رسالة
المعاونة والمظاهرة والمؤازرة
للراغبين من المؤمنين في سلوك طريق
اآلخرة
لإلمام شيخ اإلسالم قطب الدعوة واإلرشاد
الحبيب عبد هللا بن علوي الحداد الحضرمي الشافعي
رحمه هللا تعالى
بسم هللا الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم ،وافتح بالحق وأنت الفتاح العليم. ِّ
(سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم).
الحمد هلل الواحد الجواد الوهاب الرزاق الحنان المنان،
الذي بعث محمدا ً خاتم أنبيائه صلى هللا عليه وسلم برسالته
إلى جميع اإلنس والجان ،وأنزل عليه القرآن ،فيه ُهد ً
ى
للناس وبينات من الهدى والفرقان ،وشرع له وألمته ما
وصى به نوحا ً وإبراهيم وموسى وعيسى ،وفضل دينه على
سائر األديان ،وجعله أكرم خلقه عليه ،وجعل أمته خير أمة
أخرجت للناس ،يؤمنون باهلل واليوم اآلخر ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ،ويتعاونون على البر
والتقوى وال يتعاونون على اإلثم والعدوان ،ويقيمون الصالة
صون بالحق والصبر ،ويجاهدون في ويؤتون الزكاة ،ويتوا َ
سبيل هللا وال يخافون لَومة الئم من أهل الزيغ ِّ
والخذالن ،فما
يصد عن سبيل هللا ،ويلوم على القيام بواجب حق هللا ،إال
الذين حقت عليهم الكلمة من هللا بالشقاوة والخسران،
والخزي ِّ والهوان ،وال تجرد لنصح عباد هللا ودعوتهم إلى
باب هللا إال الذين سبقت لهم من هللا الحسنى بالسعادة واألمان،
والفوز والرضوان ،أولئك ورثة النبيين ،وأئمة المتقين
وخيرة رب العالمين من المؤمنين الراسخين في العلم،
المتحققون بحقائق اإليمان واإليقان واإلحسان ،الواقفون
على أسرار هللا في ملكه وملكوته من طريق الكشف والعيان،
وما فازوا بهذه المناقب ،وال وصلوا إلى هذه المراتب ،إال
بحسن اقتفائهم ،وكمال اتباعهم ،إلمام األئمة الذي أرسله هللا
للعالمين رحمةً ،عب ِّد هللا ورسوله وحبيبه وخليله سيدنا محمد
صلى هللا عليه وعلى آله وأصحابه وسلم في كل حين وأوان،
صالة وسالما ً دائمين بدوام هللا الملك الديان.
أما بعد ،فيقول العبد الفقير ،المعترف بالقصور
والتقصير ،الراجي عفو ربه القدير ،الشريف عبد هللا بن
علوي الحداد باعلوي الحسيني عفا هللا عنه وعن أسالفه
آمين :هذه رسالة بحول هللا وقوته جامعة ،ووصية بفضل هللا
ورحمته نافعه ،حملني على وضعها االمتثال ألمر هللا تعالى
وأمر رسوله ،والرغبة في الوعد الصادق الوارد في الداللة
على الهدى والدعوة إلى الخير والنشر للعلم.
عون إلى الخيركن منكم أمةٌ ي ْد َ قال هللا تعالىْ :
(ولت َ ْ
ويأمرون بالمعروف وي ْن َهون عن المنكر وأولئك هم
ع إلى سبيل ربك بالحكمة المفلحون) ،وقال هللا تعالى( :ا ْد ُ
والموعظة الحسنة) ،وقال تعالى( :وإذ أخذ هللا ميثاق الذين
أوتوا الكتاب لتبيننه للناس وال تكتمونه) ،وقال تعالى لنبيه:
(قل هذه سبيلي أدعو إلى هللا على بصيرة أنا ومن اتبعني)،
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :ليبلغ الشاهد منكم
ورب حامل فقهَّ الغائب فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
ليس بفقيه" .وقال عليه الصالة والسالم "من دعا إلى هدى
كان له من األجر مثل أجور من تبعه ال ينقص ذلك من
أجورهم شيئا ً ومن دعا إلى ضاللة كان عليه من اإلثم مث ُل
آثام من تبعه ال ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" ،وقال عليه
الصالة والسالم" :من دل على خير كان له من األجر مثل
فاعله".
وقال عليه الصالة والسالم" :إذا مات ابن آدم انقطع عمله
إال من ثالث :صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح
يدعو له" وقال عليه الصالة والسالم" :أجودكم بَعدي رجل
ع ِّلم علما ً فنشره يبعث يوم القيامة أمةً وحده".
وقال عليه الصالة والسالم" :الخلق كلهم يصلون على
معلمي الناس الخير حتى حيتان الماء".
وقال عليه السالم" :الخلق كلهم عيال هللا وأحبهم إلى هللا
تعالى أنفعهم لعياله".
وال يستطيع أحد أن ينفع خلق هللا بمثل دعوتهم إلى هللا
تعالى ،بتعريفهم ما يجب له من التوحيد والطاعة ،وتذكيرهم
بآياته وآالئه وتبشيرهم برحمته ،وتحذيرهم من سخطه
الواقع بالمتعرضين له من الكافرين والفاسقين.
وقد حثني على امتثال هذا األمر العظيم ،وأكد رغبتي في
السعي إلى تحصيل هذا الوعد الكريم الواقعين في اآليات
واألخبار التي ذكرتها وما في معناها مما لم أذكره سؤال أخ
من السادة ،صادق في اإلرادة ،سالك لسبيل السعادة ،التمس
مني أن أكتب له وصيةً ينتفع بها ،فأجبته إلى ذلك راغبا ً فيما
تقدم من االمتثال لألوامر والفوز بالثواب وفي معونة هللا
تعالى ،وأن يكون سبحانه في حاجتي على وفق ما أخبر به
رسوله عنه في قوله عليه الصالة والسالم" :من كان في
حاجة أخيه كان هللا في حاجته وهللا في عون العبد ما كان
العبد في عون أخيه" وأنا أستغفر هللا ،وال أقول :أن نيتي في
وضع هذه الرسالة مقصورة على هذه المقاصد الحسنة
الدينية ،كيف وأنا أعلم ما عندي من الشهوات الخفية،
والحظوظ النفسية ،واإلرادات الدنيوية( ،وما أبرئ نفسي إن
النفس ألمارة بالسوء إال ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم)
عدو ،والعدو ال يؤمن .بل هي أعدى األعداء ،كما والنفس ٌّ
قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :أعدى عدوك نفسك
التي بين جنبيك" .وهلل در القائل حيث يقول:
فالنفس أخبث من توق نفسك ال تأمن غوائلها
سبعين شيطانا ً
اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي.
اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ،وأستغفرك لما
ال أعلم.
