اللحن الإلهي PDF
اللحن الإلهي PDF
Never Born - Never Died - Only visited this planet Earth between
December 11, 1931 and January 19, 1990
هذا الملف هو ترجمة لمقتطفات من أهم علوم الحكيم أوشو التي وضعها عن علم الشاكرات أو
المقامات السبعة ،إضافة إلى فيض من القلب مُس َتوحى من علوم وحكمة أوشو.
www.oshoworld.com
1
البداية
أخي اإلنسان ...سالم من روحي إلى روحك و كل روح تتقي وتشفع ،سالم ومناجاة
تقرع.....
تدمع ون ْفس على باب اهلل َ لكل قلب يرى ويسمع وكل ٍ
عين َ
سالم مسافر من روضة السالم دون حاجة لجواز سفر وهوية واثبات شخصية والى
طول الكالم .أسألك وال أريد جوابك بل أن تسأل حالك ،إلى أين المنتهى؟ من أين
أتيت ولماذا ُولِدت؟.........
من أنت؟ ال أريد جوابك فأنا أعلم من أنت ...ال ألني أعرف إسمك أو لونك أو
طائفتك أو لقبك ...ال أهتم لأللقاب والطوائف والمذاهب واأللوان ،أنا أهتم باإلنسان.
أنا أعرف من أنت ألني بدأت بالتعرف على نفسي ومن عرف ن ْفسه ع َرف كل ن ْفس.
العلى لمن عرف أن الدنيا وهمًا صاغه عقَله وأس َكَنه من منازل الكون أدناها،
إنما ُ
ويسكن من منازل الكون أعالها.
فطلب من اهلل أن يزيده علماً وأدباً حتى يرتقي ْ
2
ٍ
مصدر للنور ولم أعلم أن كنت ميتًا يا أخي ،أدور وأدور ،أعبر البحور بحثًا عن
ُ
النور بذرة زرعها اهلل في تربة قلبي...
رت
ص ُت موعد الحصادِ ... انتظر ُ
رويت تربة قلبي و ْوتعرْفتْ ،
صح ْوت َّعرفت َ حين َ
حياً وأنا أشاهد ثمار األلوهية تنمو بداخلي والبداية كانت تربة قلبي .نعم ،القلب هو
الكهف وبداية رحلة الحج .وما الحج سوى رحلة طويلة على دروب حياتنا ...رحلة
نمشيها ونعرف فيها من نحن.
سألتني متى ِ
أعرف أني على درب اهلل أسير؟
على درب رحلة الحج ستجد دروبًا بالذهب والمال زينها أصحابها ،دروبًا بالورد
تغرك المشاهد ،تابع رحلتك وعدك أعالمها .ال ُ
فر َشها خالنها ،ودروباً بالراحة َ
بلغت دربًا أعا َدك لذاتك ،لنقطة
َ بلغت دربًا ليس له هدف ،متى
َ ِ
وشاهد .ومتى
ونظرت إلى كل ن ْفس واعيًا
ْ ت ن ْف َسك
بلغ َ
بدأت منه رحلتك ،متى ْ
الصفر ،للمكان الذي َ
شاهداً تقياً خاشعاً فاعلَم أنك اآلن وصْلت فأهالً وسهالً بك.
سألت نفسي ذات يوم دون أن ألقي عليها اللوم ،عن ما حدث ...وأتاني الجواب
همس صمته في قلبي وأجاب :هي
الذي لم أجده في مدرسة أو جامعة أو كتاب ،بل َ
الغفلة .وما هي الغفلة؟
3
شهدت عليه
الغفلة هي نسيان الذكرى .وما هي الذكرى؟ هي مشهد الحق الذي َ
شهدنا عليه ،أننا جميعاً أوالد النور...
أرواحنا جميعًا .مشهد في دار الحق ْ
نور السماوات واألرض ...وأننا جميعاً اخترنا أن نمشي هذه الرحلة لنذ ُكر هذه
جمعنا ووح َدنا فاختلفنا .اختلفنا فحل الليل
الذكرى ونتذكر .نسينا هذا المشهد الذي َ
ِ
المظاهر واحد والنهار والعلن واإلسرار والذاكر والغافل والعاقل والجاهل .تحت هذه
باطن ظاهر .الذكرى هي أن تذكر وتتذكر الباطن لتراه في الظاهر .أن تذ ُكر ُم ِبدع
الورى فيسري في عروقك يقينًا يقي َك الهم والعنا.
َ
تريدني أن أحدثك بعد عن الذكرى؟ آه ...هل ِ
سمعت يوماً حكمة فذكر إن نفعت َ
الذكرى؟
4
الحمدهلل أن علم الفيزياء الحديث قدم شيئًا مفيدًا واكتشف أن الكون ذبذبات من
نور ...علماء الدنيا استفاقوا من الغفوة على هذه الصحوة بعد أن أتعبوا الدنيا وأتعبونا
باكتشافات لم تهتم إال بجسد اإلنسان وأنفه وصدره وشفاهه ووجهه...
الحمدهلل والعلم عند اهلل إن كان هذا اإلكتشاف باب نعود لندخل منه ِعلم علماء الروح
و أولُو ِ
العلم الذين شهدوا على هذه الحقيقة من آالف السنين.
الحمدهلل أننا من خلق اهلل .الحمدهلل أننا ذبذبات نور إلهي شفاف ساكن كل ذرة َح َوتها
األكوان ...نفخ فينا الروح وهو روح وَوعي أبدي سرمدي.
ال عن خالقه...
أنا وأنت تجسيد بديع لهذه الروح اإللهية وانتبه فالمخلوق ليس مفصو ً
الخلق عملية إبداعية ...تمدد لروح سرمدية تحتفي بجمالها وقدرتها وتتجسد بأشكال
ال تُعد وال تحصى .الخالق هو جوهر الخليقة والخليقة هي جوهرة وحاوية السر
اإللهي.
حين ترى عامالً وهو يصنع طاولة ،أتراه ينفخ ِمن روحه فيها؟ أترى ذاته تتمدد
ال؟ أترى الحنين ينبض في لب
لتسكن هيكل الطاولة فتُحييها؟ أترى بينهما وص ً
الطاولة فتبدأ رحلة بحثها عن صانعها؟ ال ...هذا ال يحدث ...أترى صانع الشيء
لمن أراد كونه ُكن فيكون؟ ال ...هذا ال يحدث...
يضم ُره؟ أو أنه يقول َ
ُ يريده دون أن
الصنع عكس الخلق فهل عرفت الفرق؟
الفرق أن العامل يستعمل أدوات خارجية لصنع األشياء وال يستخدم ذاته الداخلية وال
قطعة من جسده ،أما الخالق فال يستخدم سوى ذاته ،ينفخ من روحه ...يتمدد
ليتجسد فيستوي وينطوي في معبد الجسد آية تراها عين الحكيم والعليم.
5
ستقول لي أن الجسد من تراب؟ وما هو التراب؟ واألحسن أن نسأل ما هو الوجود؟
أخبرتُك بأنه ذبذبات من نور السماوات واألرض ،هو جزء من اهلل تجسد لتراه العين
فتذ ُكر وتسبح روح ما تجسد وما لم يتجسد (الظاهر والباطن) .إذاً التراب وكل حبة
رمل في جوهرها هي من نور اهلل.
وذات اهلل ليست ما نفهمه عن الذات .هي الفناء ،هي غياب الشيء المنظور وظهور
ما تخشع له النفوس دون أن تدركه األبصار .هي حالة من نشوة اإلحساس حين
يصحو ما هو أبعد من كل الحواس .حالة ترى فيها نور أزلي ،وتتعلم من عالِم
أبدي ،وتحيا مع حي أحدي وتكون مع موجود سرمدي.
تحت ظالل هذه الحقيقة السامية ،ومع نسيم رحمتها العليل هل تجدني عنك
أبعدنا وفرقنا
بمختلف؟ أم أننا روح واحدة تجس َدت بجسدي وجسدك وكل جسد؟ هل َ
وهم السياسة والطائفة واللقب؟ أم أننا أخوة في اهلل نسكن ذات البيت المقدس؟ بيت
ْ
اهلل ...ونتنفس ذات النفَس ونتشارك ذات الهواء؟ ....إنها شهادة التوحيد:
الوحدانية "وحدانية اهلل وحده ال أحد غيره في الوجود" ،ومنها إلى التوحد "وحدة داخل
كيان اإلنسان حين تحل عليه نعمة العرفان ويعي أنه جزء من اهلل وليس بجسد وفكر
واحساس" ،ومنها إلى الوحدة "وحدة بين العالمين ،اإلعتصام بحبل اهلل ألن البشر
أجمعين من اهلل وباهلل وفي اهلل والى اهلل" .إنها حقًا الشهادة.
لنتأمل اآليات المرسومة في اآلفاق ...لنتأمل كيف تشهد هلل أعالم الوجود .فال تزال
تنس ،الهواء
تنس ،النار لم َ
تنس ،المياه لم َ
األرض تشهد على هذه الشهادة ولم َ
تنس ...ال عراك بينها وال نزاع ألجل
واألثير ،الشمس والقمر ،الحيوانات والشجر لم َ
أرض أو سلطة أو كرسي ،وأنت يا إنسان َلم حلت على قلبك غشاوة النسيان؟
نسيان ...نون في البداية ونون في النهاية ...هل تعرف يا أخي رمز حرف النون
في الصوفية؟ شاهد معي وتأمل...
نون (ن و ن) ،نون في البداية ونون في النهاية وبإمكانك قرائتها من البداية أو من
النهاية.
حرفا النون في اآلية رمز لعالم الدنيا ،عالم الجسد ...ولعالم الروح ،عالم الصمد
المدد .الظاهر والباطن ،النسيان و الذكرى.
و َ
7
إنسان ...نون هي رمز لنفس لوامة بالسوء أمارة ،ونون هي رمز لنفس مطمئنة في
مرضية.
جنة اهلل تحيا راضية ْ
نون ...نون هي النار ونون هي النور وأنت اآلن في أي حال؟ ِ
شاهد ...الشهادة
هي المفتاح .أنت اآلن نفس لوامة؟ أم نفس مطمئنة؟ اإلنسان حوى الظاهر والباطن
ِ
الشاهد. وداخل اإلنسان رقيب شهيد على الظاهر وعلى الباطنَ ،ف َش ِ
اهد أيها
هل تعلم أن دعوة موسى لخلع نعاله هي دعوة للتأمل؟ نِعال موسى ُهما رمز لعالم
المدد .وخْلع موسى لِنعالِه هو حال الشهادة الواعية حين تخلع الن ْفس
الدنيا وعالم َ
عنها رغباتها في هذا العالم وفي العالم اآلخر فتصفو وترى بنور اهلل.
إخلع نعالك حتى تراني فكيف لك أن ترى اهلل ورغباتك وأفكارك وفلسفاتك تحتل
كيانك وترسم واقعك وخيالك؟ كيف لك أن تراه وأنت غافل ترى من خاللها ال من
خاللك؟...
ب بالنور المعمور فتجسد على لوح الوجود ومسرَحهالقلم هو الوعي الكوني كتَ َ
عالمين ظاه اًر وباطناًِ .
شاهد الظاهر لترى الباطن وترتقي بين العوالم دون رغبة بأي ْ
عالم من هذه العوالم بل سالم ُهنا واآلن في نعيم هذه اللحظة.
سوف أهمس لك يا أخي بشيء ...هل تعلم أننا لسنا رجال وال نساء؟ لسنا أغنياء وال
فقراء؟ لسنا معلمين وأطباء وسياسيين ووزراء ومحاربين وحكماء؟ لسنا أقوياء وال
ضعفاء؟ لسنا تعساء وال سعداء؟ لسنا أقرباء وال غرباء؟ لسنا شيوخاً وال في ريعان
الشباب؟ هذا وهم العين التي ال ترى خلف األبواب ،أو العين التي ترى من خالل
فكر انعدم فيه الوفاء وأعلن على الحقيقة والفطرة العداء...
8
سنة وال شيعة وال يهود
لسنا أميركيين وال هنود وال عرب وال مارونيين وال كاثوليك وال ُ
وال هندوسيينَ ...من نحن إذاً؟ نحن الحقيقة ،نور من أنوار الذات السرمدية األبدية
التي ليس كمثلها شيء .هي واحدة فينا ،حية قائمة في كل لحظة من أيامنا وليالينا.
شخصياتنا كممثلين يلعبون أدوا اًر مختلفة في نفس الفيلم ...إنسحب من الشخصية
اإلجتماعية والدينية والقومية والسياسية لترى القداسة في الذات اإللهية وتفقه زيف ما
نسميه بالشخصية.
كل فرد منا ُمختار فجميعنا شعب اهلل المختار ،لذا لنا حق اإلختيار في أن نحيا في
نعيم مع األطهار واألبرار أو في جحيم إذا تبعنا القادة والمجتمع وحملنا األوزار.
لو كان للوجود لسان لهمس لك بقصة األكوان .هذه القصة التي سمعها األنبياء
والحكماء بأذن القلب وأخبرونا حكايتها بالوجدان ال باللسان .لو كان للوجود لسان
ألخبرك أن اإلنسان ميزان .والميزان هو الوسط ،هو العدل والصراط المستقيم الذي
سلكه كل حكيم .اإلنسان همزة وصل بين الحيوان ،بين الغريزة والبربرية والشهوة وبين
ٍ
وعيش في سماوات ال تعرف للشهوة والرغبة والعنف عنوان ،بل سالم من رب رحيم
نعيم مقيم.
لو كان للوجود لسان ألخبرك أن تاريخ األكوان مكتوب على جبينك ومطبوع في
ذاكرتك ولعلِمت أنك أتيت إلى الدنيا بجسد إنسان ألن األوان قد حان ،وأصبح اهلل
أقرب إليك من حبل الوريد لترتقي وتتعرف على حقيقة ذاتك وأنك مميز وفريد...
لتتخلى عن حيوانيتك ومكرك ودهائك فأنت اآلن خليفة اهلل وفيك تتجلى آيات من
الوعي اإللهي تحوي آالف الزهور التي ستتفتح لتصبح وعياً سامياً أبعد من أي ُبعد
وكلمة ومدى وصدى.
9
ساعد بذور وعيك اإللهي لتنمو فيحتفل بك الوجود ويباركك كما بارك َمن قبلك.ِ
األوان قد آن لذا أنت تحمل هذه األمانة اآلن .أمانة َأبت أن تحملها الجبال ،وما هي
مهمة حامل هذه األمانة؟ أن تتخلى عن ما هو دون اهلل وتتجلى لترى نوره فيك
فتشهد وتخشع وتستسلم وتحيا إسالم اهلل أي إسالم النفس الشاهدة الواعية التي
بحب وترحيب ال بخوف وترهيب.
خشعت ُ
إسالم عاشه النبي والمسيح وابراهيم وكل مستنير تأمل ذاته وصعد إلى غاره ودخل
سمع ،فكالم اهلل فعل منه أنشأه، ٍ ٍ
يقرع وال بنداء ُي َ
كهف قلبه وسمع آيات اهلل ال بصوت َ
حدوث ونهر ينهر بال نهاية.
بأمانة ...هل نحن أوفياء على هذه األمانة؟ ما الذي نفعله لتغيير ما بأنفسنا وتحويل
طاقتنا من العنف إلى الحب ،من الرجمة إلى الرحمة ،ومن العدوان إلى الغفران؟
بأمانة ...هل نسعى لتغيير أنفسنا أم نسعى لتبديل وجوهنا وادانة غيرنا ألن وجوههم
ال تناسبنا؟
آه نحن نفعل أشياء كثيرة ...نحن نأكل ونشرب ونذهب إلى العمل ونشتكي من الملل
ونتزوج وننجب ونركض خلف رغباتنا وأموالنا ونرثي لحالنا ونسينا أن ال فائدة من أن
نأسى على ما فاتنا أو من أن نفرح بما آتانا ....وما العظمة في ذلك؟ الحيوانات
تأكل وتشرب وتعاشر وتنجب ثم ماذا؟ تأمل وتفكر من جديد في حكمة اإلمام علي
سئِل عن الخير ما هو؟ فقال:
حين ُ
ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ،ولكن الخير أن يكثر ِعلمك وأن يعظُم ِحلمك وأن
تُباهي الناس بعبادة ربك
11
تأمل وتفكر في كل لحظة وفي كل آية حتى تحيا حال الذكر والوصل والعبادة لحظة
بلحظة فما ُخلق اإلنس والجن إال ليعبدون .العبادة غير العادة ،العبادة هي أن ترى
اهلل داخل نفسك ومن ثم في كل ن ْفس فتحترم كل مخلوق وتتقي .تأمل وتفكر...
أال بذكر اهلل تطمئن القلوب ال بكثرة المال ،وبذكرى نعيم النفس في جنة اهلل تس ُكن
وتهدأ النفوس ال بكثرة العيال
اإلنسان يحمل األمانة ألن وحده اإلنسان يملك وعياً وعالمًا أكبر انطوى واستوى فيه
ليعرف اهلل ،ليعرف ويشعر بنبض القداسة اإللهية في كهف قلبه وحتى في مسارات
جسده .وحده اإلنسان يملك وعياً قاد اًر على أن يعي الساكن داخل جسده وفي كل
جسد فيعلم أنه الزال في جنة اهلل ولم يغادرها يوماً وكيف له أن يغادرها وكل ما حوله
ذكرى تذكره بها؟
أين ستذهب ونفسك هي الذكرى األولى ...ذكرى ترافقك في الخالء والمالء والليل
وعيك هذا على حي قيوم يحيا
والنهار واإلعالن واإلسرار وفي السراء والضراءَ ....
فيك وفي كل مخلوق ،في كل زهرة وشجرة وطير يجعل قلبك يسبح ،يسبح بنشوة
وتقوى ال بالكالم ،يسبح في كل مكان لمعبود في كل زمان ....ويجعل ِذكرك واعيًا
شاهداً مثل الن َفس ال يفارقك لحظة واال تموت ...وأكثرنا أموات وللحق كارهون.
11
حولنا اإلنسان إلى سلعة ألن عقولنا ال تعرف سوى العرض والطلب فأصبح لكل
واحد منا سعر ،ألننا لم نعرف ونتعرف على علوم وأسرار المعبد الذي اختاره اهلل
وسكن بداخله حتى أجل معلوم .جسدك معبدك وِهبة من اهلل ليس لها ثمن .ماذا
فعلت ألستحق هذه الهدية وهذه المعجزة اإللهية؟ الشيء فالحمدهلل على كرمه.
والدة الجسد ال تعني والدتك .حقًا من الذي ُولد منذ بداية الزمان؟ قالئل هم الذين
ُولدوا على وجه األرض .هل الوالدة صعبة إلى هذا الحد؟ ما هي الوالدة إذاً؟
أن تولد كجسد هو بذرة غرسها الوجود في حديقته .واآلن فاألمانة التي تحملها تحتم
عليك أن تروي هذه البذرة بماء التأمل والتفكر .نحن مشروع إنسان ولسنا بش اًر بعد.
فقط حين تموت البذرة لتنمو زهرة يفوح عطرها نكون قد ُولدنا حقًا .موت البذرة هو
موت األنا ،هو موت النفس اللوامة واألمارة بالسوء لتولد النفس المطمئنة خاشعة
زاهدة سعيدة بنعمة اهلل عليها .وعطر الزهرة هو الدين الحق ،فطرة إستسالمها
وخشوعها ،هو إسالم اهلل والمسيح والنبي ،هو اإلنمساح باهلل حتى تكون مشيئته،
وقدر اهلل وما شاء فعل .هذه هي والدة المسيح من الروح القدس ...يسوع إبن
اإلنسان ثم يسوع إبن اهلل ،حين ُولد روح من الروح القدس علم أنه إبن اهلل بالروح
وكلنا عيال اهلل.
12
السعادة
إسأل أهل الذكر عن السعادة وكل ذاكر وقانِت وحكيم ورحيم .إسأل من ذاق حالوة
في الواقع علِم هذا اإلنسان أن ال وجود له وأن من يسكنه هو من لم يلِد فيكون
مولوداً ولم يولَد فيصير محدودًا .علِم أن من يسكنه ويسكن كل ذرة حوله وفوقه
كونه والعدم وجوده واإلبتداء أزله.
سبق األوقات ُ
وتحته هو من َ
13
في الواقع اللذة هي لمحة عن سعادتك ،هي صفحة من رواية تروي روايتك .اللذة
شرفة تنظر منها إلى حديقة روحك ،فإلى متى ستنظر؟ اللذة تعتمد على وجود اآلخر
لكنها ليست منه ،هو مرآتك ليشكف لك جمالك وبهاءك فإلى متى ستتعلق بالدنيا
ومن فيها وتنسى جنتك وما فيها؟
هي حالة من الشهادة عاشها الذاكر .شهادة على ما يدور في قلبه وما يجول في
فكره وما يالمس نيته ...هو حال شهادة على الوسواس الخناس ...شهادة تصنع
مسافة والتأمل َسَند الشهادة ...التأمل ُيحيي الرقيب والشهيد فتَحيا الشهادة .حالة
ال ال
يحيا فيها العابد المتأمل يقينًا ال يمازجه شك وعلمًا ال يخالطه جهل وتوك ً
يجامعه تردد.
اآلن تشعر ما هي السعادة؟ ال أقول تعرف ألن السعادة اختبار ال معرفة ...إختبار
وحدتك .هذه هي السعادة الدائمة ،هذا
في غار القلب وفي عزلة تنير شمعتها بنور َ
هو النعيم المقيم.
ما الصعب في أن ندخل كهف القلب ونبدأ رحلة الحج؟ لماذا نزرع بذور األلم
وننتظر حصاد ثمار السعادة؟ مصدر السعادة هو أنت فازرع األنا في تربة قلبك
وانتظر موتها لتنمو روحك وتُزهر .وحين تُزِهر ستذوق حالوة ما بعدها حالوة وتنجلي
عن قلبك الغشاوة وتمحي بينك وبين البشر أي عداوة.
14
الطريق
إمنح نفسك وقتًا تدخل فيه كهف قلبك ،وشاهد أفكارك ...سترحل الفكرة دون أن
تأتي أخرى وبعد انتهاء األولى وقبل ابتداء الثانية ،فناء .في هذا الفناء ستدخل
حين وال زمان .في هذا الفناء ُع ِدمت اآلجال
األبدية ،ستحيا بال وقت وال مكان وال ٍ
واألوقات وزالت السنون والساعات والشيء إال اهلل الواحد أنت به وفيه ومنه واليه.
أنت اآلن في حال السعادة وليس اللذة .أنت اآلن خارج اللذة واأللم والحب والكره،
أنت مع واحد أحد كتب على نفسه الرحمة .اآلن أنت وعي خالص ،لن ُيعديك سقيم
سيستَفز؟ ِِ ِِ
سيعدى ومن ُ
النفس بدائه ولن يستفزك حاكم بندائه ،فمن ُ
ِ
ستبصر عالمًا أكبر حواه جسدًا أصغر .ستُبصر ذاتك معبدًا حوى في هذه الحالة
الجليل واللطيف ،والثقيل والخفيف والقوي والضعيف ...هل ترى كرم اهلل؟ هل شكرته
على ما آتاك؟ اآلن سيشكره قلبك الصادق حين ِ
تبصر ذاتك معبداً للسماء والهواء
والرياح والماء ،طاقة الشمس والقمر ،األنثى والذكر ،النبات والحجر...
15
المسؤولية
مسؤوليتي أن أطهر بيتي ومعبدي ...أن أشاهد نفسي ،حركاتي وانفعاالتي وأفكاري
حتى يحيا الرقيب الشهيد فيها ،ال أن أشاهد غيري وتغرني الدنيا وما فيها .مسؤوليتي
أن أسمع أنغام نفسي وصمت الكون يغشاها ،ال أن أسمع نميمة فالن وفالنة وأتبع
قلوب تقلبت في جواها .مسؤوليتي أن أق أر رسائل حكماء في حكمتها ال تتناهى وأتعلم
حكمة األنبياء في حياتهم وزهدهم ومماتهم وأغتني من غناها ،ال نقمة حكام وملوك
سكنوا قصو ًار طواهم الموت وطواها.
هل أُخبِرك بحكاية الجوهرة الزرقاء؟ إنها حقيقة في غاية الجمال وليست كذبة ينام
عليها األطفال.
شهادته على فكره أفرغت فناءه من األفكار ،وشهادته على شعوره أفرغت فناءه من
وجد الذاكر نفسه في فناء طاهر ،معبد مقدس في داخله ال يدخله أحد
الشعورَ ...
غيره ...وسأل نفسه :ما بالي لم َأره طوال هذه السنين وهو داخلي أقرب إلي من حبل
الوريد ،يبعث في الذكرى والحنين؟
من ال مكان أتاه الجواب اليقين بأن دخول هذا المعبد المقدس ،هذه المساحة المقدسة
ال يكون إال بعد أن تخلع نعالك ،إال بعد أن تخلع أفكارك وأحالمك ورغباتك ،حين
16
ترمي ذكريات العباد وتصبح ذاك ًار عابدًا هلل وحده وال شيء معه ...وقد حدث وها هو
يرى نو اًر أزرق .يقول الحكماء أنه نور الن ْفس الشفافة ،نورك أنت ويسمونه الجوهرة
الزرقاء...
وحين رآه علم أنه شارف على الوصول وأنه عائد إلى األصول .وأنا وأنت َلم نبحث
عن أصولنا في المجتمعات والمجمعات والموالت؟
ِ
وشاهد ال تخرج من علبة وتدخل في علبة ...ال ترمي حج ًار وتحمل غيره ...إستسلم
اهد تنظر إليها وتظن أنها مرام بعيد ...فكالمي ليس بجديد... وال تجعل كالمي م َش ِ
َ
أنا أخ ِبرك عن حالتك وحقيقتك الجديدة العتيقة ...وما عليك إال أن تخلع نعالك لتكون
وتنبت أزهارك بجانب أزهارها.
من زوارها ُ
آه ...أنت حزين ألني راحل؟ ولكننا رحالة وجميعنا سنرحل ...أنا وأنت اآلن في
رحلة ...دخلناها وحدنا ونغادرها وحدنا ...في الواقع لسنا وحدنا فاهلل معنا ..ومن كان
اهلل معه َفيا لسعادته.
يخشون الرحيل فهُم ليسوا ملوكاً وال حكام يخافون على أموالهم
ْ أهل الطريق ال
ومناصبهم وشخصياتهم ظنًا منهم أن الموت لن يأتيهم وهم في أبراجهم يختبؤون...
أهل الطريق يا أخي يعلمون أن هذه الدنيا خاوية وأن أيديهم ستخرج منها كما دخلَتها
خالية.
17
إجعلنا يارب من أهل الطريق وال تجعلنا كمن زرعوا في األرض ضالالً
ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر
ُ وعاشوا حياتهم ُجهاالً ...ال تجعلنا كمن
18
الدين
ذات يوم ازرني رجل حكيم وقال لي كالمًا غاية في العلم والتعليم .يومها سألته عن
الذات ببراءة ...قال لي حين تشفى من عاهات وآفات تجس َدت في شكل لذات
ورغبات ،حينها يسكن العقل ويهدأ ،يسكن العقل ويبدأ برؤية ما ال يراه فكر ،يرى
الذات األصغر من كل صغير واألكبر من كل كبير .حينها يرى للمرة األولى...
يرى الوجود واسعاً والفرح نامياً ويسمع الجواب وافياً ويفهم أن نصيبه من هذه الدنيا
كافيًا ،وقبل ذلك فإيمان هذا اإلنسان ليس إال ُحلمًا واهيًا.
أجابني بأن الدين حقيقة قبل أن يكون شريعة وطريقة .الدين حالة يعي فيها اإلنسان
أنه وكل موجود امتداد لذات إلهية ،وأن الشريعة باب وطريق وخلَق الخالق طرقاً
بعدد ما خلَق من خْلق ...الشريعة والطريقة مفتاح لتفتح بابك وترى نور ذاتك وتفقه
َ
أسرار حياتك لكنها ليست الحقيقة...
19
حتى؟ هل تذكر الرجل الذي صلى أمام الرسول الحبيب فأمره بأن يعيد صالته ألنه
لم يصلي؟ أعادها فأمره بأن يعيدها من جديد ألنه لم يصلي ...ظل ُيعيدها حتى
حلت في نفسه السكينة فتجلت في وصل تام مع اهلل وما هو هذا الوصل؟ هو
الوقوف بين يدي اهلل بعقل ٍ
خال من أي فكر أو شهوة أو رغبة أو طمع ،ال جنة وال
نار وال علن وال إسرار وال دنيا وال ذاكرة وال ليل وال نهار...
