ ،‬فلبد وأن يكون المخصص والمقيد في دللته أقوى من دللة العام على‬
‫صورة التخصيص ودللة المطلق على صورة التقييد"(‪ .)3‬فالبيان يكون أدنى من المبيّن إذا كان المبيّن مجملً وذلك في‬
‫تحديد أحد مدلولته من ضمن لئحة قد تطول من المدلولت‪ ،‬أما إذا كان المبيّن مطلقا فالبيان يكون أقوى منه في‬
‫الدللة على التقييد وإذا كان المبيّن عاما كذلك في دللة البيان عن التخصيص‪ .‬إن هذا التدقيق في رفع العموم المطلق‬
‫أو الجمال القائم في دللة الخطاب اللغوي يدل على عمق التحليل الذي وسم تفكير المدي بسعيه إلى تأسيس قواعد‬
‫شاملة بناء على ملحظات تشمل البنية اللسانية وعلقتها بالبنية الدللية‪ ،‬وما يجب التنبيه عليه هو أن المدي يجعل‬
‫غايته دائما في أي تحليل لساني لبنية الجملة أو النص‪ ،‬هو طبيعة وهيئة الدللة لنها مدار المر كله في منظومة‬
‫التصال والبلغ‪.‬‬
‫إن حاجة "اللغة" إلى بيان حاجة ل تعود إلى ذات المتكلم فحسب بل إلى قدرة المتلقي على تفكيك رسالة الخطاب‪.‬‬
‫ولذلك عد المدي الخطاب المجمل غير صالح للتواصل والبلغ لنه بمثابة لغة تخص المتكلم أنشأها بنفسه‪ .‬يقول‬
‫المدي في ذلك‪" :‬إنه ل فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي ل يعرف له مدلول من غير بيان‪ ،‬وبين الخطاب بلغة‬
‫يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان"(‪ .)4‬ثم إن غاية الخطاب هو إيصال دللة الرسالة إلى المتلقي وبذلك تحصل‬
‫الفائدة من البلغ‪ ،‬أما وأن يترك الخطاب المجمل دون بيان فسماه المدي لغوا‪ ،‬لنه قصور عن نقل المدركات‬
‫الذهنية إلى من نريد إبلغهم بذلك‪ ،‬وقد حدّد العلماء القول الشارح لغاية إفادة المخاطب بتصور مفرد أو لتمييز‬

‫() الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.26‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الاحظ‪ ،‬البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.82‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.31‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ :‬ج ‪ 3‬ص ‪.45‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫(‪)1‬‬
‫متشابه‪ ،‬حملوا الباث تبعة الشرح والتعريف‪.‬‬
‫إن حصول الفائدة من الخطاب متعلقة بتحقيق الفهم من خلل المضمون الدللي المحمول في سياق الخطاب‪ ،‬أما‬
‫إذا تعذر الفهم لم تحصل الفائدة وكان الخطاب لغوا يقول المدي مبينا ذلك‪" :‬إنما المقصود من الخطاب إنما هو‬
‫التفاهم‪ ،‬والمجمل الذي ل يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال ل يحصل منه التفاهم‪ ،‬فل يكون مفيدا ومال فائدة‬
‫فيه ل تحسن المخاطبة به لكونه لغوا‪.)2(.‬‬
‫إن من تقسيمات المدي لللفاظ‪ ،‬قسما سماه "اللفظ الظاهر" وهو اللفظ الواضح المعنى المنكشف الدللة وهو‬
‫الدال دللة حقيقية أصلية‪ ،‬أو جعلَه العرف اللغوي ذا دللة أصلية راجحة يقول المدي في تعريفه لهذا اللفظ‪" :‬اللفظ‬
‫الظاهر ما دل على المعنى بالوضع الصلي أو العرفي‪ ،‬ويحتمل غيره احتمالً مرجوحا(‪ .)3‬إن دللة اللفظ الظاهر‬
‫مفتوحة على التأويل المرجوح بدليل‪ ،‬وبالنظر إلى دللة الظاهر الصلية أو العرفية‪ ،‬يتأرجح اللفظ بينهما مع احتماله‬
‫الدللة على معنى آخر يسنده دليل‪ ،‬ويتمصرف اللفظ إلى مدلوله غير الظاهر بتأويل مقبول‪ ،‬يتراوح بين القوة‬
‫والضعف بحسب طبيعة اللفظ‪ ،‬ويضطلع بالتأويل متلق مثالي له القدرة على تفكيك بنية الخطاب‪ ،‬والوقوف على بنية‬
‫الدللة العميقة متمكنا من تحديد طبيعة الظاهر من اللفاظ‪ ،‬وما يناسبه من التأويل قوة أو ضعفا وما يوافقه من الدليل‬
‫الكاشف عن مدلوله الراجح‪ .‬ففي قوله تعالى‪( :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فلفظ "الفقراء" لفظ ظاهر‪ ،‬وتأويله هو‬
‫القتصار على البعض من الفقراء دون الكل‪ ،‬لن الهدف هو رفع حاجة هؤلء البعض في توفير الصدقة لهم وكذلك‬
‫المر بالنسبة للفظ "المساكين"‪ .‬إن اللفظ الظاهر ل يحوّل من مدلوله بوجود قرينة صارفة إل إذا كان في سياق لغوي‪،‬‬
‫ويعني ذلك أن اللفظ قد اكتسب دللت هامشية إضافية عن مدلوله‪ ،‬وهو ما تنص عليه المباحث اللسانية الحديثة التي‬
‫تجمع أن ل معنى للكلمة خارج سياقها اللغوي(‪ .)4‬فاللفظ الظاهر على أساس ذلك‪ ،‬ل يتوقف فهم المراد منه على أمر‬
‫خارجي وإنما الدللة المقصودة تأتي من سياقه‪ ،‬ويبقى في أمر استجابة المتلقي للخطاب المتضمن لصيغ من اللفظ‬
‫الظاهر أن يكون على وعي أن الصل في اللفظ عدم صرفه عن ظاهر إل إذا اقتضى ذلك دليل راجع باحتماله‬
‫التأويل وإرادة معناه غير الحقيقي‪ ،‬من ذلك إذا كان اللفظ الظاهر حقيقة يحتمل أن يراد به المعنى المجازي‪ ،‬وإذا كان‬
‫عاما يحتمل التخصيص‪ ،‬وإذا كان مطلقا يحتمل التقييد وغير ذلك من وجوه التأويل في حقل أصول الفقه‪.‬‬
‫إنما هو حري بأن يشار إليه بعد هذه التفريعات لحقل الدلة اللغوية‪ ،‬أن هذا النجاز يعد كسبا مرحليا في مسار‬
‫التحوّل المنهجي للنظرية الدللية‪ ،‬إذ بلغ المدي الغاية في وضع الحدود وحصر المفارقات الدللية القائمة على أساس‬
‫سبر عميق لبنية الخطاب لسكتناه حقيقة البنية الدللية‪ ،‬إذ الوصول إلى حصر سمات تمييزية بين خطاب وآخر يدل‬
‫على أنه ثمة إمكانية منهجية‪ ،‬لرساء قواعد علمية تغدو نموذجا متكاملً لضبط آليات الحداث الكلمية بالوقوف على‬
‫ما يشكل نسقها السياقي العام الذي ينتظم العناصر اللسانية في الخطاب البلغي على وجه التحديد‪ .‬إن ما أنهى‬
‫المدي به كتابه "الحكام" هو مبحثه في المفاضلة بين التعاريف الموصلة إلى كشف المعنى عن المبيّن باعتماد معايير‬
‫موضوعية‪ ،‬ضمن المقاييس التي تعطي للحد المعرف صفة الشمولية المقرونة بالعمق في التعريف أن يكون الحد‪:‬‬
‫"مشتملً على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ول استعارة ول اشتراك ول غرابة ول‬
‫اضطراب ول ملزمة‪ "،‬بل أن يكون الحد مشاكلً للمعرف بطريق المطابقة أو التضمن (…) فهو أولى لكونه أقرب‬
‫() عبد الرحن حسن حبنكة اليدان ضوابط العرفة وأصول الستدلل والناظرة‪ .‬ص ‪.62‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪52‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ .3‬ص ‪.52‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪..Element de linguistique generale, Andre Martine, P.65‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫من الفهم وأبعد عن الخلل والضطراب‪ ،‬ولتحقيقه لغاية البلغ وهو حصول الفهام بل زيادة ول نقصان(‪ .)1‬إن القيمة‬
‫التفسيرية للتعريف‪ ،‬تستمد بعدها الدللي من الحد المعرف حتى يغدو التعريف والمعرف‪ ،‬ثنائية ترسم مجالً دلليا‬
‫يحصل فيه امتداد المعنى‪ ،‬لكنه امتداد يحتفظ بنفس متصورات الخطاب الذاتية مع تحول حتمي في النسق البنيوي‬
‫للمداخل المعجمية‪ ،‬التي تشكل الخطاب المطلوب تفسيره وتأويله‪.‬‬
‫إن الغرض المتوخى من إدراج الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية ضمن الهتمام الدللي عند‬
‫المدي‪ ،‬هو محاولة تأسيس رؤية نظرية قادرة على إيجاد كل التفسيرات لمستويات الخطاب‪ ،‬فيغدو بذلك المدي‬
‫بمرتكزاته المعرفية حول اللسان العربي‪ ،‬أحد المؤسسين لنظرية لسانية تخص اللغة العربية التي تأخذ في ثنائية‬
‫متلزمة‪ ،‬كل حيثيات النتاج اللغوي بدءا بماهية الحدث الدللي‪ ،‬وانتقالً إلى فاعل الدللة وقدراته الذاتية الكامنة‬
‫وانتهاء عند متلقي الرسالة البلغية وموقعه النفسي والجتماعي والثقافي‪ ،‬هذه الثنائية المتلزمة التي نلخصها في‬
‫مباحث المدي‪ ،‬طرفها الجانب المعرفي النظري الذي يؤسس لنظرية لغوية منطلقاتها‪ -‬غالبه النص القرآني بأنظمته‬
‫الخطابية وسننه في البلغ‪ ،‬وطرفها الخر التطبيق الجرائي الذي يسعى إلى إخراج القاعدة اللغوية من حيز التنظيم‬
‫والتجريد إلى حيز التطبيق والتمثيل‪ ،‬أو من حيز القوة إلى حيز الفعل‪ .‬ومن هنا تتبدى أهمية الضوابط الحاصرة‬
‫لنتظام العناصر اللسانية الدالة في الخطاب‪ ،‬فنلقى السياق اللغوي ليس على درجة واحدة من وضوح الحالة‬
‫المرجعية‪ ،‬إّذ قد يتعطل الرجاع لوجود خلل في متن الخطاب فتتحدد الدللت ببروز المجال المرجعي وذلك بانتقاء‬
‫عناصر استبدال تلغي عناصر الخطاب الخر‪ ،‬أو تقوم بكتابتها بنمط مغاير لنها قصُرت عن إيصال الدللة‪ ،‬وذلك ما‬
‫أفاض المدي الحديث حوله في مجال البيان والتأويل والتعريف…‬

‫‪-3‬اعتباطية الدليل اللساني‪:‬‬


‫في مبحث "مبدأ اللغات وطرق معرفتها" يتناول المدي قضية لغوية كانت مدار جدل كبير بين العلماء في‬
‫عصره‪ ،‬بل وفي تاريخ البشرية الطويل‪ ،‬وقد أعيد تناول هذه القضية مع اللغوي فرديناند دي سوسير في العصر‬
‫الحديث‪ ،‬وهي قضية علقة الدال بمدلوله‪ ،‬أو السم بمسماه هل تعود إلى مناسبة طبيعية أم هي غير معلّلة؟ انبثقت‬
‫عن هذا الموضوع مواضيع فرعية أبرزت من خللها جوانب مهمة في اللغة‪ ،‬وقد ذهب دي سوسير إلى اعتبار‬
‫العلقة بين الدال والمدلول علقة اعتباطية‪ ،‬كيفية‪ ،‬لن الدال ل يستمد معناه وقيمته الدللية من بنيته الصوتية‪ .‬وقد‬
‫جمع سويسر الدال والمدلول في مصطلح واحد سماه "الدليل اللساني‪.)2()Le signe l,inguistique( .‬‬
‫أما المدي فقد سار على منهج علمي‪ ،‬عرض في ‪/‬أوله لراء‪ /‬العلماء حول مسألة العلقة بين الدال والمدلول‪،‬‬
‫وسَاق أدلتهم في ذلك‪ ،‬منهم المعتزلة الذين اعتبروا العلقة بين الدال والمدلول علقة طبيعية أي ليست اعتباطية‪،‬‬
‫فالمدلول في رأيهم يستدعي دالً يناسبه ويشاكله ول يستدعي دالً آخر‪ .‬يقول المدي عارضا هذا الرأي‪" :‬ذهب أرباب‬
‫علم التكسير وبعض المعتزلة إلى ذلك‪ ،‬مصيرا منهم إلى أنه لو لم يكن بين اللفظ ومعناه مناسبة طبيعية‪ ،‬لما كان‬
‫اختصاص ذلك المعنى بذلك اللفظ أولى من غيره‪ .‬ويرى المدي غير ما رآه المعتزلة‪ ،‬ومن ذهب مذهبهم من‬
‫العلماء‪ ،‬إذ ل يعتبر العلة التي استند عليها المعتزلة وغيرهم في القول باعتباطية الدليل اللساني قوية‪ ،‬ذلك أن الوضع‬
‫الول لما ربط اللفظ بمعناه كان يمكن أن يختار لفظا آخر أو نقيضه‪ ،‬بدليل وجود المشترك اللفظي في اللغة كلفظ‬
‫الجون الذي يدل على اللون البيض والسود‪ ،‬ولفظ القرء الذي يعني الحيض والطهر وغيرها من اللفاظ‪ ،‬فل مناسبة‬

‫() انظر الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪282‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر فصل الدال والدلول ف الباحث الدللية الديثة‪ .‬ص ‪.42‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫طبيعة بين طرفي الدليل اللساني‪ ،‬وإنما اتصل الدال بمدلوله لغرض من الغراض المخصوصة وليست لعلة ذاتية‪.‬‬
‫يقول المدي موضحا ذلك‪" :‬فإننا نعلم أن الواضع في ابتداء الوضع‪ ،‬لو وضع لفظ الوجود على العدم والعدم على‬
‫الوجود‪ ،‬واسم كل ضد على مقابله لما كان ممتنعا كيف وقد وضع ذلك كما في اسم الجون والقرء‪ ،‬ونحوه‪ ،‬والسم‬
‫الواحد ل يكون مناسبا لطبيعة الشيء ولعدمه‪ ،‬وحيث خصص الواضع بعض اللفاظ ببعض المدلولت إنما كان ذلك‬
‫نظرا إلى الرادة المخصصة"(‪ .)1‬وإذا ثبت عند المدي أن القول باعتباطية الدليل اللساني متمتع بالتعليل الذي تقدم به‪،‬‬
‫فالقول بالوضع الختياري يبدو مناسبا لوصف العلقة غير المعللة بين وجهي "الشارة اللغوية"‪ ،‬وذلك بما يتوفر من‬
‫الشواهد النقلية خاصة التي استند عليها أصحاب هذا المذهب‪ .‬يقول المدي‪" :‬وإذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن‬
‫مستند تخصيص بعض اللفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الختياري فقد يختلف الصوليون فيه"(‪ .)2‬فإذا لم يكن‬
‫الوضع اللغوي قد أخضع اللفظ لمعناه لمناسبة طبيعية بينهما‪ ،‬فمن أين جاءت العلقة بين الدال والمدلول؟ وكيف‬
‫ارتبط الدال بمدلوله ولم يرتبط بمدلول آخر؟ هذه السئلة تعتبر إشكالت أساسية طرحها الدرس التراثي الذي حاول‬
‫فيه العلماء تخصيص العلقة بين الدال ومدلوله‪ ،‬أو بين صورة اللفظ ومعناه‪ .‬فالرأي الول يمثله الشاعرة والظاهرية‬
‫وجماعة من الفقهاء الذين أرجعوا طبيعة العلقة الدللية بين اللفظ ومعناه إلى التوقيف اللهي الذي كان بالوحي‬
‫المباشر‪ ،‬مع تضمين الكتاب المنزل ألفاظا ذات دللت‪ ،‬أو بأن يخلق في الناس الستعداد الذاتي لمعرفة أن هذه‬
‫الصوات والحروف خلقت للدللة على تلك المعاني‪ ،‬واستند أصحاب هذا الرأي على آيات من القرآن الكريم منها‬
‫قولـه تعالى‪( :‬وعلم آدم السماء كلها ثم عرضهم على الملئكة فقال‪ :‬أنبئوني بأسماء هؤلء إن كنتم صادقين‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫سبحانك‪ ،‬ل علم لنا إل ما علمتنا‪ .‬إنك أنت العليم الحكيم)‪ .‬قالوا‪" :‬دل على أن آدم والملئكة ل يعلمون إل بتعليم ال‪،‬‬
‫ومنها قولـه تعالى‪( :‬علم النسان ما لم يعلم)(‪ )3‬بينما يمثل الرأي الثاني فرقة البهشمية وبعض المتكلمين الذين اعتبروا‬
‫أن ل علقة دللية قائمة بين طرفي الدليل اللساني وإنما العلقة حدثت لصطلح بين أهل اللغة ولغراض ودواع ثم‬
‫حصل توسيع في الستعمال‪ ،‬يقدم المدي رأي البهشمية ولبعض المتكلمين الذين اعتبروا اللغة إحدى أهم وسائل‬
‫التواصل‪ ،‬مشيرين إلى وجود أدوات أخرى للتواصل والبلغ وهي الشارات والرموز‪ ،‬ومؤكدين أن القول بالتوقيف‬
‫اللغوي غير صحيح‪ ،‬لن اللغة سابقة على الوحي يقول المدي‪" :‬وذهبت البهشمية وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك‬
‫من وضع أرباب اللغات واصطلحهم‪ ،‬وأن واحد أو جماعة انبعثت داعيته أو دواعيهم‪ ،‬إلى وضع هذه اللفاظ بإزاء‬
‫معانيها ثم حصل تعريف الباحثين بالشارة والتكرار‪ ،‬كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع وكما يعرف الخرس ما في‬
‫ضميره بالشارة والتكرار مرة بعد أخرى‪ ،‬محتجين على ذلك بقوله تعالى‪( :‬وما أرسلنا من رسول إل بلسان قومه)‬
‫وهذا دليل على تقدم اللغة على البعثة والوحي‪.)4(.‬‬
‫ويعرض المدي لرأي القاضي أبي بكر ليجمع بين القول بوجود علقة طبيعية بين الدال والمدلول وبعدم وجود‬
‫تلك العلقة‪ ،‬ذلك أن تعيين الصطلح دون التوقيف أو العكس‪ ،‬ل يسنده دليل قاطع قوي فيقول المدي باسطا رأي‬
‫أبي بكر القاضي‪" :‬وذهب القاضي أبو بكر وغيره من أهل التحقيق إلى أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن‪ ،‬بحيث لو‬
‫فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته وأما وقوع البعض دون البعض فليس عليه دليل قاطع‪ ،‬والظنون فمتعارضة‬

‫() الحكام ف أصول الحكام ج ‪ .1‬ص ‪.73‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 1‬ص ‪.75 -74‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.74‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.75‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 122 -‬‬


‫يمتنع معها المصير إلى التعيين"(‪ .)1‬وقد يرجح المدي بعض هذه المذاهب لقوة حجتها بالنسبة للمذاهب الخرى‪ ،‬كما‬
‫ذهب إلى الميل إلى رأي الشعري القائل بالتوقيف بينما نراه يعلن عن رجاحة مذهب القاضي أبي بكر حيث يقول‪:‬‬
‫"والحق أن يقال إن كان المطلوب في هذه المسألة يقين الوقوع لبعض هذه المذاهب‪ ،‬فالحق ما قاله القاضي أبو بكر إذ‬
‫ل يقين من شيء منها"(‪ .)2‬ويدحض المدي آراء من قالوا بالتوقيف‪ ،‬مؤوّلً النصوص القرآنية التي استندوا عليها من‬
‫ذلك تأويله (العلم) الوارد في قوله تعالى‪" :‬وعلم آدم السماء كلها"(‪ .)3‬باللهام‪ .‬يقول شارحا ذلك‪" :‬وليس تأويلها‬
‫بالحمل على اللغات أولى من تأويلها بالحمل على القدار على اللغات‪ ،‬كيف وإن التوقيف يتوقف على معرفة كون‬
‫تلك اللفاظ دالة على تلك المعاني وذلك ل يعرف إل بأمر خارج عن تلك اللفاظ"(‪ .)4‬فالمدي ينص صراحة على‬
‫وجود كفاية في ذات النسان‪ ،‬ذلك أن متكلم اللغة‪ ،‬أي لغة‪ ،‬مزود مسبقا بقواعد ذهنية تحدد له عوالم دللية وتخول له‬
‫إنتاج جمل وتراكيب لم يتعلمها من قبل‪ ،‬وهو ما جعله تشومسكي دعامة لنظريته في النحو التوليدي(‪ .)5‬في حديث عن‬
‫الداء اللغوي (‪ )competence‬والكفاية اللغوية (‪ )Perfomance‬التي عبر عنها المدي (بالقدار على اللغات)‬
‫ونظرا لقوة نزوح العلماء إلى الدليل القرآني‪ ،‬نرى المدي في نهاية باب البحث في أصل اللغات‪ ،‬يميل إلى القول‬
‫بالعلقة الطبيعية بين الدال والمدلول وذلك لعتبار اللغة توقيفية معلوم توقيفها إما بالوحي أو بخلق اللغات بخلق‬
‫الستعداد الفطري‪ .‬لمعرفة أن ذلك اللفظ وضع لذلك المعنى‪ .‬يقول المدي‪" :‬بل جاز أن يكون أصل التوقيف معلوما‪،‬‬
‫إما بالوحي من غير واسطة‪ ،‬وإما بخلق اللغات‪ ،‬وخلق العلم الضروري للسامعين بأن واضعا وضعها لتلك‬
‫المعاني"(‪.)6‬‬

‫‪-4‬النساق الدللية (أنواع العلقات وأقسامها)‪:‬‬


‫لقد بحث الدرس الدللي الحديث‪ ،‬أنواع الدللت واعتمد في سبيل تصنيفها على معايير تخضع لمقياس الطبيعة‬
‫أو لمقياس العقل أو لمقياس العرف‪ ،‬فأحصوا بناء على ذلك أنواعا من الدللت كالدللة الطبيعية‪ ،‬والدللة المنطقية‬
‫العقلية‪ ،‬والدللة العرفية الوضعية‪ .‬كما تناول علماء الدللة الدللت الهامشية التي يكتسبها اللفظ داخل السياق اللغوي‬
‫وسموا ذلك قيما أسلوبية أو تعبيرية‪ ،‬أما دللة المطابقة ودللة التضمن واللتزام‪ ،‬فقد اعتمد في تصنيفها على معيار‬
‫النتماء والحتواء والستلزام‪ .‬وإن كان العلماء يجمعون ذلك كله تحت الدللة الوضعية‪.‬‬
‫إن المدي قد أفاض في تقسيم الدللت متخذا معايير لفظية لغوية ومعايير عقلية منطقية‪ ،‬مستندا في ذلك على‬
‫قصد المتكلم من خطابه‪ ،‬وطبيعة السياق اللغوي‪ ،‬يقول محددا النزياح الدللي الذي تنشأ عنه دللة إيحائية ومعرفا‬
‫مصطلح دللة غير المنظوم "وهو ما دللته ل بصريح صيغته ووضعه"(‪ .)7‬فاللفظ قد ينزاح عن دللته الصلية‬
‫ويخرج من نطاق الوضع والتعارف‪ ،‬يكيفه قصد المتكلم الذي يتمظهر في بنية الكلم‪ ،‬فالدللة التي ينتجها السياق‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.75‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() فقد تعرض الاحظ لتأويل هذه الية حيث ساق أقوال العلماء ف القول بعرفية العلقة الدللية انظر ذلك من البحث ص ‪.98‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.76‬‬ ‫‪4‬‬

‫() انظر ذلك ف مبحث النظريات الدللية الديثة‪ -‬النظرية التوليدية ص ‪.75‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.78‬‬ ‫‪6‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 3‬ص ‪.64‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫النفسي المقامي للمتكلم‪ -‬كما يوضح المدي‪ -‬هي دللة إيمائية إيحائية غير وضعية(‪.)1‬‬
‫إن اللفظ الذي يضمر مدلوله ويوصل إلى فهمه‪ ،‬إما لصدق المتكلم أو لتطابق مفهومه مع الملفوظ به سمى‬
‫المدي دللته دللة اقتضاء‪ ،‬وهي دللة منطقية لكون السياق الخطابي يقتضيها اقتضاء‪ ،‬فإذا ما دل الخطاب اللغوي‬
‫على سياق مضموني فإنه يمكن أن نقف على ما ينضوي تحت هذا السياق من مدلولت ل تخرج عن صدق الخطاب‬
‫ول عن بنية اللغوية‪ ،‬أي بناء على شكله المعجمي التعبيري‪ ،‬ومحتواه التصوري المفهومي‪ .‬يقول المدي موضحا ذلك‬
‫ومشيرا إلى اللفظ غير المنظوم (الدللة القصدية)‪" :‬إما أن يكون مدلوله مقصودا للمتكلم‪ ،‬أو غير مقصود فإن كان‬
‫مقصودا‪ ،‬فل يخلو إما أن يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه‪ ،‬أو ل يتوقف‪ ،‬فإن توقف‪ ،‬فدللة اللفظ عليه‬
‫تسمى دللة القتضاء‪ ،‬فقول الرسول عليه الصلة والسلم‪" :‬رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"‪.‬‬
‫فالمدلول المضمر الذي يقتضيه سياق الحديث هو العقاب فكانت دللة الخطاب النبوي على مدلول العقاب دللة‬
‫اقتضاء(‪.)2‬‬
‫أما الدللت التي يحملها سياق الخطاب وتضطلع بإبرازها عناصر لغوية‪ ،‬فقد أحصى فيها المدي ثلث دللت‪،‬‬
‫دللة التنبيه واليماء‪ ،‬ودللة المفهوم ودللة الشارة‪ ،‬وهي دللت تتوقف على شيئين اثنين‪ :‬صدق المتكلم وهو أمر‬
‫نفسي خارج عن النظام اللغوي‪ ،‬وصحة الملفوظ به في نصه على المدلول‪ ،‬وأمر لغوي يتمظهر في الخطاب والسياق‪.‬‬
‫يقول المدي موضحا دللة التنبيه واليماء‪" :‬وذلك بأن يكون التعليل لزما من مدلول النفط وضعا ل أن يكون اللفظ‬
‫ل بوضعه على التعليل"(‪ .)3‬فالخطاب اللغوي الذي يحمل دللة اليماء والتنبيه ل يشير صراحة إلى علة الحكم التي‬ ‫دا ً‬
‫تومئ إليها عناصره‪ ،‬وإنما هي محتواه في سياقها المضموني (فإذا قلنا "عظم العالم" فدللة اليماء (الدللة الخفية) هي‬
‫كون التعظيم كان للعالم لعلمه‪ ،‬وهي قريبة إلى المعنى اليحائي الذي يتصل بكلمات ذات قدرة على اليماء‪ ،‬واليحاء‬
‫نظرا لشفافيتها(‪.)4‬‬
‫وأما الدللة الثانية فهي دللة المفهوم وهي تقابل دللة المنطوق‪ ،‬من حيث أن المنطوق هو محمول اللفظ الظاهر‬
‫في محل النطق‪ ،‬فدللته دللة ظاهرة‪ ،‬ل يختلف في إدراكها اثنان ولذلك لم يبحث فيها علماء الصول‪ .‬يقول المدي‬
‫في تعريف دللة المفهوم‪" :‬هو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق"(‪.)5‬‬
‫ويميز في دللة المفهوم نوعين‪ :‬دللة الموافقة ودللة المخالفة‪ ،‬وهي في الواقع اللغوي امتداد لدللة القتضاء‬
‫لكونها تتأسس ليس على بنية اللفظ وإنما على ما يحمله مدلوله من دللة تشاكل دللة مدلول آخر أو تخالفه‪ ،‬فهو إذن‬
‫بحث في معنى المعنى أو في مدلول المدلول إما موافقة أو مخالفة فقوله تعالى في حق الوالدين‪" :‬ول تقل لهما أفّ ول‬
‫تنهرهما" فلفظ "أف" في هذا السياق قد تحول مدلوله إلى دال على معنى الضرب والهانة وغير ذلك مما هو أشنع من‬
‫إبداء التذمر والتضجر بلفظ أف‪ .‬وقد كان انطلق البحث الدللي في العصر الحديث وانفصاله عن اللسانيات عندما بدأ‬
‫يبحث في المدلول‪ ،‬الذي كان يمثل الجانب الهزيل في دراسات اللسنيين القدامى(‪ .)6‬إن هذا التصال العلئقي بين‬

‫() أحد متار عمر‪ -‬انظر علم الدللت ص ‪.37 -36‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪.254‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 3‬ص ‪253 .25‬‬ ‫‪3‬‬

‫() أحد متار عمر‪ .‬علم الدللة‪ ،‬ص‪.31 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الحكام ج ‪ 3‬ص ‪.66‬‬ ‫‪5‬‬