رت فصول هذه الرسالة بقولي في أول كل فصل وقد صد ُ
منها" :وعليك" بكذا قاصدا ً بذلك مخاطبة نفسي وأخي الذي
كان سببا ً في وضعها خصوصاً ،وسائر من وقف عليها من
المسلمين عموماً.
وهذه الكلمة لها وقع في قلب المخاطب .وأنجو بها -إن
شاء هللا تعالى -من التوبيخ والوعيد الواردين في حق من
يقول وال يفعل ،ويعلم وال يعمل؛ ألني إذا خاطبت نفسي
بقولي "وعليك" دل ذلك على أنها لم تتحقق بالعمل بما
علمت ،وعلى أني لم أزل أحثها على استعمال ما تدعو إليه،
وبذلك يزول التلبيس على المؤمنين ،والنسيان للنفس الذي
وصف هللا تعالى به من ال يعقل في قوله تعالى( :أتأمرون
الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفال تعقلون)
ومن الوعيد الوارد في حق من يقول وال يفعل في قول رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم" :يؤمر بالعالم إلى النار فتندلق
أقتابه .1فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرحا فيجتمع
عليه أهل النار فيقولون ما بال األبعد قد آذانا على ما بنا
فيقول :إن األبعد كان يأمر بالخير وال يأتيه وينهى عن الشر
ويأتيه".
وقال عليه الصالة والسالم" :العالم الذي يعلم وال يعمل
مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها".
وقال عليه السالم" :مررت ليلة أسري بي برجال تقرض
شفاههم بمقاريض من نار فقلت من أنتم؟ فقالوا كنا نأمر
بالخير وال نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه" وهذا الوعيد إنما
يتحقق في حق من يدعو إلى هللا على نية الدنيا ،ويحث على
الخير وهو مصر على تركه ،ويحذر من الشر وهو مصر
على فعله ريا ًء وسمعةً ،فأما من يدعو إلى باب هللا وهو مع
ذلك يلوم نفسه وينهاها عن التقصير ويحثها على التشمير
فالنجاة مرجوة له.
وعلى كل حال فالذي يعلم ويعلم وال يعمل أحسن حاالً
وأرشد طريقة وأحمد عاقبة من الذي ال يعمل وال يعلم.
وربما قال قائل ممن ال يعقل :الكتب كثيرة وفيها غنية
وكفاية فال فائدة في تصنيف الكتب في هذا الزمان ،فهذا
القائل إن أصاب في قوله :إن في الكتب غنية وكفاية فقد
1تندلق :تخرج -أقتاب جمع قتب بالكسر وهو المعى.
أخطأ في قوله :ال فائدة للتصنيف في هذا الزمان ،ألن للقلوب
نطق علماء ميالً بحكم الجبلة إلى كل جديد ،وأيضا ً فإن هللا يُ ِّ
كل زمان بما يوافق أهله ،والتصانيف تبلغ األماكن البعيدة
وتبقى بعد موت العالم فيحصل له بذلك فضل نشر العلم
ويكتب معلما ً داعيا ً إلى هللا في قبره ،كما قال رسول هللا صلى
ي
َ جر
ِّ ُ هللا عليه وسلم" :من أنعش لسانه حقا ً يعمل به من بعده أ
أجره إلى يوم القيامة" وقد سميت هذه الرسالة المشار عليه ُ
إليها:
"رسالة المعاونة والمظاهرة والمؤازرة للراغبين من
المؤمنين في سلوك طريق اآلخرة"
أسأل هللا تعالى أن ينفعني بها وسائر المؤمنين ،وأن يجعل
جمعي لها واعتنائي بها وبتأليفها خالصا ً لوجهه الكريم.
وهذا أوان االبتداء وباهلل التوفيق فأقول مستعينا ً باهلل
ومفوضا ً إليه ،وسائالً منه أن يوفقني إلصابة الصواب في
النيات واألعمال واألقوال ،فإنه ولي ذلك والقادر عليه ،وهو
حسبي ونعم الوكيل:
فصــل
فإن،(وعليك) أيها األخ الحبيب بتقوية يقينك وتحسينه
اليقين إذا تمكن من القلب واستولى عليه صار الغيب كأنه
: وعند ذلك يقول الموقن كما قال علي كرم هللا وجهه،شهادة
.ًلو كشف الغطاء ما ازددت يقينا
wajib bagi kamu semua wahai saudraku yang terkasih,
untuk memperkuat keyakinanmu dan mempercantiknya, karena
sesungguhnya yakin apabila telah menetap di hati dan meluas
di dalamnya maka segala sesuatu yang ghaib akan terlihat nyata
bagimu dan pada yang demikian ini maka berkatalah orang-
orang yang yakin sebagaimana yang dikatakan Aly ra.
wakarromaLlahu Wajhah „apabila disingkapkan tabir, maka
akan bertambahlah keyakinan .‟
واليقين عبارة عن قوة اإليمان وثباته ورسوخه حتى
وال تزعزعه، ال تزلزله الشكوك،يصير كالطود الشامخ
فإن. بل ال يبقى للشكوك واألوهام وجود البتة،األوهام
.جاءت من خارج لم تصغ إليها األذن ولم يلتفت إليها القلب
Dan yakin sesungguhnya adalah ibarat dari kekuatan iman
yang meresap ke dalam jiwa yang menghilangkan segala
keragu-raguan sehingga di dalam hati sama sekali bersih dari
keadaan ragu-ragu dan cemas ..
والشيطان ال يستطيع الدنو من صاحب هذا اليقين بل يفر
منه ويفرق من ظله ويقنع بالسالمة ،كما قال رسول هللا صلى
ليفرق من ظل عمر وما سلك هللا عليه وسلم" :إن الشيطان َ
عمر فجا ً إال سلك الشيطان فجا ً آخر".
ويقوى اليقين ويحسن بأسباب:
منها -وهو األصل والذي عليه المدار -أن يصغي العبد
بقلبه وأذنه إلى استماع اآليات واألخبار الدالة على جالل هللا
تعالى وكماله وعظمته وكبريائه وانفراده بالخلق واألمر،
والسلطان والقهر وعلى صدق الرسل وكمالهم وما أيدوا به
من المعجزات وما حل بمعانديهم من أنواع العقوبات وما
ورد في اليوم اآلخر من إثابة المحسنين ومعاقبة المسيئين.
وإلى كون هذا األمر كافيا ً في إفادة اليقين اإلشارة ُ يقوله
تعالى( :أ َ َو لم يك ِّف ِّهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلَى عليهم) اآلية.
السبب الثاني أن ينظر بعين االعتبار في ملكوت
السماوات واألرض ،وما بث هللا فيهما من عجائب
المصنوعات ،وبدائع المكونات.
وإلى إفادته اليقين اإلشارة ُ بقوله تعالى( :سنريهم آياتِّنا في
اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحق).