في هذه الحالة أنت باهلل موصول ،أنت بذاتك الحقيقية موصول ،أنت في توجه
وتسبيح .هذا الحال هو صالة حقيقية خالصة لوجه اهلل ،صالة فطرية تصلك باهلل..
وهم
صفاء ال يكدره ْ
ً هي غير فهمنا الجاهل للعذرية ...هي حال من صفاء اإلنسان
أو هم دنيوي ومادي ...عذريتك هي أن تدخل محرابك وتُغلق بابك وال تسمح لما هو
دون اهلل باحتاللك .األمة ال ترى اهلل موجودًا في األشجار والغابات واألنهار ...األمة
تذهب إلى المساجد والكنائس والمعابد ألنها تظن أنها بيت اهلل الوحيد ،ومن قال هذا؟
الكون هو معبد اهلل األكبر ،ومن لم يجد اهلل في قلبه فلن يجده في أي معبدِ .جد اهلل
في قلبك وستجده في المسجد والكنيسة والمعبد وفي كل مكان.
أن تنحني الن ْفس وتَحني الجبين ،وروح في محراب الحب خاشعة خشوع الزاهدين...
حب الكون وما حواه من َخلق وكائنات وعاَلمين ،هذا هو الدين ...اإلنسان المتدين
هو من استسلم للحياة والمنافق هو من حارب ويحارب انسياب نهر الطبيعة في
أودية الحياة .المتدين في خدمة الحياة والمنافق في خدمة الموت.
21
المتدين يرى الخير ظاه ًار وباطنًا في كل مكان حتى ولو ظهر للعين أن غيوم الشر
لبدت سماء الحياة ورحل الخير ،فهو يعلم أنه مجرد سوء فهم ال غير ...ال بد أنه
جهلنا الذي يرى ،جهلنا الذي يشرح ويفسر األمور دون أن يرى ،فيبوح بح ِ
كمه ويقول ُ
ها هو الشر في الحياة .ال بد أنه عقلنا الذي لم ولن يسمع قصة الكون األبدية كاملة
متكاملة ،ال يرى الصورة من جميع الزوايا ...ال بد أنه جهلنا لم يسمع اللحن من
فق َد نوتة من نوتاته السبعة ولم يكتمل.
بدايته إلى نهايته فظن أنه َ
المتدين يعلم أن الخير في كل مكان وكل ن ْفس ،يتنفس مع كل خفقة قلب ،كيف ال
واهلل هو الخالق أوجد الحياة ومن فيها؟ اهلل هو يقيننا لنثِق بوجود الخير وال شيء
سوى الخير ،فالشر ال كيان له وال وجود مستقل وان ظهر فال بد أن هذا المشهد
كسَبته أيدينا.
الذي نراه ليس سوى كابوسًا تحياه عقولنا ،كابوسًا َ
المتدين خاشع والخشوع يعني تسليم األنا وكيانها واحترامها ومكانتها في المجتمع،
تسليم األنا قرباناً لتكون مشيئة اهلل ،لتخشع الن ْفس وتستسلم وأمرها هلل تُ َسلم .صاحب
فيغفل وال يش ُكر محاوالً إثبات نفسه أحداً ممي ًاز .صاحب األنا
األنا يحارب المشيئة َ
ال.
ال أم آج ً
مصيره الفشل والحسرة والندم ،مصيره خيبة األمل عاج ً
حين يدخل اإلنسان محراب القلب الصافي الخالي من كل شيء وينظر إلى الحياة
من هذا المقام سيرى القداسة في كل مكان فالكون هو معبد اهلل...
21
أنت تمشي إذًا أنت تمشي في اهلل ،ترقص إذًا أنت ترقص في اهلل ،نائم إذًا أنت تنام
بين يدي اهلل ألن ال وجود إال هلل .اهلل هو يقيننا ِ
لنثق أن الخير موجود .اهلل يعني أنك
الخير والخير هو الجوهر الذي قام عليه َخلق الوجود لِذا فمستحيل أن يكون للشر
وجود.
حكمنا
مستحيل أن يكون للشر وجود ...لكننا لم نسمع أغنية الحياة كاملة أو أننا ْ
ومثُلنا ،مفاهيمنا وعقائدنا...
عليها قبل أن نسمعها ...لكننا نشاهد الحياة بأفكارنا ُ
نعيش الحياة ونحن نتوقع كيف يجب أن تسير األمور .األمور كما هي عليه يا أخي
فمن طلب منك أن تتوقع كيف يجب أن تسير األمور؟ من طلب منك والوجود ال
يعرف معنى كلمة (يجب)؟ وحده اإلنسان يعرف معنى هذه الكلمات (يجب،
وقسم وحدة الوجود إلى خير وشر ،ثم واجب) ...وحده اإلنسان ِ
عرف هذه الكلمة َ
وضع مفاهيم ونظريات وكتُب ومؤلفات حول كيف يجب أن تسير األمور فابتعد عن
الحقيقة والطبيعة والفطرة ،ابتعد عن قانون الحياة األعلى من الكتُب والكلمات .إهدأ
فالحقيقة موجودة هنا كما هي فال تدنسها وتدخل محرابها حامالً كلمة (يجب) في
قلبك .طهر قلبك حتى ترى هذه الحقيقة وتحياها كما هي ال كما تريد أنت وان لم
تفعل فستحيا الرجم واإلدانة ،سترجم ما ال يعجبك في الحياة وتدينها.
بعض المفكرين الغربيين حاولوا إظهار األديان الشرقية على أنها درب تمأله
الحجارة ...حجارة يلتقطها الرحالة على درب هذه األديان ليرجموا بها الحياة .غير
صحيح ...لن تجد دروبًا سخرت نفسها لحب الحياة وخدمتها والخشوع لقداستها مثل
دروب هذه األديان.
ال ُيغني قصيدة في عشق الحياة كمعبد (كاجوراهو)؟ أين ستجدأين ستجد معبدًا جمي ً
وفر َشت بالفهم ِ
علماً هو من أقدم العلوم الروحية التي شرحت أسرار الطاقة الجنسية َ
22
أثمرت أشجارها ِ
درب تحويلها إلى طاقة إلهية مثل علم (التانت ار)؟ أين ستمشي دروبًا َ
بكلمة نعم أكثر من دروب هذه األديان؟
اهلل هو الحياة والعبادة داخل معبد الحياة أي محبتها واحترامها والخشوع لقداستها هي
العبادة الحق .وموقف هؤالء المفكرين الغربيين من أديان الشرق سببه محاولة حجب
نور هذه الجواهر عن الغرب ،سببه ِقلة من العلماء والمفكرين والدعاة الشرقيين لم
يفهموا المعنى والمغزى بل تعلقوا بالنص والمبنى ،لكنهم ِقلة لم يتأثر بها نهر هذه
المعافي لقلب ون ْفس اإلنسان ،قلة لم تنساب مع تيار هذه
األديان الصافي الشافي ُ
األديان حتى فهي ال تزال على الشاطىء قلوبها عطشى ولم تنزل النهر بعد لتروي
عطشها وكفاها حديثاً عن الماء.
القلة لم تفهم جوهرة األديان فلم تُ ِحب ولم تحترم اإلنسان ،لم تُحب الحياة ،لم
هذه ِ
ترقص ولم تبتسم .إذهب إلى معابدنا وكنائسنا ومساجدنا ولن تجد عبير الزهور
ونبض الحياة ،زقزقة العصفور وأسرار الحياة .ستجد جدية وكآبة وتعب وتنسى معنى
اإلبتسامة والحياة.
قلة من المسيحيين يقولون بأن المسيح لم يضحك في حياته .أنا ال أصدق ذلك وال
يمكن أن أصدق فالمتأمل يعرف المسيح أكثر مما يعرفه أتباعه .ال ُبد وأن المسيح
ابتسم وضحك طوال حياته .في الواقع لقد بلغت ضحكته ذروتها حين قرر اليهود
صلبه ألن األمر برمته يدعو للضحك .المسيح يرى هؤالء األغبياء يحاولون قتل ما
ال يمكن َقتله ،يحاولون صلب ما ال يمكنهم صْلبه .إن محاولة قتل يسوع هي محاولة
غبية وال بد وأنه ِ
ضحك على غبائهم فاأليام ال تزال تردد صدى ضحكته لمن يسمع. ُ
الكنيسة لم تسمع ضحكة يسوع َفبَنت الدين المسيحي على الصليب أكثر منه على
المسيح .لو استمع الكهنة والرهبان للمسيح الرتفعت المسيحية إلى قمم عالية من
23
الوعي الروحي ،لكنهم لم يسمعوه بل اهتموا بالصليب ،والصليب هو الموت والحزن
والجدية.
حين يكون أحدهم حياً يتنفس ترانا ال نهتم به ،ال نزوره ،ال نكلمه وال نكترث ألمره...
لم نفكر يوماً بأن نجلس بجانبه ومحبتنا نشاركه ،لم نرقص ونحتفل معه ولو للحظات
ولكن عند الممات...
بعد الممات نتذكره حيًا وكأننا لم نعلم أنه كان حيًا .اآلن مات ،اآلن نبكي ونتذكر ما
فات ،ليس قبل هذا .نتذكر الموت ال الحياة ونستذكر الحياة بعد أن يحل األجل
ونحيا أموات من المهد إلى اللحد.
في يوم من األيام توفى عدو من ألد أعداء فولتير ،فأسرع أحدهم إلخباره بالنبأ
ال :لقد مات عدوك اللدود .فجأة حلت الصدمة ورحلت النقمة وأجاب
السعيد قائ ً
فولتير :سأشتاق إليه كثي اًر وبدأ بالبكاء وهو يقول :كان رجالً عظيماً ،ذكاؤه حاداً،
عوض .لم يصدق ناقل الخبر نفسه حين سمع الجواب.
حياته جميلة وخسارته ال تُ َّ
24
وباألوسمة ُنقلدهم .لكن أحياء ...أحياء ال قيمة لهم وال لعملهم أو إلبداعهم ...أحياء
نحن ال نراهم ...أحياء نرجمهم وأموات نمدحهم.
توفى رجل بائس في يوم من األيام فذهبت زوجته إلى الكاهن وسألته كم يحتاج من
المال ليقول في زوجها عذب الكالم ،ليتغنى بمآثره وبما قام به من أعمال .أجابها
بأن ال حصر وال عد لما لديه من أقوال وكما أن لكل مقام مقال فلكل مقال سعر
محدد من المال .طلب منها مئتي دينار .أجابته المرأة بأن المبلغ كبير وأن تدبيره
سيكون أمر عسير فهل من مقال يحتاج مبلغًا أقل من هذا بكثير؟ فأجابها بمقال
صغير سعره مئة دينار لكن مع هذا المقال لن يكون المدح والثناء على زوجها
باألمر المثير .فطلبت منه مبلغاً أقل فأجابها بمقال سعره عشر دينارات ونبهها إلى
أن الثناء والمديح لن يجدا مكانهما في المقال ،سيكتفي بقول الحقيقة دون تزيين
وابداع من وحي الخيال.
ال ُبد أننا نهتم بالموت على حساب الحياة .نحن أمة تخشى الموت وتخافه ،تخشاه
وتفكر فيه لدرجة العبادة حتى أصبح الموت رم ًاز للدين والشهادة.
الدين الحقيقي ال يقوم على عادات وتقاليد وأعراف نتوارثها جيال بعد جيل .العادات
تبق منه سوى الذكرى ...العادات غبار أيام عابرة،
عبق من زمن ماضي رحل ولم َ
ماتت ورحلت ولن تعود ،أما الدين فحي يتنفس ومتى أصبح وراثة لعقائد وأعراف
األجيال السابقة أصبح في خدمة الشيطان أكثر منه في خدمة اهلل ،في خدمة الموت
أكثر منه في خدمة الحياة ،في خدمة الطوائف المنظَّمة والسياسيين ورجال الدين ال
ويغلِق نوافذه فال يرى لنفسه ِ
ويحجب نفسه ُ
روح اإلنسان .حينها ي ِ
سدل الدين ستاره ُ
25
ال ،فاألعراف والتقاليد تنظر إلى الخلف لترى ما خلفته األجيال السابقة وما
مستقب ً
تركته من أعمال وأطالل أما الحياة فتسير إلى األمام.
الدين الحقيقي لم يهجر النفوس ليتخذ النصوص مسكناً له .كل حرف في النصوص
الدينية وكل كلمة فيها قد خفق قلبها بنبض الدين في يوم من األيام والزال يخفق في
طق .النبي
خفق بروح كل صادق أمين تحدث بهذه الكلمة ون َ
كل يوم من األيامَ ...
والمستنير ُيحيي الكلمة ويرويها معاني وحكمة وعبرة فيفوح عبيرها ويستنشقه كل قلب
باحث عن الحقيقة .لكن المعنى الحقيقي والحكمة والعبرة ،جميعها ترحل برحيل السيد
المستنير الذي خرجت هذه الكلمات من روحه ال من لسانه ،من تجربته ال من فكره
وتبقى الكلمة حروف ال حياة فيها.
حين مشى المسيح وخاطب تالميذه كان كالمه ينبض بالحقيقة حية خالصة لوجه
اهلل ،كلمته لها قلب يخفق وفيها نسيم ينعش القلوب ،كلمته تحوي حكمته وتجربته.
حين رحل المسيح غادرت الحياة الكلمات واآلن ...اآلن بإمكاننا أن نجمع كالمه
ونصنع منه نصوص ونصوص لكن المعنى ال تحويه سوى النفوس.
26
المعلم المستنير اختبر ما اختبره صاحب الكلمات وها هو ينفخ فيها الحياة من جديد
ُ
أحيتها روح تجربته وها هو ُيحييها اآلن في قلبك بعدما كنت
وهي حية في قلبه َ
تحملها كلمة خالية من أي حياة ،كلمة أثقَلتها معاني المفسرين والمثقفين فازدادت
حيرتك وعَلت في قلبك اآلهات.
يكون واجباً؟ الروح تشعر برغبة في الخشوع ،في التقوى والزهد بعد أن تذوق سالماً
ال ليس كمثله شيء وغير هذا الخشوع ال خشوع بل طقوس وشعائر بال
وترى جما ً
روح وبال خشوع .خشوع الروح هو خشوع حي ينبض بالمعاني وليس مجرد حركات
ت وأواني ،خشوع ُولِد من رحم المحبة ال من سجن الواجب ...و ْ
اح َذر ،فمتى سل ْك َ
دروب الواجب نسيت كيف تسلك دروب المحبة فالواجب عكس المحبة ،الواجب بديل
وهمي للمحبة.
الدين ليس في الطقوس والشعائر ولكن متى ُو ِجد الدين ُو ِجدت الطقوس والشعائر
النابعة من المحبة الصادقة واإلحساس العفوي ،من أسرار ع ْشتها ِ
وشرْبتها وها أنت
اآلن تحياها وتُجسدها .وكيف لك أن ال ترافق النبي محمد والمسيح حين يدعوك
27
للصالة معه؟ كيف ِ
لنفسك أن ال تخشع وتصلي وتتصل بأصلها في هذه الحضرة؟
كيف لك أن ال تراقبه وهو يتحرك ويمشي ويتحدث؟ أن ال تستنشق عطره؟
أمامك خيارين :إما المحبة أو الرجمة ،إما أن ترجم النبي والمستنير أو أن تحبه فال
يمكنك تجاهله واإلثنين شعائر وطقوس .الرجم هو طقس العدو واتباع النبي
المحب والصديق أم العدو الذي يشعر والمستنير هو طقس ِ
المحب .ومن أنت؟ ُ
ُ
طقسك وحياتك وصالتك وان كنت عدواً فالعداوة
بالضيق؟ إذا كنت ُمحباً فالمحبة َ
طقسك وحياتك وصالتك...
أنت تسمع رجل الدين يتحدث ويتكلم ،لكن كالمه ال يوازي ما قاله الرسول الحبيب أو
المسيح ،فالرسول والمسيح يحدثانك بما اختبراه وعاشاه ...يحدثانك والمسؤولية تُالحق
حديثهما كظلهما...
رجل الدين ال يتحمل مسؤولية الكالم الذي ينطق به ،هو يتحدث على مسؤولية
الرسول والمسيح فهو لم يختبر شيء .السيد المستنير يتحدث على مسؤوليته ،سلطته
تنبع من تجربته ال من تجربة غيره.
وبعد ...فالدين ال صفة له وال َلقب .ليس باإلمكان أن يكون الدين سنيًا أو شيعيًا أو
َ
تنعت
مارونيًا أو كاثوليكيًا أو يهوديًا أو بوذيًا أو أو أو ....كما الحب تمامًا ...هل َ
الحب بالكاثوليكي أو بالسني أو الشيعي؟ الحب هو الحب فلِماذا ال يكون الدين هو
الدين دون ألقاب ِ
وصفات؟ ألَم ُيقل المسيح اهلل هو المحبة؟
الدين كالمحبة في صفائه ،كمياه الينابيع في نقائه .الدين ال يعرف صفات وال
مدلوالت وال تعريفات ودروب األديان جميعها مفتوحة أمام اإلنسان ليمشي ويختبر
ويختار فال أحد يختار دون اختبار ،ال أحد يولَد في الدين بل على الدين أن يولَد
28
فيك ...يولد فيك بعد رحلة حج طويلة على درب الحق تبحث وتبحث وتفشل وتنجح
وتقع ِ
وتقف ثم تتابع المسير...
الدين رحلة نمشيها فُراداً ،نبحث في وسط العتمة عن النور وعن إنسان صادق وأمين
ونطلب العلم اإللهي من سيد مستنير حتى ولو كان في الصين...
الدين ليس مهمة جماعية اجتماعية فال عالقة للدين بالمجتمع أو العقل الجماعي.
الدين عالقة حميمة بينك وبين الوجود كالحب تماماً حين تفتح قلبك وروحك للحبيب
وتتوحد معه وتصبح له ويصبح لك أقرب من أي قريب...
هكذا الدين ...حب متبادل ،وحدك تشعر بهذا الحب ،وحدك ترقص على أنغامه
وتحيا بركة أيامه ال المجتمع .الدين عفوي ال ُي َعلم وهل تتعلم الحب؟ نحن نحيا الحب
ال نتعلمه والدين تحياه ال تتعلمه .بائس هو اليوم الذي ستلجأ فيه البشرية إلى
معلمين يعلموها كيف تُ ِحب وهذا اليوم ليس ببعيد .في الغرب وفي أميركا بالتحديد
عديد من الكتب تحت عناوين (كيف تُ ِحب ،وكيف تكسب األصدقاء) ...كتُب غبية
فمتى فقد اإلنسان قدرته على الحب لن يجد ما يتعلمه عن الحب في أي كتاب.
الدين ثورة ...ثورة على الوهم الخارجي .على زيف المجتمع والسياسة والحضارات
والثقافات ...ثورة تهمس لنا بأن نستفتي قلوبنا ونستمع إلى نداء ذلك الصوت الخافت
البعيد اآلتي من أعماقنا ونتبعه دون أن نسأل أين سنصل وماذا سنجني ...نتبعه
29
دون سؤال عن العواقب وخوف من الطريق ،فهذا الصوت صديق ...هو الصديق
الصادق الوحيد.
الدين رحلة نمشيها بهُدى وهداية من هذا الصوت ،فهو دليلنا وحارسنا ومرشدنا
ومعلمنا وهو حقيقتنا ومصيرنا وقدرنا ...أنت تخاطر بكل شيء ألجل رحلة التدين
ومتى خاف اإلنسان على منصبه ومركزه وأبى أن يمشي رحلته على ُهدى همس
صوته فالتدين لن يطرق بابه ،طوال حياته.
درب التدين خطير ومن يمشيه هو أشبه بالقابض على الجمر ...من
يمشيه يحمل صليبه معه ألن المجتمع سيصلبه ...سيصلبه ولكن بعد
الصلب قيامة وبعد الفناء شهادة
31
كلمة اهلل
ماذا في الكلمات سوى حروف وخلف الحروف دالالت؟ دالالت تشير للمعاني الحية
في القلوب النابضة المفعمة بالحياة .كلمة اهلل ليست باهلل وكلمة حب ليست بالحب
وكلمة نار ليست بالنار .لنهجر الفكر ونعطيه راحة ،لنهجر غابة مليئة بأشواك
الكلمات وحروفها ،إلى حديقة تمألها أزهار المعاني ..حديقة يفوح منها عبير العبرة
ِ
إستخدمها وال تتعلق بها، فتُعلن الكلمة غيابها وخسوفها .الكلمات رموز واشارات،
جسرها وال تبني بيتًا عليها .بإمكانك نسيان الكلمة إن تذكرت المعنى ،فال
أُعبر ْ
تنسى الكلمة وأنت تجهل المعنى فهذه هفوة وغفوة أنت المسؤول عنها .ما حدث أننا
استعملنا اللغة بإتقان ،أصابنا الهوس باللغة َفنسينا أنها قناع يحجب الحقيقة عن قلب
اإلنسان...
حدث ذات يوم أن طلب صديق من صديقه أن يأتي له برجل دين يزوره وهو في
مرضه على فراش موته ليهدأ قلبه .أتاه الصديق برجل الدين ليجلي عنه الظنون
ويفرج عنه الهموم ،فتفوه المريض بكالم غير موزون .غضب رجل الدين وهم بمغادرة
المكان ،فطلب منه الصديق أن يسامح صديقه المريض فهو لم يقصد اإلساءة ولكنه
في حال معاناة وهوان ...أبى الرجل أن يسامح وذهب وغادر المكان ...منذ ذلك
اليوم شعر الصديق بأن ال رحمة وال غفران ،بأن ال حاجة لرجل دين وقرر أن يبحث
وحده عن اهلل ...أمر واحد لم يكن في الحسبان ،هو اآلن يشعر برفضه لرجل الدين
ورْفض هلل في ذات الحين فحزن لما أتاه فهذا عكس ما أراده وتمناه...
31
مسؤولية هذا الصديق هي أنه ضل الطريق ِ
وحسب دون أن يدري أن اهلل عدو وليس
صديق مثله مثل رجل الدين الذي زار صديقه المريض .إنها هفوة وغفوة فالرجل هو
من رفض مساعدة صديقه ليس اهلل فاهلل من كل إنسان قريب...
أن يتحاشى هذا الصديق رجال الدين ليس باألمر المريب والغريب ،في الواقع كلما
ابتعد اإلنسان عنهم كلما اقترب من اهلل فيه وبداخله أكثر فال حاجة لمن يهديك
الصراط المستقيم وهو لم ِ
يهتد بعد ،سيكون األمر مجرد كالم وفلسفات ونظريات
وعودة لغابات مألتها األشواك .رجل الدين يفعل العكس فيحاول رسم صورة ُمعتمة
وطريقاً مجهوالً إذا قرْرت أن تسلك درب اهلل وحدك وحيداً دون شريك أو رفيق...
يرسم صورة معتمة ونهاية مجهولة حتى تشعر بالخوف وثقل الحمولة فتحتاج لمن
رسم هذه
بأذنيك .إن ْ
بعينيك وتسمع بأذنيه ال ْ
كتفيك وترى بعينيه ال ْ
يرميها عن ْ
الصورة هو عمله وفيه تجارته وربحه واال ...فال وسيط ...وهل من قرابة هي أقرب
من حبل الوريد؟ نعم فاهلل أقرب ...إذاً َلم تحتاج لوسيط؟
لدعاة
جميل أن تكون هذه الحكاية بداية يبدأ بها هذا الصديق رحلته دون حاجة ُ
الحق والفضيلة ،دون حاجة لتعاليمهم وبضاعتهم الماورائية التي يتاجرون بها ...لكن
الحكاية أصبحت بداية لفقدان الهداية وها هو يقاوم كلمة اهلل ألنه ال يراها وال يفهمها
فهمها ورآها وحواها؟ ليس هلل دخل
بمعزل عن رجل الدين ،ومن قال أن رجل الدين َ
بما فعله ذلك الرجل فاهلل جميل ودود وبينه وبين عباده تتالشى الحدود ومن عرف
هذا الحق بدأ ينساب مع تيار الوجود نحو األبدية والخلود .ذلك الرجل أدار ظهره
ذنبه ،وهذا ال يعني أن جميع رجال الدين مثله .لكن اهلل ...اهلل لم يدر ظهره
وهذا ْ
ألحد منذ بداية الزمان ،لم يرد ولم يخذل إنسان...
في الواقع ال ُبد وأن اهلل اقترب من هذا المريض على فراش الموت أكثر ،فبرحيل
رجل الدين أصبحت المساحة للتواصل مع اهلل أكبر .فما الحكاية؟
32
الحكاية أن هذا الصديق اختار أن يمشي الطريق بعيدًا عن أعلى رفيق ،الرفيق
األعلى ...وهذا حالنا جميعاً .شفاهنا تقول أنها باهلل ترغب وبالدنيا تزَهد ،أنها تريد اهلل
وتبحث عنه لكن قلوبنا تنبض بعكس هذا الكالم ،تنبض بأننا ال تزال نخشى اهلل وال
نريد لقائه ...أنه ال زال عندنا أحالم وآمال وأوهام لم نشبع من مالحقتها بعد.
ومن هنا تولد األعذار كما ُوِلدت حكاية صديقنا الذي ابتعد عن اهلل بسبب رجل دين.
ليس هذا هو السبب ولكن أعذارنا تدعو للعجب ...للدهشة ألنها جزء من لعبة األنا
والعقل من جديد لإلبتعاد عن اهلل وكل ما هو قيم ومفيد .أنا وأنت السبب في ُبعدنا
عن اهلل ،وحكاياتنا أعذار توهمناها ،وقصص ألفناها وألِ ْفناها حتى نظل في العتمة وال
نرى النور أبداً .ولكن ما هذه المقاومة الموجودة داخلي وداخلك وداخلنا في وجه
معرفة اهلل؟
السبب بسيط ...وجودي ووجودك ووجودنا هو العائق الوحيد في وجه معرفة اهلل...
وكيف لنا أن نواجه اهلل ونحن ال نزال نرتدي نعالنا ولم نخلعها بعد؟ أين سنجد اهلل
ونحن النزال نبحث عن أحالمنا ونجري خلف طموحاتنا وننتظر أن تتحقق توقعاتنا
وأن تزيد في البنوك أموالنا؟ السبب بسيط...
آمالنا وأحالمنا وتوقعاتنا ترسم في المجتمع هويتنا وشخصيتنا وبدونها نحن ال شيء،
بدونها ال نعرف وجوهنا ،بدونها من أنا ومن أنت؟ ُسلبنا هويتنا وانتمائنا وقوميتنا
فمن نحن بدونها وأين نحن؟ سأقول لك من نحن بدونها وأين نحن...
وأسمائنا وألقابنا َ
بدونها نحن أنا وأنت دون تعليب ،دون أكاذيب ...بدونها أنا أنت وأنت أنا فال أحد
في هذه الدنيا غريب ...بدونها نحن ال أحد وفقط حين نكون ال أحد سنعرف من هو
الواحد األحد ...هذا هو معنى الخشوع واإلسالم واإلنمساح باهلل...
33
وحده هذا الحال ،هذا التوجه خاشعاً بعد أن انحنت وتنحت أحالمك ورغباتك
ت منها كأسك فاسحاً المجال لذاتك حتى تسمع اهلل يقرع بابك ،هو
وطموحاتك فأفر ْغ َ
السبيل لفنائك حتى تلقى اهلل أو حتى تفهم أن ال وجود إال هلل فحتى اللقاء الموعود
فيه غيابك وحضور اهلل الودود ...إما حضورك وغياب اهلل أو غيابك وحضور اهلل
فماذا تختار؟ حضورك الواهم؟ أو غيابك الخاشع؟ األمر سهل وبسيط ولكنه
ووقْعَه على النفوس مرير.
لمجتمعاتنا وفلسفاتنا وثقافاتنا وسياساتنا خطير َ
34
بين المعرفة و ِ
العرفان
سألتني يا صديقي عما يعبر عن وهم حقيقي يحياه اإلنسان فيظن أنه مَلك بين يديه
ما لم يملكه نبي أو حكيم أو مستنير ،رغم أن الحكاية هي العكس ،فجميعهم
استسلموا وخشعوا بين يديه ،وسلموا معرفتهم وأنفسهم قرباناً إليه .سألتني يا صديقي
أن أخبِرك عن اهلل أكثر .أنت تريد أن تعرف عن اهلل المزيد ونسيت أن معرفة اهلل ال
تعرف القليل وال المزيد .نعم ،بإمكانك أن تعرف اهلل ال أن تعرف أكثر عن اهلل...