‫() أصدر أوجدن وريشاردز لكاتبها "معن العن" سنة ‪ 1932‬وأحدثوا به ضجة ف عال اللغة‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫دللتين إحداهما ظاهرة وأخرى خفية‪ ،‬يشير إلى قدرة النظام اللغوي على اختزال المعاني غير المتناهية في عناصره‬
‫اللغوية المتناهية‪ ،‬وهي إشارة كذلك إلى قدرة الذهن البشري على إجراء تقابلت دللية تقوم على السلب أو اليجاب‪،‬‬
‫واللحاق أو العزل وهي عملية تتم عبر كل إصدار لغوي أو تلق لسلسلة من الرسائل الخطابية‪.‬‬
‫إن دللة المفهوم‪ ،‬ل تخلو إما أن تكون أدنى من دللة المنطوق أو أعلى منها‪ ،‬كما تكون دللتها أسبق في الحكم‬
‫من دللة المنطوق‪ ،‬فإذا قال ال تعالى في حق الوالدين "ول تقل لهما أف" كانت دللة المسكوت عنه (دللة المفهوم)‬
‫أقوى وأسبق في الحكم من دللة المنطوق‪ .‬يقول المدي شارحا ذلك‪" :‬والدللة في جميع هذه القسام ل تخرج عن‬
‫(‪)1‬‬
‫قبيل التنبيه بالدنى على العلى وبالعلى على الدنى‪ ،‬ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق" ‪.‬‬
‫أما القسم الثاني‪ ،‬من دللة المفهوم فهو ما سماه المدي دللة المخالفة وهو نقيض لدللة الموافقة‪ ،‬إذ المسكوت‬
‫عنه (دللة المفهوم) ل يكون امتدادا في الدللة للمنطوق‪ ،‬وإنما المسكوت عنه يخالف دللة المنطوق‪ .‬يشرح ذلك‬
‫المدي فيقول‪" :‬وأما مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفا لمدلولـ ه في محل النطق‬
‫ويسمى دليل الخطاب أيضا"(‪ .)2‬إن الربط بين دللة حاضرة ودللة غائبة يجد العقل بينهما علقة طبيعية ينتقل من‬
‫إحداها إلى الخرى‪ ،‬قد أشار إليه علماء الدللة المحدثون في حديثهم عن الدللة الطبيعية‪ ،‬وإن كانوا قد حصروا ذلك‬
‫بالظواهر الطبيعية‪ ،‬والعراض المرضية وما إلى ذلك(‪ )3‬وإن لتحديد دللة المخالفة‪-‬وهي دللة غائبة‪ -‬نص المدي‬
‫على جملة من الطرق اتخذت معايير لخراج الدللة الغائبة من حكم الدللة الحاضرة فإذا قلت‪" :‬اليوم قمت باكرا" دل‬
‫السياق أنك بالمس لم تقم باكرا وهو مفهوم مخالفة‪ .‬ومن ضمن ما ذكر المدي من معايير تخصيص الدللة الغائبة‬
‫(دللة المخالفة) التخصيص بالصفة كقولنا‪" :‬الرجل العالم أكرمه" يقتضي أن غير العالم ل يستحق الكرام‪.‬‬
‫والتخصيص بالشرط والجزاء كقولنا‪" :‬إن دخلت داري أكرمتك"‪ ،‬والتخصيص بالغاية وبالستثناء والعدد‪ ،‬وحصر‬
‫(‪)4‬‬
‫المبتدأ في الخبر‪.‬‬
‫ويبرز الهتمام السيمولوجي عند المدي في تعريفه لدللة الشارة وهي دللة إضافية تدرك من خلل السياق‬
‫الخطاب اللغوي‪ ،‬ل يقصد إليها المتكلم قصدا‪ ،‬وإنما مدلول اللفظ في السياق استدعى مدلولً آخر أو عدة مدلولت وقد‬
‫قال في تعريفه الغزالي‪ ،‬هو "ما يؤخذ من إشارة اللفظ‪ ،‬ل من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه‬
‫فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلمه مال يدل عليه نفس اللفظ فسمي إشارة‪ ،‬فكذلك قد يتبع اللفظ‪،‬‬
‫ما لم يقصد به ويبني عليه"(‪.)5‬‬
‫فدللة الشارة تتصل أساسا بقدرة اللفظ على استحضار جملة المعاني الضافية التي هي امتداد لمدلول منطوقه‪،‬‬
‫ويترتب على ذلك أن بنية الخطاب اللغوي تكون ذات واقع نفسي‪ ،‬بحيث تكون الفكار المحمولة في الخطاب منسجمة‬
‫ومتكاملة مع مدلوله السطحي الظاهر من ملفوظه‪ ،‬ويورد المدي أمثلة إجرائية لدللة الشارة من ذلك "دللة مجموع‬
‫قوله تعالى‪( :‬وحمله وفصاله ثلثون شهرا) وقوله تعالى‪( :‬وفصاله في عامين) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 3‬ص ‪67‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 3‬ص ‪69‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر ذلك ف "مبحث أقسام الدللة" الدللة الطبيعية ص ‪47‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر الحكام ج ‪ 3‬ص ‪.70‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الستصفى ج ‪ 2‬ص ‪.128‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫لم يكن ذلك مقصودا من اللفظ"(‪.)1‬‬
‫ويبقى انجلء هذه الدللت أو خفاؤها‪ ،‬قائما على معرفة المقصود من الحكم في مستوى النطق من سياق الكلم‪،‬‬
‫أما إذا انتفت هذه المعرفة فليس لنا إلى إدراك حقيقة الدللة من سبيل إل التأويل الذي قد يخطئ وقد يصيب‪ ،‬إن الخذ‬
‫بهذه النساق الدللية التي كانت مادتها المنظومة اللغوية العربية في تجلياتها المختلفة على مستوى النص المقدس أو‬
‫على مستوى كلم العرب‪ ،‬يفضي إلى النظر إلى ظاهرة الدللة على أنها ظاهرة مركبة من فعل الدلء وآلياته‬
‫وأنحائه‪ ،‬وفاعل ذلك الفعل وأجوائه النفسية ومقصوده وغايته‪ ،‬كما تشمل متلقي ذلك الفعل واستعداداته المعرفية‬
‫ووعيه بين الخطاب ومضامينه ومسالك العبور من المنطوق إلى المفهوم‪ ،‬عبور تحكمه مقاييس دقيقة تقضي إلى‬
‫متصورات دللية منطقية‪.‬‬
‫في مقام نصه على ماهية الجتهاد‪ ،‬وحقيقة المجتهد فيه‪ ،‬أثبت المدي شروط العالم المجتهد من ضمنها المعرفة‬
‫اللغوية بطرق إثبات الدللة واختلف مراتبها وأقسامها من دللة المطابقة والتضمن واللتزام‪ ،‬وهي دللت بحثها‬
‫علماء اللغة المحدثون والقدماء على السواء وأفاضوا في الحديث حولها‪ ،‬وقد عدها المدي أرضية أساسية لي‬
‫استنطاق لبنية الخطاب الشرعي واستنباط الحكم منه‪ ،‬وهي إشارة إلى البعد اللغوي بمستوياته التركيبية والمعجمية‬
‫والدللية الذي ينطوي عليه التراث العربي المعرفي ومنه على الخصوص التراث الديني‪ ،‬والصولي بصفة أخص‪.‬‬
‫يحدد المدي معيار بيان العلقات الدللية على أساس خصائص الحتواء والنتماء أو الستلزام‪-‬كما أوضحنا‬
‫سابقا‪ ،-‬وفي دللت تندرج ضمن الدللة الوضعية التي هي قسم من أقسام الدللة اللفظية(‪ .)2‬يقول المدي في اللفظ‬
‫المفرد‪" :‬إما أن تكون دللته لفظية أو غير لفظية واللفظية إما أن تعتبر بالنسبة لكمال المعنى الموضوع له اللفظ وإلى‬
‫بعضه‪ .‬فالول دللة المطابقة‪ ،‬كدللة لفظ النسان على معناه‪ .‬والثاني دللة التضمن كدللة لفظ النسان على ما في‬
‫معناه من الحيوان أو الناطق‪ ،‬والمطابقة أعم من التضمن لجواز أن يكون المدلول بسيطا ل جزء له(‪ )3‬ويمكن توضيح‬
‫ذلك بالرسم التي‪:‬‬
‫الدللة‬

‫لفظية‬ ‫منطقية (غير لفظية)‬

‫تضمن‬ ‫مطابقة‬ ‫إلتزام‬

‫إن دللة اللتزام يعتبرها المدي غير لفظية كون اللزم هو خارج عن مدلول اللفظ‪ ،‬إذ ل يعتبر اللزم جزءا‬
‫ل في مدلول اللفظ ولذلك عدت دللة التضمن دللة‬‫من مدلول اللفظ بخلف دللة التضمن التي يعتبر فيها الجزء داخ ً‬
‫لفظية‪ .‬وبين علقة المطابقة والتضمن هناك مساواة بشرط انتفاء وجود لزم لمدلول اللفظ المطابق‪ .‬يوضح ذلك‬
‫المدي في قوله "ودللة اللتزام وإن شاركت دللة التضمن في افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللزم في اللتزام‪،‬‬

‫() الحكام ج ‪ 3‬ص ‪.65‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر ذلك ف الترسيمية ف "مبحث أقسام الدللة" ص ‪.47‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 1‬ص ‪51‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫والجزء في دللة التضمن‪ ،‬غير أنه في التضمن لتعريف كون الجزء داخلً في مدلول اللفظ لتعريف كونه خارجا عن‬
‫مدلول اللفظ‪ ،‬فلذلك كانت دللة التضمن لفظية بخلف دللة اللتزام‪ ،‬ودللة اللتزام مساوية لدللة المطابقة ضرورة‬
‫امتناع خلو مدلول اللفظ المطابق عن لزم‪ ،‬وأعم من دللة التضمن‪ ،‬بجواز أن يكون اللزم لما ل جزء له"(‪ )1‬ويمكن‬
‫تمثيل ذلك بالرسم التالي‪:‬‬

‫وقد كانت النسب بين الدللت محل خلف كبير بين جمهور العلماء‪ ،‬والمدي يخالف بتصنيفه لقسام الدللة‬
‫تقسيم العلماء المحدثين الذين أدرجوا دللة اللتزام ضمن الدللة اللفظية‪ .‬إن دللة اللتزام تحدّد على مستوى ذهني‪،‬‬
‫فبين معنى اللفظ ومدلوله الخارجي اللزم له تلزم ذهني ولذلك كانت الدللة‪ ،‬دللة عقلية بحيث يجد العقل بين الدال‬
‫والمدلول علقة ذاتية ينتقل لجلها منه إليه كما قال التهاوني(‪.)2‬‬
‫ولن معنى اللفظ ل يرتبط بأي معنى خارجي‪ ،‬احتيج لتحديد علقة اللزوم إلى آلية ضبط هو النتقال الذهني‬
‫بحيث يكون المر الخارجي لزما لمسمى اللفظ بحيث يلزم من تصور المسمى تصوره‪ ،‬بحيث إذا انتفى وجود‬
‫النتقال الذهني لستحال تحديد اللزم لدللة اللفظ‪ ،‬ولما كانت الدللة اللتزامية يعتمد في إدراكها المسلك العقلي‪،‬‬
‫كانت إذن دللة عقلية وبما أن دللة اللتزام بتعبير المناطقة هي شاهد على غائب عدّها بعض اللغويين دللة منطقية‬
‫لن الفكر ينتقل انتقالً منطقيا من الحقائق الحاضرة إلى حقائق غائبة‪..‬‬
‫إن ما حققه المدي في رحاب التفريع لعالم الدللة‪ ،‬كان له أثر التحول المنهجي لمسار المقاربة العلمية للظاهرة‬
‫اللغوية‪ ،‬مما يعين على التفكير في إيجاد نسق تفريعي دللي للخطاب اللغوي في كامل مستوياته‪ ،‬والمعتمد في‬
‫التواصل والبلغ‪ ،‬وقد يعوّل عليه كثيرا في حصر السمات الدللية الدقيقة وضبطها ضبطا محكما لتغدو مداخل مهمة‬
‫في التعامل مع الظواهر اللغوية المتجددة‪ ،‬لن اللغة العربية علمية في سننها التعبيرية‪ ،‬ذهنية في انتظام قواعدها‪،‬‬
‫وتخضع لنظام علمي متكامل الجزاء‪ ،‬دقيق العناصر‪ ،‬وإن تجلياتها على مستوى النص القرآني خاصة وسعي‬
‫العلماء نحو اكتشاف القوالب المقولية والنظم الخطابية وتأسيسها تأسيسا علميا‪ ،‬سيفتح المجال الواسع لدخال المنظومة‬
‫اللغوية في تفاعل خصب قصد تفجير طاقاتها الكامنة‪ ،‬موازاة مع المستجدات الحاصلة على المستوى المفهومي لعالم‬
‫الدللة أو عالم العيان والشياء…‬

‫‪-5‬أسس الحقول الدللية‪:‬‬


‫لقد نص الدرس الدللي الحديث‪ ،‬على أن علم الدللة ل يهتم فقط بإطلق السماء‪ ،‬فالهم من ذلك طريقة‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪52‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عادل الفاخوري‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب علم الدللة عند العرب‪ :‬ص ‪.16‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫تصنيف الشياء التي سنعطيها السماء(‪ )1‬كما قسم أولمن الحقول الدللية إلى أنواع ثلثة‪:‬‬
‫‪-1‬حقول محسوسة متصلة‪ :‬كحقل اللوان‪ ،‬والعناصر التي تشكل حقلً متلحما‪.‬‬
‫‪-2‬حقول محسوسة منفصلة‪ :‬كحقل القرابة والسر‪..‬‬
‫(‪)2‬‬
‫‪-3‬حقول تجريبية مفهومية (عالم الفكار)‬
‫أما المدي فقد أسس نظرة لغوية حول مفهوم الحقل المعجمي بناء على علقات متعددة‪ ،‬منها علقة العموم‪،‬‬
‫وعلقة الشتراك والترادف‪ ،‬وعلقة الكل بالجزء‪.‬‬
‫في معرض حديثه عن الخبر‪ ،‬يناقش المدي مسألة كانت موضع خلف في عصره بين جمهور العلماء‪ ،‬هذه‬
‫المسألة لها علقة بما أضحى يسمى في العصر الحديث بمبحث الحقول الدللية التي تخضع عناصرها لعلقات مختلفة‬
‫نصنف على أساسها إلى "عائلت لغوية تحت غطاء لفظ أعم‪ ،‬يكون مفهومه موضع اشتراك بين جميع العناصر التي‬
‫تحته‪ .‬يقول المدي في تعريفه للفظ العم‪ ،‬وهو في مقام الرد على من اعتبر أن اللفظ العم مدلوله جزء من مدلولت‬
‫أجزائه‪" .‬فإنه ل معنى لكون العم مشتركا فيه أنه موجود في النواع أو الشخاص التي هي أخص منه‪ :‬بل بمعنى‬
‫أن حد الطبيعة التي عرض لها إن كانت كلية مطلقة مطابق لحد طبائع المور الخاصة تحتها"(‪ .)3‬فالساس الول الذي‬
‫يبني عليه المدي نظريته في العم والخص هو وجود سمات متطابقة موجودة في النواع التي تقع تحت اللفظ‬
‫العم‪ ،‬وهذا التحديد النوعي للعلقة بين العم والخص يعد سبقا علميا للمدي‪ ،‬إذ تصنيف المدلولت إلى حقول ل‬
‫يتوقف على القرابة اللغوية الموجودة بينهما وبين اللفظ العم وإنما تتعداها إلى إحداث قرابة مبنية على أساس المفهوم‬
‫أو الترادف والتماثل والسببية وما إلى ذلك مما فصل فيه علماء الدللة المحدثون(‪ .)4‬فأشار المدي إلى تلك السس‬
‫بقاعدة عامة شاملة لكل الضروب بقوله (مطابق لحد طبائع المور الخاصة) يعد ذلك كله وعيا ناضجا بأبعاد الدللة‬
‫الوظيفية في تجميع المفردات اللغوية بحسب سماتها التمييزية(‪ ،)5‬التي يتخذها المدي معايير تعتمد في تصنيف الدوال‬
‫في شكل حقول دللية يشرف عليها لفظ غطاء‪ ،‬فليس إل السمات الساسية الجوهرية التي تقوم برسم الحدود بين حقل‬
‫وآخر أما الغراض العامة فل تعد فيصلً دقيقا في تمييز الحقول‪ ،‬يقول المدي في ذلك‪" :‬ليس كل عام يكون جزءا‬
‫من معنى الخاص‪ ،‬ومقوما له بجواز أن يكون من الغراض العامة الخارجة عن مفهوم المعنى الخاص‪ ،‬كالسود‬
‫والبيض بالنسبة إلى ما تحتهما من معنى النسان والفرس ونحوه"(‪ .)6‬فل تقابل إذن يبقى بين لفظ البيض ككلمة‬
‫غطاء وبين النسان والفرس كعناصر في الحقل الدللي‪ ،‬ذلك أن اللون المذكور ل يعد سمة تمييزية للفظ النسان أو‬
‫الفرس‪ ،‬إنما هناك تصنيف آخر لمثل هذه العناصر يقال على أساس علقة التنافر‪ .‬لن الدرس الدللي الحديث أفاد أنه‬
‫إذا كان الحقل المعجمي يتضمن بيان العلقة بين الكلمات التي تتقابل بردجماتيا‪ ،‬فكذلك تحليله يتضمن بيان العلقة بين‬
‫الكلمات التي تتقابل سنتجماتيا(‪.)7‬‬
‫() أحد متار عمر‪ :‬علم الدللة‪ .‬ص ‪.86‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪.Meaming and style P27-31‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام ج ‪ 3‬ص ‪.5‬‬ ‫‪3‬‬

‫() أحد متار‪ .‬علم الدللة‪ :‬ص ‪ 99‬وانظر مدخل إل علم الدللة‪ -‬بسام شاكر ص ‪.44‬‬ ‫‪4‬‬

‫() هذا ما اعتمدته النظرية التحليلية ف نضريتها نظرتا للحقول الدللية انظر ذلك ص ‪ 72‬من البحث‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الحكام ج ‪ ،1‬ص ‪.5‬‬ ‫‪6‬‬

‫() أحد متار عمر‪ :‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.80‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫والحقل عند المدي قد يضيق حتى أنه ليحتوي عنصرين اثنين وقد يتسع ليشمل عناصر كثيرة‪ ،‬وقد يبقى مجا ً‬
‫ل‬
‫مفتوحا ل نهائيا‪ ،‬كما قد يكون هناك تقاطع بين حقل وآخر إّذ ينتمي لفظ غطاء‪ ،‬يعامل على أنه لكسيم رئيسي‪ ،‬ويوجد‬
‫مع ذلك كعنصر فرعي داخل حقل أعم يقول المدي محددا ذلك‪" :‬العام هو اللفظ الواحد الدال على مسمين فصاعدا‬
‫مطلقا معا"(‪ .)1‬فالحد الدنى لحجم الحقل عند المدي هو احتواؤه على عنصرين فصاعدا مطلقا‪ ،‬كما أن هناك ألفاظا‬
‫خاصة بالنسبة لما هو أعم منها وأخرى خاصة ل أخص منها‪ ،‬ولذلك لم يفت المدي ذكر هذا القسم فقال‪" :‬ما‬
‫خصوصيته بالنسبة إلى ما هو أعم منه وحده أنه اللفظ الذي يقال عن مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة‬
‫واحدة كلفظ النسان فإنه خاص ويقال مدلوله وعلى غيره كالفرس والحمار‪ .‬لفظ الحيوان من جهة واحدة"(‪ )2‬فلفظ‬
‫الحيوان لفظ عام يضم تحته ألفاظا خاصة منها‪ :‬النسان والفرس والحمار… فهذا البناء للحقول الدللية قد أشار إليه‬
‫الدرس الدللي‪ ،‬فقد حددت هذه الحقول على أنها مجموعة من الكلمات ترتبط دللتها وتوضع عادة تحت لفظ عام‬
‫يجمعها(‪ .)3‬تقوم على أساس علئق ترابطية تعود إلى مقياس التدرج أو التقابل أو الشتقاق أو الترتيب وما إلى ذلك‪،‬‬
‫وقد سعت جل البحاث الدللية إلى تمثل منهج خصب لبناء نظم مغلقة‪ ،‬ومع ذلك توصلت إلى بناء أنظمة حقولية‬
‫تفتقر إلى الشمولية والتحديد العلمي الدقيق‪ ،‬ويمكن في خضم ما توصلت إليه هذه البحاث من نتائج إدراج محاولة‬
‫المدي في بناء حقول دللية مؤسسة على أمارات صورية تعتمد معيار الجزء والكل والخصوص والعموم وهو ما‬
‫(‪)4‬‬
‫اصطلح على تسميته في الدرس الدللي الحديث في مبحث الحقول الدللية‪ ،‬بالعلقات التراتبية‪.‬‬
‫ل مهما لفهم ما‬
‫إن المشاكلة بين مستويي اللغة‪ ،‬مستوى التعبير ومستوى الدللة‪ ،‬التي طرحها سوسير تعد مدخ ً‬
‫سماه غريماس بالبنية الدللية أو العوالم الدللية‪ ،‬إذ كما تحلل الكلمة إلى أصوات وفونامات يحلل المعنى إلى سمات‬
‫معنوية صغرى‪ ،‬إن فرضية المشاكلة هذه تجعل بنية المعنى وكأنها تلفظ لعالم الدللة بحسب وحداته الدللية‬
‫الصغرى‪ ،‬هذه الوحدات مشكلة بالنمط الذي تتشكل به وحدات التعبير(‪ .)5‬وفي هذا السياق النظري يبحث المدي‬
‫مسألة لفظ العموم الذي يعد لكسيما رئيسيا تنطوي تحته جملة من اللفاظ الجزئية أو الخاصة‪ ،‬فهل العموم في اللفظ‬
‫يستلزم عموما في المعنى؟ يجيب المدي على هذا الطرح بأن اللفظ الكلي يكون‪ ،‬معناه عاما يضم تحته عناصر من‬
‫ل من المدلولت الخاصة على غرار حقل الدوال الخاصة‪ .‬يوضح ذلك المدي فيقول‪" :‬إنه وإن تعذر‬ ‫المعاني تشكل حق ً‬
‫عروض العموم للمعاني الجزئية الواقعة في امتداد الشارة إليها حقيقة‪ ،‬فليس في ذلك ما يدل على امتناع عروضه‬
‫للمعاني الكلية المتصورة في الذهان‪ ،‬كالمتصورة من معنى النسان المجرد من المور الموجبة لتشخيصه وتعيينه‪،‬‬
‫فإنه مع اتحاده مطابق لمعناه وطبيعته لمعاني الجزئيات الداخلة تحته من زيد وعمر ومن جهة واحدة كمطابقة اللفظ‬
‫الواحد العام لمدلولته"(‪ .)6‬وفي ذلك إشارة صريحة إلى أن اللفظ العام له تصور ذهني يجب أن يتخذ كمعطى لفهم ما‬
‫يحتوي من معاني جزئية متحدة‪ ،‬ول يمكن أن يتضح ذلك إل إذا جردنا هذا اللفظ العام من التعيين في العالم الخارجي‬
‫أو عالم العيان‪ .‬ويذكر المدي في نهاية مبحثه حول العموم والخصوص القيود الشكلية التي تعمل على تعميم الدللة‬
‫فيقول‪" :‬وعلى هذا يكون الكلم في جميع الظروف المستعملة للشرط والستفهام مثل‪ :‬ما‪ ،‬وأي‪ ،‬ومتى‪ ،‬وأين‪ ،‬وكم‪،‬‬

‫() الحكام ج ‪ 2‬ص ‪196‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 2‬ص ‪197‬‬ ‫‪2‬‬

‫() أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.79‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سال شاكر‪ ،‬انظر مدخل إل علم الدللة‪ :‬ص ‪.44‬‬ ‫‪4‬‬

‫() غرياس‪ .‬انظر‪-‬البنية الدللية‪ -‬ص ‪ -97‬ملة للفكر العرب العاصر‪ -‬عدد ‪ /18/9‬سنة ‪.1982‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الحكام ج ‪ 2‬ص ‪.199‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 129 -‬‬


‫وكيف‪ ،‬ونحوه‪ ،‬ومؤكداتها مثل‪ :‬كل وجميع فإنها للعموم(…) والجمع المعرف من غير العهد والنكرة المنفية نفي‬
‫(‪)1‬‬
‫جنس‪..‬‬
‫إن أهمية معرفة العلقات بين العناصر اللغوية وبين مدلولتها تكمن في الحاجة الشديدة لتوظيف سليم للغة‬
‫التخاطب‪ ،‬فقد يؤدي اللبس الحاصل في تعيين اللفظ العام أو الخاص إلى انقطاع التواصل والبلغ نتيجة لوجود خلل‬
‫في الفهم‪ ،‬إذ المتلقي لرسالة الخطاب ل يملك القدرة على رد اللفظ إلى مدلول واحد على وجه الحقيقة‪ ،‬فهو غير‬
‫متمكن من معرفة القرينة التي تفيد أن صيغة ما وردت دالة على العموم ل على الخصوص أو العكس‪.‬‬

‫‪-6‬بناء الحقول الدللية‪:‬‬


‫يتناول المدي ضمن مبحث الحقول الدللية‪ ،‬موضوع المشترك اللفظي والترادف باعتبار معيار الشتراك‬
‫والترادف من المعايير المعتمدة في وضع الحقول الدللية‪ ،‬وقد اعتبر المشترك اللفظي من العلقات المهمة في‬
‫تصنيف المدلولت إلى حقول‪ ،‬ذلك لرتباط اللفظ بمجموعة من العناصر التي تشكل معه حقلً دلليا بالعتماد فيها‬
‫على العلقات الترابطية التي تكون نظاما من المدلولت اللغوية ففي باب التفريع الدللي للسم يذكر المدي المشترك‬
‫اللفظي حيث يقول‪" :‬وأما إن كان السم واحدا والمسمى مختلفا‪ ،‬فإما أن يكون موضعا على الكل حقيقة بالوضع الول‬
‫أو هو مستعار في بعضها‪ ،‬فإن كان الول فهو المشترك‪ ،‬وسواء كانت المسميات متباينة كالجون للسواد والبياض أو‬
‫غير متباينة"(‪ .)2‬وفي هذا إشارة إلى اللفظ الذي اشتمل على حقل من المدلولت المتقابلة والمتضادة هو كذلك من‬
‫المشترك اللفظي‪ ،‬فإذا كان التضاد هو وقوع اللفظ غطاء لمعنيين مختلفين فأكثر‪ ،‬فكذلك المشترك اللفظي هو وقوع‬
‫اللفظ غطاء لمعنيين مترادفين فأكثر‪.‬‬
‫ل كبيرا بين اللغويين العرب فنفاه البعض وأثبت وقوعه‬
‫لقد أثارت مسألة المشترك اللفظي ووقوعه في اللغة‪ ،‬جد ً‬
‫آخرون وهم الكثر(‪ ،)3‬وحجج النافين لوقوع المشترك مستندة أساسا على غرض الفهام‪ ،‬إذ المشترك اللفظي في‬
‫عرفهم يوقع السامع في لبس وإبهام لختيار الدللة المرادة من السياق‪ ،‬وأن ال تعالى ل يضع اللفاظ قصد البهام‬
‫واللبس ولكن قصد تحديد الدللة تحديدا كاملً‪ ،‬أما حجج المثبتين لوقوع المشترك فهي حجج تستند على العقل‪ ،‬فل‬
‫يمنع أن يضع الواحد من أهل اللغة لفظا على معنيين مختلفين على طريق البدل ثم يتواضع عليه الباقون من أهل اللغة‬
‫الواحدة‪ ،‬وقد تضع القبيلة لفظا بإزاء معنى وتضعه أخرى بإزاء معنى آخر من غير شعور ثم يشتهر الوضعان‪)4(.‬وهو‬
‫دليل ثابت في تاريخ اللغة إذ صح وضع كلمة"سرحان" التي تعني السد في لهجة هذيل وهو مشهور الدللة‬
‫على"الذئب"‪ .‬وهناك دواع أخرى أدت إلى وقوع المشترك من ذلك أن وضع اللفظ يخضع لغرض الواضع حيث قد‬
‫يعرفه لغيره مفصلً أو مجملً ويكون ذلك علة لوقوع المشترك اللفظي‪ .‬يقول في ذلك المدي‪" :‬وأن وضع اللفظ تابع‬
‫لغرض الواضع‪ ،‬والوضع كما أنه قد يقصد تعريف الشيء لغيره مفصلً‪ ،‬فقد يقصد تعريفه مجملً غير مفصل‪ ،‬إما‬
‫لنه علمه كذلك ولم يعلمه مفصلً أو لمحذور يتعلق بالتفصيل دون الجمال فل يبعد لهذه الفائدة منهم وضع لفظ يدل‬
‫عليه من غير تفصيل"(‪ .)5‬ويردف المدي دليلً آخر لوقوع المشترك اللفظي‪ ،‬يتمثل في أنه لو انتفى المشترك اللفظي‬
‫لقصرت السماء على تغطية المسميات وهي غير متناهية‪ ،‬ومع ذلك ل يميل المدي إلى هذا الدليل كثيرا لكون وضع‬
‫() الصدر السابق ج ‪ 2‬ص ‪.204‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.18‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر الزهر لسبون ج ‪( 1‬ص ‪ )386 -369‬فيه حديث مستفيض حول اهتمام بالشترك اللفظي واختلفهم ف إثباته ونفيه…‬ ‫‪3‬‬

