أصل صحيح؟
احلس يف علم الرجال؟ وهل هي ٌ
ما هي أصالة ّ
الحس العقالئية لتثبيت حجيّة
ّ السؤال :يستند بعض العلماء إلى أصالة
توثيقات المتق ّدمين من علماء الرجال عند الشك في حسيتها وحدسيّتها ،فما
يصح االعتماد عليها لتثبيت
الحس؟ وما هو منشأ عقالنيتها؟ وهل ّ
ّ هي أصالة
حجيّة توثيق المتق ّدمين؟ (علي عباس ،سوريا).
اجلواب :عندما يوثق العامل الرجايل شخصاً ،فمن الطبيعي أن نسأل :كيف عرف
هذا العامل الرجايل (كالشيخ النجاشي أو الشيخ البخاري مثالً) بأ ّن فالناً من الرواة
ثقة؟ مثّة احتماالن كبريان يقفان أمامنا هنا:
األول :أن يكون اطّلع على حال الرواة بشكل حمسوس ،فأخرب بوثاقة االحتمال ّ
قسمه بعض العلماء ـ من خالل طبيعة بياناهتم هذا الراوي ،وهذا الشكل احملسوس ّ
هنا ـ إىل ثالثة حاالت وهي :أ ـ إما باملباشرة ،كأن يكون مالزماً هلذا الراوي فيعرف
حاله من الصدق والكذب أو من الضبط والوهم والنسيان 2 .ـ أو ينقل له
عما رأوه من حال هذا الراوي بالرؤية املباشرة 3 .ـ أو يكون من
أشخاص آخرون ّ
مناخ كبري من الوضوح من خالل جمموعة كبرية من الكتب املتوفّرة تسمح لهحوله ٌ
يسمى باجتاه احلسيّة يف توثيقات
باستنتاج وثاقة هذا الراوي بشكل سريع .وهذا ما ّ
الرجاليني.
االحتمال الثاين :هو أن نقول بأ ّن النجاشي أو غريه تبعده فاصلة زمنية عن الرواة
الذين وثقهم ،فهناك قرابة مائيت عام أو أكثر يف أحيان كثرية ،فال ميكن أن يكون
قد اطّلع على حال الراوي باالتصال املباشر به عاد ًة ،كما أنّه على افرتاض أنّه
حصل على إخبارات من آخرين هبذا األمر نقع يف مشكلة ،وهي أ ّن هذه
اإلخبارات غري مسندة ،السيما يف أغلب كتب الشيعة ككتب النجاشي والربقي
فلعل ما وصله من
والطوسي والصدوق واملفيد وغريهم ،وال حجيّة للخرب املرسلّ ،
خرب عن شخص معاصر وثّق زرارة قد وصله بطريق ضعيف السند ،وعليه
بالتوصل إىل نتائجهم من خالل حتليل مرويات الرواة وبعض ماّ فالرجاليون قاموا
كل واحد وثاقة فالن أو ضعف توفر هلم من معلومات عنهم فاجتهدوا واستنتج ّ
يسمى باجتاه احلدسية يف تقوميات الرجاليني ،وعلى هذا
فالن اآلخر ،وهذا ما ّ
االجتاه جاء بعضهم وقال :ما املدى امللزم يل باجتهادات هؤالء العلماء الذين
حجة بالنسبة يل؟ فالسيد الربوجردي توفاهم اهلل؟ ما الدليل على أ ّن اجتهاداهتم ّ
جمتهد يف الرجال والشيخ النجاشي جمتهد أيضاً ،فما هو الوجه يف حجية قول
وبأي وجه نلزم الربوجردي بتقليد النجاشي واتباعه فيما
النجاشي على الربوجردي؟ ّ
قال عن زيد أو عمرو؟ إ ّن خرب النجاشي حدسي واخلرب احلدسي ال تشمله أدلّة
حجية خرب الثقة ،بل هو مشمول لدليل حجية الفتوى مثالً ،واملفروض أ ّن دليل
حق جمتهد (كالسيد الربوجردي) بالنسبة حق العامي ،ال يف ّ
حجية الفتوى جيري يف ّ
إىل جمتهد آخر (كالنجاشي).