السبب الثالث أن يعمل على مقتضى ما آمن به ظاهرا ً
وباطنا ً ويشمر في ذلك ويبذل االستطاعة فيما هنالك.
وإلى إفادته اإلشارة بقوله تعالى( :والذين جاهدوا فينا
سبلَنا).
لنهدينَّهم ُ
ومن ثمرات اليقين السكون إلى وعد هللا ،والثقة بضمان
هللا ،واإلقبال بكنه الهمة على هللا ،وترك ما من شأنه أن يشغل
عن هللا تعالى ،والرجوع في كل حال إلى هللا واستفراغ
الطاقة في ابتغاء مرضاة هللا.
وعلى الجملة فاليقين أصل اإليمان وسائر المقامات
الشريفة واألخالق المحمودة واألعمال الصالحة من فروعه
وثمراته ،واألخالق واألعمال تابعة لليقين قوة وضعفاً،
وصحة وسقماً .قال لقمان عليه السالم ال يستطاع العمل إال
قصر عامل حتى باليقين ،وال يعمل العبد إال بقدر يقينه ،وال يُ ِّ
ينقص يقينه ،ولهذا قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :
ُ
اليقين اإليمان كله".
وأهل اإليمان في اليقين على ثالث درجات:
ُ
التصديق الجازم األولى _ وهي درجة أصحاب اليمين-
مع إمكان التشكك والتزلزل لو جاء ما يقتضيه ،ويعبر عنها
باإليمان.
الدرجة الثانية _ وهي درجة المقربين -استيالء اإليمان
على القلب ،وثباته فيه حتى ال يجوز النقيض ،بل ال يتصور
وجوده فضالً عن إمكانه ،وفي هذه الدرجة يصير الغيب كأنه
شهادة ويعبر عنها باليقين.
الدرجة الثالثة _ وهي درجة النبيين وكمل ورثتهم من
الصديقين -أن يصير الغيب شهادة ويعبر عنها بالكشف
والعيان.
وبين أهل كل درجة في درجتهم تفاوت بعيد ،وك ٌّل فاضل
والبعض أفضل ،ذلك فضل هللا يؤتيه من يشاء وهللا ذو
الفضل العظيم.
فصــل
(وعليك) يا أخي بإصالح النية وإخالصها وتفقدها
والتفكر فيها قبل الدخول في العمل ،فإنها أساس العمل،
واألعمال تابعة لها حسنا ً وقبحا ً وصحةً وفساداً .وقد قال
صلى هللا عليه وسلم "إنما األعمال بالنيات وإنما لكل امرئ
ما نوى" فعليك أن ال تقول قوالً ،وال تعمل عمالً ،وال تعزم
التقرب إلى هللا ،وابتغاء
َ على أمر ،إال وتكون ناويا ً بذلك
المنَّة
الثواب الذي رتبه سبحانه على األمر المنوي ِّ من باب ِّ
والفضل.
(واعلم) أنه ال يصح التقرب إلى هللا إال بما شرعه على
لسان رسوله من الفرائض والنوافل ،وقد تؤثر النية الصادقة
في األمر المباح فيصير قربة هلل من حيث أن للوسائل حكم
المقاصد ،كمن ينوي بأكله التقوي على طاعة هللا ،وبإتيانه
أهله التسبب في حصول ولد يعبد هللا.
ويشترط لصدق النية أن ال يكذبها العمل ،فمن يطلب
ويعلم ،فإن
ِّ العلم ،مثالً ،ويزعم أن نيته في تحصيله أن يعلم
لم يفعل ذلك عند التمكين منه فنيته غير صادقة ،وكمن يطلب
الدنيا ويزعم أنه إنما يطلبها ألجل االستغناء عن الناس،
والتصدق على المحتاجين ،وصلة األقربين ،فإن لم يفعل ذلك
عند القدرة عليه فال أثر لنيته.
والنية ال تؤثر في المعاصي شيئا ً كما أن التطهير ال أثر
له في نجس العين ،فمن وافق إنسانا ً على غيبة مسلم وادعى
أنه يقصد بذلك إدخال السرور على قلبه فهو أحد المغتابين،
ومن سكت عن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر وادعى
التوقي عن كسر قلب المباشر فهو شريكه ِّ أنه ينوي بسكوته
في اإلثم ،وإذا تعلقت النية الخبيثة بالعمل الطيب أفسدته
وصار خبيثاً ،كمن يعمل الصالحات وينوي بذلك تحصيل
المال والجاه.
فاجتهد يا أخي أن تكون نيتك في طاعتك مقصورة على
ابتغاء وجه هللا تعالى ،وانو بما تتعاطاه من المباحات
االستعانة على طاعة هللا تعالى.
(واعلم) أنه يتصور أن يجتمع في العمل الواحد نيات
كثيرة ،ويكون للعامل بكل نية منها ثواب تام.
مثاله من الطاعات أن ينوي بقراءة القرآن مناجاة هللا
تعالى ،فإن القارئ مناج ربه ،وينوي استخراج العلوم من
القرآن فإنه معدنها ،وينوي نفع نفسه والسامعين ،إلى غير
ذلك من النيات الصالحة الحسنة.
ومثاله من المباحات أن تنوي باألكل امتثال أمر ربك في
قوله تعالى( :يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)
وتنوي به التقوي على طاعة هللا تعالى ،وتنوي به التسبب
في استخراج الشكر منك لربك إذ يقول سبحانه( :كلوا من
رزق ربكم واشكروا له) فقس على هذين المثالين ما عداهما
من الطاعات والمباحات واستكثر من صالح النيات جهدك.
ثم إن النية تطلق ويراد بها أحد معنيين :األول أن النية
عبارة عن غرضك الذي حملك على العزم والعمل والقول،
وتكون النية بهذا االعتبار في األكثر خيرا ً من العمل إن كان
خيراً ،وشرا ً منه إن كان شراً ،وقد قال عليه الصالة والسالم:
"نية المؤمن خير من عمله" فانظر كيف خص المؤمن
بالذكر!
والمعنى الثاني أن النية عبارة عن قصدك فعل الشيء
وعزمك عليه .وهذه النية ال تكون خيرا ً من العمل ولكن ال
يخلو اإلنسان عند عزمه على فعل شيء من إحدى ثالث
حاالت:
األولى أن يعزم ويعمل.
والثانية أن يعزم وال يعمل مع القدرة على العمل .وحكم
هذه الحالة والتي قبلها قد أتى مبينا ً فيما روي عن ابن عباس
رضي هللا عنهما عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه قال:
"إن هللا كتب الحسنات والسيئات" ثم بيَّن ذلك بقوله" :فمن
ه َّم بحسنة فلم يعملها كتبها هللا عنده حسنة كاملة ،فإن ه َّم بها
فعملها كتبها هللا عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى
أضعاف كثيرة ،وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها هللا عنده حسنة
كاملة ،فإن هم بها فعملها كتبها هللا سيئة واحدة".