‫() الحكام ج ‪ 1‬ص ‪.19‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫السم إزاء مسماه عائدا إلى قصر الواضع‪ ،‬والقول بتناهي السماء قول غير سديد وإنما العمدة على الغرض من‬
‫وضع اللفاظ‪ ،‬فل يعقل أن تغطي المسميات كلها بأن يوضع إزاءها السماء ولذلك وجدت معان كثيرة لم تضع‬
‫(‪)1‬‬
‫العرب إزاءها أسماء‪ ،‬لن النسان لن يجرؤ أن يعبر عن كل ما يدور بخلده من أفكار وأشياء‪ ،‬كما قال أفلطون ‪.‬‬
‫لن اللغة متناهية على خلف عالم الشياء فهو غير متناهٍ ول محدود‪ .‬يوضح المدي هذه المسألة بقوله‪" :‬فقد قال قوم‬
‫أنه لو لم تكن اللفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسميات غير متناهية والسماء متناهية ضرورة تركبها من‬
‫الحروف المتناهية‪ ،‬لخلت أكثر المسميات عن اللفاظ الدالة عليها مع دعوى الحاجة إليها‪ ،‬غير أن وضع السماء على‬
‫مسمياتها مشروط بكون واحد من المسميات مقصودا بالوضع‪ ،‬وما ل نهاية له مما يستحيل فيه ذلك‪ ،‬ولئن سلمنا أنه‬
‫غير ممتنع ولكن ل يلزم من ذلك الوضع‪ ،‬ولهذا فإن كثيرا من المعاني لم تضع العرب بإزائها ألفاظا تدل عليها إل‬
‫بطريق الشتراك ول التفصيل كأنواع الروائح‪ ،‬وكثير من الصفات"(‪ .)2‬وينبري المدي يذود عن فكرته القائلة بوجود‬
‫المشترك اللفظي في اللغة‪ ،‬بل وفي القرآن الكريم ذلك أنه إذا انتفى الفهام من الصيغة اللغوية الواقعة مشتركا لفظياً‪،‬‬
‫فإن سياق الجملة يقوم كقرينة لتحديد دللة الصيغة‪ ،‬ثم إن التفصيل ليس سمة قارة في اللغة بدليل وجود أسماء مجملة‪،‬‬
‫ووقوع اللفظ المشترك مفيدا لعموم الدللة في كلم ال تعالى‪ ،‬وانتفاء ذلك عنه في مواضع أخرى لدليل على حصول‬
‫الفهام في المشترك اللفظي‪ ،‬ولقد أكد علماء الدللة المحدثون على صعوبة تخصيص العلقة التي يمكن إقامتها بين‬
‫صورة الجملة ومعناها في لغة معينة‪ ،‬إذ هي أحد الشكالت المطروحة في النظرية الدللية الحديثة(‪ ،)3‬وحصول حد‬
‫أدنى من الفهم أثناء البلغ والتواصل وليس بلوغ فهم التفصيلت هو ما يطلب في علقة المحمول بالموضوع‪ ،‬وإل‬
‫كانت العلقة ضربا من لغو الكلم‪ .‬يقول المدي مشيرا إلى هذه المسألة‪" :‬قلنا وإن اختل فهم التفصيل على ما ذكروه‪ ،‬فل‬
‫يختل معه الفهم من جهة الجملة‪ ،‬وليس فهم التفصيل لغة‪ ،‬من الضروريات بدليل وضع أسماء الجناس فإنها تفاصيل مع‬
‫تحتها(…) وإذا عرف وقوع الشتراك لغة‪ ،‬فهو أيضا واقع في‬
‫كلم ال تعالى‪ .‬والدليل عليه قوله تعالى‪( :‬والليل إذا عسعس) فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره‪ ،‬وهما ضدان‪ ،‬هكذا‬
‫ذكره صاحب الصحاح"(‪.)4‬‬
‫ولوجود المشترك اللفظي في كلم ال‪ ،‬أثبته الصوليون كنوع من أنواع العموم يدل على ثبوت اللفظ ذي الدللة‬
‫العامة‪ .‬إن العلقة الترابطية بين اللفاظ ودللتها‪ ،‬تتحكم فيها نسب تراعى لتحديد جنس العلقة‪ ،‬وقد تتعدد هذه النسب‬
‫كما أوضحها البحث اللغوي الحديث (بنى موزاييكية‪ -‬بنى على شكل متدرج‪ -‬بنى على شكل متناقض‪ -‬بنى‬
‫اشتقاقية)(‪ ،)5‬إلى درجة أن يصعب علينا وضع الحدود بين الحقول التي انقسمت إلى حقول أصغر بفعل الضافات‬
‫المتكررة إلى المعجم اللغوي‪ ،‬وفي هذا المجال نرى المدي يضبط علقتين قد يظن أنهما علقة واحدة وهما علقة‬
‫الشتراك وعلقة التواطؤ بينما هما علقتان مختلفتان‪ .‬يشرح ذلك المدي فيقول‪" :‬قد ظن في أشياء أنها مشتركة‬

‫‪ )( 5‬الصدر السابق ج ‪ 1‬ص ‪.19‬‬


‫‪ )( 1‬كمال بشر دور الكلمة ف الضفة العربية ستيفن أولن‪ ،‬ص ‪6‬‬
‫‪ )( 2‬الحكام ج ‪ 1‬ص ‪.20‬‬
‫‪ )( 3‬د‪ .‬الفاسي الفهري اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ )( 4‬الحكام ج ‪ 1‬ص ‪.22 -21‬‬
‫‪ )( 5‬ريون طحان‪ ،‬بيطار طحان‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ .‬ص ‪.207 -206‬‬
‫موازييكية‪ :‬تنوع ف القل العجمي وانقسامه إل مكعبات صغية ل تلبث أن تتفرع هي الخرى إل مكعبات أصغر وهكذا‪.‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫[اشتراكا لفظيا] وهي متواطئة [مشتركة اشتراكا معنويا] وفي أشياء أنها متواطئة وهي مشتركة"(‪ .)1‬أما المشترك‬
‫اللفظي فقد عرفناه‪ ،‬أما التواطؤ وهو مصطلح يتداوله أهل المنطق ويعني "نسبة وجود معنى كلي في أفراده‪ ،‬ذلك‬
‫حينما يكون وجوده في الفراد متوافقا غير متفاوت نظرا إلى المفهوم الذي وضع له اللفظ الكلي"(‪.)2‬‬
‫مثل ذلك لفظ "نقطة" لفظ كلي موضوع لما ليس له طول ول عرض ول عمق ول بعد‪ ،‬ووجود هذا المعنى في‬
‫جميع أفراده وجود متوافق ل تفاوت فيه‪ ،‬إذ كل نقطة فيها تمام هذا المعنى دون تفاوت‪ ،‬إن هذه الرؤية تسمح ببناء‬
‫حقول مفهومية على أساس نسبة التواطؤ تختص بالمدلولت المشتركة في الدللة‪ ،‬على نقيض الشتراك الذي يسمح‬
‫ل مفهوميا‪ ،‬يتألف‬ ‫ببناء حقول معجمية في اتجاه معاكس لتجاه التواطؤ‪ ،‬وهو ما يمهد لعلقة الترادف التي تشكل حق ً‬
‫من مجموعة من المفردات المرتبطة بمعناها‪ ،‬وإن المفردة تشبه حجرة الفسيفساء الصغيرة والمكعبة التي تنضم إلى‬
‫باقي المكعبات لتؤلف صورة كاملة ذات دللة عامة‪ ،‬أي أن الكلمات التي تعود إلى حقل معين تشبه لوحة الفسيفساء‬
‫ل مفهوميا معينا"(‪.)3‬‬
‫التي تقع فيها الكلمات المكعبة الواحدة بجانب الخرى التي تنظم مجتمعة‪ ،‬لتغطي حق ً‬
‫لقد وقف القدماء من مسألة الترادف في اللغة موقفهم من مسألة المشترك اللفظي‪ ،‬بل هناك من اللغويين من ربط‬
‫المسألتين وأجرى عليهما نفس الحكم‪ ،‬من ذلك قول بعضهم أنه كما ل يجوز أن يدل اللفظ الواحد على معنيين فكذلك‬
‫ل يجوز أن يكون اللفظان يدلن على معنى واحد‪ ،‬لن ذلك تكثير لقاموس اللغة دون فائدة‪ ،‬بل ومن العلماء من ألف‬
‫كتابا ينفي فيه وجود الترادف في اللغة كأبي هلل العسكري في كتابه "الفروق في اللغة" حيث جهد نفسه في أن يثبت‬
‫لكل صيغة معجمية مدلولها الخاص‪ )4(.‬إنّ الصل عند المدي هو وقوع الترادف في اللغة‪ ،‬وذلك بما ذهب إليه السواد‬
‫العظم من العلماء‪ .‬ينعت المدي الذين خالفوا هذا الصل بالشذوذ إذ يقول‪ :‬ذهب شذوذ من الناس إلى امتناع وقوع‬
‫الترادف في اللغة مصيرا منهم إلى أنّ الصل عند تعدد السماء تعدد المسميات‪ ،‬واختصاص كل إسم بمسمى غير‬
‫مسمى الخر"‪ )5(.‬ويستند هؤلء الشذوذ من العلماء على حجج يعرضها المدي ثم ينقضها‪ ،‬من ذلك قولهم أن الترادف‬
‫يلزم منه تعطيل فائدة اللفظ لمكاننا على الستغناء بلفظ آخر لكونهما يؤديان مدلولً واحدا‪ ،‬ث ّم إن تعدد المسميات‬
‫وكثرتها أمام السماء تدل على أن كل إسم مقصود بالوضع مما ينفي وقوع ظاهرة الترادف في اللغة‪ ،‬فالغاية من‬
‫وجود الترادف تعرقل تيسير التخاطب‪ ،‬وتخفيف المشقة في الحفظ ولذلك ليس هناك مدعاة لتكثير الدوال أمام محدودية‬
‫المدلولت (المسميات) فذلك أقرب إلى حدوث التواصل بين أهل اللغة على نقيض لو كثرت الدوال أدى ذلك إلى أن‬
‫يحفظ كل فرد مجموع هذه الدوال فيشق عليه ذلك‪ ،‬يبسط ذلك المدي فيقول مستندا على أدّلة وقوع المشترك اللفظي‬
‫في إثبات وجود الترادف‪" :‬إنّه ل يمتنع عقلً أن يضع واحد لفظين على مسمى واحد‪ ،‬ثم يتفق الكل عليه‪ .‬أو أن تضع‬
‫إحدى القبيلتين أحد السمين على مسمى‪ ،‬وتضع الخرى له إسما آخر من غير شعور كل قبيلة بوضع الخرى‪ ،‬ثم‬
‫يشيع الوضعان بعد ذلك"‪ )6(.‬إنّ هذا المعيار الذي استند عليه المدي يقارب ما اعتمدته أغلب النظريات الدللية‬
‫الحديثة في تناولها لقضية الترادف‪ ،‬فأصحاب النظرية التصورية يرون الترادف إذا كان التعبيران يدلن على نفس‬
‫الفكرة العقلية‪ ،‬أمّا النظرية الشارية فيرى أصحابها أن تحقق الترادف يقتضي أن يستعمل التعبيران للشارة إلى نفس‬

‫() الحكام ج ‪ 1‬ص ‪.22‬‬ ‫‪1‬‬

‫() حبنكة اليدان ضوابط العرفة ص ‪.51‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ريون طحان‪ ،‬بيطار طحان‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم واللسنية ص ‪.204 -203‬‬ ‫‪3‬‬

‫() بدأ أبو هلل كتابه‪ -‬الفروق ف اللغة‪ -‬بعنوان‪" :‬باب ف البانة عن كون اختلف العبارات والساء موجبا لختلف العان ف كل لغة"‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() اإأحكام‪ -‬ج ‪ ،1‬ص ‪.23‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر السابق ‪ 1‬ص ‪.24‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 132 -‬‬


‫الشيء بنفس الكيفية‪ ،‬بينما تنظر النظرية السلوكية إلى تحقق الترادف إذا كان التعبيران يخضعان لنفس المثير‬
‫والستجابة‪ ،‬أمّا النظرية التحليلية فالترادف عندها يكمن في خضوع التعبيرين إلى نفس التفريع بحيث ينتج عنه سمات‬
‫(‪)1‬‬
‫تمييزية متماثلة‪.‬‬
‫إن القول بأن اشتراك اسمين في مدلول واحد‪ ،‬ينفي إمكانية وجود أحدهما لمكانية الستغناء عنه يراه المدي‬
‫تضييقا للمنظومة اللغوية‪ ،‬حيث تقتضي تكثير إمكانيات الختيار بين عناصر قصد التخاطب والتواصل‪ ،‬وذلك دللة‬
‫على وجود الحرية الكاملة في اختيار طرق الخطاب بخلف لو كان هناك طريق واحد ل غير‪ .‬يشرح ذلك المدي‬
‫بقوله‪ :‬فإنه (أي الترادف) يلزم منه التوسعة في اللغة وتكثير الطرق المفيدة للمطلوب‪ ،‬فيكون أقرب إلى الوصول إليه‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫حيث أنه ل يلزم من تعذر حصول أحد الطريقين تعذر الخر‪ ،‬بخلف ما إذا اتحد الطريق‪.‬‬
‫وهذه إشارة مهمة من المدي بحيث يوقف مسألة وقوع الترادف على فائدتها في اللغة الوظيفية التي ترمي إلى‬
‫أداء مهمة البلغ والتخاطب‪ ،‬وذلك بخلق قنوات عدة تسمح للمتخاطبين اختيار الملئم منها للظروف النفسية‬
‫والجتماعية‪ ،‬والمقامية بصفة عامة‪ ،‬وتبدو اللغة مع الترادف فضفاضة مرنة توسع المعاني المختلفة وتوائم المقامات‬
‫المتباينة المتعددة‪ ،‬فأهل الشعر يجدون ضالتهم في البحث عن اللفظ الملئم في حقل الترادف قصد التنويع في‬
‫الدللت‪ ،‬وأهل النثر‪ ،‬بميلهم إلى ترصيع الخطاب والمشاكلة بين أجزائه‪ ،‬يميلون إلى حقل الترادف كذلك‪ .‬يوضح‬
‫المدي‪ ،‬تلك الفوائد من الترادف بقوله‪" :‬وقد يتعلق به فوائد أخر في النظم والنثر بمساعدة أحد اللفظين في الحرف‬
‫الروي‪ ،‬ووزن البيت‪ ،‬والجناس‪ ،‬والمطابقة‪ ،‬والخفة في النطق به‪ ،‬إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة لرباب الدب‬
‫(‪)3‬‬
‫وأهل الفصاحة‪.‬‬
‫إن اللغة الرحبة التي يجد فيها أهلها سعة في إختيار الكلم المناسب وخاصة المشتغلين في حقل البداع والتأليف‪،‬‬
‫يكون ذلك عاملً لتجويد وإغناء قاموسها المعجمي بالتجديد في عناصره وإبداع طرق أخرى‪ ،‬تبقى اللغة معها محافظة‬
‫على مرونتها وسعة نظامها مما ينجر عنه حدوث تقسيمات في بنية الحقل المفهومي‪ ،‬بحيث تبرز المدلولت المتطابقة‬
‫لتطابق دوانها‪ ،‬والمدلولت القل تطابقا‪ ،‬والمدلولت المتقاربة دلليا‪ ،‬وتلك سنن يخضع لها النظام اللغوي الذي ينزع‬
‫دائما نحو التجدد والتغير وهذا ما حدا بالعلماء المحدثين في علم الدللة‪ ،‬إلى إحصاء أنواع مختلفة من الترادف منها‪:‬‬
‫الترادف الكامل أو التام‪ ،‬والترادف المتقارب‪ ،‬والترادف الستلزامي وما إلى ذلك من النواع‪ )4(،‬وإلى ذات القضية‬
‫يشير المدي في آخر مبحثه حول الترادف‪ ،‬ويميز بين مصطلحات قد يشكل في إلحاق دوانها بحقل مفهومي معين‬
‫كالتباين ومصطلح المؤكد‪ ،‬فالتباين كما عرفه أهل المنطق هو النسبة بين معنى ومعنى آخر له في المفهوم ول ينطبق‬
‫أي واحد منهما على أي فرد مما ينطبق عليه الخر‪ ،‬فهما بحسب تعبير أهل هذا الفن مختلفان مفهوما مختلفان‬
‫مصداقا‪ )5(.‬يقول المدي مميزا بين الترادف والتباين والتأكيد‪" :‬وقد ظن بأسماء مترادفة وهي متباينة‪ ،‬وذلك عندما إذا‬
‫كانت السماء لموضوع واحد باعتبار صفاته المختلفة‪ ،‬كالسيف‪ ،‬والصارم‪ ،‬والهندي‪ ،‬أو باعتبار صفته وصفة صفته‬
‫كالناطق والفصيح‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬ويفارق المرادف المؤكد من جهة أن اللفظ المرادف ل يريد مرادفه إيضاحا‪ ،‬ول‬

‫() انظر علم الدللة‪ ،‬د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬ص ‪.224 -223‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.24‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.24‬‬ ‫‪3‬‬

‫() أحد متار عمر‪ .‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.222 -220‬‬ ‫‪4‬‬

‫() حبنكة اليدان‪ ،‬ضوابط العرفة ص ‪.47‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫يشترط تقدم أحدهما على الخر‪ ،‬ول يرادف الشيء بنفسه بخلف المؤكد‪ ،‬والتابع في اللفظ‪ ،‬فمخالف لهما فإنه لبد‬
‫وأن يكون على وزن المتبوع‪ ،‬وأنه قد ل يفيد معنى أصلً‪ ،‬كقولهم‪ :‬حسن بسن‪ ،‬وشيطان ليطان ولهذا‪ ،‬قال ابن دريد‬
‫(‪)1‬‬
‫سألت أبا حاتم عن معنى قولهمُ بسنُ فقال‪ :‬ما أدري ما هو‪.‬‬
‫إن معيار الشتراك والترادف من المعايير التي اعتمدت حديثا في بناء الحقول الدللية‪ )2(،‬ولذلك يعد المدي من‬
‫أوائل العلماء الذين أسسوا أفكارا لبناء حقول دللية‪ ،‬وإن لم يشر إلى ذلك صراحة إل أن ما أرساه من قواعد وقيود‬
‫تنظيمية في هذا المجال يمكن اعتماده لوضع حقول مفهومية تصور لنا بشكل عملي وواضح الوشائج التي تقوم بين‬
‫مفردتين أو أكثر‪ ،‬خاصة وأن المدي لم يكتف بوضع معايير لبناءات صورية فحسب‪ ،‬بل وقد تعداها إلى وضع‬
‫معايير لبناءات مفهومية تقوم على تجميع وحدات من المدلولت المشتركة التي يغطيها لفظ‪ ،‬يوضع كمدخل للحقل‬
‫الدللي‪ ،‬ويمكن تلخيص معايير المدي التي تدخل في بناء الحقول الدللية فيما يأتي‪:‬‬
‫‪-1‬معيار المشترك اللفظي‪ :‬دللت كثيرة مشتركة في لفظ واحد يجمعها‪.‬‬
‫‪-2‬معيار العموم والخصوص‪ :‬لفظ عام يضم تحته ألفاظا خاصة تشكل حقلً دلليا‪.‬‬
‫‪-3‬معيار الكل والجزء‪ :‬لفظ كلي يتضمن ويستلزم ألفاظا جزئية‪.‬‬
‫‪-4‬معيار التنافر أو التباين‪ :‬كعموم اللفاظ العربية التي ل علقة بينها ل مفهوما ول مصداقا‪.‬‬
‫‪-5‬معيار الترادف‪ :‬مدلول كلي يشرف على حقل من اللفاظ عكس المشترك اللفظي‪.‬‬
‫‪-6‬معيار التواطؤ‪ :‬وهو نسبة وجود معنى كلي في أفراده يشكل معها حقلً دلليا‪.‬‬
‫‪-7‬معيار التوكيد‪ :‬استلزام ألفاظ مخصوصة لمؤكداتها وفق علقة لزومية‪.‬‬
‫‪-8‬معيار التباع‪ :‬طلب اللفاظ وفق وزنها الصرفي ألفاظا تجانسها وزنا قد ترادفها وقد ل يكون لها معنى‪،‬‬
‫والمعيار هذا معيار صرفي‪.‬‬
‫هذه مجملة هي النسب التي استنبطناها من بحث المدي في موضوع العلقات بين الدلة اللغوية‪ ،‬فيما يخص‬
‫تفريعه للركن السمي وبحثه حول الترادف والمشترك اللفظي‪.‬‬

‫‪‬‬

‫() الحكام ج ‪ ،1‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫() أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪ A Jolles .80‬أول عام اعتب ألفاظ الترادف والتضاد من القول الدللية‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 134 -‬‬


‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫الخـــطاب البلغـــــــي‬
‫وحداته ومقوماته عند المدي‬

‫‪-1‬وحدات الخطاب اللغوي‪:‬‬


‫إن الثنائية التقابلية التي وضعها سوسير‪ ،‬اللغة‪/‬الكلم‪ ،‬كانت الرضية التي تأسست عليها رؤى مختلفة حول‬
‫مفهوم الخطاب (‪ )le discoure‬وما يقابله وهو المنطوق (‪ )Penonce‬وقد أفضى ذلك إلى التمييز بين ما هو أساسي‪،‬‬
‫وما هو عرضي‪ .‬يشرح ذلك العالم اللساني جسبن (‪ )L. Guespin‬معرفا الخطاب بقوله‪" :‬هو تعبير يخضع لليات‬
‫وشروط متحكمة‪ ،‬فإذا ما رمنا الدراسة اللسانية لشروط إنتاج نص ما كنا بصدد دراسة خطابه‪ ،‬وإذا ما ألقينا نظرة‬
‫على ذلك النص من وجهة نظر تركيبه أو بنائه اللغوي كنا بصدد دراسة منطوقة"‪ )1(.‬وقد عرض المدي لوحدات‬
‫الخطاب اللغوي وهي‪ :‬الحرف والفعل والسم‪.‬‬

‫أ‪-‬الحرف‪:‬‬
‫فالخطاب اللغوي عند المدي يضطلع بتوفير الليات التعبيرية التي تبدأ من أدنى صيغة إلى أكبر تركيب‪،‬‬
‫فالتفريع الدللي للحرف يمثل إحدى أهم الدوات في الخطاب الشرعي لدى المدي فضلً عن الركن السمي والركن‬
‫الفعلي‪ .‬ولذلك نجد المدي في كتابه الحكام يقيم للحروف جدولً تفريعيا من زاوية وظيفته الدللية‪ ،‬فالحرف ما دل‬
‫على معنى في غيره وهو أصناف منها حرف الضافة‪ ،‬وهو ما يفضي بمعاني الفعال إلى السماء وهو ثلثة أقسام‪،‬‬
‫لكل منها دللت معينة مقيدة بضوابط محكمة‪ ،‬فمن الحروف مال يكون إل حرفا (ك ِمنْ) التي تؤدي دللة التبعيض‬
‫ودللة بيان الجنس وبداية الغاية وما إلى ذلك‪ ،‬ومنها مال يكون حرفا وإسما معا (ك َعنْ) التي تؤدي دللة المباعدة‪،‬‬
‫وقد تكون إسما مجرورا بإحدى أدوات الجر‪ ،‬ومن الحروف ما يكون حرفا وفعلً (‪-‬كخل وحاشا‪ )-‬اللتين تفيدان‬
‫الستثناء‪ )2(،‬ويمكن توضح ذلك الرسم التفريعي التي‬
‫الدللة الحرفية‬
‫الدللة السمية‬ ‫التفريغ الدللي للحرف‬

‫() ‪Initiation aux methodes de l,analyse du discours D. Maingueneau P.11‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.61‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫الدللة الفعلية‬
‫ويقف المدي وقفة طويلة في مبحث حروف العطف‪ ،‬ويعرض لراء العلماء في ذلك ثم ينقضها‪ .‬وقد حصل‬
‫الختلف في دللة (الواو) أهي للجمع المطلق‪ ،‬أم للترتيب فيشترك إذن مع (الفاء) و(ثم)‪ .‬فهناك من العلماء‪ -‬ممن‬
‫عارض المدي رأيهم‪ -‬يذهب إلى حمل (الواو) على دللة الترتيب مجازا لنه يتعذر حملها على ذلك في بعض‬
‫التراكيب الخالية من القرائن‪ ،‬ففي قول السيد في خطابه لعبده‪( :‬أيت بزيد وعمرو) أنه كان يجب على العب الترتيب‪،‬‬
‫يرد المدي على هذا الرأي قائلً‪" :‬أنه لم يجب على العبد الترتيب نظرا إلى قرينة الحال المقتضية لرادة جهة‬
‫(‪)1‬‬
‫التجوز‪ ،‬حتى لو أنه فرض عدم القرينة لقد كان ذلك موجبا للترتيب‪.‬‬
‫فالسند الذي اعتمده المدي في تصريف دللة ذلك الخطاب من الدللة الحقيقية إلى الدللة المجازية‪ ،‬هو "قرينة‬
‫الحال" وذلك ما درسه البحث الدللي واللساني الحديث فيما سمي بالدللة المقامية‪ ،‬ويقابل المدي مقابلة علئقية بين‬
‫(الواو) التي تدل على الجمع المطلق أصلً‪ ،‬وبين (الفاء) و(ثم) اللتين تدلن على الترتيب‪ ،‬فتكون دللة مطابقة بين‬
‫(الواو) وبين دللة الجمع المطلق‪ ،‬ودللة تضمن والتزام بين (الواو) وبين دللة الترتيب المشترك‪ ،‬وتبعا لذلك كانت‬
‫ل على معنى الجمع المطلق بحيث يشترك المعطوف والمعطوف عليه في القضية والحكم‪.‬‬ ‫(الواو) دالة حقيقة وأص ً‬
‫وتدل (الواو) كذلك من جهة التجوز فتقيد الترتيب‪ ،‬يشرح ذلك المدي فيقول‪ :‬فنحن إنما نجعل (الواو) في‬
‫الترتيب المطلق المشترك بين (الفاء) و(ثم) وذلك مما تدل عليه (الفاء) و(ثم) دللة مطابقة‪ ،‬بل أما بجهة التضمن أو‬
‫اللتزام‪ ،‬وكما أنها تدل على الترتيب المشترك بدللة التضمن أو اللتزام‪ ،‬فتدل على الجمع المطلق هذه الدللة‪ ،‬وعند‬
‫(‪)2‬‬
‫ذلك فليس إخلء الترتيب المشترك عن لفظ يطابقه أولى من إخلء الجمع المطلق‪.‬‬
‫ويورد المدي أمثلة تطبيقية تميز بين حروف العطف (ثم‪ ،‬الفاء‪ ،‬حتى) التي تشترك في الدللة على الترتيب‪،‬‬
‫ولكنها تحدها دللت هامشية ضرورية لمقتضى الحال وسياق الخطاب‪ ،‬وإن مرد ذلك إلى الدللة الزمانية التي تكون‬
‫محل اختلف وتفاوت بين كل حدث وآخر مما تشرف عليه هذه الحروف الثلثة‪ ،‬وتسهم في تحديده وتأويل مدلوله‪،‬‬
‫يقول المدي في ذلك‪.‬‬
‫"وأما الفاء وثم وحتى‪ ،‬فإنها تقتضي الترتيب وتختلف من جهات أخرى‪ ،‬فأما الفاء‪ ،‬فمقتضاها إيجاب الثاني بعد‬
‫الول من غير مهلة(…) وأما ثم‪ ،‬فإنها توجب الثاني بعد الول بمهلة…‬
‫وقيل أنها ترد بمعنى الواو‪ ،‬وأما حتى‪ ،‬فموجبه لكون المعطوف جزءا من المعطوف عليه نحو قولك‪ :‬مات الناس‬
‫حتى النبياء…‪ .‬وثلثة منها تشترك في تعليق الحكم بأحد المذكورين وهي‪ :‬أو‪ ،‬إما‪ ،‬وأم… وثلثة منها تشترك في أن‬
‫المعطوف مخالف للمعطوف عليه في حكمه وهي‪ :‬ل‪ ،‬بل‪ ،‬ولكن‪ )3(،‬ويربط المدي التفريع الدللي للحروف بما يتعلق به‬
‫من سمات تمييزية في الجملة‪ ،‬فالحرف (حتى) يؤدي دللة تميز بين المعطوف والمعطوف عليه بكون المعطوف جزءا‬
‫من المعطوف عليه‪ ،‬ويكون عادة المعطوف مقدم في الفضلية على المعطوف عليه بناء على عملية السناد‪ .‬أما الحروف‬
‫(أو‪ ،‬أما‪ ،‬أم) وإن كانت‬
‫تشترك في أداء دللة التخيير إل أنها تتمايز بسمات ذاتية تتمثل في تلك الهوامش الدللية التي تتحدد مع نسق‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.64‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.66 -56‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.69‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫الخطاب ونوعه فـ(أما) و (أو)‪ ،‬مع نسق الخطاب الخبري فتفيد دللة الشك في أحد المرين أما مع نسق خطاب‬
‫المر‪ ،‬فإنهما يفيدان التخيير مطلقا والباحة‪ ،‬أما (أم)‪ ،‬فتفيد دللة الشك في تعيين المرين معا مع اليقين في وجود‬
‫أحدهما(‪.)1‬‬
‫إن هذا التفريع المتميز للحروف ينبني عن وعي معرفي متقدم‪ ،‬وسبر عميق لجوهر حقيقة البنية الدللية وذلك‬
‫من أجل حصر الخصائص والسمات التي أُخذت كمعايير دللية تنتظم وفقها الحروف التي غدت في تراثنا المعرفي‬
‫حقلً ألسنيا يغطي مجالت شتى من المفاهيم تتعلق بصيغة الحدث وبزمانه وهيأته‪ ،‬كما تتعلق بالمسند إليه وبدللة‬
‫الخطاب بحسب نسقه‪.‬‬
‫ولذلك انبرى نفر غير قليل إلى تخصيص مؤلفات تتناول حقل الحروف‪ ،‬ومنهم من ساقها في مدخل كتابه‬
‫كوحدات أساسية في بناء الخطاب اللغوي إذ تأخذ مع الفعل والسم مسارها البلغي وفق النمط التأليفي‪ ،‬الذي يستمد‬
‫أصوله من النظام القواعدي للسان ما(‪.)2‬‬
‫وقد شهد العلماء والدباء قديما وحديثا‪ ،‬اختلفات قد امتدت عبر الزمان والمكان حول تأويل آية أو حديث أو‬
‫بيت شعر أو جملة نثر‪ ،‬وذلك لختلفهم في تحديد القيمة الدللية المرجعية لحرف أو لقصورهم عن إدراك النزياح‬
‫الدللي الحاصل للحرف لضرورة إبلغية اقتضاها السياق الخطابي فخرج بدللة الحرف عن المألوف‪.‬‬
‫إن إقرار المدي بوجود قواعد كلية مشتركة بين الوحدات التعبيرية للخطاب‪ ،‬ليعطي للحرف قيمته التأسيسية في‬
‫بنية الخطاب اللغوي في رحاب عملية التشكل المتجدد لمكوناته الدللية‪.‬‬