هذا االنقسام جعل حجية تقوميات الرجاليني يف موقع قلق ،فعلى االجتاه األول
ميكن القول باعتبار وحجية التوثيقات ،فيما نقع يف مشكلة عظيمة على االجتاه
الثاين ،من هنا ق ّدمت حلول ع ّدة للخروج من هذا املأزق إذا مل نتم ّكن من إثبات
األول ،وأحد هذه احللول كان يقول بأ ّن التأرجح بني االجتاهني يعين
صحة االجتاه ّ
ّ
فكل ما يثبت
احتمال أن يكون توثيق النجاشي حسيّاً واحتمال أن يكون حدسيّاًّ ،
األول يصلح لتعزيز احتمال احلسيّة ،وإذا كان األمر كذلك نستعني هنا
القول ّ
بقاعدة عقالئية مفرتضة كان طرحها اآلخوند اخلراساين يف الكفاية ،وتقول :بأ ّن كل
خرب حيتمل أن يكون حسيّاً وحيتمل أن يكون حدسيّاً ،فإ ّن األصل فيه أن يكون
حسيّاً ،واخلرب احلسي هو اخلرب املشمول لقاعدة حجية خرب الواحد الثقة ،خبالف
اخلرب احلدسي الذي قالوا يف حملّه بأنّه غري مشمول حلجيّة خرب الواحد الثقة ،وعليه
فاحتمال حسية إخبارات النجاشي ٍ
كاف جلعل إخباراته عن الرواة حبكم احلسيّة
فتكون مشمولة لقانون حجية خرب الواحد الثقة ،وهبذا نثبت حجية قول الرجايل
من باب حجية خرب الثقة.
تعرض ملناقشات أبرزها: كل احللول ـ ّاحلل ـ وهو أحد احللول ،وليس ّ
هذا ّ
املناقشة األوىل :إثبات حدسيّة إخبارات مثل النجاشي ،وأنّه ال احتمال للحسيّة
تعرضنا له يف حملّه.
فيها غالباً ،وهذا حبث تتبّعي طويل ّ
املناقشة الثانية :التشكيك يف وجود قاعدة عقالئيّة يف باب حجية األخبار امسها
أصالة احلس ،ومع اإلطاحة هبذه القاعدة يصبح خرب النجاشي غري معلوم أن يكون
التمسك بدليل حجية خرب الثقة إلثبات
مشموالً لدليل حجية خرب الثقة ،فال ميكن ّ
التمسك بالعام يف الشبهة املصداقية
حجية خرب حمتمل احلدسية؛ ألنّه سيكون من ّ
له ،وهو باطل كما ّقرره األصوليون.
احلس العقالئيّة املريزا حبيب اهلل الرشيت ،حيث اعترب أ ّن اجلملة
وممّن رفض أصالة ّ
اخلربية اليت يقوهلا املخرب ال حتمل ال ظهوراً وضعياً وال عرفياً يف أ ّن هذا اخلرب كان
خاص يفسح اجملال الفرتاض أصالة احلس هنا (انظر: حس ،وليس هناك ظهور ّ عن ّ
فقه اإلمامية ،قسم اخليارات.)292 :
وما نراه ـ وفقاً ملا حبثناه يف مباحث حجية اخلرب يف األصول ،ويف مباحث كلّيات
علم الرجال ـ هو :إ ّن العقالء لديهم حالتان يف التعامل مع اخلرب الوارد إليهم:
جمرد
حسيته من حدسيته ،لكنّهم يرون احتمال حدسيّته ّ احلالة األوىل :أن ال يعرفوا ّ
افرتاض احتمايل منطقي ،ومسّينا هذه احلالة يف الشك بالشك االفرتاضي ،وقلنا :إنه
هنا جتري أصالة احلسيّة ،ولو للمدرك الذي طرحه السيد الصدر هنا ،وهو غلبة
اإلخبارات احلسيّة فيما من شأنه أن يُدرك باحلس (راجع :الصدر ،مباحث األصول
مستقل امسه أصالة احلس ،بل أل ّن
ّ لكن ذلك ال لوجود أصل
ق ،2جّ ،)895 :2
العقالء يف حاالت الشك االفرتاضي ال يبالون مبثل هذا الشك ،وال يقفون عنده،
وال يلتفتون إليه ،إذ عمدة عملهم على االطمئنان اجملامع هلذا اللون من الشكوك،
فأصالة احلسيّة هنا ليست سوى حجيّة االطمئنان عينها ،ال أصالً مستقالً قائماً
بنفسه عند العقالء ،فضالً عن أن يكون أصالً تعبّدياً.