الحالة الثالثة أن يعزم على فعل أمر ال يستطيع فعله،
فيصير يقول لو استطعت عملت ،فله نية ما للعامل وعليه ما
عليه .والدليل على ذلك قوله عليه الصالة والسالم" :الناس
أربعة رجل آتاه هللا علما ً وماالً فهو يعمل في ماله بعلمه،
فيقول آخر لو آتاني هللا مثل ما آتاه عملت مثل عمله فهما في
األجر سواء ،ورجل آتاه هللا ماالً ولم يؤته علما ً فهو يخبط
في ماله بجهله فيقول آخر لو آتاني هللا مثل ما آتاه عملت مثل
عمله فهما في الوزر سواء".
فصــل
(وعليك) يا أخي بمراقبة هللا تعالى في حركاتك وسكناتك
ولحظاتك وطرفاتك وخطراتك وإراداتك وسائر حاالتك،
واستشعر قربه منك ،واعلم أنه ناظر إليك ومطاع عليك ،ال
يخفى عليه منك خافية (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة
في األرض وال في السماء)( ،وإن تجهر بالقول فإنه يعلم
السر وأخفى) وهو معك أينما كنت ،بالعلم واإلحاطة
واالقتدار ويدلُّك مع الهداية واإلعانة والحفظ إن كنت من
األبرار ،فاستحي من موالك حق الحياء ،واجتهد أن ال يراك
حيث نهاك ،وال يفتقدك حيث أمرك ،واعبده كأنك تراه فإن
لم تكن تراه فإنه يراك.
ومتى رأيت من نفسك تكاسالً عن طاعته أو ميالً إلى
معصيته فذكرها بأن هللا يسمعك ويراك ويعلم سرك
ونجواك ،فإن لم يفدها هذا الذكر لقصور معرفتها بجالل هللا
تعالى فاذكر لها مكان الملكين الكريمين اللذين يكتبان
الحسنات والسيئات واتل عليها (إذ يتلقَّى المت َ ِّ
لقيان عن اليمين
ظ من قول إال لديه رقيب عتيد) فإن وعن الشمال قعيد ما يل ِّف ُ
لم تتأثر بهذا التذكير فذكرها قرب الموت وأنه أقرب غائب
وخوفها بهجومه على غرة وأنه متى نزل بها وهي ِّ ينتظر،
على حالة غير مرضية تنقلب بخسران ال آخر له ،فإن لم
ينفعها هذا التخويف فاذكر لها ما وعد هللا به من أطاعه من
عد به من عصاه من العذاب األليم، الثواب العظيم وما تو َّ
وقل لها يا نفس ما بعد الموت من مستعتَب وما بعد الدنيا من
دار إال الجنة أو النار فاختاري -لنفسك إن شئت -طاعة تكون
عاقبتها الفوز والرضوان والخلود في فسيح الجنان ،والنظر
إلى وجه هللا الكريم المنان ،وإن شئت ،معصية يكون آخرها
الخزي والهوان والسخط والحرمان والحبس بين طبقات
النيران ،فعالج نفسك بهذه األذكار عند تقاعدها عن الطاعة
وركونها إلى المعصية فإنها من األدوية النافعة ألمراض
القلوب.
ثم إنه إن ثار من قلبك عند استشعارك أن هللا يراك حيا ٌء
منه يمنعك عن مخالفته ويحملك على التشمير في طاعته
فعندك شيء من حقائق المراقبة.
(واعلم) أن المراقبة من أشرف المقامات وأرفع المنازل
وأعلى الدرجات وهي مقام اإلحسان المشار إليه بقوله عليه
الصالة والسالم" :اإلحسان أن تعبد هللا كأنك تراه فإن لم تكن
تراه فإنه يراك" وكل واحد من المؤمنين يؤمن بأنه هللا ال
يخفى عليه شيء في األرض وال في السماء ،ويعلم أن هللا
معه أينما كان ال يخفى عليه شيء من حركاته وسكناته،
ولكن الشأن في دوام هذا المشهد وحصول ثمراته التي أقلها
أن ال يعمل فيما بينه وبين هللا عمالً يستحي أن يراه عليه
رجل من الصالحين ،وهذا عزيز وما وراءه أعز منه إلى أن
يصير العبد في آخر األمر مستغرقا ً باهلل تعالى وفانيا ً عمل
سواه قد غاب عن الخلق بشهود الحق والتحق بمقعد صدق
عند مليك مقتدر.
فصــل
(وعليك) يا أخي بإصالح سريرتك حتى تصير خيرا ً من
عالنيتك الصالحة ،وذلك ألن السريرة موضع نظر الحق،
والعالنية مطمح نظر الخلق ،وما ذكر هللا تعالى السر والعلن
في كتابه إال وبدأ بذكر السر .وكان من دعائه عليه الصالة
والسالم" :اللهم اجعل سريرتي خيرا ً من عالنيتي واجعل
عالنيتي صالحة" ومتى صلحت السريرة صلحت العالنية
ال محالة ،فإن الظاهر أبدا ً يكون تبعا ً للباطن صالحا ً وفساداً.
قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :إن في الجسد ُمضغة
إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر
الجسد أال وهي القلب".
ب(واعلم) أن من ادعى أن له سريرة عامرة وكان قد خ ََّر َ
عالنيته بترك الطاعات الظاهرة فهو مدَّع كذاب ،ومن اجتهد
في إصالح عالنيته بتحسين زيه وهيئته وتقويم لسانه ووزن
حركاته وسكناته في قعوده وقيامه ومشيه وترك باطنه
مشحونا ً بخبائث األخالق ورذائل الطباع ،فهو من أهل
التصنع والرياء المعرضين عن المولى.
فإياك يا أخي أن تستر شيئا ً لو ظهر للناس كنت تستحي
من ظهوره حياء ينشأ من خوف االستقباح .قال بعض
العارفين :ال يكون الصوفي صوفيا ً حتى يكون بحيث لو
طيف بجميع ما في باطنه على طبق في السوق ما استحيا
من ظهور شيء منه؛ فإن لم تقدر أن تجعل سريرتك خيرا ً
من عالنيتك فال أقل من أن تسوي بينهما ،فيكون امتثالك
ألمر هللا واجتنابك لنهيه وتعظيمك لحرماته ومسارعتك في
مرضاته في الخالء والمأل على حد سواء .وهذه أول قدم
يضعها العبد في طريق المعرفة الخاصة فاعلم ذلك .وباهلل
التوفيق.