كلمة (عن) هي رمز لحاجز وجودي كبير بينك وبين األكبر من كل كبير .قد ال
يرى الناس فرقًا بين أن أعرف اهلل وبين أن أعرف المزيد عن اهلل .ال يا أخي فالفرق
كبير.
هو الفرق بين المعرفة والعرفان .أن تجمع معلومات عن اهلل ،أن يخبرك غيرك
بمعلومات عن اهلل ،هذه هي المعرفة ،معرفة عن اهلل .أما أن تعرف اهلل ،أن تختبر
الذات اإللهية ،فهذا هو العرفان.
أنت تعرف لكنك لم تختبر واإلختبار سبق الكالم .التجربة خير دليل وبرهان .التجربة
هي لإليمان عنوان.
35
عرف ربه من األنبياء والحكماء واألولياء ،جميعهم
التجربة تلغي المعرفة لذا تجد من َ
يقولون حين ُيسألون بأنهم بعد أن اختبروا عرفوا شيئاً واحداً وهو أنهم ال يعرفوا شيئاً.
العرفان يلغي المعرفة ،وعلى درب اهلل ستتعلم كيف ترمي كل ما عرْفته وتعل ْمته أثناء
رحلتك ...بل سترميه وحدك ،فعطشك سيخبرك أن المعرفة لن ترويه .وحدها التجربة
تُ ِ
نعش كيانك وتُحييه.
36
الحضرة اإللهية لن تحدث لمن تمسك بنفسه وممتلكاته الشخصية ...الحضرة اإللهية
لمن بدأ رحلة حج داخلية فذاب وتحلل على درب رحلته ...بعدها سيجد نفسه بين
أحضان األنوار اإللهية ...وتذكر إما حضور اهلل أو حضورك أنت ...حضرتان ال
تلتقيان ...إما اهلل واما أنت ،إما التجسد أو الفناء فال مجال للقاء .ومتى اخترت اهلل
ت بأن ال وجود إال هلل وهذا هو سر شهادة ال إله
ت وسل ْم ْ
استسلم َ
ْ استسلمت...
ْ فأنت
إال اهلل.
37
ألوان قوس قزح السبعة
في الصباح ،إفتح شرفتك وتأمل ألوان قوس قزح السبعة ...أنظر لها ،هي رمز لك
خلقها الرحمن سبع مقامات بينها اختالفات وتكامالت .تكامالتها
فن ْفس اإلنسان َ
تحوي الجمال واختالفاتها تحوي السؤال ...وما هو السؤال؟ هل باإلمكان أن يحقق
قدره ويحيا خليف ًة هلل على األرض؟ هل سيتعرف على نفسه وأسرارها حتى
اإلنسان َ
شج ِرها وأزهارها؟
يعرف ربه وحكمة الوجود ويدخل جنة اهلل منتشياً بين نخيلهاَ ،
اإلنسان ألوان ،مقامات ونوتات ...كل مقام نوتة ،كل مقام آلة موسيقية تعزف لحناً
فريداً وحيداً ومنفرداً ...التدين يعني أن تسمع كل آلة وتفهم صوتها وتحترم إيقاعها
وتفقه دورها ومن ثم توحد آالتك جميعًا لتعزف بها ...لتخلِق بها لحنًا واحدًا ...لحنًا
تعزفه جميع اآلالت ...صوت واحد فال أصوات مختلفة بل أصوات متناغمة مكتملة
توحدت واتحدت لتعزف سيمفونية اللحن اإللهي.
حال اإلنسان اآلن هو حال سبع آالت كل واحدة منها تعزف عزفاً منفرداً ،لحناً
يخالف أخاه والخالف يولد الجفاف ...جفاف الفن واإلبداع فتختفي سيمفونية اللحن
اإللهي ويولد الخوف والصراع.
هذا سبب عميق للخوف والقلق الذي ينتاب ن ْفس كل إنسان ،للهاجس الذي ُيالحق
أبعد ِ
كل إنسان .هو السبب العميق وأي سبب آخر فمجرد وادي واهم وسحيق َ
38
اإلنسان عن جذور خوفه وسبب آالم نفسه .ما أصل الخوف والقلق والصراع إذاً؟
هل سأحقق قدري؟ هل سأعزف لحني؟ وهل سأحيا مجدي؟ هذا هو السبب الحقيقي.
وحده اإلنسان يحيا القلق ألنه في الوسط ،ألنه همزة وصل ،ألنه الجسر .جسر
يصل عالم الحيوان بعالم األلوهية ،البيولوجيا بالذات السرمدية األبدية ،النفس اللوامة
األمارة بالسوء بالنفس الخاشعة المطمئنة.
الحيوانات تحيا في سعادة دون أن تعي معناها ،سعيدة دون صراع أو خوف أو
صداع .واهلل هو السعادة ...السعادة الواعية ...السعادة في أرقى صورها وأوج
حكمتها .واإلنسان بينهما جسر ...جسر لتعبر عليه الن ْفس من الفكر والمادة إلى
اإلحساس والحدس ثم إلى الروح .اإلنسان يتأرجح بين حيوانيته وألوهيته وبين
الحيوانية واأللوهية قلب يخفق ،قلب هو رمز للبشرية .بين الحيوانية واأللوهية،
إنسانية.
اإلنسان يتأرجح ويسأل أكون أو ال أكون؟ أظل عبداً للشهوات والمطامع أم أُصبِح
تضت وسل َمت و َأن َست بحضرة اهلل الجامع؟
قنعت وار َ
ن ْفسًا َ
لِقوس قزح سبعة ألوان تحاكي سبعة مقامات موجودة داخل ن ْفس اإلنسان .يولد
اإلنسان وهو يحيا المقامات الثالث األولى فهي حيوانية ،وظيفتها الطعام والسيطرة
ويكبر ويبني
والجنس ولكنها مجرد بداية ...بداية الرحلة .إذا اختار اإلنسان أن ينمو ُ
على هذه المقامات الثالثة بيتاً ويس ُكن فهذا خياره ،فقد اختار أن يحيا حياة الحيوان
39
الذي ال يعقل وال يعي معنى وسر وجوده .هذه غفوة في حق نفسه ،هفوة ستحرمه من
قدر اهلل هو أن تتابع
وقدر اهلل المكتوب يعني ما عناك الوجود أن تكونهَ .
قدره َ
تحقيق َ
المسير وأن ال تكون لحياة الحيوان أسير حتى تعزف لحنك اإللهي بوعي ومحبة
وتنبت فيها ومنها .فمتى ارتكب
وضمير .هذه الهفوة منبع الجريمة وتُربتها التي تنمو ُ
اإلنسان هذه الهفوة بحق نفسه فسيرتكب هفوات وأخطاء في حق اآلخرين.
المهووس بالسلطة يلي المهووس بالطعام مقاماً وهنا أعني رجل السياسة ورجال
المال واألعمال .أعني من سخر حياته ألجل السيطرة على الناس في حياته وحتى
بعد مماته ،ولكن لماذا؟ ...عقدة النقص هي السبب ،وحب إثبات الذات يدفع
باإلنسان ِلفعل العجب .فيسعى ليثبت أنه أعلى ،أنه متفوق وأذكى ...يسعى لوضع
الناس في مكانها الصحيح على الرغم من أنه لم يضع نفسه في مكان صحيح .هذا
اإلنسان رمز لألنا وانسان هذا المقام يسعى في كل اتجاه بحثاً عن السلطة واألمان.
عج َزه.
يسعى خلف المال ليختزنه فيشعر بالقوة ويخفي ْ
يسعى خلف القمة فيمشي ويمشي وما أطول الطريق وما أبعد مثل هذا اإلنسان عن
أن يكون له صديق ،وحده يمشي الطريق حتى يصل وحده القمة ويعتليها وبعد...
ماذا بعد القمة؟ قمة أخرى؟ بعد القمة خيبة أمل وشعور بالوحدة والمَلل ...ضاع
وقاوم الكهولة؟ هل
العمر بحثاً عن القمة والشهرة والسلطة ثم ماذا؟ هل ظل الشباب َ
حمل مزيدًا من ِ
الوزر وأثقال الحمولة؟ ...ثم ماذا؟ عرف سبب مجيئه لهذه الدنيا أَم َ
وهم ِ
ولعب ،لهو أغشى البصر... إكتشاف بأن القمة ْ
41
الجنس يلي هذا المقام ...الجنس هو المقام الثالث في اإلنسان فالجنس أعلى من
الطعام و ِمن لعبة السلطة والمجد واألوهام .لماذا؟ ألن الجنس مشاركة...
تقنع وال
في الطعام أنت تأكل فتشبع ،في السلطة أن تمتلك الناس والمال والجاه وال َ
تشبع ،لكنك في الجنس تشارك الشريك بما لديك .الجنس هو األعلى مقاماً في عالم
الحيوان والناس في يومنا هذا َبنت بيوتها في ٍ
مكان ما بين هذه المقامات الحيوانية
الثالثة.
المقامات الثالثة األولى حيوانية ،المقامات الثالثة األخيرة إلهية وبين الحيوانية
واإللهية وسط ،جسر هو البشرية ،هو اإلنسان ...بين الحيوانية واإللهية مقام رابع،
مقام القلب ...والقلب يعني الحب .الحب هو جسر يصل الحيوانية باأللوهية ،الشهوة
بالصحوة .اإلنسان الذي لم يحيا الحب وارتضى بالعيش تحت مقام القلب لم ِ
يعش
إنسانيته بعد ،لم يهجر حيوانيته بعد ...واإلنسان الذي يحيا فوق مقام القلب هو من
تجاوز الحب ،تجاوز إنسانيته ليصب نهر وجوده في بحر ألوهيته حيث قدره وجنته.
هذا اإلنسان هو كل حكيم ونبي ومستنير عزف في هذه الدنيا لحنه األخير.
يبدأ الحب العادي الذي يخفق به القلب بالتحول إلى حب تأملي يرتقي به الكيان
حين يحيا اإلنسان في المقام الخامس ...مقام موت األنا واستسالمها ...قبلها كانت
العالقة أنا والشيء ،أنا وحب اإلمتالك ،وبعدها أنا وأنت مع احتمال السيطرة ومانراه
اليوم بإسم الحب من تملك وامتالك .أما اآلن فال أنا وال أنت بل الحب بيننا....
حب هو أقرب إلى الصالة منه إلى األشعار والحب الذي نق أر عنه في الروايات ،ومع
المقام السادس يتحرر الحب من سجن العالقات ويحلق في ذات اإلنسان التي
انطوى فيها العالم األكبر ليصبح حالة وجود .أنت ال تُ ِحب اآلن ألن الحبيب موجود،
41
تحب ألنك الحب وليس بإمكانك سوى أن تُ ِحب ،وبعدها بخطوة أنت في منزلك
أنت ِ
ستجد رموز هذه المقامات في العديد من األديان خاصة في المسيحية ...قصة اهلل
الذي خلَق الوجود في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع ...هذه الحكاية جميلة فيها
ستة أيام ترمز لمقاماتنا الستة واليوم السابع هو الراحة في المقام األخير ،حين يعود
اإلنسان بعد رحلة حجه إلى نفسه ،إلى جنة اهلل ،حين يالقي وعيه الصغير الوعي
اإللهي الكبير فيعلم ما هو سر التوحيد ويشهد أن ال وجود إال هلل وأن اهلل أكبر....
عند مقام الراحة األخير ستعي اهلل حقيقة مطلقة ،ال رم ًاز أو كلمة فارغة من أي
محتوى .ستعي اهلل حقيقة مطلقة وليس كلمة أتعبتها ألسنة رجال الدين والسياسيين
ومرماها .ستعي أن اهلل في قلبي وأنا (ليست باألنا) في قلب اهلل.
فقدت معناها َ
حتى َ
42
في اإلسالم أيضًا تجد ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل .سبع كلمات تبدأ من (ال) أي
النكران( ،ال) هي عدم الراحة في غابة الشهوات والغرائز الحيوانية وتنتهي ب(اهلل)
أي العرفان( ،اهلل) أي الراحة في واحة النعمة اإللهية ...سبع كلمات تجسد سبع
حاالت وسبع سماوات تمر بها نفس اإلنسان من الجهل إلى الحكمة ،ومن النقمة إلى
الرحمة .لألسف لم يذهب العلماء المسيحيين والمسلمين بعيداً في أسرار نصوص
الدين وظلوا يشرحون ويفسرون باألفكار والعقول ال بما هو أرقى وأنقى وأسمى،
يحاولون شرح الحقيقة الكونية وتفسيرها بالمنطق ،والحقيقة تعدت وتجاوزت كل
منطق...
تُخبرنا الحكاية بأن اهلل خَلق المادة والطيور والحيوانات وغيرها في خمسة أيام وفي
اليوم السادس خلَق اإلنسان ...خلَق الرجل ...ثم خلَق المرأة في اللحظات األخيرة
من ذلك اليوم .هذه الحكاية تفوح منها ِ
العَبر ومن يفهَمها يجد طريقه للتدين والهداية.
لماذا كانت المرأة هي المخلوق األخير في الوجود؟ هي النهاية؟ لماذا تقول الحكاية
بأن المرأة ُخلِقت من الرجل؟ في الحقيقة لم تُخلَق المرأة من الرجل ،فما مغزى هذا
الرمز الديني إذًا؟ ...المغزى جميل ...المغزى أن المرأة هي رمز للرجل في أصفى
حاالته ،في أعلى مقاماته وأرقى أحواله ...طاقة األنثى هي طاقة الصعود وطاقة
الذكر هي طاقة الهبوط لذا فهذا الرمز هو محاولة إلفهامنا أن المرأة هي طاقة أعلى
من طاقة الرجل .طاقة المرأة من األرض إلى السماء وطاقة الرجل من السماء إلى
األرض ...الرجل أكثر ميالً للفكر والمادة والشهوة ،المرأة أكثر ميالً للمحبة والحدس
43
والرحمة ،لذا فحين يبدأ الرجل طريق التدين ،حين يسلك دروب الدين ويرتقي بطاقته،
حين يرتفع مقامات ومقامات ليحلق فوق سماوات سيتحول الفكر إلى حدس ،والشهوة
إلى محبة والعدائية إلى رحمة وهذه الصفات هي صفات المرأة.
الرجل يعني المنطق والعدائية واإلرادة والفلسفة وحب الفعل ...المرأة تعني الحدس
والخيال والرؤية و ِّ
الشعر وحب التلقي ،تلقي الحب واإلهتمام والجمال وهذه الصفات
في ميزان الوجود أعلى وأرقى وأنقى.
المرأة أكثر انسياباً وليونة ،الرجل أكثر جفافاً وصعوبة .الرجل ُيصارع الوجود ،يريد
أن يحتل الوجود لذا تجد العلم الحديث في أصله نتاج فكر ذكوري .الرجل يحاول
اإلعتداء على الطبيعة ،احتاللها وسْلَبها جمالها وبهائها .أما المرأة فال تعتدي وال
تُحارب أبداً...
المرأة تُحيي وتُرِّحب ...إذاً فالرمز الديني القائل بأن الرجل ُخلق قبل المرأة يعني أن
الرجل أعلى حيوانياً بينما المرأة هي األعلى إنسانياً .لألسف نجد علمائنا ومفسرين
األديان قد سلكوا الدرب المعاكس لحكمة الميزان ،ميزان اإلنسان .الجميع فسر الرمز
الديني من وجهة نظر ذكورية ،من فكر ذكوري فحاولوا إظهار الرجل بأنه األكثر
أهمية وحاولوا إجبار المرأة على الخضوع له فكبتوا طاقاتها وأسرارها الروحية ألجل
إشباع أهواء الرجل وغرائزه الحيوانية.
المرأة هي المخيلة والرجل هو اإلرادة ...المخيلة توَلد بعد أن تستسلم اإلرادة فتتحول
الطاقة من عدائية إلى تلقي ،من حرب وقتال إلى محبة وجمال ،من غضب وعدوان
إلى رحمة وغفران...
44
ِمن رْحم الغضب تولد الرحمة ...الرحمة سيمفونية تعزفها آالت الغضب البدائية،
والحب سيمفونية غير عادية تعزفها آالت الجنس العادية ...الحب يولَد من رْحم
الشهوة...
في هذه الحكاية رسالة ...رسالة مغزاها أن طاقة الذكر ستتحول إلى طاقة أنثى في
طريقها صعودًا على الدرب اإللهي ،صعودًا عابرةً المقامات السبعة ...عند المقام
السادس على اإلرادة أن تريد شيئاً واحداً ...اإلستسالم ،على اإلرادة أن تنحني
وتستسلم ليتلقى اإلنسان علوم وأسرار األكوان ،على المنطق أن يستسلم للمحبة وعلى
النقاش والتحليل والتفسير أن يستسلم للحدس واإلحساس .اآلن ال صراع بين العبد
وربه ،بين طاقة اإلنسان وطاقة األكوان ،اآلن لت ُكن مشيئتك كما قال المسيح واآلن
هو اإلنمساح والسالم واإلسالم الحق....
في أحد األيام طلب رجل ثري من بيكاسو أن يرسمه فوافق على طلبه واشترط أم ًار
واحداً حتى يرسمه ...اشترط الحصول على الكثير من المال فوافق صاحب المال
مقابل أن يرى لوحة في غاية الجمال ...وحين انتهى بيكاسو من رسمه ،حين رأى
رسمه أصابه الذهول وكأنه رأى شخصًا مجهول أمامه على اللوحة فسأل
الرجل ْ
بيكاسو ماذا جرى له؟
كل هذا المال مقابل هذه اللوحة العادية؟ بعد هذا الكالم دخل بيكاسو غرفته وأحضر
ضع ما شئت من األلوان
لوحة كبيرة ومجموعة ألون وأقالم وقال :هات ما عندكَ ...
45
و ِأرنا ما هو الرسم يا فنان ...حينها أصاب الثري صمتًا غير معتاد ،فقد فهم أن
الرسالة ليست في األلوان ،أن الغاية ليست في اللوحة واألقالم .ف ِهم أن الغاية هي
تكمن
الفنان ،هي العازف وراء هذه اآلالت ،العازف الذي ُيناغم بين األلحان ،الرسالة ُ
فمزجها ووحدها وأبدع ِوحدة ولوحة لم يراها
مزج واستخدم األلوان َ
في الفنان الذي َ
الوجود قبالً ولن يعرفها َبعداً.
اإلنسان لوحة تعددت واختلفت فيها األلوان ،جنس وغضب وحب و ُكره
ومشاعر وأفكار وووو ....جميعها ألوان يمزجها ويوحدها اإلنسان الفنان
ليبدع بها ومنها لوحة تشكره عليها ويشكر بها األكوان ،من أهداه هذه
ُ
األلوان
46
المؤمن والمنافق
يوَلد الطفل في عائلة ُمسلمة أو مسيحية أو بوذية ...يوَلد الطفل وسرعان ما تهُب
سرعان ما يأتوه بثيابهم
وتعصف بقلب الطفل الصغيرُ ...
ُ رياح عقول أفراد العائلة
فيخبروه بأنه مسلم وهو ال يعلم عن الرسول شيئاً ،بأنه مسيحي وهو
وثياب أجدادهم ُ
ال يعلم عن المسيح شيئًا ،بأنه بوذي وهو ال يعلم عن بوذا شيئًا ...يجلبون الماء من
آبارهم ويقدموه للطفل في كؤوسهم وهو لم يشعر بالعطش بعد ...في الواقع هو لم
يدخل الحياة بعد وأنت تُخبره بأنه سني أو شيعي وتُجبِره على الذهاب للمسجد أو
الكنيسة ...وتمضي األيام ويتكرر كل يوم ذات الكالم فيستسلم العقل ألن اإلفالت
من األمر ُمحال وتهب رياح الدين المزيفة من الخارج إلى الداخل...
هذه الرياح ال تكون حقيقية إال إذا هبت من الداخل إلى الخارج ...تمضي األيام
ويرتدي الطفل ثوبه المستعار ،يرتديه ويتمسك به ويأبى أن يخلعه طوال عمره.
يرتديه ويصبح مسيحياً أو مسلماً دون أن يكون قد وقع وارتفع حقاً في حب الرسول
ويولَد النفاق ،ومع النفاق هالك ،مع النفاق ُنعاني
أو المسيح .يرتدي ثوبه المستعار ُ
47
من ما نراه اليوم من تعصب وحرب ودمار تحت كل ثوب وخلف كل شعار ...لماذا
لم ننتظر؟ لماذا لم نترك الطفل حتى يشعر برغبة البحث عن الدين وحده؟ لماذا لم
فنرشده إلى النهر ال ُنجبره أن يشرب منه وهو ال يعرف
ننتظر حتى يشعر بالعطش ُ
عن العطش والماء شيئاً؟
قد يقف اإلنسان على ضفة نهر دون أن يشعر بالعطش فال يرى الماء صافية جارية
وحده العطش ي ِهب اإلنسان عيناً ترى الماء ،وحده
وال يعلم أنه بجانب النهرَ ...
الحنين ي ِهب اإلنسان قلبًا يرى النور.
التدين الحق يبدأ من داخل القلب وأبعد ،من الكيان ال من تصرفات اإلنسان .المؤمن
ال ُيحاول تحسين صورته وعملِه لينال رضى واحترام غيره ،المؤمن يبحث عن النور
الذي ُينير به شمعة وعيه ،كيف ُيصبح أكثر وعيًا ،أكثر فهمًا ومسؤولية وشهادة على
فكره وسمعه وبصره واحساسه .الصورة والتصرفات هي ِعماد الشخصية الدينية
المزيفة ،والوعي والشهادة الداخلية هما ِقوام الفردية الدينية الحقيقية .المجتمع يهتم
بالشخصية ،لكن الرسول والمسيح وبوذا وكل حكيم ونبي ومستنير يهتم بالفردية.
الشخصية صورة خارجية بينما الفردية حقيقة داخلية وليست تمثيلية.
رِاقب شرائعنا وما تحويه من كالم خاطب الناس على قدر عقولها ...لماذا على قدر
عقولها؟ ما معنى هذه العبارة الجميلة ذات المعاني الثقيلة؟ عبارة مهمة تعني أن ما
لعشاق اللهو
اختبره النبي والحكيم والمستنير هو سر مقدس ال يُفتَح بابه للعامةُ ،
وعب َدة الملذات واألصنام .لذا يخاطبهم على قدر عقولهم بما يفهموه ويستوعبوه من
َ
48
تعرف
عيش األحالم .وهذا ال يعني أن الحقيقة لم ِّ
كالمُ .هم يريدون أن يستمروا في ْ
عرَفت عن
عن نفسها ...فالحقيقة عرَفت عن نفسها بين وخلف كلمات المسيحَّ ،
مزج الرسول الحبيب علومه وأسرار اختباره في قلب أبو بكر،
نفسها في الغار حين َ
لكنها أسرار وعلوم لنخبة النخبة وصفوة الصفوة ،لمريدي الحق ال للعامة وعشاق
وعبدة المال والملذات واألصنام.
اللهو َ
49
الرحمن الرحيم
ليس هذا ما بحث عنه األنبياء واألولياء وكل من كان لن ْفسه منجياً ومخلصاً فقامت
وب ِع َ
ث من جديد وعياً طاه اًر مميز وفريد. قيامته ومع األبرار كانت منزلته ُ ِ
ونش َر ُ
قالها المسيح ،ما لم تعودوا كاألطفال لن تدخلوا ملكوت اهلل ...المسيح حاول تذكير
هذا اإلنسان ُليريح قلبه التعبان فأرشده للعنوان وما هو هذا العنوان وأين هو مكانه؟
51
وس َكنِها.
القلب مكانها ومقامها ،مصدرها َ
فعَله حتى ِ
أجد أتى باحث عن الحق للمسيح في يوم من األيام وسأله ما الذي علي ْ
اهلل؟ فأجابه المسيح بأنه لن يعرف اهلل ما لم يولَد من جديد .وما هي هذه الوالدة؟
العودة إلى البيت القديم ،إلى األصل ،إلى البراءة.
تُخبرنا إحدى القصص بأن المسيح كان يرفض أن يتعلم الحروف األبجدية ،ويمنع
ال .ومن الذي
معلميه من أن يشرحوا البيتا ( )2ما لم يشرحوا معنى األلفا ( )1أو ً
سيشرحه أو يجد له تفسي اًر؟ فعلم الحساب يقوم بأكمله على الرقم واحد .والرقم واحد
هو األساس الذي يقوم عليه الوجود ،مفهوم اهلل والحقيقة كاملة .لكن الطفل يسوع
صر ويقول ألساتذته علنًا ما يعرفه هو ويخفق به نبض قلبه علنًا وس ًار،
كان ُم ًا
فمحال اإلنتقال إلى حرف جديد من ويخبرهم بأنهم ما لم يشرحوا له معنى الرقم واحد ُُ
حروف األبجدية .أخبِروني ما هو األلفا أو ً
ال وبعدها أكون مستعدًا لإلنتقال للرقم إثنين
فشرُحه ِمن ِقَبل َمن ال يفقه خوافيه
(بيتا) .وبما أن عْلم الرقم واحد علم سري وكبير ْ
كان صعب وعسير ،ما دفع بالطفل يسوع ألن يرفض الذهاب إلى المدرسة.
على طلب العلم .العلم الذي يرتقي به اإلنسان حتى يعي نفسه خليفة هلل ونو اًر حكيماً
خلُقُه القرآن .إصرار يسوع هو صحوة الروح اخترقَت غشاوة العقل لتطلب علم اهلل ال
علم الدنيا ،وأرادت أن تتذكر الواحد وما حكاية الرقم واحد...
51
الواحد األحد الذي منه وبه وفيه واليه تعود الموجودات .هي قصة يعلمها كل حكيم
ومستنير لطالبه فيمزج معناها وفحواها بقلوبهم وهكذا عاشت هذه القصة ومرت
عليها الدهور لكنها ظلت حية على مر العصور.
صنعت حكمته العجائب ،فأصبح الليل َس َكنًا والنهار نشو اًر والشمس
َ واحد هو من
ضياء والقمر نو ًار .واحد هو فأصحبت الكواكب نجومًا وبروجًا لها مشارق ومغارب
ً
ومسابح .واحد هو أصبحنا منه وفيه لكن َمن منا يعي ويتذكر
َ ومطالع ومجاري وفلَكاً
ومن منا حقا
ومن منا يعَلم ويشعر أنه فيه َ
ال بالفكر بل بالتجربة والعلم أنه منهَ ،
ُم ِّ
صدق بقلبه أن العودة إليه وكيف ستكون هذه العودة؟
بحث اإلنسان الحقيقي المختبأ وراء كل هدف وبحث دنيوي ،هو عن الواحد وال شيء
ْ
طرق ونظر إلى أيام من عمره
وعى هذه الحقيقة وقف على مفترق ُ
غير الواحد .من َ
وحده فالواحد األحد
فسَل َك دربًا جديدًا هو فيه وحيدًا لكن ليس َ
هباء َ
ضاعت وتضيع ً
معه ومن كان الواحد معه من سيحتاج؟ من كان الواحد حقاً معه ال في فكره وجيبه
بل في قلبه وفوقه وحوله وتحته وداخله ،من سيحتاج؟ هل سيخاف؟ هل سيجامل؟
إشارات وبشارات تكشف له الحجاب عن أمجاد في السماوات وحكمة وعلوم تُحيي
وتزكيها .من سيخاف ويجامل بعدها ويرُكن للدنيا والوهم الذي فيها؟
الن ْفس َ
أودية وطرقات وممرات تودي باإلنسان ألهداف ومرامي وغايات وفي النهاية وفي
نهاية كل قصة يأتي هادم الملذات ويندم اإلنسان على ما فات ألنه أجل ووجد ِ
العلل َ
من َعته من التحضير للحظة الممات ...لحظة موت ووالدة إذا كنت
واألسباب التي َ
من أصحاب الشهادة .إذا كنت مستسلماً للمشيئة لترِّحب بك األكوان (لت ُكن مشيئتك
قالها المسيح واهتزت األكوان)...