‫ب‪-‬الفعل‪:‬‬
‫إن التفريع الدللي للفعل له وجود متميز في كتاب المدي‪ ،‬فبعد تمييزه بين الماضي والمضارع والمر تمييزا‬
‫صوريا وزمانيا‪ ،‬يقف المدي على التمييز بين رؤية النحاة ورؤية المناطقة للفعل‪ ،‬فالبنية الشكلية لصيغة الفعل لها‬
‫دللتها التمييزية ضمن المقولت النحوية‪ ،‬فالنحاة يرون أن الفعل كلمة مفردة سواء أكان هذا الفعل ماضيا أو مضارعا‬
‫أو أمرا‪ ،‬أما المناطقة فيرون أن الفعل المفرد هو الماضي دون المضارع‪ ،‬فالمفرد هو الذي يدل على شيء مخصوص‬
‫ول جزء له يدل على شيء أصلً‪ ،‬بخلف غير المفرد وهو الذي يدل على شيء مخصوص‪ ،‬وله جزء يدل على‬
‫شيء مخصوص كذلك‪ .‬يقول المدي‪" :‬والفعل وإن كان كلمة مفردة عند النحاة مطلقا فعند الحكماء‪ ،‬المفرد منه إنما‬
‫هو الماضي دون المضارع وذلك لن حرف المضارعة في المضارع هو الدال على الموضوع‪ ،‬معينا كان أو غير‬
‫معين‪ ،‬والمفرد هو الدال الذي ل جزء له يدل على شيء أصلً (…) وهو بخلف الماضي‪ ،‬فإنه وإن دل على الفعل‬
‫وعلى موضوعه‪ .‬فليس فيه حرف يدل على الموضوع فكان مفردا"(‪.)3‬‬
‫لقد بحث يمسلف (‪ )Hjelmslev‬الدللة التي قد تؤديها أجزاء من الكلمة‪ ،‬فكل لغة تكمن في نظام من العلمات‬
‫يعني ذلك نظام من الوحدات التعبيرية التي تتصل بمحتوى (المعنى)‪ ،‬فالكلمات هي بالطبع علمات لكن أجزاء من‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.69‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الستاذ أحد حسان‪ ،‬الكون الدلل للفعل ف لسان العرب ص ‪.124‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول‪ ،‬الحكام ج ‪ ،1‬ص ‪.61 -60‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫الكلمات قد تكون علمات كذلك(‪ ،)1‬فاللغة تفرض سننها في التركيب والبناء‪ ،‬تظل مطردة مع كل تشكيل متجدد لبنيتها‪،‬‬
‫تنتظم معها عملية الوقوع أو الرصف بين عناصر الكلمة الواحدة‪ ،‬أو عناصر التركيب‪ ،‬قد يكون للكلمات المركبة‬
‫دللة لعناصرها وقد ل تكون لها دللة‪ ،‬وهو ما سماه (يمسلف) بالعلمات الدالة (‪ )les signes‬والمقاطع غير الدالة‬
‫(‪ )les syllabes‬يقول يشرح ذلك‪" :‬هناك في بنية اللغة قواعد خاصة لنتظام المقاطع(‪.)2‬‬
‫فالفعل الماضي عند المدي كلمة مفردة باعتبارها ل جزء لها‪ ،‬أما الفعل المضارع فأجزاؤه حروف المضارعة‬
‫ل عن دللة الفعل على الحدث المقترن بزمن‬ ‫كضمير الغائب وضمير المتكلم‪ ،‬فإنها تدل على صاحب الحدث فض ً‬
‫الحال أو المستقبل‪ ،‬وقد أفضى التفريع الدللي للفعل عند المدي أن ع ّد المضارع الذي ل يدل حرفه على شيء‬
‫مخصوص‪ ،‬مفردا كالماضي الذي ل جزء له ولكن الختلف بيّن كما يوضح ذلك قوله‪" :‬وقد ألحق بعضهم ما كان‬
‫من المضارع الذي في أوله الياء بالماضي في الفراد دون غيره لشتراكهما في الدللة على الفعل‪ ،‬وعلى موضوع‬
‫له غير معيّن‪ ،‬وليس بحق‪ ،‬فإنهما وإن اشتركا في هذا المعنى‪ ،‬فمفترقان من جهة دللة الياء على الموضوع الذي ليس‬
‫معيّنا‪ ،‬بخلف الماضي حيث أنه لم يوجد منه حرف يدل على الموضوع كما سبق"(‪.)3‬‬
‫وقد يتوضح السبيل أكثر إذا ما اعتمدنا الشكل التالي لتوضيح ما نحن بشأنه‪.‬‬
‫دللة على الحدث‬
‫(بحسب السمات الدللية المميزة له)‪.‬‬
‫دللة على الزمن‪.‬‬ ‫‪-‬الدللة التفريعية للفعل الماضي‬
‫فاعله غير معيّن‪.‬‬

‫‪-‬دللة على الحدث‬


‫(بحسب السمات الدللية المميزة له)‬
‫‪-‬دللة على الزمن‪.‬‬ ‫‪-‬الدللة التفريعية للفعل المضارع‬
‫فاعله معيّن في إطار حقل مفهومي‪.‬‬
‫إن الفعل الماضي (مرّ) على سبيل المثال وإن كان يدل على حدث المرور في زمن معين فإنه ل يدل على‬
‫السمات النتقائية لفاعله الذي يبقى مجهولً في دائرة من السماء قد ل تقع تحت حصر‪ ،‬خاصة في ظل النزياح‬
‫الدللي مع بروز الدللت المجازية‪ ،‬وإذا صغنا من هذا الفعل (مر) فعلً مضارعا (يمر) أو (نمر)‪ ،‬فإن الفعل عندئذ‬
‫يستدعي سمات انتقائية لفاعله يمكن إبرازها في‪+ :‬مفرد‪ + ،‬جمع‪+ ،‬حركة ‪ +‬لزم‪ +‬حالة عارضة‪.‬‬
‫إن البنية المورفولوجية للفعل المضارع في النظام اللسني العربي‪ ،‬وما توفره من سمات انتقائية إضافية تعد‬
‫البنية التأسيسية الرئيسية التي تنشئ تلك العلئق التي ينتظم وفقها الخطاب‪ ،‬فهو يحدث إحالة مرجعية يقتضيها‬

‫() ‪.Louis Hjelmslev P. 55 Le language‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.61‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 138 -‬‬


‫موضوع الفعل اقتضاء‪ ،‬تقوم على أساس الفرز الستبدالي لفئات الكلم‪ ،‬كما يسميه الستاذ أحمد حساني الذي حدد‬
‫أهمية التفريع الدللي للفعل وحصر سماته النتقائية إذ يخوّل لنا ذلك بقياس توارد الفعل في اللسان العربي تواردا‬
‫يمنع اللبس والبهام(‪ )1‬وإن كانت السمات النتقائية في الخطاب اللغوي الحديث قد تعرضت لنوع من (التشتيت) فغدت‬
‫في بعض الحيان غير قادرة على ضبط محكم لفئات الكلم التي ترد في رصف مع الفعل بحسب سماته الدللية وذلك‬
‫راجع لحركية العلمة اللغوية في محيط سيميائي‪ ،‬قد شكل فيه النزياح الدللي أنماطا تعبيرية جديدة‪ ،‬أعادت النظر‬
‫في تلك العلئق الدللية التي ترتد إلى العرف اللغوي‪ ،‬الذي لم يعد يلئم الخريطة الجديدة للنظام العلئقي للعلمات‬
‫اللغوية‪.‬‬

‫ج‪-‬السم‪:‬‬
‫يقيم المدي تقسيمات المفرد على تفريع دللي يأخذ كمعيار دللته الخبارية أو عدم حمله لهذه الدللة‪ .‬فالسم هو‬
‫الذي يصلح لبناء الجمل الخبرية من جنسه خلفا للفعل الذي ل يصح منه ذلك‪ .‬يقول المدي في ماهية السم المفرد‬
‫"هو إما أن يصح جعله أحد جزئي القضية الخبرية التي هي ذات جزءين فقط أو ل يصح فإن كان الول فإما أن‬
‫يصبح تركيب القضية الخبرية من جنسه أو ل يصبح‪ ،‬فإن كان الول فهو السم وإن كان الثاني فهو الفعل‪ ،‬وأما قسيم‬
‫القسم الول فهو الحرف"‪ )2(،‬وقد احتاط المدي في الحد الذي عرف به السم‪ ،‬وذلك بأن أخرج منه السماء الناقصة‬
‫والمضمرة التي ل تدل على معين معلوم في عالم الدللة‪ ،‬بحيث يتعذر بناء قضية خبرية ذات محتوى دللي من‬
‫أسماء مبهمة أو ناقصة يقول شارحا ذلك‪" :‬ول يلزم على ما ذكرناه (في السم)‪ ،‬السماء النواقص كالذي والتي‪،‬‬
‫والمضمرات كهو وهي‪ ،‬حيث إنه ل يمكن جعلها أحد ج ْزءَي القضية الخبرية عند تجردها ول تركب القضية الخبرية‬
‫منها"(‪.)3‬‬
‫فالسم عنصر أساسي في أي سياق لغوي‪ ،‬تقتضي دللته إرجاعا في عالم العيان أو الذهان بوصفه شيئا له‬
‫مميزات خاصة‪ ،‬ينقل (بيار لورة (‪ )Pierre Lerat‬تعريف أرسطو‪" :‬الذي أجمل مدونة أجزاء الخطاب وعرف السم‬
‫كالتي‪ :‬هو مقطع صوتي يقصد به دللة متعارف عليها‪ ،‬خال من أي مرجع إلى الزمن ول يدل كل جزء منه على‬
‫دللة عندما يؤخذ مستقلً"(‪ )4‬إن ماهية السم عند المدي تكاد تنحصر في اسم العلم‪ ،‬إذ يحيل اسم العلم مباشرة على‬
‫مفهومه الذهني بحيث إذا سمع اسم تبادر إلى الذهن مسماه‪ ،‬على خلف السماء العادية التي ل يخضع حقلها‬
‫المفهومي إلى حصر أو تعيين‪ .‬وفي معرض تفريع السم تفريعا‪ ،‬يعتمد معيار الفراد والتركيب في إحداث أنساق من‬
‫الحقول المفهومية‪ ،‬يقول المدي‪" :‬ثم ل يخلو إما أن يكون السم واحدا‪ ،‬أو متعددا‪ ،‬فإن كان واحدا فمسماه إما أن‬
‫يكون واحدا‪ ،‬أو متعددا‪ ،‬فإن كان واحدا فمفهومه منقسم على وجوه‪ :‬القسمة الولى‪ :‬أنه إما أن يكون بحيث يصح أن‬
‫يشترك في مفهومه كثيرون‪ ،‬أو ل يصح فإن كان الول فهو كلي‪ ،‬وسواء وقعت فيه الشركة بالفعل‪ ،‬ما بين أشخاص‬
‫متناهية كاسم الكوكب أو غير متناهية كاسم النسان أو لم تقع إما لمانع من خارج كاسم العالم (بفتح اللم) والشمس‬
‫والقمر أو بحكم التفاق كاسم عنقاء مغرب‪ ،‬أو جبل من ذهب"(‪.)5‬‬

‫() الستاذ أحد حسان‪ ،‬الكون الدلل للفعل ف اللسان العرب‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.16‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 1‬ص ‪.16‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪.Semantique descriptive P. 40‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.16‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 139 -‬‬


‫بهذا التحديد المتناهي‪ ،‬يرسم المدي معالم تصلح لن تتخذ لبناء حقول دللية ينتظم وفقها اللسان العربي‪ ،‬وهو‬
‫ينم عن كسب منهجي أحرزه الدرس التراثي العربي‪.‬‬
‫فالحقل المفهومي العام يحدد في السم قسمين اثنين‪ :‬السم المفرد والسم المركب أو المؤلف(‪ ،)1‬فالمفرد قد يدل‬
‫دللة مفردة‪ ،‬أو قد يدل دللت متعددة‪ ،‬وهو ما يندرج تحت مصطلح المشترك اللفظي‪ ،‬فالسم ذو الدللة المفردة أو‬
‫المتعددة يضم قسمين بارزين هما اللفظ الكلي واللفظ الجزئي وهما يتفرعان إلى أصناف‪ .‬إن اللفظ الكلي كما حدده‬
‫المدي‪ ،‬هو ما يسمى في السيمائتيك الحديث بالكلمة الغطاء التي تشرف على حقل دللي‪ ،‬معلومة عناصره أو غير‬
‫محددة من ذلك كلمة (إنسان) فهي تضم مجموعة من العناصر البشرية تصح أن يطلق على كل منها لفظ (إنسان)‬
‫وهي عناصر‪ ،‬غير متناهية‪ ،‬فحقلها الدللي ذو مجال مغلق من جهة ومفتوح من جهة ثانية على الشكل التالي‪ :‬إنسان‬
‫[عدد ل متناه من البشر…] وقد يكون الحقل الدللي محدد العناصر متناهي الجزاء كأيام السبوع أو شهور السنة أو‬
‫رتب الترقية عند الجند وما إلى ذلك‪ ،‬فكلمة أسبوع على سبيل المثال لفظ كلي يغطي حقلً معينة عناصره ومغلق‬
‫مجاله من الجهتين على الشكل التالي‪ :‬أسبوع [السبت‪-‬الحد – الثنين‪ -‬الثلثاء‪ -‬الربعاء‪ -‬الخميس‪ -‬الجمعة]‪.‬‬
‫لقد أحصى المدي أصنافا للفظ الكلي بناء على مجالها الجرائي أو مجالها النظري‪ ،‬إذ الكلمة الغطاء تحوي‬
‫أسماء مشكلة حقلً دلليا ل شركة بينها بالفعل إنما بالفعل كاسم العالم أو الكون‪ ،‬وأسماء واقعة موقع اللفظ الكلي بفعل‬
‫التواضع والصطلح كاسم العنقاء فرغم أنه اسم وهمي إل أن له عناصر تنضوي تحته ليس بالفعل والجراء وإنما‬
‫بالعقل والنظر‪ ،‬إن هذا التحديد الدقيق لحقول الدلة يعد ضرورة لغوية ملحة ترسم لعالم اللغة إطارا واضحا للتعامل‬
‫بوعي مع حقيقة المصطلح‪ ،‬وذلك من أجل الولوج إلى مقاربة وظيفية لستنباط الحكام من النص‪ ،‬فل عجب إذن أن‬
‫نرى المدي يخوض في تقسيمات السم فيذكر السم المتواطئ والسم المشكك(‪ )2‬وهما يقابلن على التوالي اسم الذات‬
‫واسم المعنى‪ ،‬فالمتواطئ ما تواضع حول دللته المجتمع اللغوي بحيث ل اختلف في تعيين إرجاعه في عالم‬
‫العيان‪ ،‬أما المشكك فهو على نقيض المتواطئ بحيث لم يقع حوله تواضع عام بين أهل اللغة فمدلوله غير موحد‬
‫الدللة كلفظ الوجود والبيض وما إلى ذلك‪ ،‬وهو إشارة إلى ضرورة أخذ الحيطة العلمية في التعامل مع السم‬
‫بتفريعاته‪ ،‬خاصة إذا تعلق المر باستنباط دللت الحكام من نصوص القرآن الكريم‪.‬‬
‫أما القسم الثاني المفرد فهو السم المركب أو المؤلف‪ ،‬ويدرج تحت السم المفرد الجزئي وهو يشكل أحد عناصر‬
‫السم المفرد الكلي الذي سبق الحديث عنه‪ .‬يقول المدي في ذلك‪" :‬وإما أن يكون مفهوم (السم) غير صالح لشتراك‬
‫كثيرين فيه فهو الجزئي وهو إما أن ل يكون فيه تأليف أو فيه"(‪.)3‬‬
‫إن اللفظ الجزئي في عرف المناطقة يثير في الذهن الصورة التي يعرفها محددة في عالم العيان وهو قد يكون‬
‫مشتقا من اسم أو فعل أو صوت وهو المسمى السم المنقول‪ ،‬أو ل يكون كذلك فهو السم المرتجل الذي ليس بينه‬
‫وبين ما نقل عنه مناسبة‪ ،‬وهو ما يقابله في الدرس النحوي السم المشتق والسم الجامد على التوالي‪ ،‬كما أشار‬
‫المدي في السم إلى المؤلف الجزئي يقول في ذلك‪ ،‬وإن كان (السم الجزئي) مؤلفا فإما من اسمين مضافين كعبد ال‬
‫أو غير مضافين‪ ،‬وأحدهما عامل في الخر أو غير عامل والول كتسمية بعض الناس زيد منطلق‪ ،‬والثاني كبعلبك‬

‫() لقد وضع الفاراب (ت ‪339‬هـ) علما خاصا ساه علم اللفاظ ب ثَ فيه بإسهاب تفريعات اللفاظ الفردة والركبة‪ -‬انظر الفصل الاص بهود‬ ‫‪1‬‬

‫الفاراب ف تديد ماهية الدللة ف القدي‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.17‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.18‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 140 -‬‬


‫وحضرموت وإما من فعلين كقام وقعد وإما من حرفين كتسميته إنما‪ ،‬وإما من اسم وفعل نحو تأبط شرا‪ ،‬وإما من‬
‫حرف واسم كتسميته بزيد وإما من فعل وحرف كتسميته قام على وبهذ يكون المدي بحث فيه حصر عام لسماء في‬
‫مركبات اسمية وفعلية وحرفية‪ ،‬على النحو التي‪:‬‬

‫السم‬

‫مؤلف (مركب)‬ ‫مفرد‬

‫جزئي‬ ‫كلي‬

‫منقول‬ ‫مرتجل‬ ‫مشكك‬ ‫متواطئ‬


‫اسم مشتق‬ ‫اسم جامد‬ ‫اسم معنى‬ ‫اسم ذات‬

‫إن المدي كما نلحظ‪ ،‬ل يؤسس أحكامه اللغوية النظرية انطلقا من الواقع اللغوي الجرائي فحسب‪ ،‬بل إنه‬
‫يرسم قواعد كلية تتموضع فيها تراكيب اللغة وعناصرها المعجمية في إطار مشروع لغوي ل يتفاعل بالواقع فحسب‬
‫بل ويفعل في الواقع‪ ،‬وهو ما نكاد نلمسه في المباحث اللغوية في التراث المعرفي عند علماء اللغة كسيبويه والمبّرد‬
‫والفّراء وغيرهم فقد يتعاملون مع تركيب (زيد منطلق) كركن اسمي مع انتفاء هذا السم في واقع اللغة ويبنون عليه‬
‫قواعد نظرية تخص أنحاء اللغة‪.‬‬

‫‪-2‬مقومات الخطاب البلغي‪:‬‬


‫هذه الوحدات أو عناصر الخطاب(‪ ،)1‬سوف تضطلع بمهمة تمثيل البنية الدللية على مستوى التركيب اللغوي‪ ،‬إذ‬
‫يقول المدي "ومن اختلف تركيبات المقاطع الصوتية حدثت الدلئل الكلمية والعبارات اللغوية"(‪ ،)2‬فاللغة بناء على‬
‫هذا المفهوم تقوم على أساسين أو مستويين‪ :‬المستوى الول هو المستوى الفونولوجي‪ ،‬بحيث يحدث التلفظ الول‬
‫لمقاطع صوتية تكون ذات دللة إذا ما كان تركيبها مختلفة أصواته‪ ،‬أما المستوى الثاني فهو المستوى التركيبي حيث‬
‫يتم إنشاء دلئل كلمية وعبارات لغوية‪ ،‬إن هذا التفصيل في تشكيل الصوت العربي الذي يدخل مع أصوات أخرى‬
‫مختلفة ليحدُث المقطع‪ ،‬ينم حقيقة عن إلمام عميق بآليات الكلم في اللغة العربية‪ ،‬فهي تتشكل من مقاطع كلمية‬
‫سميت في الدرس اللساني بالمورفامات المشكّلة هي الخرى من أصوات مفردة سميت بالفونامات‪ ،‬وإلى ذات التقسيم‬
‫اهتدى أندريه مارتينه إلى ما سماه بالتلفظ المزدوج (‪ )Double articulation‬وهو تحليل يسير باتجاه معاكس لتحليل‬
‫المدي‪ ،‬إذ يقرر مارتينه أن "كلً من الوحدات الكلمية الحاصلة وفق تلفظ أول هي بدورها ملفوظة بواسطة وحدات‬

‫() يعن‪ :‬السم والفعل والرف‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.19‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 141 -‬‬


‫من نوع آخر"(‪ ،)1‬فمارتينه ينطلق في نظريته من المستوى التركيبي (التلفظ الول) لينتقل إلى المستوى الفونولوجي‬
‫(التلفظ الثاني) بينما يرى المدي أن المقاطع الصوتية واختلف تركيبات أصواتها تحدث عنه الدلئل الكلمية‬
‫(المورفامات) والعبارات الصوتية (التركيب اللغوي)‪.‬‬

‫أ‪-‬الخبر وأبعاده الدللية‪:‬‬


‫إن التركيب اللغوي ل يشكل خطابا لغويا إل ضمن لئحة من الشروط الذاتية والموضوعية وضعها المدي في‬
‫إطار معيارية لقياس محمول الخطاب اللغوي وهو الخبر‪ ،‬ففي باب حقيقة الخبر وأقسامه "يطرح المدي قضية القراءة‬
‫ل أن اسم الخبر يطلق على الشارات الحالية والدلئل‬
‫العميقة لبنية الخبر‪ ،‬يقول في ذلك‪" :‬أما حقيقة الخبر‪ ،‬فاعلم أو ً‬
‫(‪)2‬‬
‫المعنوية‪ ،‬كما في قولهم‪ :‬عيناك تخبرني بكذا‪ ،‬والغراب يخبر بكذا" ‪.‬‬
‫إن المدي ل يكتفي بالقراءة المورفولوجية للجملة بل يعرضها عرضا سيميائيا ظاهرا‪ ،‬فجملة (عيناك تخبرني‬
‫بكذا) يقع فيها الركن السمي (عيناك) كرمز سيميولوجي لدللة خفية تقوم بدللة الخبر وقد سمي المدي ذلك "إشارة‬
‫حالية" أو "دليل معنوي" وهو بذلك ينص على أنّ تلك الشارة السيميولوجية تعد الملمح الساس الذي يتمظهر فيه‬
‫انفعال المتكلم‪.‬‬
‫وقد اعتمد "كاسيير (‪ )Kassirer‬الرمز السيميولوجي لستبطان دواخل النسان المتكلم حيث ذهب إلى أن‬
‫النسان حيوان رامز‪ ،‬يتمظهر واقعه الدللي في لئحة من الرموز والدوال"(‪ ،)3‬وقد زحفت (إمبراطورية) الرموز‬
‫والعلمات شيئا فشيئا باسطة سلطتها على عالم الشياء‪ ،‬فأضحينا نحمل في أذهاننا أشياء كثيرة من العالم الخارجي‬
‫في شكل علمات لغوية‪ ،‬وقد اعتبر "روبنز (‪ ، )R.H. Robins‬اللغة الموهبة الكثر نوعية التي مُنِحَها النسان الذي‬
‫سعى باحثا عبر تاريخه الفكري الطويل عن بلوغ أفضل معرفة بذاته(‪ )4‬بواسطة اللغة‪.‬‬
‫يميز المدي في تحديده لمفهوم الخطاب بين التركيب الخبري والتركيب الكلمي‪ ،‬فالخبر متعلق بالعملية‬
‫السنادية سلبا أو إيجابا‪ ،‬أما الكلم فمتعلق بقيمة الفادة ذلك لرتباطه بالبلغ‪ ،‬يقول المدي معرفا الخبر‪" :‬الخبر‬
‫عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة‬
‫إلى إتمام‪ ،‬مع قصد المتكلم به الدللة على النسبة أو سلبها"(‪ ،)5‬فالمسألة التي كانت مدار خلف بين العلماء في عصر‬
‫المدي هي حول تحديد مفهوم الخبر‪ ،‬فكان شائعا عصرئذ التعريف القائل‪ :‬الخبر ما احتمل الصدق أو الكذب ولكن‬
‫بعض العلماء ومنهم المدي خالف هذا التعريف لوجود جمل خبرية ولكن ل يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب‬
‫كقول أحدهم‪" :‬محمد ومسيلمة صادقان في دعوة النبوة" فل يدخله الصدق وإل كان مسيلمة صادقا(‪ )6‬كذلك الناقل‬
‫للجملة الخبرية في حاجة إلى تصديق لن ذلك متوقف على الصدق في السناد (إسناد المسند إليه)‪ ،‬فالخبر عند‬
‫المدي إذن تواضع مؤسّس على النسبة وقصد المتكلم في إثباتها أو سلبها‪.‬‬

‫() ميشان زكريا‪ ،‬اللسنية‪ ،‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.3‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪ .‬عبد القادر الفاسي القهري‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.381‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪.Breve histoire de la linguistique de platon a chomsky P. 249-250‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.9‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.6‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 142 -‬‬


‫إن الحتكام إلى معيار الصدق والكذب في تحديد قيمة الخبر ل يمكن أن نفصل في جدواه إذا لم نتبين واضحا‬
‫مفهوم الصدق والكذب‪ ،‬ولذلك يخصص المدي حيزا مهما في سبيل تعيين مفهومها يقول في ذلك" إن الخبر ينقسم إلى‬
‫صادق وكاذب لنه ل يخلو إما أن يكون مطابقا للمخبر به أو غير مطابق فإن كان الول‪ ،‬فهو الصادق وإن كان‬
‫الثاني فهو الكاذب"(‪ ،)1‬ويعترض المدي بناء على ذلك على الجاحظ في تقسيمه الخبر إلى ثلثة أقسام‪ :‬صادق وكاذب‬
‫وما ليس بصادق ول كاذب‪ ،‬ويؤسس المدي اعتراضه على عنصر "القصد" في الخبر"‪.‬‬
‫فإذا انتفى هذا العنصر ل يمكن أن نسمي سياقا ما خبرا‪ ،‬أما إذا وجد القصد واعتقد المتلقي كذب محتوى الخبر‪،‬‬
‫كان الخبر كاذبا(‪ )2‬ولذلك ل يخرج السياق الخبري من أمرين ل ثالث لهما‪ :‬إما أن يكون الخبر صادقا أو كاذبا بناء‬
‫على معايير موضوعية تخضع للواقع اللغوي‪ ،‬أو ل يكون السياق خبرا لفتقاده لمقومات وخصائص السياق الخبري‬
‫منها وعي المتكلم بفحوى الخبر‪ ،‬وقصده من ورائه‪.‬‬
‫وبذلك يكون المدي قد أدرك أهمية سلمة البنية التركيبية وعلقتها بالكفاية الذاتية التي يمتلكها المتكلم‪ ،‬بحيث‬
‫يموقع فيها وعيه الكامل بمضمون الخبر الذي ينقله‪ ،‬إذ ل معنى لعدم وضوح الدللة في بنية الخبر أنه يصح وصفه‬
‫بالكذب‪ ،‬إذ الخبر قد يخرج من دللته الحقيقية إلى دللة مجازية‪ ،‬كما هو عليه بعض آيات القرآن الكريم‪ ،‬فمتعلق ذلك‬
‫بقصد المتكلم‪ .‬يشرح ذلك المدي بقوله‪" :‬وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الخر ل يكون كاذبا‪ ،‬وسواء كان ذلك‬
‫اللفظ من قبيل اللفاظ المشتركة أو المجازية ولهذا‪ :‬فإن من أخبر بلفظ مشترك وأراد به بعض مدلولته دون البعض‬
‫كما قال (رأيت عينا) وأراد به العين الجارية دون الباصرة والعكس فإنه ل يعد كاذبا‪ ،‬وكذلك من أخبر بلفظ هو حقيقة‬
‫في شيء ومجاز في شيء وأراد جهة المجاز دون الحقيقة‪ ،‬فإنه ل يعد كاذبا وذلك كما لو قال (رأيت أسدا) وأراد به‬
‫المجمل المجازي دون الحقيقي وهو النسان"(‪.)3‬‬
‫إلّ أن ثنائية الصدق والكذب كمعيارية للحكم على فحوى الخبر‪ ،‬ل تلبث عند المدي أن تتحول إلى ثلثية كان‬
‫قد انتقضها وعارضها عند الجاحظ‪ ،‬وإن كان ذلك مرتبط بالخبر الشرعي ولكن ينسحب على كل خبر لغوي توافرت‬
‫فيه شروط تعود إلى متنه ومضمونه وإلى ناقله بالخصوص ومتلقيه والمقام العام الذي يصرف فيه ويبث‪ ،‬يطلعنا‬
‫المدي بتقسيم جديد للخبر فيقول‪" :‬إن الخبر ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما ل يعلم صدقه ول‬
‫كذبه"(‪ ،)4‬والشيء الذي يعتمد في تعيين إثبات أو سلب المضمون الخبري هو طبيعة ناقل الخبر أساسا‪ ،‬والحقيقة أن‬
‫الحاطة بعالم ناقل الخبر أو المتكلم أمر ل زال محل بحث عند علماء الدللة المحدثين‪ ،‬لن قيمة دللة التركيب‬
‫الخبري تضطلع بتحصيلها عدة عوامل تخص التركيب نفسه من سلمة بُناه‪ ،‬وحسن رصف عناصره‪ ،‬وتوظيف‬
‫متمكن لقواعد سلمة السقاط‪ ،‬ثم‪ ،‬وهو أمر مهم‪ ،‬موقع المرسل والمرسل إليه‪ ،‬فناقل الخبر هو المنتج أو المركب‬
‫للخبر مبنى ومعنى مع وعي ملزم أثناء عملية البلغ‪.‬‬
‫إن أهم ما قررته الدراسات اللسانية الحديثة في مبحث قيمة الرسالة البلغية‪ ،‬هو وجود مستمع أو متلق مثالي‬
‫مستعد لستقبال الرسالة البلغية خال ذهنه من فحواها مسبقا‪ ،‬وإلى ذات الفكرة يشير المدي في حديثه عن الخبر‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.10‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر نظرية الوضعية النطقية ومذهب (شليك) ف الكم على صدق القضية (الملة) وربطه بالتحقيق التجريب ف فصل (النظريات الدللية الديثة)‬ ‫‪2‬‬

‫ص ‪.78‬‬
‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.12 -11‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.12‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 143 -‬‬