فصــل
(وعليك) بعمارة أوقاتك بوظائف العبادات حتى ال تمر
ساعة من ليل أو نهار إال وتكون لك فيها وظيفة من الخير
تستغرقها بها فبذلك تظهر بركات األوقات ،وتحصل فائدة
العمر ،ويدوم اإلقبال على هللا تعالى ،وينبغي أن تجعل لما
تتعاطاه من العادات كاألكل والشرب والسعي للمعاش أوقاتا ً
صها.تخ ُّ
(واعلم) أنه ال يستقيم مع اإلهمال حال ،وال يصلح مع
اإلغفال بال .قال حجة اإلسالم -نفع هللا به :-ينبغي أن توزع
أوقاتك وترتب أورادك وتعين لكل وقت شغالً ال تتعداه وال
تؤثر فيه سواه ،وأما من ترك نفسه مهمالً سدى إهمال البهائم
يشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق فتمضي أكثر أوقاته
ضائعة ،وأوقاتك عمرك ،وعمرك رأس مالك ،وعليه أصل
تجارتك ،وبه وصولك إلى نعيم األبد في جوار هللا تعالى،
فكل نفس من أنفاسك جوهرة ال قيمة له ،إذ ال عوض له وإذا
فات فال عود له .انتهى.
وال ينبغي أن تستغرق جميع أوقاتك بورد واحد وإن كان
أفضل األوراد مثالً فتفوتك بذلك بركات تعدد األوراد والتنقل
فيها فإن لكل ورد أثرا ً في القلب ونورا ً ومددا ً ومكانة من هللا
ليست لغيره.
وأيضا ً إذا تنقلت من ورد إلى ورد أمنت بذلك من السآمة
والكسل ،ومن الضجر والملل ،قال ابن عطاء هللا الشاذلي
رحمه هللا تعالى :لما علم الحق منك وجود الملل َّلون لك
الطاعات.
(واعلم) أن لألوراد أثرا ً كبيرا ً في تنوير القلب وضبط
الجوارح ،ولكن ال يظهر ويتأكد إال عند المواظبة والتكرار
وفعل كل ورد منها في وقت يخصه.
فإن لم تكن ممن يستغرق جميع ساعات ليله ونهاره
بوظائف الخيرات فاجعل لك أورادا ً تواظب عليها في أوقات
مخصوصة وتقضيها مهما فاتتك لتعتاد النفس المحافظة
أيست منك النفس أنك ال تسمح بترك أورادك ْ عليها ،ومتى
حتى تتداركها بالقضاء متى فاتت بادرت إلى فعلها في
أوقاتها ،وقال سيدي الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي هللا
عنه :من لم يكن له ورد فهو قرد ،وقال بعض العارفين:
الواردات من حيث األوراد فمن لم يكن له ورد في ظاهره
لم يكن له وارد في سرائره.
وعليك بالقصد ولزوم الوسط من كل أمر ،وخذ من
األعمال ما تطيق المداومة عليه .قال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :أحب األعمال إلى هللا أدومها وإن قل" وقال
عليه السالم" :خذوا من األعمال ما تطيقون فإن هللا ال يمل
حتى تملوا" ومن شأن الشيطان -لعنه هللا -أن يزين للمريد
في مبدأ إرادته االستكثار من الطاعات واإلفراط فيها،
وغرضه من ذلك أن يرده على عقبه بترك فعل الخير أصالً،
أو فعله على غير الوجه الذي ينبغي ،وال يبالي اللعين بأيهما
دهاه .ثم إن األوراد تكون في األكثر صالة نفل أو تالوة قرآن
أو قراءة علم أو ذكرا ً أو فكراً.
ونحن نذكر نبذة من اآلداب التي يحتاج إليها العامل بهذه
الوظائف الدينية فنقول:
ينبغي أن يكون لك ورد من صالة النفل زائد على النوافل
الواردة تعين له وقتا ً وتضبطه بعدد تطيق المداومة عليه،
وقد كان من السلف الصالح رحمهم هللا تعالى من ورده في
اليوم والليلة ألف ركعة مثل اإلمام علي بن الحسين رضي
هللا عنهما ،ومنهم من ورده خمسمائة ركعة ،ومنهم من ورده
ثلثمائة ركعة ،إلى غير ذلك.
(واعلم) أن للصالة صورة ظاهرة ،وحقيقة باطنة ،وال
يكون للصالة عند هللا تعالى قيمة حتى تقيم صورتها وحقيقتها
كما ينبغي.
فأما صورتها فهي األركان واآلداب الظاهرة من القيام
والقراءة والركوع والسجود والتسبيح ونحوها.
وأما حقيقتها فهي ال ُحضور مع هللا ،وإخالص النية
والقصد هلل ،واإلقبال ب ُكنه الهمة على هللا تعالى ،وجم ُع القلب
عليه ،وأن يكون فكرك مقصورا ً على صالتك فال ِّ
تحدث
نفسك بغيرها ،وتكون متأدبا ً بآداب المناجاة مع هللا تعالى.
مناج ربه"،
ٍ قال عليه الصالة والسالم" :إنما المصلي
وقال عليه الصالة والسالم" :إذا قام العبد إلى الصالة أقبل
هللا عليه بوجهه".
وال ينبغي أن تشتغل بنفل مطلق في وقت نفل ورد في
السنة المطهرة من فعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أو
قوله حتى تأتي على العدد األكمل منه.
فمن ذلك عدد الركعات التي وردت قبل المكتوبات
وشهرتها تغني عن ذكرها.
ومن ذلك صالة الوتر وهي صالة ثابتة مؤكدة ،وقد ذهب
بعض العلماء إلى وجوبها وقال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم" :إن هللا وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن" ،وقال
عليه الصالة والسالم" :الوتر حق ومن لم يوتر فليس منا،
وأكثرها إحدى عشرة ركعة ،وأقل ما ينبغي أن يقتصر عليه
ثالث ركعات".
وفعلها من آخر الليل لمن له عادة راسخة في القيام من
آخره أفضل.
قال عليه الصالة والسالم" :اجعلوا آخر صالتكم بالليل
وتراً" ومن لم تكن له عادة في القيام ففعلها بعد صالة العشاء
أولى له.
ومن ذلك صالة الضحى وهي صالة مباركة كثيرة النفع،
وأكرها ثمان ركعات ،وقيل اثنتا عشرة وقد ورد وأقلها
ركعتان ،وأفضل أوقاتها أن تصلى إذا أضحى النهار ومضى
قريب من ربعه ،وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:
"يصبح على كل سالمي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة
صدقة ،وكل تحميدة صدقة ،وكل تهليلة صدقة ،وكل تكبيرة
صدقة ،وأمر بالمعروف صدقة ،ونهي عن المنكر صدقة
ويجزيه من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى" فلو لم
يرد في فضل هذه الصالة إال هذا الحديث الصحيح لكفى.
ومن ذلك الصالة بين المغرب والعشاء وأكثرها عشرون
ركعة وأوسطها ست ركعات قال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم "من صلى بين العشائين ركعتين بنى هللا له بيتا ً في
الجنة" وقال عليه الصالة والسالم" :من صلى بعد المغرب
ست ركعات ال يتكلم فيما بينهن بشيء عدلن له عبادة اثنتي
عشرة سنة".