52
ال بعد جيل. والسر في التوحيد ...شهادة التوحيد التي تُ َنقل من ٍ
قلب إلى قلب جي ً
شهادة هي سر وجود اإلنسان على هذه األرض ليشهَد ويتذكر ويذ ُكر .ولكن هل
وحده
صحيح أن أهداف اإلنسان جميعها تُخفي ورائها بحثًا عن الوحدة والتوحيد؟ َ
يعد ببصيرته يرى لذا ضاع بين أهدافه وأهل َكته غاياته؟ نعم..
غفل ولم ُ
اإلنسان َ
وسأشرح لك يا صديقي...
ما هي والدة الطفل؟ هي روح أتَت من البرزخ لتسكن رحماً يكون سبيلها وجسرها
حتى تختبر وتعتَبِر وتتعلم درساً تحتاجه لنموها وسموها على ممر رحلتها الكونية
ال إلى المنتهى والمقر .يولد الطفل والدة جسدية مادية وهي الوالدة األولى...
وصو ً
والدة مادية تتواصل المادة عبرها مع المادة ...المادة تُحاكي المادة ...ذبذبات نورانية
كثيفة تجسدت على شكل مادة في جسد الطفل بحاجة لذبذبات نورانية تجسدت على
شكل مادة وتعارفنا عليها فسميناها بالطعام .جسد الطفل بحاجة للطعام ،والطعام هو
المفتاح األول الذي يفتح للطفل باب التواصل مع الوجود ،وجوده المحدود.
إنه العشق األول في حياة الطفل ...في والدته الجسدية ...الطعام .حين يلتقي
العاشق بالمعشوق فيتعانقان ويتوحدان ،تكون النشوة للقائهما عنوان .وحين تالقي
المادة أختها المادة ،حين يالقي الطعام جسد الطفل ...حين يستقبل جسده الطعام
التوحد ِ
كظله ...نشوة فيس ُكُنه ويتوحد معه ترى النشوة والشعور باإلكتفاء تالحق هذا ُّ
مادية توازي مقام الطفل وحالته الدنيوية .المادة تلتقي بالمادة ،الطعام أو الشراب
يتوحد مع الجسد ،الخارج يلتقي الداخل ...لقاء سطحي هو ،لقاء حيواني غرائزي هو
ونشوته محدودة لكنها بداية األنشودة ...أنشودة اللحن اإللهي المنتظر ...لكنها بداية
53
ال
لدرب طويل ووالدة جديدة ورحلة حج بعيدة عن عالم المادة الواهم المزيف وصو ً
للوالدة الثانية ،والدة المسيح من الروح القدس ...من الوالدة المادية إلى الوالدة
الروحية ونشوة الروح حين يالقي العابد ربه فيختفي ويتالشى خاشعًا في حضرته.
البداية تتحول إلى عقبة فيضل اإلنسان طريقه وسبيل خالصه إذا ارتضى بحياة
ِ
وحاك َمته ...إذا ارتضى اإلنسان أن يحيا على مقام الطعام تكون فيها غريزته سيدته
فو َجد فيه غاية لذته وقمة نشوته وظن أنها سعادته .لكن كثير من البشر في يومنا
َ
هذا يعيشون ألجل أن يأكلون ..يأكلون الطعام والمال الحرام وحقوق غيرهم .كثير من
البشر تدخل المادة أجسادهم فيهنأون بها ثم تغادرهم بعد أن تخرج من أجسادهم
وتعود إلى الطبيعة مصدرها ومستقرها.
هذه دائرة المادة المفرغة ،دائرة الوالدة والموت ودائرة المتاع واللهو التي ألهَت البشر
وحجبت الرؤيا عن بصائرهم فأغفلوا مصائرهم .أنت تأكل المادة ثم تفرغها...
َ
تستقبلها ثم تودعها ...دائرة مفرغة طاف معها البشر وطافت الدنيا معها والن ازل
نطوف مع الباطل ونسينا ما هو الطواف الذي يصلنا بالنور والبيت المعمور في
سابع سماء ،وهل من طوفان جديد ودمار شامل أكيد ألجل أن نصحى ونحيا الذكرى
ونتذكر؟ اللهم عجل بالدمار الشامل.
الطفل بحاجة للطعام حتى يستمر في البقاء لكن ما غاية البقاء إن كان ألجل
يعد بقاء بل بالء وانتظار للموت .متعة الطفل وهو يأكل وهو يستقبل
الطعام ...لم ُ
الطعام داخل جسده ويرحب به هي بداية رحلة ِ
بحثه عن التوحد .من األصغر إلى
األكبر...
54
البداية مع الطعام والنهاية مع اهلل ...النهاية على منابر من نور مع رفاق الطريق
الذين جاهدوا بأنفسهم في سبيل اهلل وجهاد الن ْفس أكبر الجهاد حتى وصلوا إلى دار
الحق زاهدين خاشعين.
علماء الفيزياء اليوم يتأملون ويتفكرون في سر تقارب الذرات من بعضها ...ما السر
وما السبب؟ ما سر اجتماع اإللكترونات والنيوترونات والبروتونات جنبًا إلى جنب؟
لماذا نسى اإلنسان معنى الجماعة والزال الوجود وما فيه حتى الذرات التي تحوي
أس ارره وخوافيه ،يذ ُكر الذكرى ويحيا معنى الجماعة ...وما الجماعة؟ هي تقارب
وتآلف وتوحيد بين األرواح ...واعتصموا بحبل اهلل ...جميعنا في اهلل أخوة َّ
موحدين
بحبل اهلل ...حبل هو نور من نور ال تراه األبصار ولكن يدركه اإلحساس
ْ
والشعور ...تقارب وتآلف بين األرواح ِ
يصل القلوب ببعضها ومن القلوب ترتفع
طاقاتنا عبر مقاماتنا وتتوحد مع الفتاح ُلنحلق على جناح من نور.
هذا الحبل الذي يجمع اإللكترونات والنيوترونات والبروتونات هو حبل اهلل ...هو سر
روحي عاشه الموحدون والعارفون باهلل .بإمكان ِ
العلم أن يسميه بقانون الجاذبية أو
المغنطيسية أو الحقل الكهربائي ،أو أي كلمة يشاء لكن الجماعة أجمل من كل
الكلمات ..الجماعة معنى وأسلوب حياة يتعدى الكلمات واللغات.
الطعام مادة يجذب مادة الجسد إليه ...ومن عاش حياته تجذبه المادة وتُغوي عينيه
55
الصيام بداية لنخترق أجساد أبعد من جسد الطعام ،وتنكشف لنا عوالم لسنا بحاجة
فيها إلى طعام وال إلى كالم ،بل سالم من ٍّ
رب رحيم.
الصيام ال يعني تجويع الجسد ،ال يعني قتل الجسد ودماره بالفرض واإلكراه واإلجبار.
الصيام مساحة للجسد حتى يشعر براحة تؤهِّله لما بعد عالم المادة والطعام ...لثاني
مقام كوني وثاني جسد وثاني سماء وآية إهدنا الصراط المستقيم ...الفاتحة سبعة
آيات فيها علوم وأسرار ...لكل آية طاقة كونية تحاكي وتُحيي طاقة جسد من
أجسادنا السبعة...
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وال الضالين ...مع الجسد المادي
األول احتمال الضالل ال زال كبير ،فالوعي الزال ضعيف وأين هو الضمير؟ ومع
الصيام نحن ُن ِّ
وجه طاقاتنا اتجاه ثاني أجسادنا ،الجسد األثيري .ومع الجسد األثيري
األقل انجذاباً للمادة نبدأ رحلة جديدة ...رحلة ِ
إهدنا الصراط المستقيم .إنها بداية
الوعي ...سيستيقظ الوعي عما قريب ويبدأ رحلته على صراطه المستقيم ليعتدل
ميزان اإلنسان ويستقيم.
ال تغلِق يا أخي في وجه الصراط المستقيم بابك ...ال تلتهي بالطعام والشراب والوالئم
والعزائم وتنسى أصلك ومآبك وبيتك في سابع سماء ...في البيت المعمور مركز
الوجود الموصول بالكعبة وبكل األماكن المقدسة بذبذبات من نور .هذا ما حاول
األنبياء والحكماء إفهامنا إياه حين تحدثوا عن الصيام .وال تتعلق بالصيام وتميل له
الهوس.
كل الميل وتهجر الطعام ...خير األمور الوسط وأسوء األمور َ
يحيا الطفل مقامه الثاني بعد أن يبدأ جسده بالنمو ...يصبح في صحة جيدة ،سعيداً
تمأله الحيوية فتتجه طاقته الفطرية نحو الرغبة في السيطرة المادية .السيطرة على
األشياء.
56
هوس السيطرة على أي شيء أو أحد ،هي رغبة طفولية تشير الرغبة في شيء أو َ
إلى عدم نضج اإلنسان وبقاءه في مقام يحيا عليه الحيوان ولكن ماذا فعلت يا إنسان
وماذا أفعل كل يوم؟ أتمسك بأشيائي وأغار عليها وعلى من أدعي أنهم أحبابي
والغيرة عنوان نخفي وراءه تعصبنا ورغبتنا في امتالك األشياء وامتالك َمن حولنا...
أحوجنا لبراءة األطفال ال لجهلِ ِهم .حين قال
َ ال يزال جهل الطفل يحيا داخلنا وما
المسيح ما لم تعودوا كاألطفال لن تدخلوا ملكوت اهلل كان يعني البراءة .أن نستعيد
براءة األطفال .وحين تجتمع براءة األطفال وتتوحد مع نضج الكبار تولَد الحكمة.
على مقامه الثاني يصبح الطفل سياسياً .يبتسم إن وجد خلف ابتسامته بابًا ِ
يصله َ
وجد اهتمام عائلته يزداد كلما بكى فيحققون له ما يرغب
بأهدافه ورغباته .يبكي إن َ
وما يتمنى وهكذا يتمكن من السيطرة على من حوله بابتسامته أو بدمعته .هذه الدمعة
ِ
الحاكم بالمحكوم. وهذه اإلبتسامة ،مرة أخرى هي جسر للتوحد ...جس اًر طفولياً ِّ
يوحد
إذا سألت العلماء عن الجنين في رحم أمه في أيامه األولى ،سيخبروك بأنه ليس ذك ًار
وال أنثى في الشهور األولى .رويدًا رويدًا تبدأ التفاصيل واإلختالفات بالظهور ويتحدد
57
جنس الجنين ذك ًار أم أنثى .ولكن الخلية األولى ...النشأة األولى ،الخلية األولى كانت
ذك اًر وأنثى ال قسمة وال اختالف بل ِوحدة وتوحيد.
ِمن األجمل واألعمق لنتمكن من فهم أسرار الوجود أن نقول بأن اهلل خلق آدم/حواء
وليس آدم وحواء .ذبذبات كونية موحدة انفصلت الحقاً وبعد الفصل أشرنا إليها
بصفة الذكر وصفة األنثى .بعد ُّ
التوحد فصل وبعد الفصل حنين إلى األصل .حنين
إلى التوحد من جديد ...حنين يخلق بين األنثى والذكر على األرض إنجذاب شديد.
الوصل أتت
هذا هو سر اإلنجذاب ،ذوبان جليد الفصل والتوحد بدفء الوصل ،ومن َ
كلمة الوصال.
الوصل والعودة إلى األصل يبحث الذكر عن األنثى وتبحث األنثى عن
ألجل َ
الذكر ...نصف الوجود يبحث عن نصفه اآلخر لتكتمل الدائرة في أحضان اللقاء.
وكما أخبرتك يا صديقي ِمن ْقبل فالجنس هو األعلى مقاماً بين المقامات الحيوانية
فمعه تبدأ المشاركة ومع المشاركة يسهَل على الدرب المسير
الغرائزية البيولوجيةَ ،
ألنها ستشارك بالصداقة كل عطشان على درب الحق يسير.
وهم
الشعراء ،العشاق والرسامون يحيون المقام الثالث ،ومع هذا المقام تبدأ المشاركة ُ
يشاركون العالم بأعمالهم ومنحوتاتهم وأشعارهم ورسوماتهم.
وقَعنا في ِّ
الشرك وأصبحنا لبعضنا ولمصالحنا عبيد .ال وجود للحب مع السيطرة،
فالحب والسيطرة ال يلتقيان .المشاركة المسؤولة هي الخطوة األولى على درب الحب.
58
ومع هذا فالمشاركة ليست كل شيء ...على مقام الجنس الزال الحب ليس بالمحبة
التي تحدث عنها المسيح والرسول والحكماء...
تولَد النشوة في أحضان اللقاء الحميم بين الرجل والمرأة فينتشيان بها ويحتفالن ،وما
هذه النشوة وهذا اإلحتفال سوى لمحات بعيدة عن معنى النشوة اإللهية ،عن سر
تمنحنا لمحة بسيطة
التوحد باهلل والذوبان في حضرته ...توحد الرجل والمرأة هو نشوة َ
وصغيرة لتعرفنا على ما سيحدث في حال التوحد األكبر ...الرجل جزء بسيط من
الوجود وكذلك المرأة ،واذا كان التوحد مع هذا الجزء األصغر يمنح نشوة يعجز الكالم
عن وصفها ،فكيف هي إذاً حالة التوحد األكبر؟ بالوجود كله؟
ولكن َمن ِمنا ف ِهم علم الجنس وأس ارره؟ ِعشنا الكبت وأفكاره واآلن نحيا الفلت والجنس
الرخيص حتى بين األزواج والزوجات والعشاق ...مجرد عالقة ميكانيكية حيوانية
هوسنا وغايتنا من
نجهل أصولها وحكمتها اإللهية ...ضلينا الطريق وأصبح الجنس َ
جميع عالقاتنا...
59
في أحضان النشوة الجنسية ...نشوة تستمر للحظات ...للحظات يمر اهلل كالنسيم
فيحيي ِهما ...للحظات فقط.
يداعب الرجل والمرأة ُ
صاحب مقام الطعام بعيد عن هذه اللحظات ،وصاحب مقام السيطرة والسياسة بعيد
عن هذه اللحظات شريد في غابات العنف والحرب والسيطرة ...اإلثنان ُح ِرما من
شفافية هذه اللحظات وامكانية هذه اللمحات.
هل باإلمكان إيجاد طريقة للوصول إلى هذا الحال دون عالقة جنسية وأبعد من
األجساد المادية؟ وكان علم التأمل هو الجواب والجسر الذي يصل أجسادنا الروحية
تسعها أرض وال سماء.
بسابع سماء فنحيا نشوة ال َ
وتذكر ...على ثاني مقام أنت تحاول أن تسيطر على غيرك وغيرك يحاول السيطرة
عليك .على ثالث مقام كالكما يخشع ويستسلم لقوة أبعد منهما ،ال تطالها يداهما
ولكن ينبض بها قلباهما .كالهما اآلن عادا آدم/حواء من جديد ،واهلل أكبر .وحين
يلتقي آدم/حواء من جديد ،يعودان إلى البيت القديم وتعكس نشوتهما صورة اهلل التي
ُخلِقا عليها.
ماذا فعلنا بقداسة الجنس هذه؟ ال داعي للجواب فنظرة لمجتمعاتنا وحاناتنا وصفحات
طبنا ووعظاتنا كافية لنعرف الجواب.
وخ َ
مجالتنا ُ
61
المقام الرابع يفتح لإلنسان باب األنس واإلحتفال بالجمال ...ال شهوة وال رغبة وال
سيطرة بل حال من التناغم والتوحد مع الجمال .و ِمن هذا الحال يولَد الحب الصافية
أنهاره ،الحب الذي هرَبت الغايات والمقاصد من وراءه .أنت ترى زهرة جميلة وسط
ُ
الحقولِ ،تقف أمامها مسلوباً بسحرها وقد استولى على قلبك الذهول فبدأ يخفق...
يخفق ترحيباً وتقدي اًر لهذا الجمال .ال عالقة للقلب بالجنس ،وهذا الحال خالي من أي
ال عن الهوية ...ال رجل وال إمرأة ،ال ازدواجية وثنائية بل
شهوة جنسية وال يطرح سؤا ً
إعجاب بالجمال ألنه جميل...
الجمال ال عالقة له بالرجل والمرأة ...الجمال سر تكشف عين القلب خوافيه .عين
القلب التي ترى بالحنين وتسمع بالصمت ...في ليلة صافية تتألأل نجومها ويداعب
وجهك نسيمها ...أنت تسمع النسيم يداعب أوراق األشجار فتنحني له كما ينحني
قلبك حين يالمس هذا النسيم وجهك .أنت تسمع صوت الصمت من حولك فيرتاح
قلبك ويبوح بصمتك فيولد بينك وبين السماء حوار ...حوار بالقلب ال باللسان...
حوار جميل تعبِّر من خالله عن تقديرك لهذا الجمال.
وأين المرأة والرجل من كل هذا؟ ال أحد ...المحبة الحقيقية ال تحتاج ثنائية ...الجنس
يحتاج اإلزدواجية ومن اإلزدواجية يولَد الصراع والمشكل العائلية...
بين الزوج والزوجة أو بين العاشق ومعشوقته ألن الثنائية عكسية ومهما انساب
الشريكان في تناغم ِّ
يوحد هذه اإلزدواجية فالوحدة لن تكون كلية وستظل جزئية...
هذا أصل كل خالفات وصراعات الرجل والمرأة على مر التاريخ .الثنائية التي تأبى
أن تستسلم لحالة التوحيد الكلية.
61
الحب الحقيقي ...المحبة ليست عالقة .المحبة هي أقرب إلى الصداقة .بإمكانك أن
تحب األزهار والنجوم واألشجار والصخور والطيور ...بإمكانك أن ِ
تحب ما تشاء... ِ
المقام الرابع هو مقام القلب والقلب صافي طاهر ال يهتم بشكل الذكر أواألنثى ألن
إحساسه يخترق المظاهر .على مقام القلب تُعلن إنسانيتك عن نفسها وتبدأ برواية
قصتها ...أنت للمرة األولى إنسان يحيا إنسانيته ويتجاوز حيوانيته فمن يحيا على
المقامات الثالث األولى هو مجرد حيوان من ضمن الحيوانات الموجودة ...مجرد
عدد بين أعداد معدودة ...أسير تُ ِّ
سيره البيولوجيا .ال شيء مميز وال شيء جديد.
نظرت معي
أن يحيا اإلنسان في جسد إنسان ال يعني أنه اتصل بإنسانيته ...واذا ْ
إلى مجتمعاتنا ستفهم معنى كالمي ألنك ستجد الكثيرين يولدون ويموتون وقد عاشوا
الملبس
حياتهم كالبهائم ولم يعرفوا شيئاً قبل مماتهم أعلى من المأكل والمشرب و َ
والجنس .تُ َع َساء ُهم ألنهم لم يسمعوا قصة المحبة كاملة ولم تطأ أقدامهم عوالِم ال
تُ ِ
صادق المحبة فيها الشهوة ...تُ َع َساء ُهم ألنهم عاشوا في صراع الثنائية ولم يدخلوا
معبد الوحدانية داخل كهف القلب .لم يتعلموا فن المحبة الصافية المكتفية التي ال
َ
تطلب مقابالً بل تمنح وتُعطي دون أن تسأل ماذا سأجني .الجنس مشروط ألنه
يضع الشروط فيطلب مقابل أن يمنح ،وما في شي ببالش في نظر صاحب
وحمد هلل ...في المحبة عطاء
المقامات الثالثة األولى .في المحبة شكر وامتنان ْ
وكرم من الوجود وتوحد مع الرزاق الوهاب الذي ي ِهب من ُيعطي بقلبه دون أن يسأل
عن مقابل للعطاء.
62
مقام القلب هو البوابة حيث يالقي اهلل العالم ،الباطن يالقي الظاهر ،األعلى يالقي
المضيف يالقي الضيف،
األدنى ،الصالة تالقي الجنس ،المجهول يالقي المعلومُ ،
عبد النور.
والنور يالقي ْ
القلب هو الكهف فالقلب يحوي أسرار كيان اإلنسان ...القلب بداية لرحلة حج
حقيقية ،نافذة ينظر اإلنسان منها إلى السماء...
القلب هو آخر مقام يتمكن من خالله اإلنسان من رؤية إزدواجيته ...فالقلب بوابة
اللقاء ...بوابة لقاء ألجل وداع األدنى حتى يبدأ اإلنسان رحلته مع والى الرفيق
األعلى قبل أن يموت (موتوا قبل أن تموتوا ،أي موتوا كشهوة واولدوا كصحوة في
حال من الجلوة).
الجنس أدنى من المحبة والصالة أعلى من المحبة ...على مقام القلب الجنس يالقي
أحببت شجرةَ الصالة ..إنه اللقاء األخير والقلب يشهَد على هذا اللقاء الجميل ...إن
تلمس شمها ...قد تُعانق الشجرة أو ِهرتَك أو ِ
ستود َّ
لمسهاَ ، ستود َ أو طير أو زهرةَ ،
ستلمسها وتُعانقها وقد تُقبِّلها تمامًا بنفس الشفافية التي تُعانِق ِ
وتلمس وتُقبِّل زهرتَكِ .
َ
بها محبوبتك.
هذه اللمسة والقُبلة وهذا العناق فيه شيء من الجنس ...هي الماضي ُيَلملِم آخر
تلمس وتُعانِق وتُقبِّلأوراقه وذكرياته ومذكراته استعداداً للرحيل .وفي الوقت ذاته حين ِ
ُ
فأنت تفعل هذا باحترام شديد وطُهر عن الغايات بعيد وفي هذا اإلحترام وهذا الطُهر
وهذا التقدير األصيل لكل جميل ،سطور من كتاب الصالة ...فيها نفحات من
الصالة .فالصالة امتنان واحترام وتقدير وطُهر بعيد عن الغايات ،واحساس نبيل.
صداقتك لألزهار واألشجار والطيور اآلن هي نوع من العبادة .صداقتك معها ترتقي
فيك وتَُزكيك.
63
الوقوع بالحب يعود بك إلى مقام الجنس فيصبح الحب جنسيًا ويتحول إلى شهوة
وامتالك فنكون قد ضلينا الطريق .أما اإلرتفاع بالحب فهو تحليق حتى الوصول إلى
معبد الصالة .علينا أن نمشي على أرض الحب بحذر حتى نتمكن من التحليق
فالحب جداً رقيق ودقيق.
عجب بإمرأة
ال حالنا ...أنت تُ َ
فم َ
َوَقعنا في الحب ...هذا ما حدث في مجتمعاتنا َ
ِ
وتسح َرك عيناها ...حين تنظر إلى عيناها تشعر بأنك ترتفع وتحلق فوق سماوات
وأنك تُ ِ
بحر في مداها ...ما هذا اإلحساس؟ هو الوجود ،هو األعلى يتحدى األدنى
فيك ،هو اإللهي يمد يده ليرتقي بالحيوان الذي فيك .لكن أين الوعي بداخلنا حتى
ننتبِه للخطاب والنداء اإللهي؟ نظرة لعيناها ويبدأ اإلحساس بمغازلة األدنى وننسى
األعلى ويبدأ التفكير بالسرير والجنس ويكون الزواج هو الحل الوحيد لممارسة هذا
الجنس خاصة في المجتمعات المكبوتة.
دخلت في عالمك السفلي بإسم الحب وتحت شعار الحب دون أن
َ ها أنت قد
تدري ...وهذا ما نفعله كل يوم في حفالت الزفاف واألعراس والخطوبات
والعالقات ...جميعها خطوات ألجل ممارسة الجنس ...جميعها خطوات لألسفل،
لألدنى :للوقوع في الحب.
واآلن معًا إلى خامس مقام ...مقام النطق بالحق ...مقام الصالة والتواصل والصِّلة
ِعبر ِ
صدق الحديث...
64
أن تحيا كلمة اهلل بعد أن يسمعها قلبك ويفهمها صمتك فيرددها لسانك دون مجاملة
ودون رياء ،بل قول حق وعمل حق ويوم يحق القول على أهل الباطل( ...لقد حق
القول على أكثرهم فهُم ال يؤمنون) ...هذا مقام النطق بالحق ...أن تق أر ما وعاه
وشرَح صدرك فنطق به قلبك( ،إق أر باسم ربك الذي خَلقُ ( ...)...قل
وحواه صمتك َ
هو اهلل أحد)ُ ( ،قل أعوذ برب الفلق)ُ ( ،قل أعوذ برب الناس)...
ما هذا القول وهذه األسرار؟ ما سر الوحي؟ ما سر ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل؟
إسم النبي هو الخامس يرمز لبداية طريقه في الغار من مقام النطق بالحق والتبشير
بالرسالة أيها البشير وبعدها حتى وصل واتصل باألكوان واألنوار اإللهية عبر سابع
مقام فكانت بسم اهلل الرحمن الرحيم ...أي ال شيء سوى وجود اهلل وانعكاس هذا
الوجود في مرآة النفس الصافية والنية الخالية من أي محتوى(إياك نعبد)...
النبي في الغار مرآة صافية ناصعة النقاء خالية من األشياء تعكس فقط نور اهلل...
وهام واكتفى بنور اهلل ففتح لو الوجود عالم األسرار
هذا حال ومقام من وصل واتصل َ
بأمر واحد غفار.
ُولِدت الصالة من على هذا المقام ..مقام النطق بالحق ..وجهت وجهي والفاتحة
السور واآليات ...جميعها دالالت واشارات أرادها النبي الكريم أن تصلنا بمقامنا
و َ
الخامس لننطق بالحق ونبتعد عن أودية الباطل ...الصالة مفتاح لنبدأ بالتحليق على
لنعبر جسور الكالم ونصل واحة الصمت عند سابع مقام.
جناح قلب بالحق ينطق ُ
الخارج يلتقي الداخل عند مقام النطق بالحق ...قبل ذلك التقى األعلى باألدنى واآلن
الخارج يلتقي بالداخل ...الوجود خارجك ...األلوهية خارجك تُالقي األلوهية داخلك
من خالل الكالم ...وليس أي كالم...
65
كالم حق وما معنى كالم الحق؟ كالم ذبذباته في ميزان األكوان عالية القدر والشأن
يرتفع بها الميزان أي تعلو معها وبها طاقة اإلنسان ...وهذا سر ِّ
الذكر والتراتيل
والتجويد والدعاء .الخارج يلتقي الداخل ،األلوهية تالقي النفس المرضية فيك فتوَلد
الصالة.
ما هو السجود؟؟؟ رمز وسر جميل يحكي لنا ويبوح بأسرار اتصالنا بمقام النطق
بالحق ونحن في حال السجود والخشوع...
وحدها الن ْفس الخاشعة أي الساجدة تتصل وترتقي إلى مقام النطق بالحق ..وحدها
َ
هذه الن ْفس تؤهل صاحبها ليقول كلمة حق في وجه الباطل ،فال يجامل وال ُي ِ
ساوم بل
هو صادق أمين على الوعد والعهد ...يحفظ الوعد ويصون العهد ..وهل أجمل من
لقب الرسول الحبيب حين لقبوه بالصادق األمين؟ فقد كان ُيلقي التحية والسالم على
الجميع في كل مكان.
الداخل ينحني ويخشع للخارج في حال السجود ...الداخل يحتفل بالخارج في حال
من يغني أغنية وينظُم قصيدة في الشمس أو القمر أو الطبيعة والوجود.
سأخبرك بالمزيد...
الداخل يلتقي الخارج وكذلك الخارج يلتقي الداخل ...أنت في حال توجه وصالة
ُّ
وتفكر ومناجاة لتمد جسور الوصل مع اهلل ،مع الوجود .لكنك لست وحدك وهذا سر
معنى إجابة الدعاء ...سر أن اهلل قريب يسمع دعوة عبده إذا دعاه فيجيب دعوة
الداعي إذا دعاه ...ما هو هذا السر األصيل الجميل؟ حين تذوب وتتحد مع كالمك
ويتحلل قلبك ويخشع في مناجاتك ،حين تدمع العين من نشوة المحبة هلل فأنت في
أعلى وأرفع حاالتك ..بمعنى آخر أنت غير موجود بتاتاً ...تالشيت بين يدي
66
الرحمن وحين يحدث هذا التالشي وهذا اإلختفاء واإلنحناء ستصحى السكينة الساكنة
إصغ ...سيأتيك الجواب ...اهلل يجيب دعائك وصالتك ومناجاتك
ِ فيك وعندها
أبعد ...سيأتيك الجواب على شكل رعشة أو دمعة أو راحة
ويبادلك المحبة بالمحبة و َ
لمستها يد اهلل بداخلك وبدأت تحيا نعمتها ولو
هي سكينة أصيلة ساكنة فيك وقد َ
للحظات ...هذا هو سر إصرار الحكماء األولياء على الفكر الخالي في حال
الصالة ...لتمد جسور الود مع اهلل ...حتى يتم اللقاء.