‫فيقول‪" :‬وأما ما يرجع إلى المستمعين‪ ،‬فأن يكون المستمع متأهلً لقبول العلم بما أخبر به‪ ،‬غير عالم به قبل ذلك وإل‬
‫كان فيه تحصيل الحاصل"(‪ ،)1‬وقد نصت النظرية السياقية والمقامية إلى ذلك التطور الحاصل في مفهوم السياق(‪)2‬إذ لم‬
‫يعد القتصار على الجانب اللغوي في إيضاح الدللة وإنما وجدت جوانب أخرى تنحسم معها الدللة المقصودة‬
‫كالوضع والمقام الذي يحيط بالتواصل والحالت السيكولوجية التي تطبع وضع المتلقي خاصة‪ ،‬لقد ذهب بعض العلماء‬
‫في عصر المدي وقبله إلى تحديد معيار العلم بالخبر‪ ،‬إلى تساوي المستمعين في فهم دللته‪ ،‬إل أن المدي يعترض‬
‫على ذلك مؤكدا على ضرورة الخذ بمقام المتلقي وأحواله النفسية‪ ،‬إذ الفعل الدللي ل ينتج بمعزل عن محيطه النفسي‬
‫والجتماعي‪ ،‬إذ ل بد من مراعاة كل ذلك‪ .‬يقول المدي‪" :‬ذهب القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري إلى أن كل‬
‫عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص‪ ،‬ل بد أن يكون مفيدا للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه‪،‬‬
‫وهذا إنما يصح على إطلقه إذا كان العلم قد حصل من نفس خبر ذلك العدد مجردا كما صنف به من القرائن العائدة‬
‫إلى أخبار المخبرين‪ ،‬وأحوالهم واستقراء السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمداوله مع فرض التساوي في‬
‫القرائن"(‪ ،)3‬ولكن ذلك غير ممكن فالستعدادات الذاتية بين جمهور المتلقين متفاوتة وغير متجانسة‪ ،‬يشرح المدي ذلك‬
‫بقوله‪" :‬كما اختص به من القرائن التي ل وجود لها في غيره وبتقدير اتحاد الواقعة وقرائنها ل يلزم من حصول العلم‬
‫بذلك العدد لبعض الشخاص حصوله لشخص آخر"(‪.)4‬‬
‫ومرد ذلك الختلف‪ ،‬إلى مقام كل مستمع النفسي والجتماعي والثقافي‪ ،‬فالخبر تحيط بهم قيم حافة هامشية ترتد‬
‫إلى الفرد أو المجتمع وثقافته‪ ،‬وهو ما سمي في النظرية السياقية بالقيم السلوبية أو التعبيرية‪ ،‬فالتفاوت الحاصل بين‬
‫الشخاص على فهم الخبر يرجع إلى قوة الدراك والفهم للقرائن‪ ،‬إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جدا‪ ،‬حتى‬
‫إن منهم من له قوة فهم أدق المعاني وأغمضها في أدنى دقيقة من غير ك ّد أو تعب‪ ،‬ومنهم من انتهى في البلدة إلى‬
‫حد ل قدرة له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع الجد والجتهاد في ذلك‪ ،‬ومنهم من حاله متوسطة بين‬
‫الدرجتين وهذا أمر واضح ل مراء فيه"(‪.)5‬‬
‫وما الفهم المتمكن من دللة الخطاب الخبري إل تعبير من المتلقي على قوة إدراكه لمختلف القرائن المصاحبة‬
‫للخبر‪ ،‬ووقوع ذلك موقعا مجانسا لواقعه النفسي والثقافي والجتماعي‪ ،‬أما الذي تلكأ في إدراك دللة ذلك الخطاب مع‬
‫وضوح قرائنه‪ ،‬فلوجود هوامش في الخطاب لم تكن للمتلقي المرجعية الكافية لفك رموزها والتقاط دللتها‪ ،‬وبذلك‬
‫نفسر ميل المدي إلى الخذ بتأويلت الصحابي الراوي لحديث نبوي فيه ألفاظ مجملة وذلك لعلمه أنه ممن أطلعوا‬
‫على المقام الذي أنتج فيه ذلك الحديث النبوي والقيم الهامشية التي حفت به‪ ،‬يبين المدي هذه المسألة فيقول‪" :‬فل‬
‫نعرف خلفا في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه‪ ،‬لن الظاهر من حال النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫ل ينطق باللفظ المجمل لقصد التشريع وتعريف الحكام ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلم‪،‬‬
‫والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره"(‪.)6‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر النظرية السياقية ف مبحث النظريات الدللية الديثة‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.31 -30‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.32‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه والصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.115‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 144 -‬‬


‫وفي معرض تحديده ماهية الخطاب الشرعي‪ ،‬يومئ المدي إلى وجوب تكييف الخطاب اللغوي بما يجعل‬
‫(‪)1‬‬
‫المتلقي يتهيأ لفهم دللته‪ ،‬ول يرى المدي التعريف القائل بأن الخطاب "هو الكلم الذي يفهم المستمع منه شيئا"‬
‫تعريفا صائبا لكونه أهمل موقع المستمع من هذا الخطاب فهو بذلك يفتقر إلى الحاطة الشمولية بماهية الخبر الذي‬
‫يتمظهر في شكل "محمول" يتموقع في بنية الخطاب الدللية‪ ،‬فنحن إذن إزاء عملية تواصل وإبلغ وجب توفير كل‬
‫آلياتها حتى يتم فيها نقل الدللة إلى السامع من غير لبس في المعنى ول إبهام‪ ،‬وليحيط السامع بحيثيات الخبر المنقول‬
‫إليه وما يتصل بناقله لن ذلك مشمول في احتواء الدللة الكاملة‪ .‬يقول عبد السلم المسدي في ذلك‪" :‬على أن السامع‬
‫إذ يقارن بين نظامه الخاص ونظام محدثه يتسنى له الستدلل على أصل مخاطبه وعلى درجة ثقافته وعلى انتمائه‬
‫الجتماعي‪ ،‬كما أن مميزات صوته الطبيعية تعرفه على جنسه وسنه وفصيلته على المستوى الفيزيولوجي‬
‫النفساني"(‪.)2‬‬
‫وإلى ذات الفكرة يذهب المدي مستندا على أساسين هما قوام كل خطاب موضوع لخبر‪ ،‬ويعني بهما‪ :‬القصد‬
‫عند الباث‪ ،‬والستعداد والتهيؤ عند المتلقي وإذا انتفى أحد هذين الساسين فقد الخبر قيمته البلغية‪ .‬يقول المدي‬
‫موضحا ماهية الخطاب‪" :‬والحق أنه اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه‪( ،‬فاللفظ) احتراز‬
‫عما وقعت المواضعة عليه من الحركات والشارات المفهمة (والمتواضع عليه) احتراز عن اللفاظ المهملة‪،‬‬
‫(والمقصود بها الفهام) احتراز عما ورد على الحد الول"(‪.)3‬‬
‫إن هذا التعريف بماهية الخطاب اللغوي عند المدي ينسجم مع الداء الوظيفي الذي يقوم به من الفهم والفهام‪،‬‬
‫وإن أهم وسيلة لتحقيق ذلك هي اللفاظ المنتظمة في سياقات لغوية سليمة‪ ،‬ثم إن إشارة المدي إلى اللغة السيميولوجية‬
‫(وهي الشارة والرموز والحركات ذات دللت) دليل قوي على الهتمام بالمنحى السيميائي العام‪ ،‬والرؤية الشمولية‬
‫التي كانت تطبع الدرس التراثي عند المدي ومعاصريه‪ ،‬إذ تناولوا "اللغة" تناولً كليا تحدده قنوات التواصل المتعددة‪.‬‬

‫ب‪-‬الكلم وقيمته البلغية‪:‬‬


‫لقد ميز البحث الدللي الحديث بين مفاهيم ثلثة عدت أسسا في الدراسة المنهجية الحديثة‪ ،‬على نقيض الدرس‬
‫اللغوي التراثي الذي كان غالبا ما يخلط بينها في الستعمال وهذه المفاهيم الثلثة هي‪ :‬اللغة واللسان والكلم‪ ،‬فاللغة‬
‫مفهوم كلي عام واللسان مفهوم نمطي نوعي أما الكلم فمفهوم فردي إجرائي‪ ،‬أو كما يشرح ذلك المسدي بقوله‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫"فمتصور اللغة يجسم صورة القانون ولسان الجماعة يشكل نموذج العرف أما كلم الفراد فيشخص مثال السلوك ‪،‬‬
‫وهو التمثيل الفردي للغة وقد شرح ذلك دي سوسير في كتابه "دروس في اللسانيات العامة" ضمن تلك الثنائيات التي‬
‫عقدها بين مجموعة من المفاهيم منها‪ :‬اللغة والكلم‪ ،‬أما نظرة المدي إلى الكلم فتتمثل في كونه مركب من اللفاظ‬
‫وله مظهران‪ :‬مظهر لساني ومظهر نفسي يقول مبينا ذلك تحت عنوان‪" :‬في تحقيق مفهوم المركب من مفردات‬
‫اللفاظ‪ ،‬وهو الكلم‪ :‬اعلم أن اسم الكلم قد يطلق على العبارات الدالة بالوضع تارة‪ ،‬وعلى مدلولها القائم بالنفس تارة‪،‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.95‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.76 -75‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.95‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.86‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 145 -‬‬


‫والمقصود ها هنا إنما هو معنى الكلم اللساني دون النفساني"(‪.)1‬‬
‫وظاهر أن المدي يميز‪ ،‬ها هنا بين الصيغة في حالتها الفرادية والصيغة في حالتها التركيبية والتي تتشكل في‬
‫"الكلم" وبذلك تتضح لدى المدي رؤية لسانية متقدمة‪ ،‬في نصّه على القيمة الدللية التي تكتسبها اللفاظ ضمن‬
‫"الكلم" وهو ما تؤكده الدراسات الدللية الحديثة واللسانية بصفة عامة‪ ،‬حيث أشار سوسير إلى أن القيمة اللغوية‬
‫للكلمة تكمن في صلتها ببقية الكلمات الخرى باعتبار السياق الكلمي نسيج متشعب من العناصر والصور‪ ،‬كما يتبدى‬
‫تمييز المدي بين الصورة السمعية والثر السيكولوجي لها‪ ،‬وذلك بإشارته إلى المدلول القائم بالنفس وعلى أساس ذلك‬
‫يكون المدي قد أشار ضمنيا إلى المثلث اللساني لريشاردز وأوجدن الذي يحدد الجوانب الثلثة بما سماه دي سوسير‬
‫"الدليل اللساني (‪ )Le signe linguistigue‬وهي‪ :‬الدال (الصورة السمعية)‪ -‬المدلول (الشيء الخارجي) – الثر‬
‫السيكولوجي المحتوى الفكري)‪.‬‬
‫إن الكلم النفساني عند المدي‪ ،‬ينحصر في تلك المعاني المترددة في النفس‪ ،‬فهي تشكل عوامل دللية تتمظهر‬
‫في أشكال لغوية متعددة لسانية وغير لسانية‪ ،‬وإن المقاطع الصوتية التي تدخل في تشكيلها الحروف هي التي تكوّن‬
‫الكلم اللساني‪ ،‬وإذا انتظمت هذه المقاطع بحيث كانت لها ولصواتها دللة كان للكلم قيمة وظيفية أما إذا لم تخضع‬
‫تلك المقاطع إلى نظام تتشكل وفقه أصواتها كان الكلم تركيبا خاليا من الدللة‪" ،‬فالكلم اللساني قد يطلق تارة على ما‬
‫ألف من الحروف والصوات من غير دللة على شيء يسمى مهملً وإلى ما يدل"(‪.)2‬‬
‫إن مصطلح "الكلم" في التراث المعرفي العربي‪ ،‬كان قد حدد بصورة علمية قد ل تختلف عن تلك التي حددها‬
‫علماء اللسانيات المحدثون‪ ،‬وظاهر ذلك من خلل تلك الراء والفكار التي عرضها المدي لعلماء عصره الذين‬
‫اختلفوا في حصر دقيق لماهية الكلم‪ ،‬فمنهم من عد الكلمة الواحدة المؤلفة من حرفين فصاعدا كلما‪ ،‬كما اعتبر‬
‫بعضهم الكلم هو الصوات المسموعة الدالة وذلك احتراز من حروف الكتابة فإنها ليست كلما‪ ،‬كما تباينت الراء‬
‫في اعتبار التركيب غير المنتظم العناصر‪ ،‬كلم‪ ،‬فذهب بعض العلماء إلى أنه كلم لن عناصره في حالتها الفرادية‬
‫ذات دللة بينما رفض البعض الخر أن تعد كلما لن السياق العام ل يؤدي دللة‪ ،‬يقدم المدي رأي الصوليين في‬
‫ذلك فيقول‪" :‬فذهب أكثر الصوليين إلى أن الكلمة الواحدة‪ ،‬إذا كانت مركبة من حرفين فصاعدا كلم‪ ،‬ول جرم‪ ،‬قالوا‬
‫في حده‪ :‬هو ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة المتواضع على استعمالها الصادرة عن مختار واحد"(‪.)3‬‬
‫وفي مقام تصويبه للتراكيب الكلمية‪ ،‬يعتمد المدي معيارية الفادة في ضرورة وجود قواعد ضابطة تجعل‬
‫الكلم مفيدا‪ ،‬وهو في ذلك يسوق تعريف الزمخشري للكلم حيث يقول‪" :‬الكلم هو المركب من كلمتين أسندت‬
‫إحداهما إلى الخرى"(‪.)4‬‬
‫وعلى أساس ذلك يقتضي السياق الكلمي مستويين‪:‬‬
‫* المستوى الول‪ :‬مستوى البنية النحوية التي تتمثل في وجود عملية السناد‪.‬‬
‫* المستوى الثاني‪ :‬هو مستوى البنية البلغية والتي تتحدد بتوافر عنصر الفائدة في الكلم‪.‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.71‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ .،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.71‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.72‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.72‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 146 -‬‬


‫فنلحظ إذا من خلل قول المدي تقاطع علقتين في إنشاء الكلم‪:‬‬
‫علقة ذهنية عقلية في ترتيب عناصر العملية السنادية بحسب التأليف بين طرفي السناد ومراعاة‬ ‫‪-‬‬
‫قواعد السلمة النحوية‪.‬‬
‫وعلقة منطقية في محمول عملية السناد‪ ،‬إذ الفائدة الدللية شرط في عملية البلغ التي يضطلع بها‬ ‫‪-‬‬
‫الكلم‪.‬‬
‫فالمدي يؤسس نظريته حول الكلم على عنصري الفادة وحسن السناد‪ ،‬فإذا انتفت الفادة مع وجود السناد ل‬
‫يسمى التركيب كلما‪ ،‬وهو ما يؤكد شمولية الهتمام –عند المدي‪ -‬بالوظيفة الساسية للكلم وهي البلغ‪ ،‬فالنظم‬
‫الحسن ينشئ الكلم(‪ )1‬المفيد‪ ،‬يقول المدي‪" :‬الكلم ما تألف من كلمتين تأليفا يحسن السكوت عليه"(‪.)2‬‬
‫إن معيار الكلم المؤلف تأليفا سليما يتمظهر في القناة السليمة‪ ،‬التي يتم عبرها نقل الرسالة الدللية ليحصل‬
‫البلغ‪ ،‬ويتحقق التواصل حيث يكون مقياس ذلك هو سكوت المتخاطبين عن لغة الرسالة‪ ،‬وقواعدها‪ ،‬وآلياتها‪ ،‬تعبيرا‬
‫منهم أن التأليف صحيح في تركيبه واتساق عناصره‪.‬‬

‫ج‪ -‬الخطاب البلغي وأنماطه‪:‬‬


‫لم يتناول المدي الخطاب اللغوي من زاوية دللته النية عندما يوظف للتصال والبلغ‪ ،‬وإنما كذلك من زاوية‬
‫دللته الزمانية‪ .‬وإن ذلك متعلق بالكلم المكتوب وفي هذا السياق قدم المدي خطاب النهي على أنه ل يفيد التكرار‬
‫والدوام وإنما يفيد الدللة على المرة الواحدة في حالته العادية أما إذا دل على الدوام كان ذلك لوجود قرينة يقول في‬
‫ذلك‪" :‬النهي حيث ورد غير مراد به الدوام‪ ،‬يجب أن يكون ذلك لقرينه"(‪.)3‬‬
‫وقد تدخل الخطاب اللغوي عناصر تعدل في دللته العامة التي تتعرض للتخصيص بفعل أدوات لفظية‪،‬‬
‫كالستثناء والشرط والصفة‪ ،‬وقد دار جدال بين جمهور العلماء في مسائل تتعلق بتخصيص الخطاب بإحدى أدوات‬
‫التخصيص‪ ،‬هل يكون العموم في المخصص حقيقة أو مجازا؟ بمعنى هل اللفظ العام المستغرق للجنس يجوز حمله‬
‫على البعض؟ بعدما يعرض المدي آراء العلماء في هذه المسألة يتقدم برأيه فيقول‪" :‬والمختار تفريعا على القول‬
‫ل أو منفصلً‪ ،‬عقليا أو‬
‫بالعموم أنه يكون مجازا في المستبقى واحدا كان أو جماعة‪ ،‬وسواء كان المخصص متص ً‬
‫لفظيا‪ ،‬باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة"(‪ ،)4‬إن فعل "التخصيص" ل يتحقق إل في خطاب يتصور فيه العموم أما‬
‫الخطاب الخالي من العموم فل يمكن تخصيصه" لن التخصيص على ما عرف‪ ،‬صرف اللفظ عن جهة العموم إلى‬
‫جهة الخصوص وما ل عموم فيه ل يتصور فيه هذا الصرف وأما ما يتصور فيه الشمول والعموم فيتصور فيه‬
‫التخصيص"(‪.)5‬‬
‫وقد خصص علماء اللغة المحدثون مباحث هامة تناولوا من خللها موضوع تغير الدللة وعاينوا مظاهرها‬

‫() انظر ف ذلك ف الفصل السابق‪ ،‬نظرية النظم عند الرجان‪ ،‬ص ‪.119‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.73‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.194‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.228‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.287‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 147 -‬‬


‫كالنحطاط والرقي‪ ،‬والتضييق والتوسيع وغير ذلك من المظاهر(‪ ،)1‬إل أن علماء الصول كانوا أعمق في تناول تغير‬
‫الدللة‪ ،‬ذلك أن من مظاهر الخطاب اللغوي الكثر ورودا في التوظيف اللغوي العام هو الوعي بالليات المحددة‬
‫لشمولية الدللة أو لخصوصيتها‪ ،‬فإذا كان حمل اللفظ على جميع محامله في الخطاب اللغوي يستند إلى خلو الخطاب‬
‫من أدوات التخصيص‪ ،‬فإن تعيين محمول مخصوص يرجع إلى وجود إحدى هذه الدوات‪ ،‬ولذلك انبرى المدي‬
‫يعرف هذه الدوات مستندا في ذلك على تقديم المثلة ومناقشتها فيقول في الستثناء‪" :‬الستثناء‪ ،‬عبارة عن لفظ‬
‫متصل بجملة ل يستقل بنفسه دال بحرف (إل) أو أخواتها‪ ،‬على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ليس بشرط ول‬
‫صفة ول غاية"(‪ ،)2‬فالستثناء طريق من طرق التخصيص في اللفظ العام‪ ،‬ونحويا يعرف بأنه إخراج حكم ما بعد إل‬
‫وأخواتها عن حكم ما قبلها‪ ،‬وبذلك تتضح دللة الخطاب اللغوي اعتمادا على هذا الوعي ببنية التركيب‪ ،‬ومن طرق‬
‫تضييق الدللة كذلك الشرط وله طرائق ثلث‪ :‬الشرط العقلي والشرط الشرعي والشرط اللغوي‪ ،‬فتحقيق دللة‬
‫التركيب الشرطي مرتبط بدللة التزام بين الشرط والمشروط يقول المدي محددا أقسام الشرط‪" :‬وهو منقسم (أي‬
‫الشرط) إلى شرط عقلي كالحياة للعلم والرادة وإلى شرعي كالطهارة للصلة والحصان للرجم وإلى لغوي وصيغه‬
‫كثيرة وهي‪ :‬إن الخفيفة وإذا ومن وما ومهما وحيثما وأينما وإذما"(‪.)3‬‬
‫إن السياق الذي يتضمن التركيب الشرطي يحمل دللت إضافية ل يكون المتلقي على علم بها‪ ،‬لول وجود‬
‫الشرط‪ ،‬ولذلك يسوق المدي مثالً ينص على أن التخصيص بالشرط قد أخرج من الدللة العامة دللة خاصة‪ ،‬ولوله‬
‫لدى الخطاب دللة الشمول والتعميم‪ ،‬يقول المدي في ذلك‪" :‬إنه (أي الشرط) يخرج منه ما ل يعلم خروجه دونه‬
‫كقوله‪( :‬أكرم بَنِي تميم إن دخلوا الدار) فإنه يخرج منه حالة عدم دخول الدار‪ ،‬ولول الشرط لعم الكرام جميع‬
‫الحوال‪ ،‬ولم يكن العلم بعدم الكراه حالة عدم دخول الدار حاصلً لنا فكان مخصصا للعموم"(‪.)4‬‬
‫ومثل الشرط هناك طريق التخصيص بالصفة وهي تأتي بعد اللفظ العام فتخصصه‪ ،‬وتخرج الدللة الخاصة من‬
‫الدللة العامة‪ ،‬كما تعد (الغاية) إحدى أدوات التخصيص وتضييق دللة الخطاب العامة وصيغها معلومة في اللغة‬
‫وهي‪ :‬إلى وحتى وما كان في معناهما من الحروف والدوات‪ ،‬وأثر الغاية في دللة التركيب أنها تحد الحكم ول‬
‫تتركه مطلقا‪ ،‬والغاية نوعان‪ :‬غاية زمانية وغاية مكانية يقول المدي‪:‬‬
‫"قولـه" أكرم ببني تميم أبدا إلى أن يدخلوا الدار"‪ ،‬فإن دخول الدار يقتضي اختصاص الكرام بما قيل الدخول‬
‫وإخراج ما بعد الدخول عن عموم اللفظ ولول ذلك لعم الكرام حالة ما بعد الدخول"(‪.)5‬‬
‫بهذا الوعي العميق لليات تضييق الخطاب يحلل المدي مفهوم الحدث البلغي الذي تتحكم فيه شبكة شديدة‬
‫التركيب من العناصر والدوات والصيغ والقواعد‪ .‬إن أدوات التخصيص الربعة (الستثناء – الشرط‪ -‬الصفة‪-‬‬
‫الغاية) تعد إحدى الطرق المنهجية الدقيقة التي وظفها المدي في تعامله مع النص القرآني‪ ،‬ومن ثمة أضحى الخطاب‬
‫اللغوي يخضع لقيود شكلية تتحكم في سياقه المضموني فبدت تلك القيود معايير تعتمد لستنباط الحكم الصحيح‪ ،‬ول‬
‫يمكن أن نسعى إلى تأسيس وعي دللي ما لم نكن على دراية عميقة بمقتضيات التواصل والبلغ‪ ،‬ومع كل إنتاج‬

‫() إبراهيم أنيس‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب دللة اللفاظ‪ ،‬ص ‪ 152‬إل ‪.167‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.287‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.309‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.10‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.313‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 148 -‬‬


‫كلمي للباث توضع قواعد للتركيب وأخرى للدللة‪ ،‬ل تخلق خلقا بل تنقل من حيز القوة إلى حيز الفعل‪ ،‬إن المشكّل‬
‫للخطاب اللغوي (الباث) يعد المركز الذي تجمع إليه كل فعاليات الحدث البلغي‪ ،‬فله القدرة على "استفزاز" المتلقي‬
‫أو السامع‪ ،‬وحمله على الدخول في عالمه الدللي الذي هو مصدر تشكل الخطاب بأنساقه وأنماطه وصيغه‪ ،‬يقول‬
‫ميشال فوكو‪ ،‬إن المؤلف ليس هو الذي يتحدث أو ينطق أو يكتب نصا بل المؤلف كمبدأ تجميع الخطاب‪ ،‬كوحدة‬
‫وأصل لدللت الخطاب‪ ،‬وكبؤرة لتناسقها"(‪.)1‬‬
‫إن تشكيل الخطاب اللغوي بمراعاة تشابك عناصره الداخلية والخارجية‪ ،‬يقتضي أن يقوم الباث أو المؤلف‬
‫باختيار ألفاظه ثم يركبها وفق معيار النحو والبيان آخذا لحظة إبداعه للخطاب‪ ،‬مقتضى حال المخاطب وقدرته ليس‬
‫على فهم الرسالة البلغية فحسب‪ ،‬بل وعلى تبني مضمونها بفك أنماطها الذاتية وسننها العلمية‪ ،‬وقد أشار المدي‬
‫في مبحث تخصيص الخطاب‪ ،‬إلى أدوات التخصيص غير اللفظية وعنى بها الدليل العقلي والدليل الحسي وهي من‬
‫الدلة المنفصلة كونها أدلة خارجة عن بنية الخطاب وترتد إلى استعداد المتلقي المثالي‪ ،‬على إخراج بعض الدللت‬
‫الخاصة من دللت الخطاب العامة بقدرته العقلية والحسية…(‪.)2‬‬
‫ومن ضمن أنماط الخطاب البلغي يشير المدي إلى خطاب "المر" وهو يتعلق بالدللة التركيبية التي يشرف‬
‫على تعيينها السياق‪ ،‬وع ّد قسما من أقسام الكلم سواء في نمطه الفونولوجي أو نمطه الخطي‪ ،‬إن صيغة المر ل‬
‫(‪)3‬‬
‫تنعقد دللتها إل بتوافر قرائن منها ما يعود للمر وهي تشمل القصد في إحداث المر‪ ،‬ومنها ما يعود إلى المأمور‬
‫وهو المتثال للمر إل أن المدي ل يرى شرط المتثال للمر قرينة محددة لصيغه‪ ،‬فالمأمور قد يتخذ من خطاب‬
‫المر موقفا إيجابيا وقد يكون موقفه سلبيا‪ ،‬بعدم المتثال‪ ،‬وتحديد المدي لهذه المسألة ينم عن وعي كبير بجوهر‬
‫العملية البلغية والتواصلية يقول شارحا ذلك‪" :‬إن المر الذي هو مدلول الصيغة إما أن يكون هو الصيغة أو غير‬
‫الصيغة‪ ،‬فإن كان هو نفس الصيغة‪ ،‬كان الكلم متهافتا من حيث إن حاصله يرجع إلى أن الصيغة دالة على الصيغة‪،‬‬
‫والدال غير المدلول‪ ،‬وإن كان هو غير الصيغة‪ ،‬فيمتنع أن يكون المر هو الصيغة"(‪.)4‬‬
‫إن المدي يحصر المر في الطلب على جهة الستعلء‪ ،‬ويعترض على تفسيره بالصيغة والرادة لن ذلك أدخل‬
‫في تعريف المر‪ ،‬بما هو أخفى منه‪ ،‬ومع ذلك لم يحسم المدي الخلف حول حد المر واكتفى بحصر ما اتفق‬
‫العلماء بشأنه من كون المر قسما من كلم العرب‪ ،‬أما ما بقي فهو محل نزاع لفظي‪ ،‬وقد ارتأى المدي إنهاء هذا‬
‫الخلف العلمي بهذا الشكل‪ ،‬لن المر إذا أدى دللته من غير لبس أو غموض بناء على توافر عناصره‪ ،‬فقد استوفى‬
‫حده‪ .‬يقول مبينا هذا المر‪" :‬إجماع العقلء منعقد على أن المر قسم من أقسام الكلم وأنه واقع موجود ل ريب فيه‪،‬‬
‫وقد بينا امتناع تفسيره بالصيغة والرادة بما سبق‪ .‬فما وراء ذلك هو المعنى بالطلب‪ ،‬والنزاع في تسميته بالطلب بعد‬
‫الموافقة على وجوده‪ ،‬فأيل إلى خلف لفظي(‪ ،)5‬وواضح أن المدي وظيفي في تحليله‪ ،‬فهو يعتمد أساسا على معيار‬
‫الستعمال الوظيفي(‪ )6‬ول يكتفي بالتنظير المجرد‪ ،‬فهو يرى أن المر يدل دللة الحقيقة على الطلب حتى ولو كان‬

‫() ميشال فوكو‪ ،‬نظام الطاب‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.315‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر ف ذلك النظرية السياقية الت أعطت للمتلقي دورا ف ربط الطاب بالقام‪ ،‬فالقول البحث عن مقامه غالبا ما يستعصي عن التأويل‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.140‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.145‬‬ ‫‪5‬‬

‫() وهذا ما يؤكده رائد الدرسة التجريدية "إدوارد ساميي" ف كتابه –اللغة‪ -‬ص ‪.37 -34‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 149 -‬‬