ومن السنة إحياء ما بين العشائين ،وقد ورد في فضله
أخبار وآثار ،وحسبك من ذلك أن أحمد بن أبي الحواري
شاور شيخه أبا سليمان رحمهما هللا تعالى في أن يصوم
النهار أو يحيي ما بين العشائين فقال :اجمع بينهما .فقال :ال
أستطيع ألني متى صمت أشتغل باإلفطار في هذا الوقت.
فقال له إذا لم تستطع أن تجمع بينهما فدع صيام النهار وأحي
ما بين العشائين.
وقالت عائشة رضي هللا عنها :ما دخل رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم بيتي بعد العشاء اآلخرة إال صلى أربعا ً أو
ستاً ،وقال عليه السالم" :أربع ركعات بعد العشاء ،كمثلهن
من ليلى القدر".
(وعليك) بصالة الليل فقد قال عليه السالم" :أفضل
الصدقة بعد المكتوبة صالة الليل" وقد قال عليه الصالة
والسالم" :فضل صالة الليل على صالة النهار كفضل صدقة
السر على العالنية" .وقد ورد أن صدقة السر تضاعف على
صدقة العالنية بسبعين ضعفاً ،وقال عليه الصالة والسالم:
"عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ،ومقربة لكم إلى
ربكم ،ومكفرة للسيئات ومنهاة عن اإلثم ومطردة للداء عن
الجسد.
(واعلم) أن من صلى بعد العشاء فقد قام من الليل وقد
كان بعض السلف يصلي ورده من أول الليل ولكن في القيام
بعد النوم إرغام للشيطان ومجاهدة للنفس وسر عجيب ،وهو
التهجد الذي أمر به هللا ورسوله في قوله (ومن الليل فتهجد
به نافلة لك) وفي المأثور :إن هللا يعجب من العبد إذا قام من
على فراشه وبين أهله إلى صالته ويباهي به مالئكته ويقبل
عليه بوجهه الكريم.
(واعلم) أنه يَ ْقبُح بطالب اآلخرة أن ال يكون له قيام بالليل.
كيف والمريد ال يزال طالبا ً للمزيد متعرضا ً للنفحات على
دوام األوقات.
وقد قال ،صلى هللا عليه وسلم" :إن في الليل لساعة ال
يوافقها عبد مسلم يسأل هللا خيرا ً من أمر الدنيا واآلخرة إال
أعطاه إياه وذلك كل ليلة" أخرجه مسلم.
وفي بعض كتب هللا المنزلة :كذب من ادعى محبتي فإذا
جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب الخلوة بحبيبه.
وقال الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي رحمه هللا جمع
الخير كله في الليل وما عقدت لولي والية إال بالليل.
وقال سيدي العيدروس عبد هللا بن أبي بكر من أراد
الصفاء الرباني فعليه باالنكسار في جوف الليل.
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :ينزل هللا كل ليلة
إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل األخير فيقول :هل من
فأستجيب له ،هل من مستغفر فأغفر له ،هل من سائل َ داع
فأعطيه ،هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر" .ولو
لم يرد في الحث على قيام الليل غير هذا الحديث لكفى.
كيف والكتاب والسنة طافحان بالترغيب فيه والحث
عليه ،وللعارفين باهلل في القيام بالليل منازالت شريفة،
وأذواق لطيفة يجدونها في قلوبهم من نعيم القرب من هللا،
ولذة األنس به وطيب المناجاة والمحادثة مع هللا ،حتى قال
بعضهم :إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم لفي
عيش طيب ،وقال آخر :أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو
في لهوهم ،وقال آخر منذ أربعين سنة ما غمني شيء إال
طلوع الفجر ،وهذا النعيم ال يكون إال بعد تجرع المرارات،
وتحمل المشقات في القيام ،كما قال عتبة الغالم :كابدت قيام
الليل عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة أخرى.
(فإن قلت) ماذا أقرأ في صالتي بالليل وكم ركعات ينبغي
أن أصلي فاعلم أن سول هللا صلى هللا عليه وسلم لم يواظب
في تهجده على قراءة شيء مخصوص ،ومن الحسن أن تتبع
القرآن فتقرأه شيئا ً فشيئا ً في قيامك حتى تختم في شهر أو أقل
أو أكثر حسب نشاطك.
وأما عدد الركعات فأكثر ما روي من قيام رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم ثالث عشرة ركعة وورد االقتصار على
تسع وسبع وأكثر ما ورد عنه صلى هللا عليه وسلم المواظبة
عليه إحدى عشرة ركعة.
ويتلخص من مجموع األحاديث أنه ينبغي لك ويستحب
إذا قمت من النوم أن تمسح النوم عن وجهك بيدك وتقول:
الحمد هلل الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ،وتقرأ (إن
في خلق السماوات واألرض واختالف الليل والنهار آليات
ألولي األلباب) إلى آخر السورة ،ثم تستاك وتتوضأ وضوءا ً
كامالً ،ثم تصلي ركعتين خفيفتين ثم تصلي بعدهما ثمان
ركعات تطولهن تسلم من كل ركعتين إن شئت أو من كل
أربع أو تجمعهن بتسليمة واحدة فكل ذلك قد ورد ،ثم إن
رأيت أنه بقي عندك نشاط فتنفل ما بدا لك ،ثم صل ثالث
ركعات بنية الوتر بتسليمة أو تسليمتين وتقرأ في األولى سبح
اسم ربك األعلى 1وفي الثانية قل يا أيها الكافرون 2وفي
الثالثة اإلخالص والمعوذتين ،وال تحسب أن الوتر هو إحدى
عشرة شيء وهذه الركعات المذكورة في هذا لسياق شيء
1أي سورة األعلى كلها
2أي سورة الكافرون كلها
آخر كالً إنه لم يرو عن قيام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
غير ما قصصناه عليك فاعلم ذلك وهللا سميع عليم.
فصــل
وينبغي أن يكون لك ورد من تالوة الكتاب العزيز تداوم
على قراءته في كل يوم وليلة ،وأدنى ذلك أن تقتصر على
جزء فيكون لك في كل شهر ختمة وأعلى ذلك أن تختم في
كل ثالثة أيام.
(واعلم) أن لقراءة القرآن فضالً عظيماً ،وأثرا ً في تنوير
القلب كبيراً .قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :أفضل
عبادة أمتي قراءة القرآن" وقال علي كرم هللا وجهه :من قرأ
القرآن وهو قائم في الصالة كان له بكل حرف مائة حسنة،
ومن قرأه وهو قاعد في الصالة كان له بكل حرف خمسون
حسنة ،ومن قرأه وهو خارج الصالة وهو على طهارة كان
له بكل حرف خمس وعشرون حسنة ،ومن قرأه وهو على
غير طهارة كان له بكل حرف عشر حسنات.