في يوم من األيام زار رجل رسول اهلل وطلب منه أن يوليه أمي ًار على البصرة ،فأجابه
الرسول الحبيب بأن البصرة تزول وأنه سيوليه أمي اًر على بصيرته التي ال تزول .ما
هي البصيرة التي تحدث عنها الرسول؟ ما هي الناصية؟...
إنها ما تُسمى في الهند بالعين الثالثة ...مكانها بين الحاجبين وحين توجه وعيك لها
ستشعر بها .الناصية أو البصيرة أو العين الثالثة هي المقام السادس في اإلنسان.
لماذا أخبر الرسول ذلك الرجل بأنه سيوليه أمي اًر على بصيرته التي ال تزول؟ ماذا
تعني السيادة على البصيرة؟ ماذا يحدث عندما تكون سيدًا على بصيرتك؟
مع البصيرة وعند هذا المقام يتوحد اليمين مع اليسار ،الجزء األيمن من الدماغ مع
الجزء األيسر ...الحدس والمنطق ،الفكر واإلحساس ،الذكر الداخلي واألنثى الداخلية
وكل إنسان منا داخله ذكر وأنثى فال يوجد ذكر مئة في المئة وال أنثى مئة في المئة
فجميعنا ُولِدنا من ذكر وأنثى ومن كل شيء ذكر وأنثى.
اآلن سيلتقي الذكر واألنثى داخليًا ...داخل اإلنسان ...لقاء روحي هو ،يجمع الذكر
باألنثى داخلك ...قبل ذلك وعلى المقام الثالث كان لقاء األنثى والذكر جسدي
أبعد ...هنا اللقاء الحقيقي بين األنثى التي بداخلك
جنسي ...أما اآلن فاللقاء أعمق و َ
والذكر الذي بداخلك ...هذا هو الجنس الروحي ...علم النكاح الذي لم نفهم معناه
67
في حياة األنبياء والخلفاء والحكماء ففسرناه وفسرنا علومهم بجهلنا فلم نفلح ولم نعرف
لجهَلة العلم من مرشدين
الفالح يوماً ألننا لم نرتقي وندخل مدينة العلم وظلَلنا عبيداً َ
ومعلمين هذه األيام...
خطوة واحدة في اإلنتظار أيها المختار بعد هذه الوحدة وانسياب الحدس والمنطق في
ذات القرار.
على أي منزلة من هذه المقامات أنت ،تكون منزلتك في العوالم أو السماوت ...سبع
سماوات رمز بها الرسول الكريم (هو الذي خلق سبع سماوات طباقاً) والحكماء
والمستنيرين لسبع مقامات توازي سبع عوالم ومنازل نختارها ومباركين نحن إن اخترنا
أن نسكن أعالها ...على منابر من نور...
69
ما هو علم الصليب؟
يقول علماء الذرة بأن كل ذرة صغيرة غير مرئية لها قطبان سالب وموجب ،زائد
وناقص .كالهما يجتمعان معًا في تناغم ووصل شديد ،في نشوة وانسجام .لكن ما إن
يحدث الفصل ،ما إن تباعدهم عن بعض حتى يحدث اإلنفجار ...إنفجار كبير من
الطاقة ...هذا ما حدث في هيروشيما وناكازاكي ...ذرة صغيرة تم إبعاد سالبها
وموجبها أدت إلى دمار كبير.
العكس هو حال اإلنسان الذي تمثل نفسه اللوامة السالب أو الناقص في حين يمثل
اهلل الزائد ...وحين تبدأ رحلة الحج ويستسلم اإلنسان ويرمي األنا خاصته بما تحويه
من هوية وشخصية ومكانة إجتماعية ومجاملة وأقنعة ،حين يقرر أن يرمي ناقصه
71
بفقره أمام ِغنى اهلل ويعترف بأنه ال في الزائد اإللهي ،في ِ
الغنى اإللهي ...حين يسلم َ
يعرف شيئاً ،يذوب الناقص في الزائد ويتحلل اإلستكبار في حال الزهد والخشوع
فيحدث ُّ
التوحد واإلنفجار ...إنفجار نور ال نار ...نور السماوات واألرض.
71
من الظلمات إلى النور
وبعد...
َ
َفبعد ذوبان األنا الناقصة في اهلل ،طهارة من الظلمات ،وأعمال مثقال ذرات نور من
ووصفها من دين إلى دين ومن
ْ تسميتها
َ نور تنيرها َّ
النيات .ما هي األنا؟ اختلفت
زمن إلى زمن لكنها الظالم داخل اإلنسان ...ذلك الظل الذي يسير ويسير يتغذى
على الهشاشة والباطل وكل ما هو و ِ
اهم حتى يخدع اإلنسان ويزين له الوهم والباطل
فيسعى خلفه ويجري وراءه ويتوه في ظلمات ن ْفسه ...نعم األنا هي النفس اللوامة
األمارة بالسوء ...هي الجحيم ...هي اإلستكبار والغرور .ولكن ْقبل كل شيء هي
الشيء ...هي فراغ ال يحوي شيء ...ال حضور وال حضرة وال معرفة وال كذبة وال
يسبر أغوار عقل اإلنسان فتُترجمه أفكاره صو اًر وخياالت،
حقيقة ...األنا سراب ُ
ِ
وينفعل فتولَد المشاعر واإلنفعاالت ...يستجيب الجسد ويستجيب الجسد بكل ما فيه
ويتجاوب مع صور الفكر والخياالت فيوَلد الطمع والجشع وما يسميه المجتمع
وسعي خلف وهم وسراب وطريقبالطموح ...إحذروا فالطموح ليس سوى جنون َ
قت بأنه َّ
وصد َ ت
آمْن َ
السراب ال نهاية له ألنه ومن البداية ليس بطريق ،بل سراب َ
طريق.
حال الفناء واإلنمساح باهلل ،حال اإلستسالم والتوكل على اهلل حتى ال يصيبنا إال ما
ب اهلل لنا هو حال عودة الفكر إلى صفائه ونقائه فاسحاً المجال ِّ
للذكر ليبوح كتَ َ
بأس ارره .األنا تذوب في محيط األلوهية ،ظالم األنا ُينيره نور السماوات واألرض
فيكشف ادعاء هذا الظالم وغروره .حال الفناء هو اإلكتفاء باهلل ...هو الحال الذي
وقبل هذا الحال فكالمنا
نطق به كل نبي ومستنير وقال حسبي اهلل ونعم الوكيل ْ
72
مجرد تقليد وزيف وتمثيل ...أال نالحظ حالنا المائل الجاهل رغم عدد الصلوات
والتسبيحات؟ لماذا؟ ألننا ال نمشي أقوالنا وال نقول ما في صدورنا وال نكشف خوافي
أمورنا وال ُنعلِن عن سرائر ومكنونات نوايانا.
نعم يا إخوتي طريق اهلل صعب على عاشق الدنيا وعاشق الوهم...
مع اهلل خروج من الظلمات إلى النور ...مع اهلل ِغنى واكتفاء ِ
وسحر بما حواه معبدنا
من عالم أكبر انطوى فيه ،ودائمًا اهلل أكبر .مع األنا ظالم وفراغ وكيف يمأل صاحب
كأسه الفاضي؟ يجري خلف المال والعيال والسلطة والمكانة اإلجتماعية
الفراغ َ
والشهرة والحب ،والعجيب والغريب أن الجميع يرى محاَلة الدوام ألي من هذه األلعاب
ووحده له الدوام ...لكن لماذا ال أبحث عن الدائم القائم وأجري
َ فال دائم إال وجهه
خلف الزائل الفاني؟ هذا هو السؤال ومتى صدق السائل هلَك المسؤول لذا نهرب من
السؤال وال نريد أن نسمع الجواب .المال لم يجلب السعادة ألي إنسان وبعد المال
ماذا؟ والحب ينتهي بعد شهر البصل ويتحول إلى عداوة وروتين وملَل وابتسامات
زائفة ،ثم ماذا؟ ثم هروب من السؤال ومحاولة ألن ال نسمع الجواب.
أشبه بسلة
تشبع هي َ
تقنع وال َ
األنا ...الن ْفس اللوامة واألمارة بالسوء التي ال َ
النفايات...
حدث ذات يوم أن أتى حكيم ال يملك المال إلى ملك البالد ،وهذا الحكيم بنظر الملك
َ
أم َر وزيره بإحضار بعضاً من ماله
مجرد شحاد ...فما كان منه حين رآه سوى أن َ
أشفق على الشحاد وعلى حاله .فاجئه الحكيم حين قال له سأسمح لك أن
َ فقد
ال بشرط ...شرط أن تمأل لي جعبتي الصغيرة وال تترك فيها مكانًا لم يمأله
تمنحني ما ً
73
فطلب من
َ مال ...فاجئه لطالما علِم الملك أن بإمكانه أن يمأل آالف الجعبات،
الوزير إحضار الذهب و ُّ
الد َرر والدنانير ليملؤوا بها جعبة هذا الفقير ...أحضروها
فالجعبة كانت تلتهم كل ما ُيرمى فيها فال
وبدأوا برمي الجواهر فيها دون جدوىُ ...
يظهر له أثر وكأنه اختفىُ ...ذ ِهل الملك وأصر على مألها أياماً وأيام حتى خسر
ثروته دون فائدة فكل ما وضعه في جعبة هذا الحكيم قد اختفى وكأنه أوهام ...خسر
طلب أن يخبره
هم الحكيم بالرحيل طلب منه الملك طلبًا واحدًاَ ... الملك ثروته وحين َّ
هي سلة ال نهاية لها ...سلة تلتهم كل ما ترميه فيها فيظل يهوي يهوي دون أن
رميت العالم أجمع في سلة نفايتك ،في
لهواه وهوايته وهاويته قرار .حتى لو ْ
يكون َ
تقنع ...لكن إلى متى؟ وهذا هو سر مقولة أعوذ باهلل
تشبع ولن َ
ن ْفسك األمارة فلن َ
من كلمة أنا لكنها ليست مجرد مقولة ...هي فهم وعلم وعمل ُيزيل عن كاهل
اإلنسان أثقال الحمولة ...حمولة رغبات وويالت وطموحات الدنيا ...وال يمأل عين
يبق سوى حسرة وآهات.
ابن آدم سوى التراب ...لكن حينها يكون األوان قد فات فال َ
َمن يخرج ِمن الظلمات إلى النور يرى اهلل ببصيرته ويحيا أنواره في سريرته وعالنيته
ويسري ِعلمه وطاقته في عروقه ِ
ودمه ...يا أيتها الن ْفس المطمئنة إرجعي إلى ربك َ
مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ...لماذا أنتظر موت الجسد حتى
راضية ْ
أفهم وأعي أنني لست بجسد فيضيع الوقت وأنفصل عن المدد؟؟؟ لماذا ال أبدأ من
هباء
اآلن فاآلن هو الزمان والمكان ...موتوا قبل أن تموتوا ...أي ال تضيعوا أوقاتكم ً
ياء ...إبحثوا عن الذات األصيلة عن أرواحكم عن نفسكم ِ
وتعيشون حياتكم كذبًا ور ً
الراضية المرضية الشفافة لتدخلوا جنة اهلل اآلن وهنا ...هل ننتظر موت الجسد حتى
74
يحين وقت العودة إلى المدد؟ العودة اآلن وهنا ودخول الجنة يكون في حال الذكر
والصفاء ومن لم يدخل جنته اآلن وهنا ،فلن يجد الجنة في أي مكان ...من دخل
ووهم صاغته األنا حتى ال ُنلهي أنفسنا بالحق فال وقت نضيعه ألننا نريد أن
فكرة ْ
نلتهي بالباطل ...لكننا اخترنا الطريق السهل ...اخترنا أن نجعل اهلل صنمًا في
رؤوسنا نعبده ونردد الكلمات دون حضرة وحضور النيات والطاقات وطهارة القلوب...
ومن لديه الوقت ليقبض على الجمر؟ من لديه الصبر والقدرة على اإلحتمال في
حضرة واغواء سيدنا وحبيبنا المال؟ هكذا ...ف ِهمنا الدين على هوانا وفصلناه على
مقاسنا بما يتوافق وجهلنا ومصالحنا ،ودخان يطير من سيجارة نفوسنا اللوامة التي
تحرق أرواحنا وتُ ِ
شعل نيرانها بطاقاتنا وبدالً من النور نجد ضباباً يعكر صفو ِ
نعد نتواصل مع معناه ومغزاه...
أجوائنا ...حتى الكالم لم ُ
المسلمون والمسيحيون مقتنعون بأن اهلل هو المحبة وأن اهلل هو الرحمن الرحيم...
لكنه مجرد اعتقاد فهُم يعتقدون بأن اهلل ُي ِحب البشر ويرحمهم ...لكن لو علموا
ولعرفوا بأن اهلل ال
لعرفوا بأن اهلل ليس صفة أو لقب َواختبروا وعاشوا التجربة الروحية َ
لعرفوا أن اهلل ال يرحم بل هو الرحمة بكامل ِ
ُيحب بل هو المحبة بكامل جاللهاَ ...
غفرانها .بإمكانك أن تقول أن المحبة والرحمة إسمين هلل ومن هنا ُولِدت أسرار
ب على نفسه الرحمة والرحمن الرحيم .لو كان اهلل ُي ِحب ولم يكن المحبة الرحمة ...كتَ َ
فمن الممكن أن ال يحبنا في بعض األحيان ...من الممكن أن يكره أو يغضب وال
يرحم وعندها ما العمل؟ ....ال ،فلنفهم معنى ما قاله الرسول بالقلب ال بالفكر.
لنسمع ونصغي ونحن في غار القلب وفي حال الذكر ...غضب اهلل الذي يتحدث
75
عنه النبي ليس ما تفهمه أنت عن الغضب ...هذا علم وسر كبير ...اهلل يساوي
الرحمة ،يساوي المحبة وعليك أن تكون على قدر األمانة والمهمة ...إن لم تفهم ولم
تبحث عن نفسك المطمئنة ولم تدخل جنتك اآلن وهنا فأنت لن ترى الرحمة ليس
ألنها غير موجودة أو ألن اهلل غاضب منك ...ال ...ببساطة أنت لم تفتح بصيرتك
لترى ،أنت ترى من منظار أوهامك وأحالمك وتوقعاتك وجميعها ستخونك يوماً ما...
خيانتها لك ستكون جحيمك ...األمر عائد لك ...إما أن تتوحد بنفسك الراضية لترى
الحقيقة ،لترى جنة اهلل اآلن وهنا وفي كل مكان وزمان ،أو أن تُرِافق السوء وتسمع
َلو ْهم نفس لوامة واهمة فتحيا جحيماً واهماً خل ْقتَه بنفسك لنفسك ...فماذا تختار؟ أن
تكون قابضًا على الجمر ومع الجمر برد وسالم وثقة وأمان باهلل؟ أم أن تحرقك نار
شهواتك وأحالمك التي حتى وان تحققت فال تزال تريد أن تتحقق؟
76
بين الحيوان واإلنسان
غريب ومدهش هو ذلك الصمت الذي تشعر فيه وأنت في حضرة الحيوانات .ساحر
ومذهل هو سالمهم النفسي وعي َشهم حياتهم بفطرة أصيلة وبراءة جميلة ...ال احتقان
وال قلق وال خوف ...ال ذكرى مؤلمة تطاردهم من الماضي فتُحيي مخاوفهم
وأوهامهم ،وال فكرة عن المستقبل وكيف يجب أن يكون ،تؤرق منامهم.
وحده اإلنسان قد وقع ...منذ أن سقط آدم من جنته والزال سقوط اإلنسان
يبدو أن َ
بعده فبدالً من التقدم
مستمر ..من آدم وحواء وكل جيل يسلم راية الوقوع للجيل الذي َ
اً
نتراجع وبدالً من اإلرتفاع نقَع .ال توجد إشارة واحدة في تاريخ البشرية المكتوب بأيدي
حكامه ،تشير إلى رقي وسمو في كيان وبنيان اإلنسان .طبعًا نحن نعرف فترات
تاريخية تحكي عن اإلنتصارات والفتوحات والدول الحاكمة التي يمأل المال والذهب
خزائن حكامها ...لكن ال عالقة لهذه األلعاب بسمو وارتقاء وتجلي اإلنسان .ثالثمائة
عام والعلماء يخبرون اإلنسان بأنه تقدم وتطور وارتفع عن مستوى حياة الحيوان
وسبقه بمراحل فأصبح كائناً ممي اًز وفريداً على هذه األرض .لكنه يبدو مجرد كالم....
َ
فما الحكاية إذًا؟
لنفهم الحكاية علينا أن نعي أن سقوط آدم من الجنة يرمز إلى سقوط األعلى ...مقام
اإلنسان أعلى من مقام الحيوان وجوديًا ،فاإلنسان بإمكانه بلوغ منازل ومقامات يعي
فيها أنه نور من نور اهلل ،من روح اهلل وهذا هو سر الشهادة...
الحيوان ال يملك المفتاح لهذه الشهادة َبعد .اإلنسان أعلى وجودياً من الحيوان ومع
هذا فقد وقَع ...وقَع ألنه األعلى وجوديًا وبإمكان األعلى أن يقَع ..أما األدنى،
الحيوان ،فأين سيقع وكيف؟ هو يحيا على أرض السقوط ،أرض الواقع من البداية،
77
لكن اإلنسان كان في جنة الخلود ،أرض الحق واختار السقوط .حكاية تدين اإلنسان
تلو المقام ارتفاعاً من الفرش إلى العرش ومن األرض إلى
وهو يرتفع بطاقاته مقاماً َ
متوقع في أي لحظة .هذا ُّ
السماء هي أشبه بتسلق الجبال ...الخطر موجود والوقوع َ
خيار الوعي ومسؤولية كل شاهد واعي ...اإلرتفاع منازل ودرجات أو الهبوط
هو َ
منازل ودرجات ...في أعلى عليين أو في أسفل سافلين .وعي شاهد على األنوار
وسجَنته غرائز الجسد الذي
أسرته َ
اإللهية مع األبرار والصالحين والصديقين أم وعي َ
يس ُكنه فتَاهَ في ليل رغبات وأحالم وأوهام هذا الجسد؟
أنت تملك قدرة على النمو والسمو ومع اشتداد ظالم ليل الوعيك ستستعمل هذه القدرة
ألجل الضالل واإلنحالل ...هذا قرارك ...لكن الحيوان ال َخيار لديه ...ال حرية
وحده اإلنسان قادر على الضالل أو الهداية ،على الصح أو الخطأ ،اإلرتفاع
لديهَ .
ال إلى عرش النور أو الهبوط إلى أسفل الفرش واللهوة
والتحليق فوق سماوات وصو ً
واإللتهاء واللهو بالملذات والطموحات ومتاع الدنيا.
وحده اإلنسان قادر على أن يكون قديسًا أو آثمًا ،وانتبه فالقداسة واإلثم ،الفضيلة
َ
والرذيلة متقاربتان معنوياً رغم المسافة الموجودة بينهما لغوياً ...فالقداسة موجودة ألن
الخطيئة موجودة ..الفضيلة موجودة ألن الرذيلة موجودة ...إحتمال اإلرتفاع بوعي
اإلنسان موجود ألن احتمال الهبوط بهذا الوعي هو أيضاً موجود.
78
ت يومًا عن حيوان آثم؟ بالتأكيد ال ...لكنك لم تسمع أيضًا بحيوان قديس
سمع َ
هل ْ
وصالح.
لكنها مغامرة ومخاطرة ممتعة ...مخاطرة ومغامرة تزيد الرحلة إثارة .والسؤال هو :هل
سأحقِّق قدري و ِ
أصل بيتي وأتصل بأصلي؟ أم أنني سأتوه وأضل قدري وطريقي
لألبد؟ والتأمل هو هذه المخاطرة ودون مخاطرة ال نمو وال سمو وال ارتفاع وال
تحليق ...دون مخاطرة يحيا اإلنسان على هامش الحياة ألنه لم يثق بالوجود ،لم يثق
نفسك للوجود دون بالكلية ويقدم ذاته قربانًا لها ...اللهم َّ
تقبل منا هذا القربان ..إمنح َ
ويحيطك برعايته .هذه الثقة هي اإليمان ٍ
خوف مما هو آت ،يمنحك الوجود بركاته ُ
الحقيقي دون أفكار مسبقة ومعتقدات واهمة عما يجب أن تكون عليه األحوال...
وحدها الثقة كافية وافية ثم اإلستسالم بوعي ورضى وتسليم حتى تكون مشيئة اهلل.
هجرتها
التأمل خطوات وارتفاعات في أرضك وسماك لتعود وتدخل جنة عدن التي ْ
منذ حيوات ...ارتفاع بعد السقوط وعودة بعد الهبوط للبيت القديم العتيق الذي لم
نغادره يوماً لكن رؤيتنا ُح ِجَبت فنسينا كيف نتذكر ...رحلَت الذكرى.
ت في عيون نظر َ
ما الفرق بين براءة الحكيم المستنير وبين براءة الحيوان؟ إذا ْ
ال أو
نظرت إلى البقرة مث ً
َ المستنير ِ
ستجد براءة األطفال وتشعر بها في عينيه ...واذا
ِ
فستجد براءة وصفاء فما هو الفرق؟ ...الفرق هو بين الجهل والحكمة، إلى العصفور
بين مسار الحيوان واختيار اإلنسان ...براءة المستنير هذه هي براءة واعية حكيمة
79
اختارها واجتهد الستعادتها حتى يعود كاألطفال ...براءة الحيوان هي براءة الواعية،
براءة جاهلة لم يختارها.
فقد برائته يوماً ما بسبب المجتمع ،لكنه استعادها ...لكنه مشى دربه ،تعلم
المستنير َ
درسه وأتم رحلة حجه وها هو يحياها واعياً لمعناها ...الحيوان والطفل
في الحياة َ
يشتركان في جهلهما لمعنى البراءة ومغزاها ...لم يفقدا برائتهما بعد وما لم يفقداها
فلن يعرفا قيمتها ومعناها ...استعادة البراءة تعني البراءة الواعية الحكيمة وهذا هو
حال الحكيم والمستنير.
81
بين التدين والفناء
بمتدين أيضًا ...قبل أن يوم من األيام قال حكيم مستنير :أنا لست ِ
في ٍ
بملحد ولست ُُ
نرجم دون أن نرحم ،قبل أن نحكم دون أن نفهم ،دعونا ندخل غار الكلمات لنق أر
همسه في
ويسمع َ
المعنى بين النصوص ...المعنى الذي ال يدركه سوى صمتَنا ُ
صدى النفوس.
هناك احتماالن لتفسير هذا الكالم ...وجهان ومعنيان ..المعنى األول هو السقوط...
المعنى األول يعود بنا إلى غابات الالوعي حيث اإلنسان يحيا حياته كالحيوان ال
يعرف شيئاً عن التدين أو اإللحاد ...ال يؤمن بالدين وال يؤمن بعدم اإليمان...
المعنى الثاني ارتفاع وتحليق فوق سماوات العقل والمنطق والتفكير ...المعنى الثاني
يعني تجاوز اإلنسان لمبدأ الثنائية ،ال اعتقاد وال إلحاد ،ليس تابعاً ألي مذهب أو
طائفة أو معتقد ،وليس ناك ًار أليًا من هذه األديان ...المعنى الثاني هو المقصود...
هو الهدف المنشود الذي ال تفهمه المجتمعات والحشود بل تحياه قلوب األفراد التي
ال تحد تجربتها وحكمتها ورحمتها حدود.
علينا أن نفهم شيئاً مهماً ...في المجتمع نجد نوعية الناس التي ال تؤمن بشيء...
الناس التي ال تهتم بالدين وال بالروح ...هؤالء من نسمهيم بالغير متدينين أو
الملحدين أو أي إسم يختاره العقل بحسب بيئة اإلنسان صاحب العقل ومعتقداته...
حمد وال امتنان في
هؤالء ال يذهبون إلى الكنيسة أو المسجد أو المعبد ،ال شكر وال ْ
قلوبهم للوجود واألكوان ...ال يعرفون كيف هلل يخشعون ...قلوبهم ال تشعر وال تنبض
بمعنى العبادة والخشوع ....ال يخشعون وال يتذكرونُ ...هم يعملون ويعملون
وبمشاغل الدنيا منشغلون و ِ
بمعارفها المادية والثقافية والوطنية مهتمون .هؤالء يحيون
81
حياة مادية بحتة ...ال شاعرية فيها وال أبعاد ...يأكلون ،يشربون ويتزوجون .إذا
سألتهم ماذا ب ُكم ال تبحثون عن أسرار وجودكم ومعنى حياتكم وال تقيمون لدار البقاء
بيتًا تكملون فيه مشواركم ورحلتكم الروحية؟ سيبدأون بالمنطق وبسرد معارفهم الفكرية
التحليلية ...سيحاوروك وبمنطقهم يغلبوك ألنهم ال يملكون بين أيديهم سوى كلمات
هي في الواقع أوهام يحتمون خلفها من جهلهم لمعنى األلوهية والحياة .لذا ما
ال إال وغَلبني...
خاطبت جاه ً
ُ
الحجج
ال إال وغلبني ،فهؤالء تمأل رؤوسهم الكلمات والمبررات و ُ
خاطبت جاه ً
ُ ال ما
فع ً
والبراهين ...الحقيقة ال تحتاج لبراهين ...الحقيقة ال تُثبتها الشرائع وال القوانين...
الحقيقة يعجز اللسان عن وصف معناها الدفين ويعجز العقل عن تصور لمحة من
لمحات نورها األبدي المبين ...الحجج والبراهين ال تُثبت سوى وجود األكاذيب،
وهم في أسفل
فكيف لك أن تحاورهم؟ هذا حوار الطرشان ...أنت على قمة جبل ُ
وادي...
يريدونك أن تنزل لهم وال يريدون أن يرتفعوا ويصعدوا إليك ...قال أحدهم :أنظر لقد
أحضر مئة برهان على وجود الشمس ...فأجابه الثاني ،لو لم ي ُكن في قلبه مئة شك
بوجود الشمس لما أحضر المئة برهان...
هؤالء يريدون البراهين ...هم يحيون في عقولهم والعقل يريد برهاناً ألنه لن يتمكن من
فعيشها يعني موته ...فقط في حال الالعقل ...من على قمة
عيش الحقيقة الكونية ْ
الروح أنت تحيا اإلشارات والبشارات واألسرار التي عاشها األنبياء والخلفاء والحكماء
واألولياء ...يريدون كتباً ومعلومات وتبريرات وال يعلمون شيئاً عن التجربة
فصمت العارفين ومعنى السر اإللهي
ْ واإلختبار ...أسئلة ورائها أسئلة والدائرة مفرغة،
بسرد جميع أنواع
ال ال يعرفون لماذا يعيشون ،وان سألتهمَ ،
ُهم يجهلونُ ...هم أص ً
الفلسفات سيبدأون .وما معنى الحياة إن لم تكن تنتظر والدتك من الروح القدس؟ ما
82
معنى الحياة إن خرْجت منها كما دخْلتها؟؟؟ ويا ليت اإلنسان يخرج من الحياة كما
وفقد جنة طفولته وها هو يغادرها
خسر الكثير من برائته َ دخلَها ...ال بل يفارقها وقد ِ
َ
درسه ويكتسب حكمتَه...
قبل أن يتعلم َ
ماذا في حياة أنت تعرف سلفاً ما سيحدث فيها؟ حياة تجرَدت من كل معانيها؟ حياة
أنت محروم من أسرارها وينابيعها؟ أنت ال تنتظر شيئًا إلهيًا ألنك لم تبدأ بعد بالبحث
عن ذاتك وعن ربك ...أنت تقوم بشيء آلي يومي...