‫مجردا من القرائن الدالة على ذلك‪ ،‬وقد يتعلل البعض على صرف دللته من الحقيقة إلى وجود عرف لغوي‬
‫(استثنائي) من هذا النزلق الدللي للمر من الطلب إلى دللت أخرى كالباحة والتعجيز والتهديد وما إلى ذلك مما‬
‫هو ميسر في كتب البلغة العربية‪ ،‬فبعد أن بين المدي أن صيغة (افعل) إذا وردت في الخطاب وجاءت قرائن تدل‬
‫على أنها للطلب‪ ،‬كانت كذلك‪ ،‬ول يمكن أن نصرفها إلى دللت أخرى‪ ،‬يرد على العلماء الذين ذهبوا إلى أن المر‬
‫قد يخرج لدللت أخرى لعرف طارئ فيقول‪" :‬فإن قيل‪ :‬يحتمل أن يكون ذلك بناء على عرف طارئ على الوضع‬
‫اللغوي‪ ،‬كما في لفظ الدابة والغائط قلنا جواب الول أن الصل عدم العرف الطارئ‪ ،‬وبقاء الوضع الصلي على‬
‫حاله"(‪.)1‬‬
‫إن خطاب المر هو شكل من أشكال العقد الواعي بين الباث والمتلقي‪ ،‬فالباث للرسالة الدللية التي يحملها‬
‫خطاب المر يستجيب لمنبهات تحمله إلى صوغ أسلوب إبلغي يحاول من خلله أن يدفع المتلقي ل إلى فهم الرسالة‬
‫البلغية‪ ،‬بل وإلى تقمص مضمونها والستجابة لخطابها بكيفية إيجابية‪ ،‬هذا ما تقرّر في الدرس الدللي الحديث حول‬
‫نظام البلغ في الخطاب‪ ،‬وفي هذا المجال يربط المدي دللة المر بالستجابة لصيغتها فتلك هي مفهومها مطلقا أما‬
‫الدللة على الترك واتخاذ الموقف السلبي من فحواها فله أسلوبه الخاص وهو خطاب النهي‪ ،‬كما ل يمكن أن نتصور‬
‫أن المتلقي سيرضخ لسلطة الخطاب المري وإنما سيتحرك في مساحة من الختيار فيها الندب والواجب‪ ،‬إذ قد يماشي‬
‫المتلقي الباث للخطاب في أمره وقد يخالفه‪ .‬يشرح ذلك المدي بقولـه‪" :‬إن المكلف إذا نظر فظهر لـه أن المر‬
‫للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود المر"‪ ،‬إن تحقق مضمون خطاب المر يستدعي معرفة عميقة بآليات‬
‫صياغته‪ ،‬خاصة وأن المتلقي مدعو إلى إحداث نقلة نوعية لهذا الخطاب تدل على استيعاب سليم لدللته بعد تحليل‬
‫لنظامه العلمي‪ ،‬ولذلك طرحت قديما مسألة وجود القرائن التي تعيّن الدللة في أسلوب المر‪ ،‬وبالتالي اقتضاء المر‬
‫التكرار والدوام أو المرة الواحدة‪ ،‬فالمدي يميل إلى دللة المر على المرة الواحدة إذا كان السلوب عريا من القرائن‬
‫الصارفة واحتمال التكرار في وجود القرائن‪ .‬يقول موضحا ذلك‪" :‬والمختار أن المرة الواحدة ل بد منها في المتثال‬
‫وهو معلوم قطعا‪ ،‬والتكرار محتمل فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه‪ ،‬وإل كان القتصار‬
‫على المرة الواحدة كافيا"(‪ ،)2‬كما يذهب المدي إلى أن سياق خطاب المر ينبغي أن يراعى فيه الستغراق الزمني‪،‬‬
‫لن عليه يتوقف تحديد دللة المر على التكرار أو المرة الواحدة‪ ،‬معنى ذلك أن الستغراق في المر مجاله الزمني‬
‫ل متنا ٍه بينما المرة الواحدة مجالها الزمني ضيق محدد بفترة معينة‪ ،‬ويقابل ذلك المدي بين دللة الفور ودللة‬
‫التراخي في خطاب المر‪ ،‬وهي مسألة من الهمية بمكان خاصّة وأنها ذات صلة بالتعامل اللغوي النساني(‪ ،)3‬إن‬
‫دللة المر على الفور والتحقيق الني لمضمونها متعلق بوجود قرينة أو أكثر دالة على ذلك في الخطاب‪ ،‬أما دللة‬
‫التراخي فل تحتاج إلى قرينة‪ .‬يحدد ذلك المدي بقوله‪" :‬فمن قال بالتراخي ل يحتاج إلى دليل آخر‪ ،‬لن مقتضى‬
‫المر المطلق عند تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت‪ ،‬ومن قال بالفور فل بد له من دليل‬
‫ثاني الحال"(‪.)4‬‬
‫إن أهم ما انصب حوله اهتمام علماء اللغة المحدثون‪ ،‬هو البحث في كل مستويات الحدث اللغوي من مرحلة‬
‫ميلده إلى مرحلة بلوغه وظيفته ثم بتحقيق مردوده عندما يولّد رد الفعل المنشود وبذلك تناولوا اللغة في مظاهرها‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.144‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.155‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪ .‬كمال ممد بشر‪ ،‬انظر دور الكلمة ف اللغة ف القدمة‪ ،‬ص ‪ 6‬من كتاب (ستيفن أولن)‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.159‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 150 -‬‬


‫الثلثة‪ :‬المظهر الدائي والمظهر البلغي ثم المظهر التواصلي‪ ،‬وفي إطار ذلك بحثوا طواعية الرمز اللغوي لكي‬
‫يكون له معادل موضوعي في واقع الستعمال اللغوي‪ ،‬وأكدوا أن ل انفصال في الزمن بين قيام الرمز وحصول‬
‫دللته عند متقبله(‪.)1‬‬
‫إل أن المدي كان أعمق تحليلً في نصه على عامل الزمن‪ ،‬في تحقيق دللة خطاب المر الذي هو نمط من‬
‫أنماط المنظومة اللسانية‪ ،‬التي تتكون من رموز لغوية دالة‪ ،‬ومن ذلك فإن خفيت القرينة المحددة للدللة الزمنية‬
‫لخطاب المر وألبس على المتلقي تحديد الغاية‪ ،‬كان مخيرا بين الفور والتراخي‪ .‬يشير إلى ذلك المدي فيقول‪" :‬قولهم‬
‫بالتعجيل أحوط للمكلف (يعني القول بالفور) قلنا الحتياط إنما هو بإتباع المكلف ما أوجبه ظنه‪ ،‬فإن ظن الفور‪ ،‬وجب‬
‫عليه إتباعه‪ ،‬وإن ظن التراخي وجب عليه إتباعه"(‪.)2‬‬
‫إن اللفظ الغطاء الذي يشرف على مدلولت جزئية تشكل حقلً دلليا يخضع لروابط علئقية تشترك في الدللة‬
‫الكلية التي ل تتموقع في عالم العيان وإنما محلها عالم الذهان‪ ،‬فمثلً لفظ (البيع) هو لفظ ينضوي تحته حقل من‬
‫المدلولت الجزئية كالبيع بالتقسيط‪ ،‬والبيع الغرر وما إلى ذلك من أشكال البيوع المشروعة أو المحرمة‪ ،‬فإذا نص‬
‫خطاب المر على اللفظ الكلي فهل إتيان المأمور لمعنى جزئي منه هو تحقيق للخطاب أم ل؟ لقد أسس المدي بناء‬
‫على هذه الرؤية نظرته للتدليل على أن طلب وقوع فعل المر ل يكون إل بالجزئيات‪ ،‬الواقعة في عالم العيان‪ ،‬ول‬
‫يكون بالدللة الكلية لنه ل وجود لها إل في عالم الذهان‪ ،‬فإذا ورد سياق المر مجردا من قرينة صارفة لدللته‬
‫وكان فهم المتلقي لدللته المطلقة‪ ،‬صح الفهم وصدق الموقف وهي رؤية تبناها بعض علماء الدللة المحدثين وتفرعت‬
‫عندهم إلى مسائل مختلفة من ذلك افتراض وجود دللة العوالم الممكنة عند فريجة (‪)Possible world semantics‬‬
‫وإن كان قد قوبل بالنتقاد الشديد من قبل علماء عصره(‪ ،)3‬وهذه الفكرة تبلورت عند غريمارس في ذلك التشاكل‬
‫الحاصل بين السمات المعنوية الصغرى (‪ )Semes‬والسمات الصوتية الصغرى(‪ )Phemes( )4‬في هذا النحو يقدم‬
‫المدي مثالً توضيحيا حول اقتضاء المر للدللة الجزئية‪ ،‬فيقول‪" :‬وإن سلم أن المر متعلق بالمعنى الكلي المشترك‬
‫وهو المسمى بالبيع‪ ،‬فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات كالبيع بالغبن الفاحش‪ ،‬فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به‬
‫الموكل فيه‪ ،‬فوجب أن يصح نظر إلى مقتضى صيغة المر المطلق بالبيع‪ ،‬وإن قيل بالبطلن‪ ،‬فل يكون ذلك لعدم‬
‫دللة المر به‪ ،‬بل لدليل معارض"(‪.)5‬‬
‫والحقيقة أن هذه الرؤية المدية تعد ذات أهمية بالغة لمستوى التواصل بين باث ينتظم الخطاب في ذهنه قبل‬
‫انتظامه في ألفاظه وبين متلقٍ له مرجعيته الذاتية يستطيع وفقها تفكيك الخطاب وإدراك دللته‪ ،‬إل أن المدي‪ -‬كما‬
‫هو شأن معظم علماء الدللة واللسانيات المحدثين‪ -‬يركز على ناقل الخطاب (الباث) الذي يملك وعيا لغويا يجعله‬
‫يكيف خطابه البلغي حسب أصناف الناس المتلقين للخطاب‪ ،‬ومع ذلك يتحمل نسبة كبيرة مما قد تتعرض له رسالته‬
‫البلغية من تحويل أو تحوير في فهم مضمونها الدللي‪.‬‬
‫إن الحدث البلغي بتجلياته على مستوى التركيب والتنسيق وعلى مستوى النمط التنظيمي لعناصره شكل في‬

‫() د‪ .‬عبد السلم السدي‪ ،‬انظر ف ذلك اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪ ،64‬ص ‪.81‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.169‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر اللسانيات واللغة العربية د‪ .‬الفاسي‪ ،‬ص ‪.381‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر فصل ماهية الدللة عند الحدثي (غريارس)‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.184‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫كتاب "الحكام" المحور الساسي الذي انتظمت في دائرته تلك الحكام اللغوية التي أجراها المدي مجرى السنن‬
‫والقوانين المتحكمة في أي إنتاج كلمي‪ ،‬وقد أبان ذلك التحليل المستوفي لجوانب الخطاب قدرة النظام اللغوي العربي‬
‫على احتواء التنظيمات الخاصة بصرف الدللت إلى أوجهها الصحيحة‪ .‬كما أوضح المدي أن ل مناص لعالم‬
‫الصول المشتغل في حقل الفقه من أدوات لغوية دقيقة تقع من حقله هذا‪ ،‬موقع المنطق من الفلسفة‪ ..‬ونحن على يقين‬
‫أن دراسة النظام البلغي كما حدده المدي بكل آلياته ومتعلقاته‪ ،‬يستحق مجالً خاصا تستجلى من خلله تلك القواعد‬
‫العميقة المجردة التي تقف وراء هذا التناسق المعياري الدقيق لمنظومة الخطاب‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫الحقيقة والمجاز عند المدي‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫إن المنظومة اللغوية تنزع نحو التمدد والتغير اللزمين لتغطية مجمل الحاجات اللغوية التي يقتضيها الخطاب‬
‫البلغي في الحوال المختلفة‪ ،‬ولذلك استقر في أذهان اللغويين المحدثين أن محاولة البقاء على معنى قار دون أن‬
‫يخضع لعوامل التغيير الدللي هو ضرب من النمطية التي يرفضها النظام اللغوي المتجدد‪.‬‬
‫ولعل أبرز العوامل التي تنتظم التغيّر الدللي هو الطابع الجتماعي للغة‪ ،‬الذي يلقي بتأثيره على الطابع الذهني‬
‫والفكري لدى أهل هذه اللغة إذ تغدو المنظومة اللغوية حاملة للقيم الجتماعية والفكرية المستجدة‪ .‬وفي ضوء ذلك‬
‫نفسر مذهب "رونالد بارت (‪ "، )Roland Barthes‬واتباع نظرية سيمولوجية الدللة الذين اعتبروا المعنى المعجمي‬
‫معنى مشوشا دائما لنه معرض للتغيير والتطور بفعل الستعمال الجتماعي للرمز الدللي(‪ )1‬إذ يفتح أمامه إمكانية‬
‫تغيير المجال الدللي وهو ما بحث مظاهره اللغويون محددين مستويات مختلفة منها‪ :‬مستوى النقل ومستوى التغيير‬
‫النحطاطي أو المتسامي‪ ،‬وذلك بتخصيص الدللة أو تعميمها(‪ ،)2‬ثم مستوى الحذف والتعويض وذلك بملء الفجوة‬
‫الدللية التي تركها اللفظ المندثر بدللة جديدة تستدعيها الظروف اللغوية‪ ،‬وقد يحدث أن يعاد اللفظ القديم (المندثر)‬
‫ليحمل دللة جديدة تلئم الحاجة اللغوية المستجدة‪ ،‬هذه الحركية أو الدينامية التي تميز العناصر اللغوية داخل النظام‬
‫اللساني‪ ،‬يمكن حصرها في تقاطع حقلين رئيسيين على جميع مستويات التغيير الدللي هما‪ :‬حقل الحقيقة وحقل‬
‫المجاز‪ ،‬حقل الدللة الصلية‪ ،‬وحقل الدللة المحوّلة ولما كان المجاز يعد الجسر اللغوي الذي تنتقل عبره الدوال إلى‬
‫المدلولت الجديدة أو العكس‪ ،‬كان ذلك مظهرا على قوة الطاقة التعبيرية في اللغة ول أدل على ذلك أن ظاهرة المجاز‬
‫ظاهرة عامة لكل اللسنة يلجأ إليها المجتمع اللغوي لتوليد المعاني الضرورية خاصة في إغناء الرصيد المصطلحاتي‬
‫الخاص بالتواصل العلمي المعرفي‪ ،‬فهو إذن ضرب من العقلنة في باطن منظومة أساسها ومنطلقها العتباط المحض‪،‬‬
‫لن مبعثه هو القتران العرفي الذي ل يلبث أن يتحول إلى إطراد معقول يأخذ اللغة من الحاجة إلى الكفاف ومن‬
‫التوحد الدللي إلى طواعية التكاثر فيصبح هذا التولّد المستمر ينبوعا في اللغة ل ينضب(‪ .)3‬إذن فمهمة المجاز تقوم‬
‫على أساس التحديد المفهومي للحقل الدللي إذ تستوعب اللغة المدلولت المستحدثة بتفجير طاقاتها التعبيرية الكامنة‬

‫() ‪…Introduction à la sémiologie, P 21. Dalila Morsly, Francois chevaldonne et autres‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر ذلك ف كتاب‪ :‬دور الكلمة ف اللغة‪ :‬ستيفن أولن‪ ،‬ترجة كمال بشر‪ ،‬ص ‪ .161‬وكتاب‪ :‬علم اللغة‪ :‬د‪ .‬ممود السعران ص ‪.401 -388‬‬ ‫‪2‬‬

‫وكتاب‪ :‬دللة اللفاظ‪ .‬إبراهيم أنيس‪ ،‬ص ‪.155 -148‬‬


‫() د‪ .‬عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.97 -96‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 153 -‬‬


‫القادرة على موازاة ما طرأ من جديد في عالم المفاهيم أو عالم الشياء‪ .‬يقول عبد السلم المسدي في ذلك‪[" :‬المجاز]‬
‫هو محرك الطاقة التعبيرية في ازدواجها بين تصريحية وإيحائية‪ ،‬بين طاقة موضوعة جدولية‪ ،‬وطاقة سياقية جافة‬
‫فمكمن المجاز استعداد اللغة لنجاز تحولت دللية بين أجزائها‪ ،‬يتحرك الدال فينزاح عن مدلوله ليلبس مدلولً قائما‬
‫أو مستحدثا‪ ،‬وهكذا يصبح المجاز جسر العبور تمتطيه الدوال بين الحقول المفهومية"(‪ .)1‬بهذا التنظير العلمي تنكشف‬
‫طبيعة النظام اللغوي وتتضح حركيته التي تغدو بعد حين تلقائية مطردة‪.‬‬
‫لقد كان هذا الوعي المعرفي الذي بلورته البحاث اللغوية الحديثة‪ ،‬أس تعامل علمائنا القدامى مع جميع صنوف‬
‫البحث الذي يتخذ اللغة العربية مادة أو وسيلة للدراسة‪ , ،‬ول عجب أن يطالعنا ابن رشد بمصطلح "التأويل" شارحا‬
‫أبعاده بقوله‪" :‬ومعنى التأويل‪ ،‬هو إخراج دللة اللفظ من الدللة الحقيقية إلى الدللة المجازية‪ ،‬من غير أن يخل في‬
‫ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الشياء‬
‫التي عددت في تعريف أصناف الكلم المجازي"(‪.)2‬‬
‫ويزداد اهتمام العلماء بدقة البحث مع اهتمام بحسن التأويل كما شرحه ابن رشد‪ ،‬كلما تعلق المر بالقرآن الكريم‬
‫واستنباط أحكامه وذلك لكمال نظامه اللغوي وانطوائه على النواميس المصرفة للكلم‪ ،‬وفي هذا المجال يبرز جمهور‬
‫الصوليين وقد امتلكوا وعيا معرفيا لغويا يحدوهم لن يتعاملوا مع نصوص القرآن الكريم تعاملً حذرا‪ ،‬آخذين في‬
‫سبيل تأويل دللته كل الدوات المناسبة وفي مقدمتها اللغة وطاقاتها التعبيرية‪ .‬وسننها في النشاء والقول‪ ،‬وتصانيف‬
‫الكلم التي من ضمنها‪ :‬الحقيقة والمجاز وما يتعلق بهما من أقسام‪ ،‬ومعايير ضابطة لطبيعتها‪ .‬وعلقة كل منهما‬
‫بالخر وغير ذلك مما هو مبسوط الكلم حوله في مداخل كتب الصوليين وفي ثناياها ومنها كتاب "الحكام" للمدي‪،‬‬
‫إذ فصل فيه القول حول ماهية الحقيقة والمجاز‪ ،‬وأقسامها‪ ،‬والمعايير المميزة لكل قسم وقد جر ذلك المدي إلى‬
‫الحديث عن بداءة السماء الشرعية هل هي حقيقة أم مجاز؟‪ .‬وعلقة الجزء بالكل وهل تكون الدللة الشرعية‪ ،‬عندئذ‪،‬‬
‫شاملة؟ وغير ذلك مما سنبرزه في موضعه من هذا المبحث‪.‬‬

‫‪-1‬ماهية الحقيقة وأقسامها‪:‬‬


‫يؤسس المدي تعريفه للحقيقة باعتبار مفهومها اللغوي‪ ،‬ذلك أنه بين المفهوم اللغوي لها والمفهوم الصطلحي‬
‫علقة ظاهرة‪ ،‬إذ الحقيقة في المفهوم العام تعني الصورة الثابتة للشيء في أذهان الناس‪ ،‬يجمع كلهم أو السواد العظم‬
‫منهم على أنها الحقيقة وهي نقيض الباطل أو الزيف وقولنا عن اللفظ أنه حقيقة يعني دللته أصلية فيه‪ ،‬ثابتة بالوضع‬
‫اللغوي الول يوضح المدي هذه المسألة بقوله‪( :‬أما الحقيقة) فهي في اللغة مأخوذة من الحق‪ ،‬والحق هو الثابت‬
‫اللزم‪ ،‬وهو نقيض الباطل‪ ،‬ومنه يقال حق الشيء حقه‪ ،‬ويقال حقيقة الشيء أي ذاته الثابتة اللزمة ومنه قوله تعالى‪:‬‬
‫(ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين) أي وجبت‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‪( :‬حقيق علي أن ل أقول) أي واجب عليّ"(‪.)3‬‬
‫أما مفهوم "الحقيقة" الصطلحي فيؤسسه المدي على اعتبار الوضع أو القتران العرفي بين الدال والمدلول‪ ،‬ولذلك‬
‫فالحقيقة كمبحث في اللغة هي من عوارض اللفاظ التي تخضع دللتها لتواضع عام "أوّلي" يخرج من حيز القوة إلى‬
‫ل في اللغة‪،‬‬
‫حيز الفعل‪ .‬يشرح ذلك المدي بقوله‪" :‬والحق في ذلك أن يقال‪ :‬هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أو ً‬

‫() عبد السلم السدي‪ :‬النواميس اللغوية والظاهرة الصطلحية‪ ،‬ص ‪ ،23‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ ،31 -30‬سنة ‪.1984‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فصل القام فيما بي الكمة والشريعة من التصال‪ :‬ص ‪.20 -19‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.26‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫كالسد المستعمل في الحيوان الشجاع العريض العالي‪ ،‬والنسان في الحيوان الناطق"(‪ .)1‬وواضح أن المدي قد وقف‬
‫من تعريفات الصوليين واللغويين للحقيقة في عصره‪ ،‬موقف المتحفظ متخذا بناء على ذلك تقسيمات للحقيقة الوضعية‬
‫إلى ثلثة أنواع وهي موضّحة فيما يأتي‪:‬‬
‫الحقيقة الوضعية‬

‫الحقيقة العرفية الحقيقة الشرعية‬ ‫الحقيقة اللغوية‬


‫ويخضع كل قسم حسب رأي المدي إلى طبيعة الواضع‪ ،‬فإذا كان صاحب الوضع هو اللغوي كانت الحقيقة‬
‫لغوية وإذا تعارف الناس واصطلحوا حول اقتران دال بمدلول كانت الحقيقة عرفية أما إذا كان الواضع هو الشارع‬
‫فإن الحقيقة هي حقيقة شرعية‪ ،‬وقد يخضع كل قسم إلى تفريع داخلي من ذلك تخصيص الحقيقة العرفية العامة ويتم‬
‫بتحويل دللة اللفظ من العموم إلى الخصوص‪ ،‬مثل ذلك لفظ (الدابة) كان في وضعه الول يدل على كل ما يدب على‬
‫الرض فحصل تخصيص محل دللته بأن أضحى يدل على ذوات الربع عرفا‪ .‬يقول المدي معرفا ذلك‪" :‬أن يكون‬
‫السم قد وضع لمعنى عام ثم يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته‪ ،‬كاختصاص لفظ الدابة بذوات‬
‫الربع عرفا وإن كان في أصل اللغة لكل ما دب وذلك إما لسرعة دبيبه أو كثرة مشاهدته أو كثرة استعماله أو غير‬
‫ذلك"(‪ .)2‬وأطلق على هذا النوع من التغيّر الدللي "بتضيق المعنى" وذلك بتحويل اللفظ من الدللة الكلية إلى الدللة‬
‫الجزئية‪ ،‬أو من العموم إلى الخصوص‪ ،‬ثم هناك التحول في الدللة الناشئ عن ظاهرة الل مساس أو التلطف في‬
‫التعبير (‪ )Taboo‬فيحصل انزياح دللي للمعنى إذ يخضع إلى تعبير في مجاله مراعاة لمقتضى العرف الجتماعي‪.‬‬
‫يوضح المدي ذلك فيقول‪" :‬أن يكون السم في أصل اللغة بمعنى‪ ،‬ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن‬
‫الموضوع اللغوي‪ ،‬بحيث أنه ل يفهم من اللفظ عند إطلقه غيره‪ ،‬كاسم الغائط‪ ،‬فإنه وإن كان في أصل اللغة للموضع‬
‫المطمئن من الرض‪ ،‬غير أنه قد اشتهر في عرفهم بالخارج المستقذر من النسان‪ ،‬حتى أنه ل يفهم من ذلك اللفظ‬
‫عند اطلقه غيره‪ ،‬ويمكن أن يكون شهرة استعمال لفظ الغائط في الخارج المستقذر من النسان‪ ،‬لكثرة مباشرته وغلبة‬
‫التخاطب به مع الستنكاف من ذكر السم الخاص به‪ ،‬لنفرة الطباع عنه‪ ،‬فكنوا عنه بلزمه أو بمعنى آخر"(‪.)3‬‬
‫إن التغير الدللي الذي يمس اللفظ بنقل دللته من مجال دللي إلى آخر أو بتقييدها‪ ،‬هل ذلك يخص اللفظ أم‬
‫الدللة أم العلقة بينهما؟ إن ذلك التغير الذي تنقل معه الدللة أو تضيق أو توسع‪ ،‬يمس أساسا البنية الدللية وتبقى‬
‫البنية اللسانية الصوتية تحتفظ بنمطها الصوري مع حصول تعديل في ماهية الدليل‪ ،‬ذلك أن العلقة بين الدال‬
‫والمدلول تخضع لنمطية أخرى تناظر التحول الناشئ في ماهية المرجع‪ ،‬فينشأ متكلم اللغة على نمطية جديدة في‬
‫تصريف الخطاب اللغوي وفق معايير قد تكون خفية فيبدو النظام اللغوي أصيلً في عناصره‪ ،‬وإن كان قد اعتراه‬
‫تغيير في عوالمه الدللية مع بقاء معجم الدلة دون تغيير‪.‬‬
‫هذه الحركية المستمرة التي تتسم بها المنظومة اللغوية‪ ،‬تنم عن الطابع الوظيفي الجتماعي للغة حيث يبقى‬
‫المتحكم في آليات الستعمال للمعجم اللغوي هو العرف الجتماعي الذي هو خلصة لتراكمات نفسية وثقافية متشابكة‪،‬‬
‫وهذا ما يتضح من تأكيد المدي على الصلة الوثيقة بين النظام اللغوي والعرف الجتماعي وذلك في تحديد ماهية‬

‫() الصدر السابق‪ .،‬ج ‪ .،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 155 -‬‬


‫الدللة الحقيقية العرفية‪.‬‬
‫ويصل المدي إلى تعيين الدللة الشرعية بالعتماد على معيار التحول الدللي الناشئ عن نقل دللة اللفظ من‬
‫المجال اللغوي إلى المجال الشرعي‪ ،‬وتعني دللة السم التي وضعت أولً في الشرع وقد خصها الشارع بمحتوى‬
‫دللي أضحى يشكل صيغتها المعجمية إن سمعت أو قرأت تبادر إلى الذهن تلك الدللة الشرعية دون سواها يقول‬
‫المدي‪" :‬وأما الحقيقة الشرعية فهي استعمال السم الشرعي فيما كان موضوعا له أو ل في الشرع"(‪ .)1‬وإشارة‬
‫المدي إلى الدللة الشرعية يقود إلى الهتمام بالتطور الدللي الحاصل في بنية النظام اللغوي‪ ،‬إذ الحقيقة الشرعية ما‬
‫هي إل تكريس لعرف لغوي سائد أو خلصة لتراكمات لغوية دللية استقرت الصيغة اللغوية بعدها على دللة خاصة‪،‬‬
‫فل يمكن إذن أن نسلم بالوضع اللغوي الول للحقيقة الشرعية ولذلك يستطرد المدي ليقف على تحديد دقيق لماهية‬
‫الوضع الشرعي الول‪ ،‬خاصة وأنه استقر لدى كثير من أهل اللغة أن الدللة الشرعية ما هي إل امتداد محور لدللة‬
‫سابقة وليست دللة بالوضع الول‪ ،‬يفصل المدي الكلم في ذلك بقوله‪" :‬وسواء كان السم الشرعي ومسماه ل‬
‫يعرفهما أهل اللغة‪ ،‬أو هما معروفان لهم‪ ،‬غير أنهم لم يضعوا ذلك السم لذلك المعنى‪ ،‬أو عرفوا المعنى ولم يعرفوا‬
‫السم أو عرفوا السم ولم يعرفوا ذلك المعنى‪ ،‬كاسم الصلة…"(‪ )2‬هذه حالة أولى ذكرها المدي معللً نشأة الحقيقة‬
‫الشرعية‪ ،‬فقد يكون الدال ومدلوله مجهولين لدى أهل اللغة أصلً‪ ،‬أو يكون الدال مشهورا بمدلول فيأتي الشارع ليقيد‬
‫له مدلولً جديدا أو يكون المدلول معروفا بدون دال أو العكس‪ ،‬وبهذا الوصف تكون الدللة الحقيقية الشرعية دللة‬
‫أصلية بالوضع الول‪ ،‬فالقتران بين الدال ومدلوله كان باعتبار الواضع وهو الشارع…‬
‫أما الحالة الثانية التي يحدّدها الصوليون لنشأة الحقيقة الشرعية‪ ،‬فتبدو الدللة فيها محوّلة منقولة عن وضع‬
‫لغوي أول‪ ،‬وذلك على اعتبار أن يكون أهل اللغة قد عرفوا الحقيقة الشرعية بمعرفة اللفظ والمعنى إل أنهم عرفوا‬
‫اللفظ بمفرده دون معناه الشرعي‪ ،‬أو عرفوا المعنى الشرعي دون لفظه الصلي‪ ،‬وتعد الحقيقة الشرعية بهذا الوصف‬
‫من قسم المنقول الذي قال عنه العلماء الصول أنه المعنى اللغوي الذي نقل إلى المعنى الشرعي أو العرفي‪ .‬وبعد هذه‬
‫التفريعات التي أقام على أساسها المدي تقسيم "الحقيقة" يخلص إلى تعريف جامع مانع للدللة الحقيقية ويربطها بالفعل‬
‫الجرائي المتمثل في الستعمال لقصد التخاطب فيقول‪" :‬وإن شئت أن تجد الحقيقة على وجه يعم جميع هذه‬
‫العتبارات قلت‪" :‬الحقيقة هي اللفظة المستعملة فيما وضع له أولً في الصطلح الذي به التخاطب"‪ .‬فإنه جامع‬
‫مانع"(‪.)3‬‬

‫‪-2‬ماهية المجاز‬
‫يستهل المدي مبحثه حول المجاز بالتعريف اللغوي الذي يعنى النتقال من حال إلى حال‪ ،‬أي تجوز اللفظ‬
‫لدللته الصلية إلى دللة جديدة‪ ،‬فالدللة الولى هي الدللة الحقيقية والدللة الثانية هي الدللة المجازية‪ .‬فيقول‬
‫المدي‪" :‬وأما المجاز فمأخوذ في اللغة من الجواز‪ ،‬وهو النتقال من حال إلى حال ومنه يقال جاز فلن من جهة إلى‬
‫جهة كذا"(‪ .)4‬ولما كان المجاز تابعا للحقيقة وكانت الحقيقة تقسّم إلى لغوية وعرفية ووضعية وشرعية‪ ،‬كان المجاز في‬
‫التقسيم تابعا كذلك للحقيقة‪ ،‬ول تنفصم عرى التصال بين دللة اللفظ الحقيقية ودللته المجازية بل يبقى رباط خفي‬
‫() الصدر نفسه ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.28‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.28‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 156 -‬‬