(وإياك) أن يكون همك في تالوتك مقصورا ً على اإلكثار
منها دون تدبر وترتيل.
(وعليك) –إذا تلوت -بالتدبر والفهم ،واستعن على ذلك
بالترتيل والترسل وأحضر في قلبك عظمة المتكلم سبحانه،
وأنك بين يديه تقرأ عليه كتابه الذي أمرك فيه ونهاك
ووعظك ووصاك ،وكن عند قراءة آيات التوحيد والتمجيد
ممتلئا ً باإلجالل والتعظيم ،وعند قراءة آيات الوعد والوعيد
ممتلئا ً بالرغب والرهب ،وعند قراءة آيات األوامر
والزواجر شاكرا ً معترفا ً بالتقصير أو مستغفرا ً عازما ً على
التشمير.
(واعلم) أن القرآن هو البحر المحيط ،ومنه تستخرج
جواهر العلوم ونفائس الفهوم ،ومن فتح له طريق الفهم فيه
من المؤمنين دام فتحه وتم نوره واتسع علمه وصار ال يمل
من قراءته ليالً وال نهاراً ،ألنه قد وجد فيه مقصوده وظفر
منه بمطلوبه وهذه صفة المريد الصادق.
قال الشيخ أبو مدين رضي هللا عنه :ال يكون المريد مريدا ً
حتى يجد في القرآن كل ما يريد.
(وعليك) بالمحافظة على قراءة السور واآليات التي ورد
الحث عليها في السنة في بعض األوقات.
فمن ذلك أن تقرأ كل ليلة قبل أن تنام الم السجدة ،وتبارك
الملك ،وسورة الواقعة ،وآمن الرسول إلى آخر السورة،
وسورة الدخان ليلة االثنين والجمعة ،وسورة الكهف يوم
الجمعة وليلتها ،وإن أمكنك أن تقرأ المنجيات السبع كل ليلة
فذلك من الفضائل العظيمة.
ومن ذلك أن تقرأ إذا أصبحت وإذا أمسيت أوائل الحديد،
وخواتيم الحشر ،واإلخالص والمعوذتين "ثالثا ً ثالثاً"
وكذلك تقرأ اإلخالص والمعوذتين عند النوم مع آية
الكرسي ،وقل يا أيها الكافرون واجعلها آخر ما تقول وهللا
يقول الحق وهو يهدي السبيل.
فصــل
وينبغي أن يكون لك ورد من قراءة العلم النافع وهو الذي
يزيد في معرفتك بذات هللا وأقواله وصفاته وأفعاله وآالئه،
وتعرف به ما أمرك به من طاعته ونهاك عنه من معصيته،
ويورثك زهدا ً في الدنيا ورغبة في اآلخرة ،ويبصرك بعيوب
نفسك وآفات عملك ومكائد عدوك.
وهذا العلم ثابت في الكتاب والسنة وكتب األئمة وقد جمعه
اإلمام الغزالي في كتبه العظيمة القدر ،الكبيرة الخطر ،عند
من له بصيرة في الدين ورسوخ في العلم وكمال في اليقين،
فواظب على مطالعتها إن كانت لك همة في سلوك الطريق
ورغبة في الوصول إلى مراتب التحقيق ،وقد انفردت الكتب
الغزالية من بين كتب المحققين من الصوفية بالجمع
والتحرير وحصول التأثير الكثير في الزمن القصير.
(وعليك) باإلكثار من قراءة كتب الحديث والتفسير ومن
مطالعة كتب القوم عامة فإن ذلك فتح عام وسلوك تام كما
قال بعض العارفين.
ولكن ينبغي لك أن تحترز عما يشتمل من رسائلهم على
األمور الغامضة والحقائق المجردة وهذه األشياء توجد في
أكثر مؤلفات الشيخ ابن عربي وفي شيء من رسائل اإلمام
1
الغزالي كالمعراج والمضنون به .وقد ذكر الشيخ زروق
في "تأسيس القواعد" قاعدة في التحذير من الكتب التي
تجري هذا المجرى فراجعها إن شئت ،ولم يذكر في جملتها
مؤلفات الشيخ عبد الكريم الكيالني ،ألنه متأخر ومؤلفاته عن
آخرها مما ينبغي االحتراز عنها إيثارا ً للسالمة.
(فإن) قال قائل ال بأس علي في مطالعة هذه الكتب،ألني
آخذ ما أفهمه وأسلم لما ال أفهمه لقائله (قيل له) قد أنصفت،
ونحن إنما نخشى عليك مما تفهمه أن تفهمه على غير وجهه
فتضل عن سواء السبيل ،كما وقع ذلك ألقوام عكفوا على
مطالعة هذه الكتب فصاروا في زندقة وإلحاد ،وقالوا بالحلول
واالتحاد ،فال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم.
1هو العالمة الفقيه المحدث أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى أبو العباس زروق من أهل فاس بالمغرب قرأ بمصر
والمدينة وتصوف وساح وتوفي في تكرين من قرى مسراته من أعمال طرابلس الغرب سنة 899هـ
فصــل
وينبغي أن يكون لك ورد من ذكر هللا تعالى تحده بوقت
أو تحصره بعدد وحينئذ فال بأس بالسبحة لضبط العدد.
(واعلم) أن الذكر ركن الطريق ،ومفتاح التحقيق ،وسالح
المريدين ،ومنشور الوالية ،كما قال بعض العارفين .وقد قال
هللا تعالى (فاذكروني أذكركم) وقال تعالى (فاذكروا هللا قياما ً
وقعودا ً ًً وعلى جنوبكم) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا
اذكروا هللا ذكرا ً كثيراً) وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:
يقول هللا تعالى" :أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه حين
يذكرني ،فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني
في مأل ذكرته في مأل خير منه" .وقال عليه السالم" :يقول
هللا تعالى" :أنا جليس من ذكرني" وقال عليه السالم "أال
أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في
درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ومن أن تلقوا
عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال
ذكر هللا".
وللذكر ثمرات ونتائج يجدها من واظب عليه بوصف
األدب والحضور ،أقلها أن يجد فيه من الحالوة واللذة ما
يستحقر في جنبه كل ما يعرفه من اللذات الدنيوية والمالهي.
وأعالها أن يفنى بالمذكور عن الذاكر وعما سواه.
ومن قعد وهو على طهارة في خلوة مستقبل القبلة ساكن
األطراف مطرق الرأس ثم ذكر هللا بقلب حاضر وأدب وافر
،رأى للذكر في قلبه أثرا ً ظاهراً .فإن دام على ذلك أشرقت
عليه أنوار القرب وانكشفت له أسرار الغيب.