أنت تعلم أنك اليوم ستذهب للمكتب وستعود على الغداء لتأكل مع عائلتك ...أنت
تعلم أنك الليلة ستمارس الحب أو ستزور فالن ،فكل شيء معروف سلفاً ...اليوم
مثل البارحة مثل غد .وفي ٍ
يوم من األيام يأتي اليوم المعلوم ويكون القدر المحتوم
وتموت ...هذا كل شيء إذاً؟ كانت حياتك مجرد خطوات نحو الموت؟
أُنظر في عيون هؤالء الناس ...أُنظر بعمق في عيون َمن لم يتصل بمقامات كيانه
ومن لم يرتقي بطاقاته ويرتفع بمنازلها درجات ِ
العلويةَ ،من لم تأته البشارات السماوية َ
نورانية ...أُنظر في عيون من لم يدخل أبعاد عوالمه الداخليةَ ...من ال يعرف شيئًا
عن العالم األكبر الذي انطوى فيهِ ...
ستجد عيونهم جرداء قاحلة وان ابتسموا ...ال
بعد محمديتهم ومسيحيتهم
بريق وال نور وال ألوهية تنساب وتتدفق ...هؤالء لم ُيالقوا ْ
ولم تعزف أرواحهم لحنها اإللهي ...يعيشون الحياة وكأنهم بالصدفة هنا موجودون...
ُهم ببساطة وجودوا أنفسهم هنا ،ال يعلموا لماذا وكيف وال متى ...أين كانوا قبل أن
يسكنوا هذا الجسد وأين سيذهبوا بعد أن يتركوا الجسد ..يحيون كاألموات ويموتون
أموات لذا قال المسيح دعوا األموات تدفن بعضها ...يشغلون أنفسهم وبالهم بمئات
83
األشياء ...إبنتهم ستلِد طف ً
ال ،قريب لهم سوف يتزوج ،يريدون شراء شقة ،أو السفر
إلى مكان ما...
أعذار وأعذار تبقيهم في دائرة األوهام وكل هذه األعذار لخدمة الفكر وعدم دخول
مساحة الذكر التي تشغل كيانهم ...يشغلون أنفسهم حتى ال يواجهوا فراغهم ووحدتهم
داخل أنفسهم ...الخوف يقتلهم إن ُهم بالصدفة القوا وحدتهم ...الخوف يقتلهم حين
يشعروا أو يفكروا باحتمال أن ال يبقى في يوم من األيام أحد معهم ...فيشغلون
أنفسهم وبالحياة يلتهون ...لكن إلى متى؟ تسعون عام؟ أو حتى مئة؟ ثم ماذا؟ المئة
عام كالسنة ...سيأتي اليوم الموعود وعندها لن يكون للندم والحسرة حدود...
وال تتعجبوا حين أخبركم بأنني حين أتحدث عن جماعة الغير متدينين فإنني أشمل
معهم المتدينين المزيفين ...المتدينون المزيفون الذي يذهبون بالفرض واإلكراه إلى
الكنيسة والمسجد والمعبد كجزء من النظام المفروض عليهم ،ال بدافع القلب
الم ِحب ...كجزء من تأدية الواجب المفروض عليهم سواء أعجبهم األمر أم لم
ُ
يعجبهم ...المتدينون المزيفون الذين يقرأون اإلنجيل والقرآن كالببغاوات دون أن
يزرعوا في قلوبهم اآليات ويحاولوا أن يحيوا ويعيشوا ولو آية ...أن يحيوا أسرارها
واعجازها الكوني ...ويكونوا أحياء مع الحي القيوم ...هؤالء الذين يحفظون ويرددون
ألنهم بالجنة يطمعون ومن الجحيم يرتجفون ...فما قرائتهم وما صلواتهم سوى واجب
وانتهىُ ...هم ال يعتبرونها بداية وباب ومفتاح لعلوم إلهية وأسرار كونية ،بل
يعتبرونها النهاية وغاية الحكاية وانتهى...
يعتبرونها معتقداً في الرأس فتتحول فلسفة كما إخوتنا المتحذلقون الذين ذكرتهم قبل
قليل وكفى ...فلماذا أنفسهم يتعبون؟ والوقت يبددون؟ فلديهم الكثير في الخارج
يلعبون به ويتمتعون...
84
لو أن الناس تحيا الدين والتدين مثلما تتحدث عنه وتعتقد به فكرة جافة ال حياة فيها
في رؤوسهم ،لَكان حالنا اليوم غير هذا الحال ...فرد واحد متدين ِمن بين مئة
المحال...
شخص ...هذا هو الحال ...ورغم هذا نصر على الكذب وعلى قول ُ
نتفاخر بأننا متدينين ولواجباتنا حافظين وأين هو تدين القلب؟ أين هو العمل الصادق
والنية الطاهرة والعقل الذاكر الخالي من لهوات وشهوات الدنيا؟ أين؟؟؟؟؟ لو كنا
متدينين َل َو َجدنا عالمنا كما كان أيام أمير المؤمنين ...العدل والحكمة والمساواة ،ال
غني وال فقير وال طبقات وال واسطات ...البارحة كان أمير المؤمنين واليوم نحيا
عصر أمير المنافقين أو هل أقول أمراء النفاق والرياء على كل شكل ولون ودين؟ لو
كنا متدينين لوجدنا السالم والطمأنينة والفرح واإلحتفال في كل مكان ...معاذ اهلل وهل
من حقنا أن نحتفل وأن نأخذ حقوقنا دون أن تتمرغ في الطين وجوهنا ويذلنا صاحب
المال؟
يتحدث الناس عن الحب ويسمعون أغاني الحب لكنهم يذهبون إلى الحرب...
يتحدث هؤالء الناس عن المحبة واألخوة في اهلل لكنهم يقتلون بعضهم البعض
ويسبون ويشتمون وبعضهم البعض ينافسون ٌّ
وكل ينتمي لفئة وطائفة ومذهب
ولون ...هؤالء الناس أخطر من الذين ال يؤمنون وعن معنى حياتهم الروحي ال
يبحثون ...أخطر ألنهم خلف ستار الدين يختبئون وبردائه يتسترون وكلمات األنبياء
يرددون ...هؤالء أنفسهم واألرض بكاملها يخدعون وي ِ
خادعون. ِّ
ُ َ
تسعة وتسعون بالمئة من البشر في يومنا هذا ُهم عن التدين الحقيقي بعيدون ...ناد اًر
ما تلتقي هذا المتدين الطاهر النقي الصادق األمين ...وهل للتدين عالمات
واشارات؟ نعم ...للتدين إشارات وعالمات وبشارات ...إن رأيت أحدهم ِ
وصدقًا وطه ًار
وأمناً وأماناً يشع من عينيه فاعلم أنك في بيتك وأنه متدين ...إن رأيته ورأيت سماحةً
في وجهه وصمتًا خلف كلماته ورقصة في خطواته ونو ًار إلهيًا يبارك عيونه ومساراته
85
ت الدهشة والبراءة تداعب قلبه، ووجد َ
ْ ِّ
ويوجه حركاته فاعلم أنه متدين .إذا رأيته
واحترام الحياة يتنفس داخل صدره ...أنه يجلس وحده قنوعاً مسالِماً وسعيداً فال يعتمد
على متَع الدنيا الخارجية لتكون مصد ًار لسعادته ،سعادته داخلية مصدرها مجهول
ومنبعها غير معلوم ،فاعلم أنه متدين.
اإلنسان الذي يواجه أفكاره وخوفه وذكرياته وآالمه وفراغه داخل باحة صمته هو
نفسه هرباً من لقائها ،هرباً من مواجهة
اإلنسان المتدين ...هو اإلنسان الذي ال يلهي َ
نفسه اللوامة األمارة بالسوء فكيف له أن يتصور أنه بهذا السوء؟ أنه يحوي سوادًا
داخله...
لكن ما لم تتم المواجهة فلن ُيك َشف لك الحجاب عن ن ْفسك الراضية الشفافة ...لن
تصبح متديناً حقاً ...أنت ال تزال تهرب من المواجهة وتركن إلى الدنيا ...تق أر
الجرائد وتشاهد األخبار وزيارات ال تنتهي ...أحيانًا تلجأ إلى النوم ...إلى شراء أثاث
وتس ُّوق ودوران في األسواق تشتري الثياب واألحذية ...أنت تدخل كل مكان إال
جديد َ
ذاتك ،أنت تعرف كل شيء عدا صمتك ،عدا نفسك ،عدا ربك...
حين قال الحكيم المستنير أنا لست ُملحدًا ف ِهم الجميع ...ال شيء يحتاج للشرح
هنا ...لكن حين قال ولست متديناً أيضاً استولى العجب والدهشة على الجميع...
86
اآلن فتح الحكيم المستنير باب التجاوز والتجلي الذي تعجر العقول عن فهمه
واستيعابه ...باب هو أبعد من التدين ...باب يتجاوز الثنائية من تدين والحاد ،من
صح وخطأ ،من قداسة ونجاسة وفضيلة ورذيلة إلى وحدانية ال تعرف إسمًا وال لقبًا
وال تعريفاً .باب تختفي معه األفعال والطقوس والشعائر والتقنيات وما هو هذا الباب؟
باب الفناء و ُّ
التوحد بخالق األكوان ،بجوهر وأصل ولُب كل ذرة تطوف في هذه
األكوان ...في هذا الحال َمن هو العالِم ومن المعلوم؟ من هو العابد ومن المعبود؟
اختفت الثنائية واختفى الحوار وبدأ التوحد والفناء...
هذه هي لحظة القيامة والشهادة حين يتوحد الفرد مع الكل ،يذوب ويتحلل في اهلل كما
نفسه قرباناً هلل ...إنها لحظة القيامة بعد الصلب وما
قطرة الماء في المحيط ...يقدم َ
هو الصلب؟ هو صلب الن ْفس اللوامة واألمارة بالسوء...
يبق ُّ
التوحد هذه ...في هذه اللحظة ال َ لحظة القيامة والفناء والشهادة تتجلى في لحظة
أحد سوى اهلل .فكل فكرة عن استقالل هذه الروح عن ربها وتمسكها بجسد وفكر
وبعدًا عن الجنة ...أما اآلن فشهادة
ولقب اعتقَ َدت أنه هويتها ،لم يكن سوى وهماً ُ
حق بأن ال وجود إال هلل ...ليست ن ْفسك الشفافة الراضية المرضية سوى ُّ
تمدد لنور
اهلل ...اآلن أسرار ُقل هو اهلل أحد...
اآلن ال إله إال اهلل ...ال أحد موجود إال اهلل وما عداه وهم ولهو وحلُم...
في هذه اللحظة قال المسيح إلهي وأنا ،كالنا واحد ...في هذه اللحظة صرخ منصور
الحالج قائالً أنا الحق ...هذه اللحظة هي التجربة الكونية اإللهية الوحيدة التي
اختبرها كل نبي وكل حكيم ومنها تفرعت ونمت األديان لتُ ِ
رشد اإلنسان إلى النبع َ
الذي شرب منه األنبياء والحكماء هذا الماء الصافي العذب ...لكن َمن منا مشى
87
الطريق؟ جميعنا وقفنا عند الباب ،عند الشرائع وبدأنا بعضنا نقاتل ٌّ
وكل منا يريد أن
يتفاخر بأن دينه األفضل وكتابه األفضل وكأسه األجمل دون أن ينظر حتى لما في
داخل الكأس وما حواه ...دون أن ينظر ليرى أن الماء التي في كأسه هي ن ْفسها
الماء التي في كأس جاره ...الكؤوس اختلفت لكن الماء واحد ...لكننا ال نريد أن
نشرب الماء بصمت ...وماذا ستفعل األنا حينها؟ ستموت ..ال ،نحن نريد أن نتكلم
يهمنا جوع الروح
لتشبع عقولنا وترتوي أفكارنا ومعتقداتنا وال َ ِ
ونحاور َ ونتحدث ونجادل
لعيش حقيقتها ...ال تهمنا الحقيقة أصالً ...نحن نحيا ونتغذى على
وعطشها ْ
األكاذيب والباطل ...وأكثرنا للحق كارهون.
قدرنا أن
قدر اهلل الذي كتبه لنا ...وهذا هو معنى جملة الحكيم المستنيرَ ...
هذا هو َ
نعبر كل الشرائع والطرق والتقنيات واألبواب والمفاتيح ونرتاح
نصل بيتنا القديم وأن ُ
في واحة إلهية أبدية ال وجود فيها سوى لواحد أحد ،فجميعها كان هدفها توحيدنا في
اهلل أخوة ومن ثم توحيدنا مع الواحد الجامع لنجتمع على الحق والحقيقة ال كما تجتمع
تجمعاتنا ومجتمعاتنا اليوم على الوهم والباطل...
88
وألجلها ُهم مستعدون لتجاهل أصوات أفكارهم وأجسادهم ..يستمعون لصوت السلطة،
لصوت األمة على حساب أصواتهم ُهم.
واآلن...
إذا اخترت يا صديقي أن تحيا حياة الفوضى ،حياة أصحاب الرغبات والشهوات
اخترت أن تحيا ميتًا ال روح فيك داخل أسوار حياة الضالل
َ والسهرات والحانات فقد
منك سوى جسد يأكل ويشرب ويتلذذ..
يبق َ
الجهَّال ...ماتت األلوهية فيك ولم َ
و ُ
اخترت أن تحيا حياة أصحاب القوانين والعادات والتقاليد فسوف تحيا أيضًا ميتًا
َ واذا
ال روح فيك ...هذه المرة لن تقتلك شهواتك ورغباتك ألنك ستحاول ْقتَلها ...هذه المرة
تتبعها فال أحد بإمكانه إعطائك الوصايا ...ال أحد بإمكانه
ستقتُلك السلطة التي َ
قوَلَبتَك وتشكيلك وتحجيمك لتُناسب القانون الذي فصَله على مقاسه ...فالحياة
نفس وفي كل لحظة فكيف للقانون أن يكون
طبيعية عفوية تنساب وتتغير مع كل َ
يعد يحوي سوى
فعاالً وسط نهر الحياة الجاري؟ أنت ميت ما إن تتبع قانوناً ميتاً لم ُ
الكالم ...فالكالم يموت أيضًا بعد أن ترحل الروح منه وتفارقه ومن هي الروح؟ هي
نهرك تجمد
حكمة َمن وضع الكالم ...الحقيقة حية في النفوس ال في النصوصَ ...
يعد يجري ويجاري نهر الحياة الطبيعي الفطري ...نهرك عن الجريان واإلنسياب
ولم ُ
والحياة توقف فأصبح بحيرة من الوحل جامدة دون حراك ...الوعي يا صديقي هو
األهم في ميزان الوجود...
89
ِ
وشاهد فاإلنغماس في الملذات وشاهد فالرقيب والشهيد فيك هو المفتاح .رِاقب
ِ راقب
ليس سوى وليد عقل الواعي ،عقل طفح كأسه باألفكار تأخذه هنا وهناك .رِاقب
الهوس بالجنس والتفكير به ،ما الشهوة للسلطة والمنصب
فالرقيب داخلك واعي وما َ
والمركز سوى إنذار بأنك تحيا حالة مظلمة من الالوعي ...أنت في الظلمات تظلم
ن ْف َسك ...ال إله إال أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ...أنت في الظلمات،
ظلمات الالوعي حيث تستولي عليك المخاوف أو الرغبات وتستبد بك وتقودك إلى
الجنون .تحيا حياتك يومياً على هذا المنوال ثم يأتي اليوم األخير فتشعر بأنك لم
تفعل شيئاً في حياتك وأنك للشفقة مثير.
لتفهم يا صديقي جيدًا ...ال عالقة للشرائع في زماننا بحياة وتعاليم األنبياء والحكماء
ومفصلة حسب
َّ أصبحت محرفة
َ فهذه الشرائع كانت حية بحضورهم لكنها اليوم
األهواء ومختلف المصالح والمقاسات .وحين أقول أن الشرائع وليدة الوعي مظلم فأنا
طبق دون فهم ودون علم ...تُ َّ
طبق في الوعي شديد أعني أن الشرائع في يومنا هذا تُ َّ
باألسرار وقمم والوعي الشديد التي أشرقَت منها معاني هذه الشرائع ...هو ليس
يبق لنا
تطبيق جاهل فقط ،بل تطبيق بعد التحريف والقص والتلزيق والتزييف ...لم َ
ِ
ونستفت قلوبنا حتى شيئاً سوى أن ندخل النفوس لنق أر نحن بأنفسنا ما بين النصوص
ولو أفتونا...
يسعى المجتمع خالل السبع سنوات األولى إلى تشفير الطفل وتعليبه ...تشفير الطفل
يتم من خالل ْقوَلَبة العقل ،من خالل بث أفكار معينة تخدم الطائفة التي ُوِلد فيها...
المذهب الذي ولِد فيه ،عائلته ،بيئته ،وطنه أو األرض التي ُولِد فيها والسلطة
الحاكمة عليها ...باختصار هي أفكار تُشفِّر الطفل ألجل أن يكبر ويكون خادماً أو
عبدًا تابعًا لمجتمعه .هذه األفكار تدخل الوعي الطفل مباشرة فال وعي لديه َبعد،
وتصبح أداة قوية للسيطرة عليه والتحكم به فيما بعد .مسكين المجتمع فهو يقوم بعمل
شاق ألجل تدريب الطفل وتعليبه وتشفيره وتدميره ...لكن األمر في المستقبل القريب
لن يكون بهذه الصعوبة ...قريبًا سيتمكنون من زرع قطب كهربائي في دماغ الطفل
وعندها بإمكان أي سياسي أن يتحكم به وبطريقة تفكيره من أي مكان كان في العالم.
َّمع والطاعة .لن يتمكن الشعب من معرفة الفرق فهذا
السياسي يأمر والشعب عليه الس َ
91
يحتاج لوعي كبير ...أن تعرف من الذي يعطيك األوامر .هل أنت عبد مأمور أو
على نفسك سيد ِ
وآمر؟ أن تميز وتقول هذا ما دربني وشفرني رجل الدين والسياسي
على قوله وعمله ،أم هذا قلبي استفتيته فأفتاني؟...
الشعوب تعتقد بأنها سيدة على ن ْفسها وهذا هو التنويم المغناطيسي ...شعوبنا العربية
على وجه التحديد ليست سوى أداة لتنفيذ مخططات رجال السياسة والدين الذين
يلعبون على ذات الحبل منذ قرون ...شعوبنا مجرد ُدمى تتحرك بين أيديهم لكنهم
بتنويمهم ال يشعرون...
لكنهم يظنون أن آرائهم ملكهم ،أنها حق حصري لهم ...يعتقدون أن حياتهم من
اختيارهم وأنهم هم من اختار حكامهم وخطبائهم ووع ِ
اظهم... ُ ُ
ُهم ال يعرفون أنهم لم يختاروا شيء فالشيء الذي يظنون أنهم اختاروه قد ُدِّربوا
شفِّروا على اختياره منذ الصغر ...أنت لم تختار فالجميع اختار لك وعنك وبدالً وُ
ت إبقاء الشعوب عبيد هذا هو السر ...سر التنويم الناجح والتغييب الفالِح ...إن ْ
أرد َ
وأغنام فْلتوِه ُمهم بأنهم ُهم من اختاروا الحكام ،بأن حياتهم ملك أيديهم وأن لهم حق
اإلختيار من لقمة العيش التي يأكلونها مرو اًر بالثياب التي يلبسونها وصوالً إلى
انتهاء بالمعتقدات الدينية التي يعتقدونها.
األفكار التي يعتنقونها و ً
كالهما سواء ...صاحب الملذات ،فهو تحت قيد البيولوجيا ...وصاحب القواعد
والعادات ،فهو تحت قيد السلطة والمجتمع...
92
أتباع السلطة واألعراف اإلجتماعية ُهم المحترمون المبجلون من ِقَبل المجتمع ألنهم
السلطة وأصحاب األمر والنهي يحترمون ...ألنهم يسمعون ويطيعون ،أو ألن عليهم
أن يسمعوا ويطيعوا فال خيار لديهم ولم ُيخيِّرهم أحد حتى وان ُخيِّروا...
المجتمع أفسد القلوب وأصبحت القلوب متقلِّبة بسبب تعاليم وتعليم وتشفير نما في
نفرق بين صوت ضميرنا وصوت الظلم
الوعينا دون أن ندري حتى أصبحنا ال ِّ
أه َو صوت المجتمع أم أنه صوتي؟ وكيف لي أن أدري؟ وحتى أدري وأعلم
فيناُ ...
93
وأعرف فالتأمل هو مصيري وقدري إذ وحده التأمل ُيعري الالوعي ويكشفه تحت
شمس الوعي اإللهي...
وحده التأمل يحرر من الفكر والعقل واألوهام واأللعاب فترتفع إلى مقام الروح فهي
ليست ملكاً ألحد ،الروح التي ال يملكها أحد والتي ال تُ َشفَّر وال تُعلَّب ...كل ما في
األمر أنها تنتظر فك شيفرة الفكر حتى تبوح بعطورها وأسرارها.
لهذا ِ
تجد اختالف في ضمائر البشر...
إختالف في أصوات البشر ومن أين أتى هذا اإلختالف؟ فصوت اهلل واحد فينا لكن
من هو السبب؟
ضمير المسلم غير ضمير البوذي ،وضمير البوذي غير ضمير المسيحي ،وضمير
المسيحي غير ضمير اليهودي ...لماذا؟ كيف للضمير أن يختلف من أمة إلى أمة
ومن مذهب إلى آخر ومن وطن إلى آخر؟ لكن هذا الضمير مزيف ...هو ليس
الضمير الكوني ،بل ضمير مصنوع على مقاس مجتمع معين ...الضمير الكوني
94
يملك المفتاح لكن إلى متى؟ ...ما معنى الفتاح؟ وكيف تُفتَح كل الحدود وتُزال بينك
وبين إخوتَك البشر لتكونوا حقاَ في اهلل إخوة؟
إذاً يا صديقي ال ت ُكن عبداً لشهواتك وال ت ُكن عبداً لمجتمعك ...وبعدها ستدخل الدين
من باب العلم والوعي ال الطوائف والمذاهب وتدين الحشود والمجتمعات واإلحتفاالت
والمناسبات والوعظات ...فتتجاوز األسامي والعناوين فال تقول مسلم وال مسيحي وال
سني وال شيعي فالحقيقة ال تعرف لقب وال إسم ولكن األسامي مجرد كلمات ورموز
كي تساعدنا على الفهم ليس أكثر ...هكذا يوَلد الدين الحقيقي فيك ...كما ُولِد في
قلب الرسول في الغار وفي قلب المسيح وقلب إبراهيم...
هل تذ ُكر قصة أبينا إبراهيم؟ هيا بنا نحيا لحظات ولمحات منها كافية إلحيائنا
لحيوات وحيوات...
تبعد عنا حوالي أربعة آالف عام لتسافر بنا إلى مدينة أور السومرية ،تحديداً
الحكاية ُ
في وادي نهر الفرات حيث عاش هناك شاب ُيدعى إبراهيم .أهل هذا البلَد ابتعدوا
عن الصراط المستقيم فعبدوا وعشقوا أصناماً وتماثيالً مصنوعة من الخشب والطين
وبعضها من الحجر الثمين .عبدوا أصناماً بعد أن كانوا يعبدون اهلل ويذكرونه في
قلوبهم بعيداً عن أي صورة أو شكل محدود له بداية وعما قريب تكون له نهاية.
لم يكن إبراهيم ذلك الفتى الصغير يفهم سر الغشاوة التي حلت على القلوب فجعَلت
تنحت تماثيلها بأيديها ثم باآللهة تسميها وبعدها تقوم بعبادتها وتبجيلها .لم
الشعوب َ
ي ُكن يفهم سر الغشاوة التي حلت على قلوبهم وعلى قلب والده بالذات ،فاعتزلهم وما
يعبدون وأنار وحدته وعزلته بحضرة نور البيت المعمور وبدأ رحلة حجه وحده صادقًا
95
أمينًا على ن ْفسه وكل ن ْفس ،فكان التأمل في الوجود واإلصغاء ألسرار األكوان ٍ
بقلب
ٍ
صاف بابه وحياته.
وفي ٍ
ليلة أخرى جلس إبراهيم يتأمل السماء بصمت واصغاء فرأى القمر كبي ًار ُمني ًار...
نوره يشع لدرجة شعر إبراهيم معها بأنه قادر على ِ
لمسه ،فقال في نفسه :هذا هو
ِ
يمض سوى وقت قليل حتى هم القمر بالرحيل تاركاً السماء وكأن لم ي ُكن ربي .ولم
لبريقه ونوره وجود .فحدث إبراهيم نفسه بأن ال سبيل سوى بهداية من اإلله العظيم
نور الوجود وكل موجود .ثم رأى إبراهيم الشمس عند شروقها في مشهد ساحر خالب
ال تحد سحره حدود ،فقال لن ْفسه بأنها الشمس ...ال بد وأنها أقوى وأكبر قوة في
الوجود .للمرة الثالثة لم يكن ظن إبراهيم في مكانه فقد رحلت الشمس وفارقت مكانها
يعد لها بعد لحظة المغيب وجود .وأشرق نور الصحوة في قلبوفي نهاية يومها لم ُ
إبراهيم وعلِم ٍ
بعلم من العليم أن مصدر وأصل النجوم والشمس والقمر واحد أحد أكبر
من كل كبير وأحكم من كل حكيم ،لم يوَلد فتكون له بداية وال يموت فتكون له
نهاية ...فحل في قلبه الرضى والتسليم فهو اآلن يحيا الحقيقة الكونية ٍ
بقلب سليم ال
يساوره شك بل خشوع وعلم غاية في التعليم.
96
هكذا يوَلد الدين الحقيقي فيك ...كما ُوِلد في قلب الرسول في الغار وفي قلب المسيح
وقلب إبراهيم...
الدين الحقيقي التجاوزي األبعد من أي إسم يساوي بينك وبين الوجود ...ال أعلى وال
أدنى ،ال أكبر وال أصغر ،ال أذكى وال أغبى...
كنت أقول وال زلت أقول وسأظل أقول أن الرجل والمرأة لم يكونوا يوماً في عالقة
إنسانية من أي نوع .الزال المجتمع يعتقد في الوعيه ويؤمن بأن المرأة أقل من
الرجل ،وال يمكن للعالقة اإلنسانية أن تقوم بين فردين غير متساويين إنسانيًا
وعبد ،بين
ووجودياً ...ال يمكن للعالقة اإلنسانية أن تقوم بين أعلى وأدنى ،بين سيِّد ْ
حاكم ومحكوم أو بين سيِّد ومسود .وما لم تستعيد المرأة حريتها دون أي شروط أو
المطلقة بالرجل فال تتوقع حدوث عالقة إنسانيةقيود أو حدود ،ما لم تستعيد المساواة ُ
بينها وبين الرجل ...لن يحدث ...عالقاتنا ليست بالعالقات بعدُ ...ن ِحب ونحن ال
نعرف ما هو الحب ونتزوج وننجب وجميعنا لسنا بش ًار بعد ولسنا أحياء وما هذه
العالقات والزيجات إذاً؟ جميعها بالء وجنون وانتحار جماعي فال وجود لإلنسان بعد
األن َسنة اإللهية الساكنة فينا؟ وأين ِ
أنت أيتها ْ
إلى اآلن لم يفعل الرجل شيئاً سوى سْلب المرأة حقوقها ومحاولة السيطرة عليها
وخيانتها وغدرها وتفصيل الشرائع والدين والقوانين على مقاسه وعلى هواه ،تحت
شعارات وعناوين مثل الزواج والحب واألبوة واألخوة وكل هذه األوهام ...أهذا ما
تسميه عالقة؟ ليست عالقة وال يمكن أن تكون عالقة ...فقط بين فردين متساويين
تمامًا ينمو الحب ليس قبل ذلك ...قبل ذلك خوف وأقنعة وكره وحقد ...مع المساواة
ينمو الحب ويفتح القلب أبوابه فيبوح بصدق بما يشعر به ويحسه...
97
الحب والخوف ال يلتقيان ...لقائهما في ذات الكيان مستحيل ...ومتى رحل الخوف
وغادر قلب اإلنسان ،دخل الحب وعطر كيانه ورفَع الميزان.
ماذا يعني الجحيم أو جهنم؟؟؟ هي الخوف الموجود داخل اإلنسان ...الخوف وقد
اتخذ شكالً ثالثي األبعاد ...الخوف صوَرته المخيلة...
وماذا تعني الجنة؟؟؟ هي الطمع الموجود داخل اإلنسان ...الطمع وقد اتخذ شكالً
ثالثي األبعاد ...الطمع ترَج َمته المخيلة.