‫دقيق يصل الدللتين ولذلك ل يتسنى لمتكلم أن يستعير لفظا هو جار مجرى المجاز‪ ،‬في الحقل الذي يريد اقتراضه‬
‫منه فمستعار المستعار متعذر ول سبب لتعذره إل كونه فاصما لذلك السلك المعقود الضامن لوصول الرسالة الدللية‬
‫من طرف باث إلى طرق متقبل(‪ ،)1‬فالتعلق كما يسميه المدي أساس الستعمال اللغوي السليم للمجاز وهو الجسر‬
‫الصلب الذي يتم عبره النقل الدللي‪ ،‬دونما لبس أو تعقيد‪ .‬يشرح المدي هذه المسألة فيقول‪" :‬وعند هذا نقول‪ :‬من‬
‫اعتقد كون المجاز وضعيا‪ ،‬قال في حد المجاز في اللغة الوضعية‪" :‬هو اللفظ المتواضع على استعماله من غير ما‬
‫ل في اللغة‪ ،‬لما بينهما من التعلق‪ ،‬ومن لم يعتقد كونه وضعيا‪ ،‬أبقى الحد بحاله وأبدل المتواضع عليه‬ ‫وضع له أو ً‬
‫بالمستعمل"(‪ .)2‬ثم يحدد المدي وضعين مختلفين للمجاز‪ ،‬أولهما أن اللفظ المجاز يتواضع على استعماله أهل اللغة‬
‫فيجرونه بينهم ويدخلونه في نظام تعاملهم اللغوي‪ ،‬وثاني الوضعين هو استعمال اللفظ في مجال دللي جديد بمعنى نقل‬
‫دللة اللفظ الصلية إلى دللة مجازية إما بالعرف العام أو بالعرف الخاص‪ .‬ويؤكد المدي على الوظيفة الدللية التي‬
‫يناط بها اللفظ المجاز وهي وظيفة التواصل والبلغ فيقول في تعريف المجاز‪" :‬هو اللفظ المتواضع على استعماله أو‬
‫المستعمل في غير ما وضع له أولً في الصطلح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق"(‪ .)3‬فالمجاز من وجهة نظر‬
‫المدي طريق من طرق التوليد في النظام اللغوي‪ ،‬فما دام اللفظ الحقيقة ل يمكنه التعبير عن كل أغراض المجتمع‬
‫احتيج إلى هذا التوليد المتمثل في الدللة المجازية‪ ،‬ثم إن نظام اللغة يتمدد عبر المكان (المقام) والزمان (الحال) ليوائم‬
‫كل التحولت والتغيرات التي تطرأ على بنية المجتمع فيعبر عن حاجاته اللغوية أو النفسية أو الجتماعية الثقافية‪،‬‬
‫وذلك بخلق أنظمة إبلغية جديدة ما تلبث أن تصبح محل تعارف واصطلح بين أفراد المجتمع اللغوي‪.‬‬
‫وقد تقادم الستعمال المجازي حتى ينسى أصل دللته الحقيقية ويعامل معاملة اللفظ الحقيقة‪ ،‬ولذلك قد يلتبس في‬
‫أمر دللة اللفظ أمجازية هي أم حقيقية؟ فينبري المدي أمام انتقاص مخالفيه للحد الذي عرف به المجاز‪ ،‬ويحاول أن‬
‫يعطي لتعريفه طابع الشمولية‪ ،‬إذ اعتبر بعض اللغويين ألفاظا مجازا عدها المدي حقيقة أو العكس من ذلك ما قال به‬
‫أهل اللغة في لفظ (الدابة) الذي حصل في دللته تضييق حيث خصص للدللة على ذوات الربع فعد مجازا مع أنه‬
‫مستعمل في ما وضع له أولً –كما قال المدي‪ -‬لدخول ذوات الربع في الدللة الصلية‪ ،‬فير ّد المدي على هذا‬
‫الزّعم بتمييزه بين الدللة المطلقة للفظ والدللة المقيدة فيقول‪" :‬فإن كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق دابة‪ ،‬فاستعماله في‬
‫ل له في غير ما وضع له أولً"(‪.)4‬‬‫الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعما ً‬

‫‪-3‬معايير الحقيقة والمجاز‬


‫يتخذ المدي‪ ،‬من مؤاخذات العلماء له‪ ،‬في حدّه المجاز لرساء معايير تمييزية بين الدللة الحقيقية للفظ والدللة‬
‫المجازية‪ ،‬فما ل يمكن نفيه من السم فهو حقيقة فيه أما ما يمكن نفيه فهو مجاز يقول المدي‪" :‬والحقيقة العرفية وإن‬
‫كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها فل تخرج عن كونها مجازا بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما‬
‫وضع له أولً‪ ،‬ول تناقض‪ ،‬وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز‪ ،‬فمهما ورد لفظ المعنى‪ ،‬وتردد بين القسمين‪ ،‬فقد‬
‫يعرف كونه مجازا بصحة نفيه في نفس المر ويعرف حقيقة بعدم ذلك"(‪ .)5‬وتلك إشارة إلى الصعوبة اللغوية التي‬

‫() د‪ .‬عبد السلم السدي… اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام ج ‪ .1‬ص ‪.28‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪.28‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.29‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.30‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 157 -‬‬


‫تكتنف عملية التخاطب على مستوى الصوت أو مستوى الكتابة‪ ،‬بحيث قد يتواضع أهل اللغة على الدللة الحقيقية للفظ‬
‫ل لدللة‬
‫ثم يستعمل هذا اللفظ للدللة على غير ما وضع له أولً‪ ،‬إما توسيعا في الدللة الصلية‪ ،‬أو تضييقا فيها‪ ،‬أو نق ً‬
‫مجازية لها صلة بالدللة الصلية‪ .‬ويمثل المدي لذلك بقوله‪" :‬ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن يسمى من الناس حمارا‬
‫لبلذته أنه ليس بحمار‪ .‬ول يصح أن يقال ليس بإنسان في نفس المر لما كان حقيقة فيه"(‪ .)1‬إن التعلق بين الدللة‬
‫الحقيقية والدللة المجازية للفظ‪ ،‬تحفظ دوما طبيعة الوضع (الستثنائي) الذي اتخذته اللغة‪ ،‬لن قيمة الدللة المجازية‬
‫في كل الحوال ليست في نفس مرتبة قيمة الدللة الحقيقية خاصة ما تعلق منها بنصوص مقدسة كنصوص القرآن‬
‫الكريم‪ .‬وإذا ما حدث أن أنبتت الصلة بين الدللة الحقيقية والدللة المجازية‪ ،‬كان وضع الدللة المجازية ابتداءً أي‬
‫وضعا مستحدثا يلحق بالمشترك اللفظي‪.‬‬
‫يقول المدي شارحا ذلك‪" :‬وبقولنا‪" :‬لما بينهما من التعلق" لنه لو لم يكن كذلك‪ .‬كان ذلك الستعمال ابتداء وضع‬
‫آخر‪ ،‬وكان اللفظ مشتركا ل مجازا"(‪ .)2‬إن سيرورة الحركة الجدلية في استعمال اللغة تجعل المجاز يعرف تحولت‬
‫على مستوى الحقل المفهومي وعلى مستوى البنية العامة فيتم تحويل اللفظ المجاز مع تعاقب الستعمال إلى لفظ ذي‬
‫دللة حقيقية‪ ،‬قابل لن يدخل هو الخر في مفاعلت اللغة بقصد إفراز وتوليد دللت مجازية‪ ،‬وقد اشتهر ابن جني‬
‫بقوله في شأن المجاز أن أكثر اللغة مجاز ل حقيقة‪ ،‬يقول عبد السلم المسدي‪" :‬فالمجاز يتفاعل مع الستعمال على‬
‫مر الزمن فيؤول إلى تواتر بحيث إذا اقترن المجاز مع عامل الزمن اضمحلت الصيغة المجازية منه وحلت محلها‬
‫الصيغة المصطلحية"(‪.)3‬‬
‫ل على معيار الثبات والنفي الذي اعتمد عليه المدي في تفسير الشكال الناشئ من صعوبة التمييز بين‬ ‫فض ً‬
‫الدللة الحقيقية والدللة المجازية‪ ،‬يضيف المدي معايير أخرى منها‪ ،‬معيار النتشار لدللة اللفظ الحقيقية‪ ،‬بحيث إذا‬
‫ما أطلق اللفظ تبادرت إلى الفهم دللته وأبعدت الدللة المجازية‪ ،‬يوضح المدي ذلك بقوله‪" :‬ومنها أن يكون المدلول‬
‫مما يتبادر إلى الفهم من إطلق اللفظ من غير قرينة مع عدم العلم بكونه مجازا‪ ،‬بخلف غيره من المولدات‪ ،‬فالمتبادر‬
‫إلى الفهم هو الحقيقة‪ ،‬وغيره هو المجاز(‪ .")4‬ويفهم من قول المدي أن اللفظ المجاز قد يأخذ حكم الحقيقة إذا شاع‬
‫استعماله‪ ،‬وجرى في اللسنة‪ ،‬لن النظام اللغوي نظام متجدد متغير ل تثبت فيه إل النواميس والمعايير الخفية أما‬
‫المادة اللغوية ودللتها فهي آيلة مع مرور الزمن للتغيير والتطور وهذه سمة في كل اللغات‪.‬‬
‫ويورد المدي معيارا آخر للتمييز بين دللة اللفظ الحقيقية ودللته المجازية‪ ،‬ويحصره في "عدم الطراد في‬
‫مدلول اللفظ" وانحصاره في دائرة ضيقة من الستعمال يقول في ذلك‪" :‬ومنها أن يكون اللفظ مطردا في مدلوله‪ ،‬مع‬
‫(‪)5‬‬
‫عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الطراد‪ ،‬وذلك كتسمية الطويل نخلة إذ هو غير مطرد في كل طويل" ‪.‬‬
‫والمدي ل يرى أن الطراد في دللة اللفظ هو بالضرورة مدلول حقيقي بل إن عدم الطراد هو الملمح على أن‬
‫مدلول اللفظ مجازي‪ ،‬ولقد انبرى المدي يفند بعض الشكالت التي أثارها بعض اللغويين مدعين أن حد المدي‬
‫لمعيار الطراد ليس شاملً لكل الصيغ التعبيرية في اللغة العربية‪ ،‬فقد وجد أن اسم (السخي) حقيقة في القرآن الكريم‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.30‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.29‬‬ ‫‪2‬‬

‫() النواميس الشعرية والظاهرة الصطلحية‪ ،‬ص ‪ ،23‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪.1984 /31 -30‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.30‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.31‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 158 -‬‬


‫وهذا المدلول موجود في حق ال تعالى ول يقال له سخي‪ ،‬كما أن القارورة سميت كذلك لستقرار المائعات فيها ومع‬
‫أن الجرة والكوز تستعمل لذلك ولكن ل تسمى قارورة‪ .‬ولكن المدي كان قد وضع ضوابط في كلمه عن "الطراد"‬
‫الذي هو ملمح الدللة الحقيقية للفظ وأشار إليها بقوله‪" :‬مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الطراد(‪.")1‬‬
‫أما المعيار الرابع الذي اعتمده المدي لتمييز الحقيقة من المجاز في دللة اللفظ هو معيار صوري يستند على‬
‫البنية الصرفية للفظ‪ ،‬فاللفظ المجاز جمعه مخالف لجمع اللفظ الحقيقية مع حصول تعارف بين أهل اللغة يفضي إلى‬
‫كون اللفظ حقيقة في غير المدلول المذكور‪ .‬يقول المدي‪" :‬ومنها أن يكون السم قد اتفق على كونه حقيقة في غير‬
‫المسمى المذكور‪ .‬يقول المدي‪" :‬ومنها أن يكون السم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور وجمعه‬
‫مخالف لجمع المسمى المذكور فنعلم أنه مجاز فيه"‪ .‬من ذلك لفظ (أمر فإن جمعه على جهة الحقيقة (أوامر) ومن جهة‬
‫الفعل (المجاز) (أمور)‪ ،‬لكن هذا القيد قد يكون سببا لشكالت تعبيرية خاصة وأن اللغة مفتوحة دوما على أنظمة‬
‫إبلغية جديدة‪ ،‬قد تأسست على ظاهر لغوية مختلفة كالنقل والحذف والتعويض والختصار وما إلى ذلك‪ ،‬فكان اعتماد‬
‫معيار (الجمع) عند المدي للتفريق بين الدللة الحقيقية للفظ ودللته المجازية‪ ،‬ل يرتقي إلى الداة العلمية الدقيقة التي‬
‫ل تتعطل معها حركية اللغة بتفاعلها مع المقام والحال‪ .‬أما المعيار الخامس فيؤسسه المدي على اعتبار وجود القرينة‬
‫المانعة من إيراد الدللة الحقيقية‪ ،‬فالصل في اللفظ الطلق وهو ملمح على دللته الحقيقية‪ .‬يشرح المدي هذا المر‬
‫بقوله‪" :‬ومنها أن يكون قد ألِف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظا بإزاء معنى أطلقوه إطلقا‪ ،‬وإذا استعمله بإزاء‬
‫غيره قرنوا به قرينة فيدل ذلك على كونه حقيقة فيما أطلقوه مجازا في الغير(‪.)2‬‬
‫ومن مظاهر الحيوية والحركية في النظام اللغوي‪ ،‬القدرة على الختزال في الطاقة التعبيرية دون إخلل بالوظيفة‬
‫البلغية‪ ،‬وينشأ ذلك من إقصاء بعض عناصر التعبير مع البقاء على أدائهم السنادي وهذا ما يدخل في (القتصاد‬
‫اللغوي) الذي يرمي إليه كل نظام لغوي‪ ،‬والمجاز يؤدي وظيفة أساسية في تكريس مبدأ الختزال اللغوي‪ ،‬إذ تُعرف‬
‫الدللة المجازية للفظ إذا أسندت إليه الصفة أو الحكم إسنادا‪ ،‬يفهم من خلله أنه لمتعلق آخر علقته بالصفة أو الحكم‬
‫علقة حقيقية من ذلك قولنا (الرحمة تغمر أهل الجنة) فللرحمة متعلق آخر هو ال تعالى‪ ،‬الرحمن‪ ،‬فكانت دللة‬
‫الرحمة ها هنا دللة مجازية يقول المدي موضحا هذه الفكرة‪ ،‬ومشيرا إلى معيار آخر لتمييز الدللة الحقيقية من‬
‫الدللة المجازية‪" :‬ومنها أنه كان اللفظ حقيقة في معنى ولذلك المعنى متعلق‪ ،‬فإطلقه بإزاء ما ليس له ذلك المتعلق‬
‫يدل على كونه مجازا فيه‪ ،‬كإطلق اسم القدرة على الصفة المؤثرة في اليجاد‪ .‬فإن لها مقدور"(‪.)3‬‬
‫وإذا عدنا إلى أصل الوضع الول لنقف على مبدأ تطور اللفظ مع دللته‪ ،‬أيمكن أن نسمي ذلك اللفظ حقيقة أو‬
‫مجازا؟ يرسي المدي في تفسير هذا الشكال اللغوي قاعدة عامة في مبحث الحقيقة والمجاز‪ ،‬وذلك بالوقوف على‬
‫ماهية اللفظ قبل الوضع حيث تنتفي عنه صفة الحقيقة وبالتالي صفة المجاز‪ ،‬ويعني ذلك أن اللفظ ل يزال (خاما) ولم‬
‫يدخل في تفاعل حركي مع النظام اللغوي المفتوح على حاجات أهل اللغة المتجددة‪ ،‬فأسماء العلم‪ ،‬وآلت أرباب‬
‫الحرف المخترعة‪ ،‬وأدوات أهل الصناعة والزراعة المستحدثة وغيرها‪ ،‬ل يمكن أن تكون ذات دللت حقيقية لنها‬
‫لم تَلِج بعد مجال الستعمال اللغوي‪.‬‬
‫يوضح المدي هذه المسألة بقوله‪" :‬فاللفاظ الموضوعة أولً في ابتداء الوضع في اللغة ل توصف بكونها حقيقة‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.33‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.33‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫ول مجازا‪ ،‬وإل كانت موضوعة قبل الوضع وهو خلف العرض وكذلك كل وضع ابتدائي حتى السماء المخترعة‬
‫لرباب الحرف والصناعات لدواتهم وآلتهم وإنما تصير حقيقة ومجازا باستعمالها بعد ذلك"(‪ .)1‬ويلحق بذلك أسماء‬
‫العلم‪ ،‬لن الحقيقة هي استعمال اللفظ في ما وضع له أولً‪ ،‬والمجاز في غير ما وضع له أولً‪ ،‬ويقتضي ذلك أن‬
‫اللفاظ قبل التواضع ليست حقيقة ول مجازا‪ ،‬يقول المدي في ذلك‪" :‬وتشترك الحقيقة والمجاز في امتناع اتصاف‬
‫أسماء العلم بها‪ :‬كزيد وعمرو"(‪ .)2‬إذن فأساس التصنيف الذي يقوم عليه بناء الحقل المفهومي للحقيقة من جهة‬
‫وللمجاز من جهة ثانية‪ ،‬هو الستعمال الذي هو نقطة تقاطع القدرة البلغية مع القدرة النشائية البداعية في اللغة‬
‫لتحصل معهما الوظيفة التوليدية‪ ،‬ومع تواتر الدللة (الوليدة) مع عرف الستعمال اللغوي تكتسب صفة الحقيقي التي‬
‫تكون مؤهلة هي الخرى للتوليد مع مراعاة شروط التواضع والصطلح‪ ،‬فل تكفي العلقة بين المعنى الحقيقي‬
‫والمعنى المجازي في إطلق السم على جهة المجاز‪ ،‬وإنما يؤكد المدي على ضرورة حصول تعارف أهل اللغة‬
‫على صحة نقل الدللة من مجال الحقيقة إلى مجال المجاز‪ ،‬وتكون حينئذ دللة المجاز عرفية‪ ،‬يقول المدي في‬
‫وجوب حدوث تواضع لنقل الدللة‪" :‬وهو أن تنص العرب نصا كليا على جواز إطلق السم الحقيقي على كل ما كان‬
‫بينه وبينه علقة منصوص عليها من قبلهم‪ ،‬كما بيناه‪ ،‬ول معنى للمجاز إل هذا‪ ،‬وهو غير خارج عن لغتهم"(‪.)3‬‬
‫ويعطي المدي لمبدأ التواضع اللغوي‪ ،‬صفة المعيار الذي يسمح عن طريقه انتقال اللفظ إلى المعجم العربي‪ ،‬ذلك أن‬
‫اللفظ قبل أن يتواضع عليه أهل اللغة العربية لم يكن عربيا وإنما أضحى كذلك بحصول التواضع فألصقت به دللت‬
‫عربية‪ .‬يوضح ذلك المدي فيقول‪" :‬وذلك لن كون اللفظ عربيا ليس لذاته وصورته بل لدللته على ما وضعه أهل‬
‫اللغة بإزائه‪ .‬وإل كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية وهو ممتنع"(‪ .)4‬فاللفظ إذن ل يكتسب عربيته بالنظر‬
‫إلى بنيته المعجمية فحسب وإنما كذلك بالنظر إلى دللته‪ ،‬وتلك إشارة من المدي إلى أن النظام اللغوي نظام قوامه‬
‫الدللة التي تصرف بحسب تواضع أهل اللغة‪ ،‬وهي إشارة لها قيمتها المعرفية خاصة إذا عرفنا أن الهتمام بشأن‬
‫الدللة في اللغة لم ينشأ إل حديثا‪ ،‬ذلك أن المشتغلين في الحقل اللساني أعطوا جل اهتمامهم للجانب الفونولوجي‬
‫والمورفولوجي للغة وكانت الدللة في أبحاثهم تمثل الجانب الهزيل‪ ،‬وقد يستبد ببعض اللغويين رأيهم وهم عاجزون‬
‫على تصريف أنماط الكلم العربي تصريفا ل يلغي بعضه البعض‪ ،‬فقد يذهبون إلى الدعوة إلى الستغناء عن المجاز‬
‫ويستصغرون قيمته لنه ل يفيد معنى إل مع وجود قرينة صارفة‪.‬‬
‫وهم ل يريدون أنهم بدعوتهم تلك يسعون إلى أن تكون اللغة العربية عقيما عاجزة عن البداع والتوليد الدللي‪،‬‬
‫يغضون الطرف عن الفوائد الكثيرة التي يحققها المجاز يوضح المدي تلك الفوائد فيقول‪:‬‬
‫"إن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقي‪ ،‬قد تكون لختصاصه بالخفة على اللّسان‪ ،‬أو لمساعدته في‬
‫وزن الكلم نظما ونثرا‪ ،‬والمطابقة‪ ،‬والمجانسة والسجع‪ ،‬وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقي للتحقير إلى غير ذلك‬
‫من المقاصد المطلوبة في الكلم"(‪ .)5‬ويمكن إيجاز تلك الفوائد التي نص عليها المدي في‪ :‬الفوائد الصوتية‪ ،‬والفوائد‬
‫الجمالية‪ ،‬والفوائد الدللية‪ .‬ومن تلك الفوائد التي تتحقق مع المجاز اللغوي هو اليجاز في الكلم فقد يعبر بالجزء‬
‫ويراد به الكل‪ ،‬أو العكس صحيح أيضا‪ ،‬ومدار الجمع بين الكل والجزء في الكلم مع إضمار أحدهما في التعبير‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ ،1‬ص ‪.33‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.53‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.36‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.46‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫أساسه المشاركة في المعنى‪ ،‬أما إذا انتفت المشاركة انتفت العلقة بين الدللة الحقيقية للفظ والدللة المجازية‪ ،‬وكان‬
‫كل وضع للفظ ابتداء‪ .‬يشرح ذلك المدي فيقول‪" :‬فإن جزء الشيء إذا شارك كله في معناه كان مشارك له في اسمه‪،‬‬
‫ولهذا يقال إن بعض اللحم لحم وبعض العظم عظم وبعض الماء ماء‪ ،‬لشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك‬
‫السم‪ ،‬وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى المسمى بذلك السم‪ ،‬ولهذا ل يقال‪ :‬بعض‬
‫العشرة عشرة وبعض المائة مائة وبعض الرغيف رغيف‪ ،‬وبعض الدار دار إلى غير ذلك"(‪ .)1‬وهذه المسألة ذات‬
‫أهمية كبيرة إذا نظرنا إليها من زاوية إجراء الحكم على جميع عناصر اللفظ الكلي‪ ،‬كما إذا أطلقنا على القرآن الكريم‬
‫صفة "العربي" كما سماه ال تعالى مع أنه تضمن ألفاظا غير عربية فسمى ذلك المدي "تخصيص السم ببعض‬
‫مسمياته في اللغة" وقال بأن إطلق السم العربي على القرآن الكريم مجازا ل حقيقة‪ ،‬وإن كان بعض اللغويين‬
‫والفقهاء قد خالفوا المدي في رأيه معتبرين أن القرآن الكريم قد أجرى الصيغ الدخيلة مجرى الصيغ العربية فكانت‬
‫بذلك عربية‪ ،‬وأزال أعجميتها‪.‬‬
‫وبنظرية عامة يفصح المدي عن المكانية المطلقة لثراء الرصيد اللغوي‪ ،‬ذلك أن اعتباطية العلقة بين الدال‬
‫والمدلول‪ ،‬تنسحب على ظاهرة المجاز‪ ،‬لن ذلك يعد اصطلحا داخل اصطلح كما أنه اعتباط داخل اعتباط وهو ما‬
‫ل عن دللته الحقيقية‪ ،‬يقول المدي في ذلك‪:‬‬ ‫يسمح عن طواعية‪ ،‬بالقتران العرفي بين اللفظ ودللته المجازية فض ً‬
‫"فإن دللت السماء على المعاني ليس لذواتها‪ ،‬ول السم واجب للمعنى‪ ،‬بدليل انتفاء السم قبل التسمية‪ ،‬وجواز إبدال‬
‫اسم البياض بالسواد في ابتداء الوضع‪ ،‬وكما في أسماء العلم‪ ،‬والسماء الموضوعة لرباب الحرف والصناعات‬
‫لدواتهم وآلتهم"(‪ .)2‬فالدال ل يستمد معناه وقيمته الدللية من بنيته الصوتية‪ ،‬وإنما العوالم الدللية مفتوحة على العوالم‬
‫اللسانية‪ ،‬مما يفسر إمكانية تحريك الطاقة التعبيرية في اللغة‪ ،‬لنشاء أنماط كلمية تكون مبنية على أساس القتران‬
‫التعسفي‪ ،‬وهو أمر جار في المجاز باعتباره امتدادا في الدللة لحقل الحقيقة‪ .‬يقول عبد السلم المسدي‪" :‬يمد المجاز‬
‫أمام ألفاظ اللغة جسورا وقتية تتحول عليها من دللة الوضع الول‪ ،‬إلى دللة الوضع الطارئ‪ ،‬ولكن الذهاب والياب‬
‫قد يبلغان حدا من التواتر يستقر به اللفظ في الحقل الجديد فيقطع عليه طريق الرجوع"(‪.)3‬‬
‫ويدخل اللفظ بعد ذلك في حقل الحقيقة وبواسطة تواتر الستعمال يتقادم ذلك الخيط الذي كان يصله بوضعه‬
‫الول ويمد هو جسرا ليعقد علقة تنتقل عبرها دللته إلى حقل المجاز‪ ،‬ليبرز من خلل هذا التشكل المستمر‪ ،‬الطابع‬
‫الوظائفي للغة في تزاوج نظامها التواصلي وطبيعة مكوناتها الدللية القائمة على مبدأ الستيعاب والتماثل لصنوف‬
‫النساق الكلمية التي يقتضيها الموقف الخطابي‪.‬‬
‫إن القتران التعسفي بين الدال والمدلول كما قررته البحاث اللسانية الحديثة –وأشار إليه المدي قبل ذلك‪،-‬‬
‫يعطي للنظام اللغوي طابع المرونة والتمدد قصد احتواء ما ج ّد من أنساق دللية‪ ،‬وفي الوقت ذاته يجعل من حصول‬
‫القتران العرفي الذي يشرف عليه أهل اللغة يمتد عبر زمن ليحصل التواتر اللزم‪ ،‬وفي ضوء هذه الفكرة يرد‬
‫المدي على الذين أنكروا حداثة السماء الشرعية وبذاءة دللتها‪ ،‬متعللين بعدم حصول الفهم من قبل المكلفين‪ ،‬ذلك‬
‫لن الشارع لم يطلعهم على حيثيات النقل الذي تم به تغيير في دللة السماء الشرعية‪ .‬يقول المدي‪" :‬قوله التفهيم‪،‬‬
‫إنما يكون بالنقل ل نسلم‪ ،‬وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن المتضافرة مرة بعد مرة‪ ،‬كما يفعل الوالدان‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.37‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.39‬‬ ‫‪2‬‬

‫() النواميس اللغوية والظاهرة الصطلحية‪ ،‬ص ‪ ،23‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ 30/31‬سنة ‪.1984‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫بالولد الصغير‪ ،‬والخرس في تعريفه لما في ضميره لغيره بالشارة"(‪ .)4‬وفي ذلك اهتمام من المدي بخصوص‬
‫ل من‬ ‫استحداث اللفاظ وتعليقها بدللة قديمة أو العكس‪ ،‬أو توليد صيغ جديدة بدللتها‪ ،‬فالقتران العرفي يتخذ أشكا ً‬
‫التواضع منها التكرار وهو ما اصطلح على تسميته بتواتر الستعمال‪ ،‬إذ يقذف اللفظ الجديد ليدخل في تفاعل مع‬
‫عناصر النظام اللغوي حتى يشيع استعماله وتثبت دللته في الذهان‪ .‬ثم هناك القرائن المتضافرة التي تأخذ تعليم اللفظ‬
‫الجديد وتوسيع دائرة استعماله عن طريق المشابهة والمجاورة والمشاكلة والتمثيل‪ ،‬وهي أساليب تُعتمد في تلقين‬
‫الطفال الصول الولى للكلم القائم على التدريج والتدريب‪ .‬والمر الذي يجدر بيانه في هذا المقام هو طبيعة القناة‬
‫البلغية التي يتخذها الخرس قصد تواصله مع المجتمع اللغوي‪ ،‬وقد اختصرت لغته في نظام علمي يقوم على‬
‫أساس الرمز والشارة‪ .‬ويكون المدي قد تجاوز في اهتماماته اللغوية المنحى الدللي الذي يخص العلمة اللسانية إلى‬
‫منحى أشمل يعنى بالعلمة في مفهومها الواسع‪ ،‬لسانية كانت أم غير لسانية وهو ما أضحى يعرف في الدراسات‬
‫اللغوية الحديثة" بالسيمياء (‪ ، )la semiologie‬وإذا أردنا أن نعطي لحديث المدي عن لغة الخرس أبعادا لسانية‬
‫للفيناها تصب في مبحث لساني حديث تناول ضمنه اللسنيون العاقات الكلمية التي تحول دون تشكيل المقول‬
‫الدللي في بنى كلمية‪ ،‬والتي ترجع بسبب ذلك إلى أمراض عصبية ذات تأثير لساني اصطلح على تسميتها‬
‫(بالعصب‪ -‬ألسني) (‪ ،)Neurolinguistique‬والخلل يكمن في الداء الكلمي مع وجود الكفاية اللغوية وهي المعرفة‬
‫الضمنية بقواعد ونظام اللغة‪ ،‬وهو ما يجعل الخرس أو الذي يعاني أمراضا في النطق يهتدي إلى أنساق دللية يبلغها‬
‫عن طريق الكتابة أو الشارة‪ ،‬قد ل يهتدي إليها من أوتي نطقا صحيحا وقادرا على الداء الكلمي السليم‪.‬‬
‫وجملة القول أن مبحث الحقيقة والمجاز عند المدي‪ ،‬يمثل جانبا خصبا في جهوده الدللية‪ ،‬وقد أبان من خلله‬
‫عن منهج مكتمل في بلورة مفاهيمه النظرية في تشكل أنماط إجرائية تبرز المنظومة اللغوية من خلله ذات طاقة‬
‫تعبيرية ل متناهية قادرة على التوليد لتشاكل النساق الدللية المستحدثة‪ .‬وبوضعه للمعايير المميزة للحقل المفهومي‬
‫لكل من الحقيقة والمجاز يكون المدي من اللغويين النوادر الذين حاولوا أن يؤطروا التحولت الحاصلة في صلب‬
‫النظام اللغوي حتى يبقى مظهرا على سلمة البنى النسقية التي تتمثل في سعة الكفاية الضمنية في اللغة وطاقاتها‬
‫الستيعابية لمجمل الحاجات اللغوية‪ ،‬وبقدر ما يؤدي المجاز من وظائف هامة في المنظومة اللغوية‪ ،‬له من الفوائد‬
‫كذلك ما يجعله يقترن باستحداث سمات نوعية على مستوى الكلم‪ ،‬لخصها المدي في الوظيفة الجمالية الفنية التي‬
‫عندها يصبح المجاز أداة بيد النسان في خلق البنية الفنية انطلقا من بنية لغوية مشاعة بين أهل اللغة‪ ،‬ثم هناك‬
‫الوظيفة الصوتية المتمثلة في النزوع نحو خفة النطق مع البحث عن القتصاد في الكلم‪ ،‬أما الوظيفة الدللية فهي‬
‫أساس ما يضطلع به المجاز وهو صنو الوظيفة البلغية التواصلية مع زيادة في السمة النوعية على مستوى الخطاب‬
‫اللغوي‪.‬‬
‫إن أهمية ما تقدم به المدي في هذا المبحث‪ ،‬يكمن في إرساء قواعد علمية تخص مبدأ التولد الدللي‪ ،‬ويمكن‬
‫استثمار ذلك في وضع المصطلحات العلمية‪ ،‬وفي تلقين ما استحدث في نظام اللغة من عناصر وعلمات لسانية لهل‬
‫اللغة‪ ،‬توسيعا لنطاق التخاطب وإذاعة للمفاهيم الجديدة‪.‬‬