احلالة الثانية :أن يكون الشك ش ّكاً حقيقياً كما مسّيناه يف مواضع ع ّدة ،وهو أن
جادة لكال االحتمالني معاً (احلسية واحلدسية) حبيث ُحتدث شكاً تتوافر معطيات ّ
والتباساً ودوراناً حقيقياً يف الذهن العقالئي ،كأن خيربك حملّل سياسي خب ٍر ،وتكثر
يف أخبار هذا الشخص التحليالت السياسية ال املعلومات اخلربية ،حبيث إ ّن مخسني
باملائة من إخباراته لنا كانت حدسية وحتليلية وليست خربية حسية ،فهنا من أين
الرتدد وحيصل هلم
حنرز أ ّن العقالء يبنون على حسيّة قوله عندما يلتفتون إىل هذا ّ
يفعلون أصالة احلس أم يتوقّفون يف أخباره إىل حني الشك احلقيقي؟! هل ح ّقاً ّ
التبني؟
ّ
هذا بالضبط هو ما حصل يف علم الرجال بال حاجة لإلطالة هنا ،و ّأما ما ذكره
السيد الصدر من الغلبة أو ّادعاء أ ّن ظاهر اخلرب هو احلسيّة فال جيري هنا؛ أل ّن
بالقوة
القوة االحتمالية يف الغلبة معارضة ّ الغلبة ال تقاوم حالة الشك احلقيقي؛ إذ ّ
االحتمالية املوجودة يف معطيات هذا الشك والدوران ،وإمنا تنفع الغلبة حيث يكون
املتكون من عدم االلتفات ،وأما ّادعاء
الشك افرتاضياً ،إذ حيصل منها االطمئنان ّ
أ ّن ظاهر األخبار هو احلسيّة ،فهو صحيح بلحاظ مضمون اخلرب ،ال بلحاظ كيفية
املخرب عليه ،وإال عاد إىل الغلبة ،وأما احلديث عن أ ّن مقتضى وثاقة الراويحصول ر
حسيّة خربه لوجود ظهور تصديقي يف أ ّن املتكلّم يف اإلخبارات اليت من شأنه
باحلس ظاهر حاله أنه بداعي اإلخبار عن حس ،فهذا غري واضح يف ّ إدراكها
الشك احلقيقي ،فإذا قلنا :إ ّن علماء الرجال إخباراهتم حدسية هل يكون يف ذلك
اخلاصة قد حيصل
طعن يف وثاقتهم عرفاً؟ نعم يف بعض احلاالت اليت هلا قرائنها ّ
ٌ
ذلك ،كما يف حالة شهادة الشاهد يف احملكمة ،فإ ّن إدالءه بالشهادة ضمن سياق
حماكمة شخص آخر ال ب ّد فيها من احلسيّة ،فاعتماده على احلدس فيه إخالل
بالظهور احلايل ،ومن مث خدش يف وثاقته أو يف صدقيّته يف تطبيق قوانني احملكمة يف
لكن هذا األمر ال يسري إىل متام اإلخبارات املتداولة بني
باب الشهادات ،و ّ
العقالء ،حبيث إذا أدىل خبرب حدسي أو غري مكتمل احلسيّة يكون كاذباً أو فيه
شبهة اخلدش يف وثاقته ،كما قد يستوحي من كالم السيد الصدر على أساس أ ّن
مجلة« :زيد مات» ،معناها :أين أدركت حساً أن زيداً قد مات ،وأنّين رأيته مثالً.