كنت تفكر بالجنة أو الجحيم ...إن كنت تتصرف من هذا المنطلق فأنت كما أنت
إن َ
ولم تتغير أبدًا ...الزلت ماديًا ِ
شرهًا تسعى خلف مصالحك ورغباتك ونزواتك ...اللهم
عبدتك خوفاً من نارك وال طمعاً بجنتك لكني عبدتك ألني وجدتك أهالً للعبادة...
ما ْ
أين نحن من هذه الحقيقة التي نطق بها اإلمام علي ورابعة العدوية وكل حكيم
عبدتك ألني وجدتك أهالً للحب ...صاحب الفهم ال يفكر من باب
ومستنيرْ ...
الثواب أو العقاب ،مكانه هنا وزمانه اآلن.
رجل الدين يعمل على الجحيم والنعيم تماماً كما يعمل السياسي وصاحب السلطة في
المجتمع على التشفير والتقسيم والتعليب ...رجل الدين ماهر في مهنته ...يرسم لك
الجحيم ويصور ألوانه وأشكاله وأبوابه ...أوالً يحول طبيعتك وفطرتك إلى إثم وخطأ
وكفر وحرام ووووو...
98
ويخبرك بأن الخالص الوحيد ِ
هنا ُيكمل رجل الدين مهنته فيشرح ويصف لك جهنم ُ
يكون باتباع دينه وشريعته ...لن تنجو إن كنت تابعاً لغير ملة ودين ...لن تنجو إال
إن خلصك اإلسم الذي يسميه لك بحسب الدين الذي يتبعه هو ...إما المسيح أو
كريشنا أو بوذا أو أو أو ...وأنت تريد الخالص فالموت يقترب يوماً بعد يوم ...فتقع
في األسر وتتبعه..
في الحقيقة ال ُيمكن أن ينقذك أحد ما لم تُ ِنقذ ن ْفسك وتتجاوز فكرك وتتخلى عن
الطمع والخوف .ال مسلم وال مسيحي وال بوذي وال يهودي بإمكانه إنقاذك فالخوف
والطمع ،فكرك هو جحيمك األكبر...
الجنة والجحيم ليسا بأماكن جغرافية موجودة في مكان ما في السماء ..الجنة والجحيم
كما صوروها لك ووصفوها هي أماكن نفسية ال جغرافية ...بمجرد أن يختفي خوفك
وطمعك ستختفي جنتك وجحيمك .وما إن يختفي خوفك وجحيمك ،طمعك وجنتك
ستظهر الجنة الحقيقية ...سيظهر لك الفردوس الحقيقي ...الجنة التي عناها الرسول
الحبيب والمسيح وابراهيم وبوذا وكل مستنير لكنهم لم يبوحوا بأسرارها ألحد ،وهل
يوجد أحد مستعد ألن يفهم ويسمع؟ لم يبوحوا بأسرارها إال ألهل الصمت ...ألخوتهم
العارفين باهلل.
الجنة والجحيم أماكن نفسية وبعد أن تتجاوز حالتك وأحوالك وتقلباتك النفسية ستعي
أسرار الوجود الروحية ...ستفهم ما هي جنة الروح يا أخي في الروح ...جنة هي هنا
اآلن وفي كل مكان وزمان ...جنة قوامها الوعي الروحي والسالم الداخلي ال الطمع
مرضية تستدعي الشفاء ...هذا هو سر علم التأمل
وال الخوف فهذه حاالت نفسية َ
ولهذا قال الرسول الحبيب تأمل ساعة خير من عبادة سبعين عام ...وحده التأمل
ُي ِ
بلور وعيك اإللهي فتعي الحقائق واألسرار التي ال تُقال بلسان وال يحويها كتاب...
حينها سيوجهك وعيك وستعلم أنك لست الفاعل بل اهلل من خاللك يفعل وقدر اهلل
99
فعل ...حين تستسلم أنت ...حين تصبح نايًا فارغًا على شفاه الوجود...
وما شاء َ
حينها ُيعزف من خاللك اللحن اإللهي...
سمح
ندع فكرنا يرى ويسمع ويتكلم ...ناد اًر ما أجد إنساناً َ
مشكلتنا يا صديقي أننا َ
للبصير بداخله أن يرى ،للسميع في أعماقه أن يسمع ،وللشهيد في معبده بأن
يتحدث .المجتمع يتحدث ،الشيطان يتحدث ويحيا من خالله وليس اهلل ...لذا نحيا
كاألموات ولسنا أحياء.
ِ
تخاطَبك ...ال تحكم ...ال توافق وال ترفض وال تحتار ...ال اآلن تجربتي هي التي
تت ِخذ موقفاً ...وهل توافق على صوت مياه النهر الجارية أم ترفضه؟ هل تحكم على
صوت الريح فتقول بأنه على حق أو على صواب؟...
لكني أخاف المجهول وأجهل الالمعلوم وأشعر أنني سأترك دار األمان لألبد وأدخل
دوامة الترحال والمجهول وأنا أخاف الدخول في ما ال يستطيع عقلي أن يتصوره أو
يُمسك زمام أمره ..ماذا أفعل؟
ت من شيء يا صديقي فادخل فيه ...ما هو األمان الذي تتحدث عنه؟ ال
إن خ ْف َ
أمان إال باهلل لكن هذا األمان ال عالقة له بحساباتك في البنوك ومالك وعيالك
وعزوتك ...هو حياة من نوع آخر .حياة ال تستحقها إال بعد أن تجاهد ألجلها ..ال
ألجل َك ْسبها بل ألجل إعادة اكتشافها فهي داخلك اآلن وهنا .الخوف مانع...
الخوف حجاب وغشاوة على البصيرة التي تدرك ما ال تدركه األبصار .في الواقع
لست أنت من يخاف المجهول ،بل عقلك الذي يخشى أن يتالشى و يزول ..الفناء
باهلل الذي تحدث عنه األنبياء هو موت العقل ...موت الرغبة والهوس والقلق والخوف
111
إعقل َّ
وتوكل أي إعقل بعقل ومقرَ ...
ًا مسكنًا
وكلها طاقات سلبية تتخذ من العقل ْ
صاف ٍ
خال من األفكار ...عقل ال تشغله أفكار بل نعمة األذكار واإلستذكار... ٍ
موت ومن بعده َن َم ْوت ،أي موت يتبعه نمو وقيامة ووالدة روحية من الروح
نقول ْ
القدس ...تخلي عن عالم األشياء ،صيام عن كل ما هو دون اهلل ،وفناء في عالم
الالشيء مصدر وأصل كل شيء.
ليس التدين يا صديقي وعظات وواجبات وشعائر وانتهى ...التدين هو حالة تكون
أتعبك ِح ْمل اللقب
فيها عند مفترق طرق ...حالة ترى فيها وتشعر معها َكم َ
أتعبتك الهوية المزيفة وها أنت تتوق للعودة إلى أحضان ورْحم
والشخصيةَ ...ك ْم َ
ال سترمي الحاجز بينك وبين حقيقتك الراضية المرضية...
األلوهية الكونية ...أو ً
لتعبر نحو األمجاد السماوية ...لست
سترمي الفكرة اإلجتماعية واإلعتقادية والفلسفية ُ
كائن إجتماعي بل كائن كوني يحيا الجماعة ال المجتمع ويذكر أنه إبن الكون أجمع.
التدين حالة وجود إلهيةُ ...خْلقُه القرآن ...أنت موصول بأجسادك السماوية وتتلقى
معارف واشارات إلهية من عوالم نورانية ...أقل من هذا فهو ليس بتدين ...التدين
رحلة جدية وليس تمثيلية.
اللهم َّ
تقبل منا هذا القربان ...الحصاد كثير ولكن العمال قليلون ،فاسألوا رب الحصاد
أن يرسل عمال إلى حصاده...
للعمل ،لجهاد الن ْفس سيرسل اهلل له حصاده ...وحصاده ليس شيئاً يجنيه،
المستعد َ
ب ن ْف َسه.
حج َ
أتعبه وعن رؤية الحقيقة َ
بل خسارة حمولة ثقيلة وازالة وزن ثقيل َ
تخسر ن ْفسك اللوامة لتتجلى ن ْفسك الشفافة خاشعة مطمئنة فترى الوجود
حصادك أن َ
جميالً إلهيًا مقدساً ،فهو لم ي ُكن قبيحاً تعيساً ِ
ونجساً إال بسببك ...بسبب فكرك الذي
تنظر عبر نافذته إلى الوجود.
111
اإليمان
ما هو اإليمان؟
دعني في البداية أخبرك بقصة يا أخي فيها من العبرة والمعنى والمغزى ما ال تحويه
نصوص ومجلدات ...في اليوم الذي أ ِ
ُحرَقت فيه مكتبة اإلسكندرية ضاعت كل
يبق سوى كتاب واحد ...كتاب واحد ال قيمة له فال أحد بقرائته مهتم...
الكتب ولم َ
علم أن ثمنه رخيص... رجل كبير في السن ،فقير الحال أراد شراء الكتاب حين ِ
فاشتراه ووجد بين صفحاته أسرار حجر ُيدعى حجر األسرار ...تقول صفحات
الكتاب أن حجر األسرار موجود على ضفاف شواطىء أحد البحار ،البحر األسود،
والى جنبه توجد آالف الحجارة التي تبدو مثله تمامًا ...لهذا الحجر قدرة غريبة على
تحويل الفحم إلى ألماس والمعدن إلى ذهب خالص ...لكنه على الشاطىء بين
إخوته األحجار ...ال فرق في أشكالهم لكن اإلختالف يتجسد في جوهرهم ...حجر
األسرار دافىء بينما باقي األحجار باردة .باع الرجل جميع ما يملك من ممتلكات
متواضعة جداً ...إشترى خيمة وذهب إلى شواطىء البحر األسود ليخيم هناك
ويبحث عن حجر األسرار.
وجد الحجر
بدأ الرجل الكبير بالتقاط األحجار عن الشاطىء حج اًر تلو اآلخر وكلما َ
ال وهو على هذا الحال ،يلتقط الحجارة وفي
باردًا ألقى به في البحر ...مر يومًا كام ً
البحر يرميها ...بعدها مرت أيام وشهور وسنوات دون أن يجد حجر األسرار...
مرت ثالث سنوات .ثالث سنوات يلتقط حج ًار ،يجده باردًا فيلقيه في البحر ...في ٍ
يوم
112
ال ...حجر دافىء
من األيام التقط بين يديه حج ًار دافئًا فرماه في البحر ...لكن مه ً
ورماه في البحر؟ نعم يا صديقي ،رماه في البحر ...هو العقل يا صديقي ،هي العادة
يا أخي والعادة عبادة وابادة ...ثالث سنوات يتبع ذات العادة دون أن يتغير ويتجدد
حتى رمى بحجر األسرار في البحر دون أن يدري.
حجر األسرار في هذه الحكاية هو اإليمان وحين أقول اإليمان فأنا أعني الثقة...
اإليمان الذي أعنيه ليس إيمان أمتنا ومجتمعنا ...ليس إيمان الفكر والمعتقد ..هو
كل البعد بعيد عن وضع معتقد وفكرة في الرأس ومن ثم تخيلها واإليمان أو اإلعتقاد
بها ...هذا ليس بإيمان ...سموه خطأ باإليمان ...هو اإلعتقاد والفرق شاسع واسع
بين اإلعتقاد واإليمان ...اإليمان ثقة ورضى وقناعة واستسالم وتسليم لنهر الوجود
والمشيئة اإللهية والفطرة الحقيقية األصلية .اإليمان لحظات حية ينبض بها قلب
اإلنسان بينما اإلعتقاد فكرة ميتة في الرأس ال تغير الن ْفس...
حجر األسرار هو اإليمان ،وما أبعدنا اليوم عن اإليمان ...ناد اًر ما تلقى إنساناً تثق
به وتستسلم لحكمته وبرائته ،فأين نحن من حضرة األنبياء واألولياء الصالحين
والقديسين؟ وجود إنسان مؤمن حقًا ،أهل للثقة هو نادر كما حجر األسرار موجود
إخوته األحجار يبدو مثلهم في الظاهر لكن الباطن والنوايا واألسرار هي األساسبين َ
المحبة التي ِ
والحق والحقيقة ،إنما األعمال بالنيات ...أين أنت أيتها القلوب الدافئة ُ
ترتاح في واحتك النفوس العطشى للحقيقة ،التائهة في ليل زماننا المظلم؟ هكذا...
أنت تلتقي البشر منذ الصغر ...منذ الطفولة وأنت تلقى البشر ...منذ الطفولة وأنت
تلتقط األحجار حج ًار تلو اآلخر وتجدها باردة ...في ٍ
يوم ما ستلتقط حج ًار دافئًا...
يوماً ما ستلتقي المعلم الصالح والحكيم المستنير .ستشعر بدفئه ،بصالحه ،باستقامته
التقطت الحجر الدافىء ،حجر األسرار لكنك سترميه
َ وطُهره ورغم هذا ستتجاهله...
وحجة رميه ستكون عذر أقبح من ذنب ...ربما تنعته بالجنون أو تقول
يا صديقيُ ...
113
عنه أنه بالحضارة غير مفتون ويريدنا أن نحيا كالبدو فكالمه وحياته وأفكاره ال
تناسب حضارتنا وحضرتنا المزيفة لذا فهو مجنون ...أياً كان عذرك ال يهُم ...ما
يهُم أنك سترميه يا صديقي ...ستسأل ن ْفسك وتقول كيف حدث ذلك؟
األمر بسيط ...بداية الحكاية كانت أرضاً رمى فيها المجتمع بذور الشك فال مكان
لقلب تشعر معه باألمان في هذا الزمان ...الكل جاهز وحاضر للخداع والمنافسة
والسباق ويارب نفسي واستعداد تام ألدوس على غيري حتى أنال مرادي ...طبعاً
أوج ْدنا عناوين جميلة للمنافسة وقطع أعناق غيرنا حتى نخفي بربريتنا ورائها...
َ
المتفوق ،األول ،األجمل وغيرها من آفات وعاهات ارتدت
ِّ عناوين من نوعية األذكى،
المعتِم المظلم...
بدالت المعة متوهجة لتخفي ورائها لونها ُ
منذ الصغر وأنت تسمع عن غابات مجهولة مخيفة يعيش فيها األشرار واألشخاص
الذين ال يستحقون الثقة ...غابات مجهولة تكبر يومًا بعد يوم في مجتمع فقد اإلنسان
الوع ِيه ،حتى رَحلت الثقة
وعيه وأصبح مشف اًر مغيباً أسي اًر تافهاً تائهاً في ظلمات َ
فيه َ
من القلوب بعد أن خاب رجائها وانقطع أملها في أن تجد مسكنها في قلب العبد
المؤمن الصادق ...ما وسعني أرض وال سماء إنما وسعني قلب عبدي المؤمن وأين
هو اإليمان؟ أين ِ
أنت أيتها الثقة؟
منذ البداية رمى المجتمع بذور الشك في قلبك فامتدت وتفرَعت في كيانك وشكَلت
أصبحت تنظر للوجود بعين الشك في كل موجود فالجميع أعداء
َ حالَك وأحوالَك و
يترقبون الفرص حتى ينقضون عليك ومنك يستفيدون وما تملُك يستغلون.
114
الطفل يفقد الثقة حتى في أهله ...ينظر إليهم ويرِاقب حالهم فيجدهم متناقضين
مترددين يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً ...الطفل يتعلم أال يثق بأمه التي تخبره شيئاً ثم
تخبره بشيء معاكس تمامًا للسابق ...هو ال يعلم ماذا تريد ،األم نفسها ال تعرف ماذا
تريد...
في أحد األيام سأل طفل أمه عن معنى الزواج ،فقد كان يتصفح كتابًا كبي ًار ملونًا
وو َجد فيه كلمة زواج ...سأل أمه عن المعنى فأجابته بأن الزواج هو المحبة بين
َ
رجل وامرأة ،السعادة والفرح واإلحتفال بين شخصين ...فأصاب الطفل الذهول ،وحين
سألته أمه ما سبب هذا الذهول أجابها بأن جوابها يعني أنها ناد اًر ما تكون
متزوجة!!! سألَته وقالَت :ماذا تعني؟ ...أجابها بأنها في إحدى أيام األسبوع كانت
سعيدة هي ووالده أي أنها كانت متزوجة ،لكنها باقي األيام وصباح هذا اليوم لم ت ُكن
متزوجة ،فال سعادة وال فرح وال احتفال بل ص ارخ وجدال وقتال...
وصفَت له الزواج بأنه المحبة والفرح والمشاركة ،وحياتها يمألها الحزن والقتال
لقد َ
والصراخ والجدال ...تحدثت أمه عن المثال لكنها لم ت ُكن تعي ما تقوله فهي حتى ال
تحيا هذا المثال وال تعرف عنه شيئاً سوى أحاديث وروايات وأقوال ...وكيف للطفل
أن يثق بأمه؟ هذا أمر ُمحال...
115
يطلب األب من إبنه أن يكون صادقًا شريفًا وأمينًا ،وفي الوقت ذاته يراه إبنه وهو
ِّ
المتحدث بإسم الصدق يطلب يكذب ويغش حتى ُينقذ ن ْفسه ...يندهش الطفل وأبوه
للمتسول المحتاج الذي ينتظر على الباب بأن ال أحد في
ِّ منه أن يذهب ويقول
المنزل حتى ال يعطيه ِكسوة أو مالُ ...يصاب الطفل بالذهول ...والده يطلب منه أن
ومسكن داخل القلوب؟ ...ها ِ ِ
ال يكذب وها هو بن ْفسه يكذب!!! ومن أين للثقة بمكان َ
هو الطفل يلتقط األحجار الباردة يومًا بعد يوم فقد اعتاد البرود واعتاد عدم الثقة
واعتاد أن يرميها...
األمر الخطير أن جذور الشك تمتد في الداخل كلما امتدت في الخارج ...ها هو
يكبر ...كان ال يثق بعائلته وها هو اآلن ال يثق بالجيران واألصدقاء
الطفل ُ
والمدرسين والمعلمين والسياسيين ورجال الدين ،فالكل مخادعين مرائين كاذبين...
سي ُبزغ فجر هذه الحقيقة في ذهن اإلنسان :ال أحد أهل للثقة .ومع
عاجالً أم آجالً َ
بزوغ فجر الظالم هذا يزداد الخطر والدمار فاإلنسان حينها سيفقد ثقته بنفسه .لماذا
سيفقد ثقته بنفسه؟ ألن الجميع ضد رغباته ومشاعره وأفكاره يقفون صفًا واحدًا
بالمرصاد ...ألنه دائماً ما اكتشف منذ أن كان طفالً ويكتشف بأن طبيعته ال تناسب
هملة
مجتمعه الذي يدعوه لكبتها وتجاهلها وعدم الحديث عنها ...ألن مشاعره ُم َ
وأفكاره منبوذة وآراءه ال تلقى أي تقدير ...ألن الطفل يريد أن يخرج ويلعب مع
أصدقائه وأمه تقول له إجلس و ِ
أنه واجبك ...اآلن ماذا؟ اآلن إن استمع لفطرته
وطبيعته فسوف يخرج لل ِعب ،لكنه أمر خطير ...لكنه أمر لغضب األم مثير ...ليس
فقط غضب األم ...فاليوم غضبها وغداً غضب المعلمة في المدرسة ومن يدري ماذا
فيجبِر نفسه على الجلوس وانهاء
سيكون العقاب؟ حينها يفقد الطفل ثقته بإحساسه ُ
فرضه ...وهكذا ...كل ما يريد فعله ،كل ما ينوي فعله يبدو خاطئًا للجميع ،يبدو
ُمسيئاً في نظر الجميع وكأنها مؤامرة ُيدبِّرها الجميع ...وبعد كل هذا تأتي الخالصة:
116
ت ما يريده غيري إن فعْلت ما أريد ،إن قْلت َّ
وعبرت عما أريد فسوف أعا َقب ،وان فعْل ُ
فسوف أُكا َفأ ،وهل للثقة من مكان في قلب اإلنسان بعد هذه الخالصة؟
إن الكرام قليل وقد أصبحوا جوهرة نادرة في هذا الزمان ...منذ قرون وقرون والناس
تريد المعجزات من األنبياء واألولياء ألنهم ال يصدقون ،ألنهم ال يثقون ...ألن قلوبهم
وهجرت القلوب والى
َ ال فلم تجد الثقة مسكنًا فرحَلت
أغلقت أبوابها منذ أن كانوا أطفا ً
َ
اآلن لم تعود ...الناس لم تثق بالرسول الحبيب ورجموه ولم تثق بالمسيح وأرادوا
صلبِه ولم تثِق بإبراهيم وأرادوا حرِقه ...هذا حالنا فنحن ال نؤمن ألننا أغلقنا قلوبنا،
بمعتَقد ونظن أنه اإليمان ...ومن هنا ُولِد
ألننا نحيا في الفكر ونعتقد ...نعتقد ُ
النفاق..
أين هو هذا اإليمان وأنت تأكل حقوق الناس حتى تصل أعلى المراكز والمجالس؟
أين هو اإليمان وأنت على الكرسي جالِس تريد تمجيد نفسك واخضاع الشعوب
وملكك؟ أين هو اإليمان ونحن ال نهتم سوى
كمك حتى تتمكن من المباهاة بن ْفسك ُلح َ
ُ
بالبنيان والحضارات الزائفة والعمارات التي طالت السماء ونسينا كيف نبني
اإلنسان؟ ...ألم أ ُقل لك يا أخي أن الفرق كبير بين اإلعتقاد واإليمان؟ اإلعتقاد عادة
وفكرة تعتقد بها والسالم ...أما اإليمان فأسلوب حياة خالي من النفاق وابتعاد عن
سمينا اإلعتقاد باإليمان حتى نختصر الطريق
مخالطة ومجالسة أهل السوء والنفاقَّ ..
كسَبت أيدينا.
وال نبحث عن الحقيقة وعن أعلى رفيق ...ونحن الخاسرون بما َ
117
لكن اآلن ال جدوى من البكاء والنحيب فما حدث قد حدث ...اآلن باإلمكان إبطال
ما كان بالعودة إلى كهف القلب وفتح باب غاره انتظا اًر لعودة الثقة من جديد ...إفتح
قلبك وبابك وثِق بالوجود وجوهر وروح كل موجود ...إفتح قلبك وستجد الثقة اإللهية
بدأت تزرع بذورها في تربة هذا القلب فيوَلد وينمو اإليمان ...الثقة مفتاح يفتح بابك
إلى المجهول ،إلى اهلل ....توكلت على اهلل ،ال بالفكر لكن بالقلب والنية ،بالحق
وبعيش هذا اإلتكال حقيقة حية ال فكرة في الرأس ميتة...
ْ
عرف
اإلمام علي الذي كان سيداً على ن ْفسه ،ملَك ن ْفسه ولم تملكه الدنيا .الذي َ
ال حكيمًا .الذي آخاه الرسول
ال وقو ً الدين طُه ًار باطنًا و ِعلمًا ظاه ًار وعم ً
ال عاد ً
الحبيب حين آخى بين المهاجرين واألنصار أيام هجرته والمسلمين إلى المدينة .جعل
لكل أنصاري أخاً من المهاجرين أي رفيق درب وطريق وجميعنا في اهلل أخوة ورحالة
على ذات الدرب والطريق .وفي مشهد جليل تعجز اللغة عن وصف معناه الجميل،
أجلسه النبي إلى جواره وضمه إليه ثم قال ..." :وهذا أخي".
118
أمير المؤمنين يرفض العيش في قصر الخالفة ويرتدي ثوبًا بثالثة دراهم و يوزع ما
في بيت المال على المسلمين فرداً فرداً دون أن يكون له أي نصيب من هذا
المال ...يلبس الثوب ِ
الخشن ويقول:
"هذا الثوب يصرف عني الزْهو ويساعدني على الخشوع في صالتي وهو قدوة
صالحة للناس كي ال ُيسرفوا ويتبذخوا"...
أمير المؤمنين يهمس في قلوبنا" :إن المؤمنين مستكينون ،إن المؤمنين ُمشفقون ،إن
المؤمنين خائفون" ...ولكن َمن منا خائف من أن يؤذي غيره بأفعاله؟ من منا خائف
على مصائرنا؟ من منا مستعد ألن يغفر بدالً من أن يعتدي ويقتل؟ من منا ُمشفق
على حال البشر مستكين خاشع يرحم أخيه اإلنسان والطير والحجر؟
فكأنهم كانوا على ميعاد َج َرت الرياح على محل ديارهم
سرق
ماذا الذي نفعله أنا وأنت؟ كما تكونوا ُي َولى عليكم ...نحن وحكامنا ُنحاكم من َ
ِ
بغى ألنه ُكبِت ومن قتل ألنه انحرف وظُلم ونحن في قصورنا َ
ننعم ألنه احتاج ومن َ
بحفالتنا واحتفاالتنا؟ ِ
نحاكم غيرنا قبل أنفسنا ونعذب الناس وندخر األموال وفي
النهاية نقول :نحن نطبق شرع اهلل ...نطبق شرع اهلل ونحن ال نعرف من هو اهلل
ال ...أنا وأنت ال نعرف من نحن حتى...
أص ً
119
ومن أكثر ثقة في الوجود من أمير المؤمنين حين أخذ مكان رسول اهلل في داره إذ أن
َ
الرسول كان يتهيأ للهجرة من مكة إلى المدينة؟
أخذ علي مكان الرسول ليشغل عنه قريش ويتمكن من الذهاب إلى المدينة وصاحبه
أبو بكر ،وهو يعلم أنه لو أمس َكت به قريش فمصيره الموت ...الموت غريباً وحيداً
دون أن يودع حتى أحبابه وأصحابه .لم يأخذ مكان الرسول في داره فقط بل قام
بتوزيع الودائع على أصحابها فرداً فرداً والتي كان الرسول يحتفظ بها ألصحابها في
وحده أيضًا دون مرافقة وحراس وحده أدى األمانات ألهلها ثم ِ
لحق بالرسول َ مكةَ .
وحده سَلك ذات الطريق التي سلكها رجال قريش لمالحقة الرسول وأبو بكر.
وجنودَ .
أمير المؤمنين يعلم أن اهلل معه ،داخله وفي كل مكان ....ال يعلم أن اهلل معه ألنه
اعتقد بذلك ،ال ...بل ألنه رأى نور اهلل متجسداً داخل ن ْفسه ،عاش واختبر الحضرة
فعرفَت نفسه الخشوع والزهد في رحاب هذه القدرة
اإللهية وتلقى العلوم السرمدية َ
الكونية ،وعرَفت القوة والصالبة ألنها تستمد قوتها من قدرة إلهية ال حد لها وال عد.
وشاهد وقال:
َ أمير المؤمنين شهَد
"دار بالبالء محفوفة وبالغدر معروفة ال تدوم أحوالها وال يسلم ُنزالها أحوال مختلفة،
وتارات متصرفة ،العيش فيها مذموم واألمان فيها معدوم".....
" ......واعلموا عباد اهلل أنكم ،وما أنتم فيه من هذه الدنيا ،على سبيل من قد مضى
قبلكم ،ممن كان أطول منكم أعما اًر ،وأعمر ديا اًر ،وأبعد آثا ًار ،أصبحت أصواتهم
هامدة ،ورياحهم راكدة ،وأجسادهم بالية ،وديارهم خالية وآثارهم عافية ،فاستبدلوا
ِ
الالطئة المسندة ،والقبور بالقصور المشيدة ،و ِ
الممهدة ،الصخور واألحجار ُ
النمارق ُ
111
لحدة ،التي قد بنى الخراب فناؤها وشيد التراب بناؤها ،فمحلها ُم ِ
قترب وساكنها الم َ
ُ
ِ
مغترب"................
ثقتَه بالوجود ،إيمانه الالمحدود هو كنزه وما يملُك رغم الفتنة ورغم الخيانة ...ال
سبيل يا أخي عند المؤمن للمساومة ...بل نداء ينادي به من لب القلب كما نادى
اإلمام علي َمن خانوه وقال:
111
ويسرقون وماذا سيسرقون منك؟ مالك ِ
خدعون وُيخادعون ...دعهم ينهبون َ
دع البشر َي َ
وحده يبقى
يغسل ويطهر روحكَ ... أو شيئاً من ممتلكاتك ...لكن اإليمان لك وحدكِ ،
ومن رحل
معك ومن رحل وايمانه صديقه فقد مَلك كل شيء ...فقد دخل جنة اهللَ ...