‫خاتمة البحث‪:‬‬
‫ليس من المبالغة في شيء‪ ،‬إذا جزمنا أن المدي في كتابه "الحكام" قد أرسى نظرية علمية بينة المعالم‪ ،‬واضحة‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.36‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 162 -‬‬


‫المقاصد‪ ،‬تتناول اللغة في شموليتها وأبعاد دللتها‪ .‬وقد ساهمت آراؤه في بلورة مفاهيم دللية لم نطلع عليها إل في‬
‫المدارس اللسانية الغربية‪ ،‬مع أنها وردت بارزة في مضان تراثنا المعرفي‪ ،‬تحمل طابع الشمولية في التنظير للسان‬
‫البشري‪ ،‬ويكفي أن نقارب حديث المدي في مبدأ اعتباطية الدليل اللساني وما انتهى إليه علماء اللسنية المحدثون‬
‫وفي مقدمتهم العالم دوسوسير‪ ،‬وما استقر لدى نوام تشومسكي في بحثه الدؤوب حول القواعد التوليدية والتحويلية‬
‫ليخلص إلى وجود ما سماه "بالكفاية اللغوية"‪ ،‬ويتمظهر في البنية اللغوية العميقة للجملة أو التركيب‪ ،‬وما تقدم به‬
‫المدي في تفسيره للية الكريمة‪" :‬وعلم آدم السماء كلها"‪ .‬ليستخلص أن "التعليم" الوارد في الية له بعد "القدار على‬
‫اللغات" بحيث ركبت في النسان القدرة على توليد الصيغ التعبيرية والتواضع عليها بين أهل اللغة‪ .‬وما هو قمين‬
‫بالشارة إليه هو نص المدي في مقومات الخطاب البلغي على وجوب توافر عنصر "القصد" في البلغ والتواصل‬
‫لدى الباث‪ ،‬وعنصر الستعداد والتهيؤ لدى المتلقي‪ ،‬وهما عنصران كانا مدار علم اللسنية الحديث في تناوله لوظائف‬
‫الخطاب اللغوي‪ ،‬كما أقام المدي تفريعات لعناصر الكلم الصغرى‪ ،‬وأفاض البحث فيها‪ ،‬وقدم الدللة في أنساق‬
‫مختلفة تتأسس بالنظر إلى طبيعة الخطاب وعناصره المشكلة له‪ ،‬وبالنظر كذلك لقصد المتكلم‪ ،‬وهي أنساق دللية‬
‫شاملة لمختلف أنماط الكلم‪ ،‬لم يضف إليها البحث الدللي الحديث إضافات ذات قيمة‪ ،‬عدا عمق التحليل الذي أرفق‬
‫به تلك النساق في سياق تناول مسائل الرجاع والتعيين والتضمين‪ ،‬في تحديده لدللة المطابقة ودللة التضمن ودللة‬
‫اللتزام‪ ،‬والنسب الموجودة بينها‪.‬‬
‫وما يثير الباحث في كتاب الحكام للمدي‪ ،‬هو إحساسه بعمق المنتهى المعرفي الذي سعى إلى تحقيقه هذا العالم‬
‫الًصولي‪ ،‬فقد ينقل آراء مخالفيه حول مسألة من المسائل الصولية أو اللغوية‪ ،‬ليس ليفندها‪ ،‬ويظهر جوانب النقص‬
‫فيها‪ ،‬وإنما ليعمق البحث في تلك المسألة أو يزيد التعريف الذي حد به مصطلحا أصوليا أو لغويا أو منطقيا‪ ،‬شمولً‬
‫أكثر وإحاطة أعم‪.‬‬
‫إذن فمجمل المباحث التي أثارها الدرس الدللي الحديث لها وجود في كتاب المدي بدءا بالعلمة اللسانية وغير‬
‫اللسانية‪ ،‬وما تعلق بها من مباحث كطبيعة العلقة الدللية وبين وجهي العلمة‪ ،‬وأنماط تلك العلمة وأصنافها‪ ،‬وكذلك‬
‫بالنسبة لقسام الدللة وأنواعها‪ ،‬كما نجد المدي يضع نموذجا لبناء الحقول الدللية‪ ،‬قائما على نسب مختلفة كالشتراك‬
‫اللفظي‪ ،‬والعموم والخصوص والتنافر والتباين‪ ،‬والترادف والتواطؤ وغير ذلك‪ ،‬مما يسمح بوضع رؤية علمية لغوية‬
‫تفضي إلى تعميق البحث في ما تقدم به المدي في مجال الحقول الدللية‪ ،‬وبالقيمة ذاتها تؤخذ آراء المدي في إرسائه‬
‫لقواعد تخص الدللة الحقيقية والدللة المجازية‪ ،‬وبيانه بصفة دقيقة المعايير الموضوعية التي تعتمد في التمييز بين‬
‫الدللتين في سياق الخطاب اللغوي ذي النسيج المتشعب من العناصر والصور‪ .‬ونرى مبحث المجاز يغدو عند المدي‬
‫ل خصبا في تنمية قدرات اللغة الكامنة‪ ،‬في التعبير وتشكيل صور مختلفة من الصيغ الكلمية‪ ،‬لها فوائدها البينة على‬ ‫مجا ً‬
‫مستوى التخاطب والتواصل بل وحتى على المستوى الجمالي الفني وعلى المستوى الفونولوجي كما يؤكد ذلك المدي‪.‬‬
‫إن كتابا واحدا يشع بهذه المعارف اللسانية والدللية وهو كتاب "الحكام" للمدي‪ ،‬ينم على غزارة التفكير‬
‫المعرفي لدى هذا العالم‪ ،‬فما بالنا بجميع كتبه التي طبعت والتي لم تطبع بعد‪ ،‬بل إن دراسة واحدة ل تكفي حتى كتاب‬
‫"الحكام" من أجل بلورة كل أفكاره ومسائله‪ ،‬وقراءتها قراءة عصرية جديدة تأخذ في اعتبارها المنطلقات الفكرية‬
‫للهتمام اللساني والدللي الحديث‪ .‬فل يزال الكتاب المذكور يحتفظ بثراء معرفي ذي قيمة كبيرة يغتني به الدارسون‬
‫والباحثون الذين يسعون إلى إحداث وثبة فكرية راقية‪ ،‬تحرك فاعلية الصول التراثية لتدخل في جدل معرفي مع‬
‫المتطلبات اللغوية والعلمية والفكرية للنسان المعاصر‪ ،‬لتربط الماضي بالحاضر في توأمة منهجية دقيقة‪.‬‬

‫‪- 163 -‬‬


- 164 -
‫‪-1‬المصادر والمراجع العربية‬

‫‪-1‬المدي (سيف الدين محمد بن علي)‪:‬‬


‫‪-‬الحكام في أصول الحكام‪ ،‬تحقيق عبد الرازق عفيفي‪ ،‬المكتب السلمي بيروت‬
‫ط ‪.1981 1‬‬
‫‪-‬الحكام في أصول الحكام‪ ،‬تحقيق د‪ .‬سيد الجميلي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت ط ‪.1986 2‬‬
‫‪-‬الحكام في أصول الحكام‪ ،‬كتب هوامشه الشيخ إبراهيم العجوز‪ ،‬دار العلمية بيروت ط ‪.1985 1‬‬
‫‪-2‬د‪ .‬إبراهيم أنيس‪:‬‬
‫‪-‬دللة اللفاظ‪ ،‬مكتبة أنجلو المصرية‪ -‬ط ‪.1972 2‬‬
‫‪-3‬ابن أبي أصيبعة (موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم)‪:‬‬
‫‪-‬عيون النباء في طبقات الطباء‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت ط ‪.1981 3‬‬
‫‪-4‬ابن جني (أبو الفتح عثمان)‪:‬‬
‫‪-‬الخصائص‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬دار الكتاب العربي بيروت ط ‪.1955‬‬
‫‪-5‬ابن خلدون (عبد الرحمان)‪:‬‬
‫‪-‬المقدمة‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬أبريل ‪.1984‬‬
‫‪-6‬ابن خلكان (أبو العباس أحمد بن محمد)‪:‬‬
‫‪-‬وفيات العيان وأبناء أبناء الزمان‪ ،‬تحقيق إحسان عباس دار الثقافة‪ ،‬بيروت ‪.1970‬‬
‫‪-7‬أحمد حساني‪:‬‬
‫‪-‬المكون الدللي للفعل في اللسان العربي ‪.‬‬
‫‪-8‬د‪ .‬أحمد خليل –دراسات في القرآن‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية ط ‪.1993 1‬‬
‫‪-9‬د‪ .‬أحمد مختار عمر‪:‬‬
‫‪-‬علم الدللة‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت ط ‪.1988 2‬‬
‫‪-10‬ابن رشد (أبو الوليد محمد بن أحمد)‪:‬‬
‫‪-‬فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من التصال‪ ،‬دار الفاق الجديدة‪ ،‬بيورت ط ‪.1979 2‬‬

‫‪- 165 -‬‬


‫‪-11‬ابن سينا (أبو علي الحسن بن عبد ال)‪:‬‬
‫‪-‬الشارات والتنبيهات‪ ،‬شرح نصر الدين الطوسي‪ ،‬تحقيق د‪ .‬سليمان دينا‪ .‬دار المعارف‪ ،‬مصر ط ‪.1960 2‬‬
‫‪-‬منطق المشرقيين‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1982 1‬‬
‫‪-‬العبارة (الشفاء)‪ ،‬تحقيق محمود الحضري‪ ،‬الهيئة المصرية العامة القاهرة ‪.1970‬‬
‫‪-12‬ابن القيم الجوزية (محمد بن أبي بكر الزرعي)‪:‬‬
‫‪-‬مفتاح دار السعادة ومنشور ولية العلم والرادة‪ ،‬دار نجد للنشر والتوزيع الرياض ط ‪.1982‬‬
‫‪-13‬ابن كثير (الحافظ عماد الدين)‪:‬‬
‫‪-‬تفسير ابن كثير‪ ،‬دار الندلس‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1984 ،6‬‬
‫‪-14‬ابن منظور (أبو الفضل جمال الدين)‪:‬‬
‫‪-‬لسان العرب‪ ،‬علق عليه علي شيري‪ ،‬دار إحياء التراث العربي ط ‪.1988 ،1‬‬
‫‪-15‬أبو هلل العسكري‪:‬‬
‫‪-‬الفروق في اللغة‪ ،‬منشورات دار الفاق بيروت‪.1970 ،‬‬
‫‪-16‬أنيس فريحة‪:‬‬
‫‪-‬نظريات في اللغة‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬ط ‪.1981 2‬‬
‫‪-17‬بيار جيرو‪:‬‬
‫‪-‬علم الشارة‪ ،‬السميولوجيا‪ ،‬ترجمة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،‬دار طلس‪ ،‬دمشق ط ‪.1988 1‬‬
‫‪-‬علم الدللة‪ ،‬ترجمة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،‬دار طلس‪ ،‬دمشق ط ‪.1988 1‬‬
‫‪-18‬تمام حسان‪:‬‬
‫‪-‬الصول‪ ،‬دراسة أبستمولوجية للفكر اللغوي عند العرب‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪.1982 ،‬‬
‫‪-19‬الجاحظ (عمرو بن بحر)‪:‬‬
‫‪-‬البيان والتبيين‪ ،‬دار مكتبة الهلل‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1988 1‬‬
‫‪-‬الحيوان‪ ،‬تحقيق محمد عبد السلم هارون‪ ،‬القاهرة ‪.1969‬‬
‫‪-20‬الجرجاني (الشريف علي محمد)‪:‬‬
‫‪-‬كتاب التعريفات‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بيروت ‪.1985‬‬
‫‪-21‬الجرجاني (عبد القاهر)‪:‬‬
‫‪-‬دلئل العجاز‪ ،‬مرقم للنشر ‪.1991‬‬
‫‪-22‬حازم القرطاجني‪:‬‬
‫‪-‬منهاج البقاء وسراج الدباء‪ ،‬دار الكتب المصرية‪.1966 ،‬‬
‫‪-23‬ريمون طحان‪:‬‬

‫‪- 166 -‬‬


‫‪-‬اللسنية العربية‪ ،‬ج ‪ ،1‬ج ‪ ،2‬دار الكتاب اللبناني ط ‪.1981 ،2‬‬
‫‪-24‬ريمون طحان‪ ،‬دنيز بيطار طحان‪:‬‬
‫‪-‬فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬ط ‪.1983 ،1‬‬
‫‪-25‬الزبيدي (محمد مرتضى)‪:‬‬
‫‪-‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1968 ،3‬‬
‫‪ -26‬زبير دراقي – محاضرات في اللسانيات العامة والتاريخية‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر ‪.1990‬‬
‫‪-27‬الزمخشري (أبو القاسم محمود بن عمر)‪:‬‬
‫‪-‬الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون القاويل في وجوه التأويل تحقيق وتعليق محمد مرسي عامر‪ ،‬دار المصحف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪.1977 3‬‬
‫‪-28‬سالم شاكر‪:‬‬
‫‪-‬مدخل إلى علم الدللة‪ ،‬ترجمة محمد يحياتن‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر سنة ‪.1992‬‬
‫‪-29‬سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر)‪:‬‬
‫‪-‬الكتاب‪ ،‬تحقيق وشرح عبد السلم هارون‪ ،‬مطبعة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪.1988 3‬‬
‫‪-30‬ستيفن أولمن‪:‬‬
‫‪-‬دور الكلمة في اللغة‪ ،‬ترجمة د‪ .‬كمال محمد بشر‪ ،‬مكتبة الشباب ‪.1988‬‬
‫‪-31‬السيوطي (جلل الدين)‪:‬‬
‫‪-‬المزهر في علوم اللغة وأنواعها‪ ،‬شرح محمد أحمد جاد المولى وغيره ط ‪ ،4‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬مصر ‪.1958‬‬
‫‪-32‬الشافعي (محمد بن إدريس)‪:‬‬
‫‪-‬أحكام القرآن‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ط‪.1980 ،‬‬
‫‪-‬الرسالة‪ ،‬تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر‪ ،‬دار النشر أنجاد‪ ،‬بدون تاريخ الطبعة‪.‬‬
‫‪-33‬صالح عيد‪:‬‬
‫‪-‬التراكيب النحوية وسياقاتها المختلفة عند عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط ‪.1994‬‬
‫‪-34‬عادل الفاخوري‪:‬‬
‫‪-‬علم الدللة عند العرب‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1985 ،1‬‬
‫‪-35‬عبد الرحمان حسن حبنكة الميداني‪:‬‬
‫‪-‬ضوابط المعرفة وأصول الستدلل والمناظرة‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق ط ‪.1988 3‬‬
‫‪-36‬د‪ .‬عبد السلم المسدي‪:‬‬
‫‪-‬اللسانيات وأسسها المعرفية‪ ،‬المطبعة العربية‪ ،‬تونس ط‪.1986 ،‬‬
‫‪-37‬عبد القادر عودة‪:‬‬
‫‪-‬التشريع الجنائي السلمي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ .4‬سنة ‪.1985‬‬

‫‪- 167 -‬‬


‫‪-38‬د‪ .‬عبد القادر الفاسي الفهري‪:‬‬
‫‪-‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1986 .1‬‬
‫‪-39‬د‪ .‬عبد القادر فيدوح‪:‬‬
‫‪-‬دلئلية النص الدبي‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬وهران‪ ،‬ط ‪.1993 1‬‬
‫‪-40‬د‪ .‬عز الدين إسماعيل‪:‬‬
‫‪-‬السس الجمالية في النقد العربي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت ط ‪.1955‬‬
‫‪-41‬د‪ .‬عمر فروخ‪:‬‬
‫‪-‬بحوث ومقارنات في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة في السلم‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1986 2‬‬
‫‪-42‬الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد)‪:‬‬
‫‪-‬المستصفى من علم الصول‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1943 1‬‬
‫‪-‬معيار العلم في فن المنطق تحقيق د‪ .‬سليمان دنيا‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر ‪.1969‬‬
‫‪-43‬الفارابي‪:‬‬
‫‪-‬العبارة (كتاب في المنطق) تحقيق محمد سليم‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب العرب سنة ‪.1976‬‬
‫‪-‬كتاب الحروف‪ ،‬تحقيق وتعليق وتقديم محسن مهدي‪ ،‬دار المشرق بيروت سنة ‪.1970‬‬
‫‪-‬إحصاء العلوم‪ ،‬تحقيق وتعليق وتقدم د‪ .‬عثمان أمين‪ ،‬دار الفكر العربي القاهرة ط ‪ 2‬سنة ‪1949‬‬

‫‪-44‬د‪ .‬فايز الداية‪:‬‬


‫‪-‬علم الدللة العربي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط ‪.1985 ،1‬‬
‫‪-45‬الفيروز آبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب)‪:‬‬
‫‪-‬القاموس المحيط‪ ،‬دار العلم للجميع‪ ،‬بيروت‪ ،‬بدون تاريخ الطبعة‪.‬‬
‫‪-46‬القرطبي (أبو عبد ال محمد بن أحمد)‪:‬‬
‫‪-‬الجامع لحكام القرآن دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.1985 ،‬‬
‫‪-47‬د‪ .‬محمد زكي العشماوي‪:‬‬
‫‪-‬قضايا النقد الدبي بين القديم والحديث‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت ‪.1984‬‬
‫‪-48‬محمد الصغير بناني‪:‬‬
‫‪-‬النظريات اللسانية والبلغية والدبية عند الجاحظ‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر ‪.1983‬‬
‫‪-49‬د‪ .‬علي سامي النشار‪:‬‬
‫‪-‬مناهج البحث عند مفكري السلمي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪.1984 ،‬‬
‫‪-50‬د‪ .‬محمود السعران‪:‬‬
‫‪-‬علم اللغة‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر ‪.1962‬‬

‫‪- 168 -‬‬


‫‪-51‬د‪ .‬محمود فهمي زيدان‪:‬‬
‫‪-‬في فلسفة اللغة‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪.1985 ،‬‬
‫‪-52‬د‪ .‬محيي الدين صبحي – نظرية النقد وتطورها إلى عصرنا‪ -‬دار ط‬
‫‪-53‬د‪ .‬مصطفى بدوي‪:‬‬
‫‪-‬كولردج‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪.1957 ،‬‬
‫‪-54‬د‪ .‬مصطفى عبد الرازق‪:‬‬
‫‪-‬تمهيد لتاريخ الفلسفة السلمية‪ ،‬القاهرة‪.1944 ،‬‬
‫‪-55‬معروف الدواليبي‪:‬‬
‫‪-‬المدخل إلى علم أصول الفقه‪ ،‬مطبعة جامعة دمشق‪ ،‬ط ‪.1959 3‬‬
‫‪-56‬د‪ .‬ميشال زكريا‪:‬‬
‫‪-‬اللسنية‪ ،‬علم اللغة الحديث‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت ط ‪.1983 ،2‬‬
‫‪-57‬د‪ .‬ميشال عاصي‪:‬‬
‫‪-‬مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ‪ ،‬مؤسسة نوفل‪ ،‬بيروت ط ‪.1981 2‬‬
‫‪-58‬د‪ .‬ميشال فوكو‪:‬‬
‫‪-‬نظام الخطاب‪ ،‬ترجمة د‪ .‬محمد سبيل‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1984 1‬‬

‫‪-‬الدوريات‪:‬‬
‫‪-‬مجلة تجليات الحداثة‪ ،‬معهد اللغة العربية وآدابها‪ ،‬جامعة وهران عدد ‪ ،2‬سنة ‪.1993‬‬
‫‪-‬مجلة الفكر العربي المعاصر‪ ،‬عدد ‪ 18/19‬سنة ‪ ،1982‬وعدد ‪ 31 -30‬سنة ‪ ،1984‬بيروت –لبنان‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


:‫المراجع الجنبية‬
1-CHISS (J-L) FILLIOLET, D. Maingeneau:
-Initiation à la problematique structurale, tome 1 librairie Hachette, Paris 1977.
2-DERRIDE (Jacques);
De la grammatologie, les éditions de minuit, paris 1967.
3-Fuchs –Le GOFFIC (P)
-initiation aux problémes des linguistiques contemporaines, librairie Hachette, Paris 1975.
4-Hj ELMESLEV (L):
-Le langlage, traduit du danois par Michel Oslen préface de Algirdas Julien GREIMAS les editions de
minuit 1966.
5-JADOBSON (R):
-Essais de linguistique générale. Éditions de minuit, Paris 1973.
6-Leech (G):
-SEMANTICS, penguin BOOks 1974.
7-Lerlat (p):
-Semantique descriptive, Hachette, paris 1983.
8-Leroy (M):
-Les grands courants de la linguistique moderne, université de Bruxelles. 1971.
9-Lyons (John):
-Eléments de semantique, Larousse. Paris. 1978.
10-Malgueneau (D):
-Initiation aux méthodes de l’analyse du discours, Hachette université, Paris. 1976.
11-Martinet (A):
-Eléments de linguistique générale. ARM and colin, paris 1980.
12-Morsly (D), Chevaldonne (F), BUFFAC (M), Mollet (J):
-introduction à la semiologie (Texte-Image). O. P. U. Alger 1980.
13-Robins (R-H):
-Bréve histoire de la linguistique de Platon à Chomsky, traduit de l’anglais par Maurise Borel editions du
seuil, Paris, 1976.
14-Sapir (E):
-Le langage, traduit par Guillemin (S.M) Payot, Paris 1967.
15-Saussure (F. De):
-Cours de linguistique generale Payot. Paris 1986.
16-Shomsky (N):
-Structure syntaxique. Traduit par Michel Braudeau, éditions du seuil 1969.
17-Ullman (S):
-Meaning and style. Oxford. London 1973.

- 170 -

- 171 -
‫الفهرس‬

‫الهــــداء‪3................................................................:‬‬
‫الباب الول ‪:‬‬

‫مدخل نظري لعلم الدللة‪5 ..............................................‬‬


‫مــدخل عام‪7..................................................................‬‬
‫الفصل الول‪:‬‬
‫علم الدللة‪ :‬النشأة والماهية‪10..................................................‬‬
‫‪10 .....................................................................................................................................:‬‬
‫‪11 ..........................................................................................‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪-1‬نشأة علم الدللة‪ :‬المسار التطوري التاريخي‪11...............................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬بين علم الدللة وعلم اللسانيات‪14................................................................................................................................:‬‬
‫‪16 .........................................‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪-I‬مصطلح "الدللة" في القرآن الكريم ومعجمات اللغة‪16......................................................................................................:‬‬
‫‪-1‬لفظ "الدللة" في القرآن الكريم‪17...........................................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬لفظ "دل" في معاجم اللغة‪18..................................................................................................................................:‬‬
‫‪-3‬ماهية الدللة بين القديم والحديث‪19.........................................................................................................................:‬‬
‫‪:‬‬
‫(‪19 ..................................................................................:‬‬ ‫)‬
‫‪-I‬مفاهيم الدللة عند الفرابي )ت ‪339‬هـ)‪20......................................................................................................................:‬‬
‫أ‪-‬أقسام اللفاظ باعتبار دللتها‪20................................................................................................................................:‬‬
‫ب‪-‬ما يقوم به مقام اللفظ المفرد من الدوات الدالة‪21........................................................................................................:‬‬
‫ج‪-‬الدللة محتواه في النفس‪21...................................................................................................................................:‬‬
‫‪-II‬مفاهيم الدللة عند الغزالي )ت‪22......................................................................................................................:)505 :‬‬
‫‪-III‬مفاهيم الدللة عند ابن خلدون )ت‪808:‬هـ)‪24...............................................................................................................:‬‬
‫‪-IV‬ماهية الدللة عند الشريف الجرجاني )ت‪816:‬هـ)‪26......................................................................................................:‬‬
‫‪:‬‬ ‫‪:‬‬
‫(‪28 ........................................:‬‬ ‫)‬ ‫(‬ ‫)‬
‫أ‪-‬ماهية الدللة بين الوصفية والمعيارية‪29........................................................................................................................:‬‬
‫الرسم قبل التعديل‪32............................................................................................................................................)):‬‬
‫الرسم بعد التعديل‪33............................................................................................................................................)):‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫مباحث علم الدللة الحديث ‪36...................................................‬‬
‫‪36 ........................................................................................................................... :‬‬
‫‪36 ................................................................................................‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪40 ..................................................................:‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪44 ......................................................................‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪48 ...................................................................‬‬ ‫‪:‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫‪-1‬العامل الجتماعي الثقافي‪49......................................................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬العامل النفسي‪49....................................................................................................................................................:‬‬
‫‪-3‬العامل اللغوي‪49....................................................................................................................................................:‬‬
‫‪50 ...............................................................:‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪52 ...............................................................:‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪54 ...............................................................................................................................:‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫النظريات الدللية الحديثة ‪56.....................................................‬‬
‫‪56 .....................................................................................................................................:‬‬
‫‪57 ................................................................................................ :‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪58 .................................................................................................:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫‪59 .................................................................................................:‬‬ ‫‪-3‬‬
‫‪61 ............................................................................................. :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪ 1‬ـ السياق اللغوي‪62..................................................................................................................................................:‬‬
‫‪ 2‬ـ السياق العاطفي النفعالي‪62......................................................................................................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ سياق الموقف أو المقام‪62....................................................................................................................................... :‬‬
‫‪ 4‬ـ السياق الثقافي‪62................................................................................................................................................. :‬‬
‫‪63 .......................................................................................... :‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪ 1‬ـ علقة الترادف‪64................................................................................................................................................ :‬‬
‫‪ 2‬ـ علقة الشتمال‪64................................................................................................................................................ :‬‬
‫‪ 3‬ـ علقة الجزء بالكل‪64.............................................................................................................................................:‬‬
‫‪ 4‬ـ التضاد‪ :‬وهو أنواع‪64........................................................................................................................................... :‬‬
‫‪65 .......................................................................................... :‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪68 ...............................................() :‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪69 ..................................................................................():‬‬ ‫‪8‬‬
‫" ‪70 ......................................................................................():‬‬ ‫‪":‬‬ ‫‪9‬‬
‫ـ دللة العوالم الممكنة عند )فريجة )) )‪71.......................................................................................................Frege) -).‬‬
‫الباب الثاني ‪:‬‬

‫الدللـــة عند المــدي ‪74 .......................................‬‬


‫الفصل الول‪:‬‬
‫جهود العرب القدامى في الدراسات الدللية‪76...................................‬‬
‫الشافعي ـ الجاحظ ـ ابن جني ـ ابن سينا ـ الجرجاني ‪76....................‬‬
‫‪76 .................................................................................................................................... :‬‬
‫(‪78 .................................. :‬‬ ‫‪204‬‬ ‫) ‪150‬‬ ‫‪1‬‬
‫(‪82 ................................. :‬‬ ‫‪255‬‬ ‫) ‪160‬‬ ‫‪2‬‬
‫أ ـ حسن التأليف بين الحروف واللفاظ‪83........................................................................................................................ :‬‬
‫ب ـ أصناف العلمة عند الجاحظ‪84............................................................................................................................... :‬‬
‫ج ـ وظائف الكلم عند الجاحظ‪86................................................................................................................................ :‬‬
‫د ـ أصل اللغة عند الجاحظ ‪87......................................................................................................................................:‬‬
‫هـ ـ الدللة السياقية عند الجاحظ ‪87............................................................................................................................... :‬‬
‫( ‪88 .........................................‬‬ ‫‪392 -‬‬ ‫‪320 ) :‬‬ ‫‪-3‬‬
‫أ‪-‬اللفظ والمعنى‪89.....................................................................................................................................................:‬‬
‫(‪95 ......................................:‬‬ ‫‪427 -‬‬ ‫) ‪373‬‬ ‫‪-4‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫‪101 ............‬‬ ‫(‪:‬‬ ‫‪421‬‬ ‫)‬ ‫‪-5‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫العلمة اللسانية عند المدي‪110.................................................‬‬
‫‪110 .........................................................................................................................‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪ -1‬علم أصول الفقه والدللة‪110....................................................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬لمحة عن حياة المدي وكتابه الحكام في أصول الحكام‪111..............................................................................................:‬‬
‫‪-‬كتاب "الحكام في أصول الحكام"‪ :‬موضوعه وخطته‪113..................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬‬
‫‪115 ..................................................................:‬‬
‫أنماط العلمة اللسانية‪115............................................................................................................................................:‬‬
‫‪121 ............................................................................:‬‬ ‫‪-3‬‬
‫(‪123 .........................:‬‬ ‫)‬ ‫‪-4‬‬
‫‪127 .........................................................................................:‬‬ ‫‪-5‬‬
‫‪130 .....................................................................................:‬‬ ‫‪-6‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫الخـــطاب البلغـــــــي‬
‫وحداته ومقوماته عند المدي‪135...............................................‬‬
‫‪135 .........................................................................................:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫أ‪-‬الحرف‪135...........................................................................................................................................................:‬‬
‫ب‪-‬الفعل‪137............................................................................................................................................................:‬‬
‫ج‪-‬السم‪139............................................................................................................................................................:‬‬
‫‪141 ...............................................................................:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫أ‪-‬الخبر وأبعاده الدللية‪142......................................................................................................................................... :‬‬
‫ب‪-‬الكلم وقيمته البلغية‪145..................................................................................................................................... :‬‬
‫ج‪ -‬الخطاب البلغي وأنماطه‪147................................................................................................................................ :‬‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫الحقيقة والمجاز عند المدي‪153................................................‬‬
‫‪153 ...................................................................................................................................:‬‬
‫‪154 .............................................................................. :‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪156 ..............................................................................................................‬‬ ‫‪-2‬‬
‫‪157 ................................................................................‬‬ ‫‪-3‬‬
‫‪162 ...................................................................................................................:‬‬
‫‪165 ..........................................................................‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪-‬الدوريات‪169..........................................................................................................................................................:‬‬
‫المراجع الجنبية‪170..................................................................................................................................................:‬‬
‫‪172 .................................................................................................................................‬‬
‫‪175 .....................................................‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫العربي‪ :‬دراسة‪ /‬منقور عبد الجليل– دمشق‪ :‬اتحاد الكتاب العرب‪،‬‬ ‫علم الدللة‪ :‬أصوله ومباحثه في التراث‬
‫‪ 251 – 2001‬ص؛‬
‫‪24‬سم‪.‬‬

‫‪ -2‬العنوان‬ ‫‪ 412 -1‬ع ب د ع‬

‫‪ -3‬عبد الجليل‬

‫مكتبة السد‬ ‫ع‪2001/2287/11 -‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 175 -‬‬

You might also like