فسبب االشتباه هنا ،كما يف العديد من تفسريات األصوليني للبناءات العقالئية،
يعول
أهنم مل مييزوا بني حاالت الشك االفرتاضي الذي هو شك يف املنطق لكنه ال ّ
عليه يف السري العقالئية ،وحاالت الشك احلقيقي املنطلق من وجود شواهد
وإمكانيات تسمح بوالدة احتمال عقالئي معت ّد به يف إخبارات متق ّدمي الرجاليني،
إىل جانب الفاصل الزمين الطويل بني الرجاليني وأكثر الرواة؛ إىل جانب شواهد
احلدسيّة الظاهرة هنا وهناك من كلماهتم ،إىل جانب حصول االختالف بني
الطبقات السابقة .فالصحيح التمييز بني حاالت الشك احلقيقي واالفرتاضي،
وتبعية املسألة للقرائن احلافّة ،ال لوجود أصل تعبّدي امسه أصالة احلس ،وال ألصل
أقر بأن
لعل هذا أما أراده السيد الصدر إذ ّ عقالئي دائم وكلّي امسه أصالة احلس ،و ّ
وجود ما يكتنف الكالم مما يصلح لقرينية احلدس يوجب اإلمجال ،فإن هذا ما
نقصده ونعنيه.
يصح إعمال قاعدة منقِّحة ملوضوع دليل حجية خرب الثقة،
يتبني أنه ال ّ وهبذا ّ
لتصحح جريانه يف املقام ،واملفروض أ ّن دليل احلجية غري قادر على الشمول؛ لعدم
ّ
التمسك بالعام يف الشبهة املصداقية للعام
حتقيق احلكم ملوضوعه وعدم إمكان ّ
نفسه ،فإشكال احلسيّة واحلدسية حم ّكم وال دافع له ما دام احتمال احلدسية
تعرضوا هلا هنا ،وهذا يعين احتماالً معقوالً معتداً به ،كما يظهر من القرائن اليت ّ
عدم إمكان إجراء دليل حجية خرب الثقة يف كلمات الرجاليني ،إال يف املوارد اليت
حيرز فيها احلسية كتوثيق الرجايل ملشاخيه الذين الزمهم ،أو يكون احتمال احلدسية
غري ملتفت إليه عرفاً وعقالئياً.
وال ينبغي أن نستغرب من ّادعاء األصوليني أصالً عقالئيّاً ينفيه آخرون ،فإ ّن هذا
كثري التح ّقق وليس بقليله ،وهلذا قال الشيخ ناصر مكارم الشريازي يف بعض حبوثه:
« ..واإلنصاف أ ّن العقالء ال يعرفون كثرياً من هذه األصول اليت تُنسب إليهم ,وإ ّن
تطمئن به أنفسهم» (الشريازي ,القواعدّ بناءهم يف هذه املوارد على األخذ مبا
الفقهية.)64 :1
كل التقييمات الرجالية واهنيار علم
وقد تسأل أخرياً :أليس هذا يعين سقوط اعتبار ّ
الرجال؟
واجلواب :كال ،فإ ّن حجية قول الرجايل ليست منحصرًة بكوهنا من باب حجية خرب
الثقة ،وهذا اإلشكال جيري على مثل مبىن السيد اخلوئي الذي يرى حجية قول
الرجايل من باب حجية خرب الثقة ،فيما توجد نظريات أخرى يف باب حجيّة قول
الرجايل من أبرزها حجيته من باب :أ ـ حجية الشهادة كما ذهب إليه صاحب
املعامل والتفرشي ،وهذا يرد عليه إشكال أصالة احلسيّة .ب ـ حجية العلم
احلر العاملي والعالمة املامقاين وبعض املعاصرين ،وقد
واالطمئنان ،كما ذهب إليه ّ
بالظن االطمئناين .ج ـ حجية اإلمجاع والتسامل ،وهو ما يظهر امليل اليه من
يسمى ّ ّ
مثل الوحيد البهبهاين واحمل ّقق الغروي صاحب الفصول والفاضل اخلاقاين .د ـ حجية
القمي .هـ ـ حجية قول أهل اخلربة .و ـ
الظن االنسدادي ،كما ذهب إليه هنا املريزا ّ
ّ
حجية الفتوى و..
لت إليه يف أحباثي
توص ُ
وهذه النظريات خضعت ملناقشات وحتليالت أيضاً ،وما ّ
املطولة واملتواضعة يف هذا املوضوع ،هو أ ّن حجية قول الرجايل ليست إال الرجاليّة ّ
الظن االطمئناين ،وفاقاً ملا انتصر له ونافح عنه العالمة املامقاينمن باب حجية ّ
رمحه اهلل ،وهي نظرية تستدعي تغيريات جذرية يف طريقة تعاطينا مع وثائق الرجاليني
فصلناها يف حملّه ،واهلل العامل.
التارخييّةّ ،