خسر كل شيء... وممتلكاته وحساباته وشيكاته معه وأطماعه ونواياه الجاحدة فقد ِ
112
واحة الراحة
مساعدة اآلخر تبدأ بعد مساعدة الذات ...ال يستطيع اإلنسان مساعدة غيره قبل أن
لمن يعاني منزله من الفوضى تنظيم وترتيب منزل جاره؟...
يساعد ن ْفسه ،فكيف َ
معبدك وغيِّر نفسك ...بعد رحلة الحج وبعد المسير على درب
نظف بيتَك ،طهِّر َ
وعزف اللحن اإللهي ،أنت في واحة الراحة ...أنت اآلن في واحة تمألها
الحق ْ
الظالل ...واحة بإمكان كل إنسان حيران عطشان أن يجلس ويرتاح تحت ظالل
أشجارها ،ويشرب من مياهها...
ال داعي ألن تفرش العالم أجمع يا صديقي بجلد البقر ...غطِّ ْ
قدميك وال تقلق بشأن
قدميك تكون قد َحمْيت العالمِّ ...
خلص ن ْف َسك تكون قد خلصت العالم.. إحم ْالعالمِ ...
َ
أنت وكل واحد فينا هو المشكلة وليست المشكلة في العالم .هذه بداية الحكمة.
العالم ِوحدة واحدة ال انفصال بينها وال أحد يحيا كجزيرة منعزلة ،ليس فقط على هذه
األرض ....الكون أجمع هو شبكة من الطاقة نتواصل من خاللها ببعضنا ونتصل.
أنا في حال من القلق والمرض إذًا أنت في حال القلق والمرض ...إذًا جيراننا في
حال القلق والمرض وهكذا حتى أصبح العالم مريضًا قلقًا مهزو ًاز ...أدولف هتلر لم
صنع أدولف هتلر ...الفيتنام لم ِ
تأت من فراغ ،نحن َمن ِ
يأت من العدم ،نحن َمن َ
114
أوجدها ...أنا وأنت ...نحن كنا في البداية ...أنا وأنت هو المشكلة األساسية ...لذا
َ
سأبدأ بنفسي ومن نفسي حتى أغيِّر نفسي وال عالقة لي بغيري .أنا مشكلة العالم
وسأحل مشكلتي بنفسي ...من اآلن يا أخي ال تتجاهل عالمك األكبر الذي انطوى
فيك واستوى وابدأ الرحلة اآلن وهنا.
األمر الجميل أن اإلنسان حين يصل واحة الراحة ...حين يرتقي إلى مقام األبرار
والصالحين والقديسين ،فإنه سيرى جذور المشكلة بينما يرى المجتمع العوارض ليس
أكثر ...المجتمع يرى العوارض فيحاول معالجتها وألجل هذا ترانا من فشل إلى فشل
ومن جهل إلى جهل ومن دمار إلى دمار أكبر ...ماذا فعَلت السجون؟ هل اختفت
الجريمة؟ ماذا فعلَت جميع أنواع العقاب؟ هل اختفى العنف والخداع والكذب والرياء؟
ِ
تختف؟ ما السبب؟ كل هذه المحاكم والقوانين والخطب والوعظات وما لماذا لم
السبب؟
النبي محمد يرى جذور المشكلة ،المسيح واإلمام علي وابراهيم وبوذا وغيرهم...
بف ِ
جرناجميعهم تحدثوا عن العودة إلى الجذور لحل مشاكلنا وحتى ينتهي ليَلنا ونحتفل َ
لكننا لم نسمع ولم نفهم ...النبي قال لنا تأمل ساعة خير من عبادة سبعين عام،
وجميع الحكماء تحدثوا عن أسرار التأمل ورغم هذا ال نزال نسأل ما دخل التأمل
بالحرب ...ال نزال غافلين عن الصلة بين التأمل والحرب ...ال نزال نجهل أن
سببها غياب التأمل والتأمل يعني حلول السالم داخل اإلنسان ومن السالم
الحرب َ
الداخلي إلى سالم خارجي ....السالم عليكم وعليكم السالم ،سالم على الن ْفس أوالً
ومن فيه حيث يرتد لنا وعلينا ويتردد فينا
حين يحل فيها السالم ثم سالم على الكون َ
السالم...
اإلنسان وعي وليس وعاء ،لكنه تحول إلى وعاء ال يعي بل َي َسع كل أمراض
وشهوات وبلوات وجنون العالم وما نراه يومياً على الشاشات وفي الساحات
والمؤتمرات والقمم السياسية األشبة بالقمامة .البشرية أصبحت بشعوبها وحكامها وعاء
يسع ويجمع هذه األمراض ويبلَع ،وماذا بعد؟...
َ
116
النفايات هذا هو الحرب وال معنى آخر للحرب ...ال معنى آخر وال فضيلة وال أي
شعار للحرب من الشعارات التي نسمعها ونحيا تحتها ونموت بإسمها وألجلها .لحظة
الحرب هي لحظة جنون جماعي ...المجتمع أو العالم يصل إلى القرار والقرار
يصدر عن كل مختار بعد أن أصابه الجنون وحده واحتار ،ثم وجد الجنون ن ْفسه
والتعب واألرق والقلق والفقر يصيب أهله وبيئته ِمن حوله ،فيقررون جميعاً وفي
لحظة حاسمة أن يكون الجنون مصي ًار جماعيًا فما فائدة أن تجن وحدك وتستفرغ
على ن ْفسك؟ إن كان الجميع مجانين تعبانين فهيا لنحتفل بالجنون ونقيم له حرباً يعلن
ِّ
ويمجد كبتنا وتوترنا وألمنا وحقدنا فيها عن ن ْفسه وقهره ويقول ما يجول في خاطره
وعاه وعائنا فنستفرغ على أنفسنا وعلى غيرنا ...والمشاركة في الجنون قد ال
وكل ما َ
شاهدت
ْ تكون مباشرةً فالمشاركة لها أنواع وأنواع ...أنت تشارك في الجنون إن
بعت هذا العالم المجنون وتعلمت
وقرأت أخبار من يقتلون وينهبون ويظلمون ،إن ات ْ
أصول هذه الفنون لتشارك في هذه اللعبة عن قرب أو ُبعد.
الحرب لم ت ُكن المشكلة يومًا ...الحرب صورة تجسِّد ما في نفوسنا من جنون وحقد
وقهر وكبت .صورة داكنة يرسمها جهلنا على لوحة الوجود .الفقر لم ي ُكن المشكلة
يوماً .المشكلة في أصحاب الطمع والطموح ممن يتنافسون في دنيا دنية ويطمعون
في احتالل أعلى المناصب والمراكز .هؤالء يغذي المجتمع جنونهم ويساعدهم
بأنظمته التي يوزعها على شكل كتب وأفكار وجلسات حوار .يساعدهم على اللجوء
إلى اختيار ما اختاره لهم وما هو هذا الخيار؟ اللحاق بالغبي صاحب المال والعقار.
لم ي ُكن خيار المجتمع ألبنائه على مر األيام والليالي اللحاق بالنبي والصديق
والمسيح والمختارِ ،
فمن أين للعبيد أن يولدوا إن لحقوا النبي وأصبحوا أحرار؟ ...ال
ويلوح له بها ليغريه ويغويه وعن
فالعبد يوَلد وعصا الطموح في يد مجتمعه يهدده بها ِّ
ْ
117
طريق القلب ي ِ
بعده فيخاصم قلبه ويجافيه ويلحق صاحب المال والعقار وطال عمركُ
طال يا سيدنا وحاكمنا .الفقر وليد الطمع والطمع آفة ومرض يأكل ن ْفس اإلنسان
ووِلدت فيه الطبقات
وينهَش في روحه وما من مجتمع اجتمع فيه الغني والفقير ُ
اإلجتماعية إال وسوف يعاني من الطبقية والحقد والعنف والجريمة والكراهية .وان
فمالَت مجتمعاتنا
حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل وأين هو العدل؟ إختل الميزان َ
وولِد الغني والفقير ،وهذا الغني لم يجمع ماله إال من شح أو حرام كما أخبرنا اإلمام
ُ
علي ...وجميعنا يسمع ويشاهد حياة الترف والبزخ فال شح في أيامنا ومنذ أزمنة بل
مال حرام طاقته في ميزان األكوان سلبية وذبذباته شيطانية تجتذب لمجتمعاتنا طاقات
وأحداث وأقدار سوداوية قاتمة ودمار شامل قريب سيكون حكمة كونية ليطهِّر الوجود
ولقبِه
نفسه ويستعيد اتزانه ومعه يستعيد اإلنسان َوزنه وقيمته بوعيه وتُقاه ال بماله َ
وجاهه وغناه.
هذا الطهر كان رسالة نق أر حكمتها ومغزاها حين نعود إلى أيام الخالفة اإلسالمية
فالخلفاء لم يكونوا سياسيين بل رجال حكمة وعدل ودين .أيام بيت المال حيث لم يبق
وقتها فقير بل عدل ومساواة بين الجميع وأمانات كان اإلمام علي يحملها ألصحابها
ويوزعها على الناس بنفسه دون أن يتبقى له منها شيئًا ...أين نحن اآلن من هذا
الزمان وهذه الخالفة؟ نحن في أسفل سافلين أهَلكنا الدنيا معنا ولم نفهم ما هو الدين.
118
الرحمة
الشروح والكالم والتفاسير جميعًا تقع عاجزة عند معبد الحقيقة الكونية ِ
فمن أين لها أن
ستشرح وكيف
َ تستحضر المعاني لتفي األلوهية حقها؟ ...ماذا ستقول عن اهلل وماذا
119
ص ٍب، عدد ،والخالق ال بمعنى حر ٍ
ون َ
كة َ َ األحد ال بتأويل َ
ستُعبِّر؟ ماذا تقول عن َ
بم َماس ٍة ،والبائن ال بتراخي ِ
والسميع ال بأداة ،والبصير ال بتفريق آلة ،والشاهد ال ُ
وصف اهلل ِ
فمن َ مسافة ،والظاهر ال برؤية ،والباطن ال بَلطافة؟ ...وكيف ستَصف؟ َ
فقد أبطل َأزلَه ...إن من يسأل عن اهلل ويقول ومن َّ
عده ْ فقد َّ
عده َ حده ْ ومن َّ
حده َفقد َّ
ِ
وساعد السائل ليدخل حي َزه ...لذا فال تُ ِجب
استوص َفه ،ومن قال أين فقد َّ كيف فقد
َ
محراب ن ْفسه حتى يجد نبع الرحمة في لب قلبه وحين يشرب منه ويرتوي سيعَلم دون
ساع ْده فاهلل ليس ببعيد ،اهلل أقرب إلينا من حبل الوريدِ .
ساعده فكل أن يتكلمِ ...
موجود هو اهلل ومن اهلل وباهلل والى اهلل فكيف هلل أن يتحول إلى سؤال ومشكلة؟ اهلل
ليس موضوعًا للبحث وكيف ستبحث عنه وهو في كل مكان؟ِ ...
ساعد السائل ليفتح
عين بصيرته فيكون عليها أمي اًر ويصبح للرحمة داخله وألصله بصي اًر عندها يدرك ما
ال لسماعه ...رؤية الرحمة في
لم ي ُكن قاد ًار على إدراكه ويسمع ما لم ي ُكن مؤه ً
محراب القلب هي رؤية إلهية تصل اإلنسان بالرحمن الرحيم ...والدة الرحمة في رحم
فيحصل الوصل
َ الروح تجعلها قادرة على التخلق بأخالق خالقها ،الرحمة بالرحمن
والتوحد والعرفان والشكر واإلمتنان.
من بين كل اإلكتشافات التي توصل لها العالم ،تبقى الرحمة وتظل اإلكتشاف الوحيد
فوحدها الرحمة حين يكتشفها اإلنسان داخل محرابه قادرة على أن األعلى واألقوىَ ،
تحول غروره خشوعاً وترابه ذهباً وظالمه نو اًر...
ِّ
هذه الرحمة هي الرحم الذي يولَد منه الدين الحق .هي الرحم الذي يولد منه إنسان
ُخلُقُه القرآن ،فالدين يوَلد في محراب كل إنسان وال يستعيره معلومات من الخارج
يسمعها ويحفظها ثم يخبأها في مكتبة أفكاره فينساها على كثرة ما يحوي عقله من
كتب ،وال يتذكر سوى العناوين والرسومات واألسماء وتصبح الحقيقة في طي
النسيان .ليس الدين منظمة تنتمي لها أو جامعة تلتحق بها ...الدين هو نتاج رحلة
121
أوجد أيامك ولياليك.
أوج َدك و َ
بحث عن مصدر النور فيك ،عن نبع الرحمة الذي َ
أجمع فيجتمع العثور على مصدر النور فيك هو العثور على مصدر نور الكون َ
شمَلك بالرفيق األعلى وترتقي وتتعلم وتفهم .هذا هو الدين ...رحمة ترَحم بها ن ْفسك
ويساعدك لتلِد الدين من رحم هذه الرحمة
ِ ومن في األرض فيرَح َمك من في السماء
َ
الساكنة فيك وفي كل مخلوق وتصبح متدينًا ...غير هذا التدين ال وجود للتدين،
وجميعنا يرى حال الدين والتدين المزيف المستعار في يومنا هذا .التدين المستعار
ألحق بنا العار فبدأنا حربًا داخلية مع أنفسنا ثم خارجنا
الذي أخرجنا من الغار و َ
ألحقنا بالكون وبالغار الدمار.
و َ
من رحم الرحمة في غار ومحراب وقلب النبي محمد ُولِد الوصل مع نور السماوات
وولِد القرآن وخلف حروفه وكلماته ذبذبات
واألرض وحلت نعمة الصيام والعرفان ُ
كونية شفافة من أعلى سماء حين ترددها تصل بك لذات الحال والمقام ...ومن رحم
الرحمة في قلب المسيح ُولِد اإلنجيل ،ومن رحم الرحمة في قلب إبراهيم ولِد تدينه
121
األمان باهلل
وغيبِه وما يخبأه لنا سيطرت علينا وسَلَبت نفوسنا راحتها وطمأنينتها و َ
أمنها اآلن
مكونها وعالِم سرها
طف بها من ِّ فمن أرأف وأرحم وأل َوهنا ،بين يدي خالقها وبارئهاَ ،
ومصدر نورها؟ ...نعم ،سيطرت على اإلنسان فكرة الغد الذي ال يأتي أبداً بكل
مخاوفه وهل هناك خوف يفوق خوف اإلنسان من الموت؟ ...خوف اإلنسان من
الموت هو الذي دفعه منذ أن ُو ِج َدت الخليقة للبحث عن األمان بشتى الطرق
جدت الخليقة وهواجس ثابتة ال تتغير تطارد اإلنسان:
والوسائل واأللوان .منذ أن ُو َ
أطول؟ كيف أهرب وأحتال على الموت
كيف أتحاشى الموت؟ ماذا أفعل ألعيش َ
ألحيا يوماً زيادة على أيام عمري؟ ...هذه األسئلة كانت في صالح المال فبدأَت
حكاية تعلق اإلنسان به ومال بنا الحال .لكن ما عالقة الموت بالمال؟
المال يمنح صاحبه إحساساً كاذباً واهيًا بأنه في أمن وأمان من غدر الزمان .يظن
حمى نفسه من غدر الزمان ،فلديه حسابه في البنك وتأمينه على صاحب المال بأنه َ
الحياة ،لديه األطباء والدواء ،المنزل الجميل واألصدقاء...
اإلحساس الزائف المخادع يفتُك بن ْفس صاحب المال أكثر وأكثر فتصبح ن ْفسه لوامة
وبالسوء أمارة ،تلومه إذا لم يجمع ما يكفي من المال وتطلب منه الحصول على
المال بأي شكل من األشكال .ويأتي السؤال :لماذا ال أجمع مزيدًا من المال ألكون
122
في أحسن حال ومن غدر الزمان أحمي نفسي؟ لماذا ال أبني سور الصين العظيم
بالمال من حولي فال يقترب الموت مني؟ على األقل لن تدور فكرة الموت في بالي
وتؤرق منامي وتشغل ذهني؟ ...وهكذا مال الحال وأصبح اإلنسان عبدًا للمال
فأصبح ماله عدواً له ألنه ألهاه وجعله من الغافلين .لكن عن ماذا ألهاه المال وكيف
أصبح من الغافلين؟...
لقد كان البارحة مولوداً واليوم موجوداً وغداً يصبح محموالً ،فبدالً من اإلنشغال بأوامر
ن ْفسه اللوامة لكان حضر ن ْفسه لتتابع المسير وتتهيأ الستقبال الموت بترحيب ومحبة
وتقدير ،فالموت يا أخي صديق .الموت باب نتابع منه المسير في رحلتنا الروحية
قدر التوحد بالنور ونعود إلى بيتنا القديم فإليه المصير ...لماذا
حتى نصل إلى َ
لمن رَكن إلى الدنيا وأصبح عبدًا لألشكال ولألجساد
الخوف؟ الخوف للغافلينَ ،
تاهت من بين يديه فرصة عمره فلم يبحث عن مصدر
واألفكار أسير .هذا اإلنسان َ
الرحمة في قلبه ولم يدخل محرابه ويرتفع بوعيه إلى قمم ألوهيته فماذا فعل؟ كما
بحث عن مصدر الرحمة في قلبه لذاب في
هباء يا ولدي ...لو َ
يقولون ضاع العمر ً
وجمع المال والعناء .حال الفناء
حال الفناء ،أي في العشق اإللهي وارتاح من التعب ْ
هذا هو نقطة اللقاء بين الموت والحياة ...نعم ،فالحياة والموت يلتقيان في محراب
يكمالن .ومن رحم نشوة لقاء الموت والحياة يولد الفناء،
الرحمة ،يتساويان وبعضهما ِّ
يولد إستسالم اإلنسان للمشيئة اإللهية بحب وترحيب ورضى وتسليم.
هو اآلن يعلم أن ال أمان إال باهلل .هو اآلن يعلم أن الحياة والموت وجهين لعملة
ِ
الشاهد على الحياة وعلى الموت أيضًا ...لحظة الموت بديعة إن كنت واحدة وأنه
واعيًا مرحِّبًا تشهد على ما يحدث ،على صعودك وارتقاءك عالمًا تلو اآلخر في رحلة
العودة إلى الدار.
123
المحبة خطوة إلى الرحمة ،لذا فاإلسترخاء في واحة المحبة أمر مطلوب للعبور إلى
فمن لم تعرف ن ْفسه المحبة لن تعي نعمة وبركة الرحمة .ولكن كيف
محراب الرحمة َ
نمدحها كل يوم بأقوالنا
الوصول إلى المحبة ونحن نتحدث عنها دون أن نحياهاَ ،
ونقتلها وندمرها بأفعالنا؟ ...المحبة أيضاً بحاجة للشهيد والرقيب الواعي فيك ألن
الحلي وبدالت األعراس ...أنت ِ
يصحى ويشاهد ال أن ينزل األسواق ويختار الذهب و ُ
دسم قبل الدخول إلى معبد المحبة .ال تدخل معبد المحبة
بحاجة لتحويل السم إلى َ
والقذارات بين يديك .أنت تدخل معبد طاهر وتخطو على أرض مقدسة هي مرحلة
لتطهير النفس من علة وأمراض سمومها ،فكيف تدخل معبد المحبة وأنت تحمل
الغيرة والكره والغضب وحب التملُّك؟ ...إح َذر فالمحبة رقيقة كزهرة صغيرة تنتظر
نسيم الفجر أن يداعبها ،فال تقتلها بصخرة الغيرة والغضب والتملك ...أنت بحاجة
شاهد وال تعانِد ...حتى كلمة تحويل تبدو كثيرة وكبيرة
لتحويل السم إلى دسم ف ُكن ِ
َ
ألنك لن تقوم بأي شيء فالشهادة ليست فعل بل فطرة وطبيعة وعبادة .كل ما
الفرج .حين يأتي الغضب إليك ال
تحتاجه يا أخي هو اإلستعانة بالصبر فهو مفتاح َ
ِ
وشاهد ...ما أقوله اآلن هو تفقد وعيك وتثور ،إجلس بصمت وراقب ،إجلس بصمت
فجرب وال تحتار .إجلس وراقب غضبك .ال ت ُكن
سر كبير من أسرار العلم والتعليم ِّ
معه وال ت ُكن عليه ...ال تتفاعل معه وال ت ْكبته وال تمد يد العون إليهِ ...
شاهد فقط...
ِ
وشاهد. ُكن صبو ًار
124
في عروقك ويحاول تلويث قلبك .كل حي في هذا الوجود يطوف في حركة طواف
مستمرة فهذا هو قانون الكون األزلي األبدي السرمدي الذي ال بداية وال نهاية له.
الين يتحول إلى يانغ واليانغ إلى ين ،الرجل إلى إمرأة والمرأة إلى رجل ،الخير إلى
شر والشر إلى خير ،اآلثِم إلى قديس والقديس إلى آثِم وهكذا ...وما علينا سوى أن
نصبر فالصبر صفة العباد الصالحين .ما علينا سوى أن نتصرف حين يكون القديس
حالنا ونصبر ونصمت ونشاهد حين يكون اآلثم متصرف بأحوالنا ...إن استسلمنا
سنْندم بعدها على ما فات ونقول ليت ما كان لم ي ُكن لهذا اآلثم ،لهذه الن ْفس اللوامة َ
عم ِرت بْيت .إن استسلمنا لهذا اآلثِم
بع ْم ار ما َّ
وليتنا نعود بالزمان ،وكلمة ياريت ُ
سندخل دوامة الخطيئة في انتظار الغفران ،فالوجود مرآة لي ولك واألذى الذي ُنلحقه
بغيرنا وبأنفسنا هو طاقة سلبية تمتد ذبذباتها لتنتشر في الوجود فتساهم في اختالل
همل ،ومن هنا سيعود هذا الخلل لك فالوجود ِ
عادل، ميزان هذا الوجود ...يم ِهل وال ي ِ
ُ ُ
أذيت واألذى سيرتد لك ...أو لعل القديس
جرحت والجرح سوف يرتد لك ...أنت ْ
أنت َ
داخلك يقوم بعمل جليل فتُحلق طهارة النوايا لتمحو رذيلة الخطايا عن مرآة الوجود
فالح َسنة أسرع من السيئة وأقوى ...لكن ها أنا أقول
فتذهب السيئة وتحل النعمةَ ...
لك من البداية إن كنت واعياً فلن تدخل في هذه الحكاية...
ِ
تستجب له ولم تلعنه أو تكبته بل فقط كنت ِ
شاهدًا صبو ًار على هذا اآلثم ولم إن َ
استمعت للقديس ولم تمنعه فأنت على الدرب الصحيح تسير .ال تلعن
َ اقبته ،وان
رْ
فاللعنة طاقة سلبية تنشر حول صاحبها ذبذبات سلبية تُهلك حقل طاقته
أحبْبنا أعدائنا
أعداء ُكم وباركوا العني ُكم ...إن َ
َ المغناطيسية ،لذا قال لنا المسيح أحبوا
العنينا فالبركة والنعمة لنا قبل أن تكون لصاحب النقمة ،والغفران لنا قبل أن وباركنا ِ
لمن أساء ...إنها طاقتنا وما يبثه القلب وما يصدر منا ...فهل أنا نبع للنور
يكون َ
وعبير الزهور أم حفرة مظلمة يتردد في زوايا باحتها صدى صمت القبور؟
125
تلعن وال تكبِت ...حين يستولي عليك الغضب ال داعي البتسامة منافقة تدعو إلى
ال َ
عليك
َ المسمى ابتسامة ...في حال الغضب أغلِقالعجب ...ال داعي لتمرين الشفاه ُ
صفو أجوائك ...ال داعي ِّ ِ
بابك وادخل محرابك وشاهد نار ورماد في فنائك تُعكر َ
ليراك أصحابك وخالنك وأحبابك في حال تسلل الغضب إلى محرابك ...أغلِق عليك
سبق لك وأن
بابك وانظر إلى مرآتَك ..هل ترى ذلك الوجه العابس؟ هل تعرفه؟ هل َ
قابلتَه؟ من هو؟ أهو أنت؟ أم وهم انتحل شخصيتك وسَلب منك هويتك وادعى ِخلس ًة
أنه أنت؟
التقيت ذلك الخائن يومًا ما؟ نعم ،فن ْف َسك الغاضبة خائنة توِه َمك وت ِهَبك عيناً ال
َ هل
ترى ما حولها وما فوقها وما تحتها فتستكبر وتتحول مارداً يأكل أخض اًر ويابساً...
ويشفِّر حالك ُ
ويلبِّد سماء أحواَلك ...نعم يا فكرك ُ
فلتتعرف على الخائن فيك يسكن َ
صديقي فالخائن مكانه هنا وفينا قبل غيرنا ...الخائن وصاحب الجريمة والفكرة
اللئيمة فينا قبل غيرنا.
ال بد من مواجهة الخائن والمجرم والقديس واآلثم والن ِجس والطاهر وفكرتك عن اإلله
والشيطان قبل الوصول لمرحلة الفناء ...هو العرفان ...المعرفة الحقيقية للذات...
وتهديك مفاتيحًا تفتح بها األبواب إلى
َ وجوه ووجوه وأحوال وأحوال تحوي أسرار المقال
أن تصل للباب األخير ...باب المعبد ...باب الحقيقة التي ال شرح لها وال تفسير...
خلعت كل األقنعة والوجوه ،وجه الفقير واألمير ،الحاكم والمحكوم،
تصلها بعد أن ْ
كنت ...جاهالً ال تعرف من أنت ...فقد
الظالم والمظلوم ...فتد ُخله جاهالً كما ْ
تالشى وهم جسَّد نفسه حقيقة حية أطلقَت على نفسها لقب (أنا) ،والحقيقة الكونية ال
فمن أنت؟ أنت الوهم والضالل ...أنت مرض
تعرف إال هو ...ال إله إال هوووووَ ...
الجهال.
وشقاء َّلون بالغواية حياة ُ
126
ِمسك الختام
وما الحياة الدنيا سوى ظل إنسان ظهَر على وجه الماء ...الحقيقة في اإلنسان الذي
أوهم الناظر أنه الحقيقة فصدقه بغباء...
يقف على ضفة الماء ...والوهم هو الظل َ
حينها دخل الناظر في منام ونسى أنه الظل يبوح باألوهام...
هي الحياة الدنيا تشبه الماء ...هي الزمان وهي المكان ظهَر على صفحتيهما ظل
الحياة اآلخرة ...ظل األبدية ليذكرنا بالحقيقة اإللهية التي انعكس ظلها في كل
ال الزمان حقيقة وال المكان ...سيتخلى الظل عنك يوماً ما ...سيرحل ويتالشى
كالدخان ...كأنه ما كان ...وهو لم ي ُكن على أية حال...
كيف لما لم ي ُكن له منذ األزل وقبل األوقات والسنون والساعات وجود ...كيف لما
األبد وانقضاء األوقات والسنون والساعات وجود ،أن يكون موجود؟
لن يكون له بعد َ
هو اآلن يدعي أنه موجود ،لكنه مجرد ادعاء ...لكنه مجرد وهم ظهَر على صفحة
الماء...
127
وهمين ...ما لم ي ُكن البارحة موجودًا لكنه أصبح اليوم موجودًا
ما كان موجودًا بين ْ
رغم أنه في الغد لن يكون موجوداً ...هذا هو الوهم ...هو الظل ...هي الحياة الدنيا
وما فيها من أشكال وعالقات وتجارب وأطماع وملذات...
وما كان البارحة ومنذ األزل موجوداً واآلن نحياه ونذ ُكره موجوداً ألنه في الغد والى
المدد...
األبد سيبقى موجودًا ...هو األحد ...هو الحقيقة ...حقيقة الص َمد و َ
لنبحث يا صديقي إذًا عما كان ويكون وسيكون موجودًا ...لنبحث عنه في كل
األشياء فهو أعلى من كل األشياء ...لننظر إلى الظل ظاه اًر على وجه الماء ومنه
نهجره لنحلِّق في العالء فنخترق سماوات وسماوات...
وغير هذا اللحن فقد نسينا فن العزف على اآلالت ،حتى نعزف ونسمع ونحيا اللحن
اإللهي...
محبتي من القلب لعلمائنا ومستنيرينا وحكمائنا ،ولجميع األخوة على الدرب .محبتي
لكم أجمعين.
بشارعبدهللا
128