وأفضل الذكر ما كان بالقلب واللسان ،وذكر القلب أن
يكون حاضرا ً فيه معنى الذكر الذي يجري على اللسان
كالتقديس والتوحيد عند التسبيح والتهليل.
واألفضل للذاكر من اإلسرار والجهر بالذكر والقراءة
األصلح منهما لقلبه ،والذكر هو الورد الدائم المستمر،
فاجتهد أن ال يزال لسانك رطبا ً منه في كل حال إال في وقت
ورد ال يمكن الجمع بينه وبين الذكر كالقراءة والتفكر،
ويكون في هذه العبادات وغيرها من القربات ذاكرا ً هلل تعالى
بالمعنى األعم ،وال تقتصر على معنى واحد من الذكر بل
ينبغي أن يكون لك من كل نوع ورد.
(وعليك) بالمحافظة على األذكار واألدعية الواردة في
أدبار الصلوات ،وعند الصباح والمساء ،والنوم واليقظة،
إلى غير ذلك من األوقات واألحوال المتعاقبة ،فما سنها
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ألمته إال أن تكون سببا ً لهم
إلى الفوز بالخير والنجاة من الشر الواقعين في ذلك الوقت
والحال .فمن أهملها ثم بعد ذلك ناله مكروه أو حيل بينه وبين
َّ
يلومن إال نفسه. محبوبه فال
ومن أراد العمل بما ذكرناه فعليه بمطالعة كتاب األذكار
لإلمام النووي رحمه هللا وجزاه عن المسلمين خيراً.
ومن آكد ما ورد في أدبار الصلوات وأفضله أن تقول بعد
كل مكتوبة :اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك،
وتسبح ثالثا ً وثالثين وتحمد كذلك وتكبر كذلك وتختم المائة
بال إله إال هللا وحده ال شريك له له الملك وله الحمد وهو على
كل شيء قدير ،وقل هذه الكلمة بزيادة (يحيي ويميت) "عشر
مرات" وأنت ثان رجلك وقبل أن تتكلم بعد صالة الفجر
والعصر والمغرب.
ومن ذلك أن تقول إذا أصبحت وأمسيت :سبحان هللا
وبحمده "مائة" وسبحان هللا والحمد هلل وال إله إال هللا وهللا
أكبر "كذلك" وال إله إال هللا وحده ال شريك له له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير في كل يوم "مائة مرة".
واجعل لك وردا ً من الصالة على رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ،فإنها وصلة بينك وبين نبي هللا صلى هللا عليه
وسلم ،وباب يفيض عليك منه المدد بواسطته من حضرته
عليه الصالة والسالم ،وقد قال صلوات هللا وسالمه عليه:
"من صلى عليه مرة صلى هللا عليه بها عشراً" وقال عليه
الصالة والسالم" :أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا ً يوم القيامة
أكثركم علي صالة" وقد أمر هللا بها في كتابه العزيز بقوله
تعالى( :يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) فامتثل
واستكثر منها وال تستقلل ،واجمع بينها وبين السالم وصل
على آله معه.
وأكثر منها في ليلة الجمعة ويومها خصوصاً ،لقوله عليه
السالم" :أكثروا من الصالة علي في الليلة الغراء واليوم
األزهر" صلى هللا عليه وعلى آله وسلم والحمد هلل رب
العالمين.
فصــل
(وينبغي) أن يكون لك ورد من التفكر في كل يوم وليلة
تعين له ساعة أو ساعات ،وأحسن األوقات للتفكر أفرغها
وأصفاها وأجدرها في حضور القلب جوف الليل.
(واعلم) أن صالح الدنيا والدين موقوف على صحة
التفكر ،ومن أعطى حظه منه أخذ بحظ وافر من كل خير،
وقد ورد "تفكر ساعة خير من عبادة من عبادة سنة".
وقال علي كرم هللا وجهه :ال عبادة كالتفكر ،وقال بعض
العارفين رحمهم هللا :الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فال
إضاءة له.
ومجاري الفكر كثيرة ،فمنها –وهو أشرفها -أن تتفكر في
عجائب مصنوعات هللا الباهرة ،وآثار قدرته الظاهرة
والباطنة ،وما بث من اآليات في ملكوت األرض
والسماوات.
وهذا التفكر يزيد في معرفتك بذات هللا وصفاته وأسمائه،
وقد حث عليه بقوله (قل انظروا ماذا في السماوات
واألرض) ومابث من عجائب المصنوعات في نفسك .قال
هللا تعالى (وفي األرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفال
تبصرون).
واعـلم أنه ينبغي لك أن تتفكر في آالء هللا وأياديه التي
أوصلها إليك ،ونعمه التي أسبغها عليك قال هللا تعالى:
(فاذكروا آالء هللا لعلكم تفلحون) وقال هللا تعالى( :وإن تعدُّوا
نعمة هللا ال تحصوها) وقال تعالى( :وما بكم من نعمة فمن
هللا).
وثمرة هذا التفكر امتالء القلب بمحبة هللا ،واالشتغال
بشكره باطنا ً وظاهرا ً كما يحبه ويرضاه.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في إحاطة علم هللا بك،
ونظره إليك ،واطالعه عليك ،قال هللا تعالى( :ولقد خلقنا
اإلنسان و ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من
حبل الوريد) وقال تعالى( :وهو معكم أينما كنتم وهللا بما
تعملون بصير) وقال تعالى( :ألم تر أن هللا يعلم ما في
السماوات وما في األرض ما يكون من نجوى ثالثة إال هو
رابعهم) اآلية.
وهذا التفكر ثمرته أن تستحي من هللا أن يراك حيث نهاك
أو يفتقدك حيث أمرك.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في تقصيرك في عبادة
موالك ،وتعرضك لسخطه بإتيانك ما عنه نهاك .قال هللا
تعالى( :وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون) وقال تعالى:
(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ً وأنكم إلينا ال ترجعون) وقال
تعالى( :يا أيها اإلنسان ما غرك بربك الكريم) وقال تعالى:
(يا أيها اإلنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ً فمالقيه).
وهذا التفكر يزيد في خوفك من هللا ،ويحملك على لوم
نفسك وتوبيخها ،ومجانبة التقصير ومالزمة التشمير.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في هذه الحياة الدنيا،
وكثرة أشغالها ووبالها ،وسرعة زوالها ،وفي اآلخرة
ونعيمها ودوامها .قال هللا تعالى( :كذلك يبين هللا لكم اآليات
لعلكم تتفكرون في الدنيا واآلخرة) وقال تعالى( :بل تؤثرون
الحياة الدنيا واآلخرة خير وأبقى) وقال تعالى( :وما هذه
الحياة الدنيا إال لهو ولعب وإن الدار اآلخرة لهي الحيوان لو
كانوا يعلمون).
وهذا التفكر يثمر لك الزهد في الدنيا والرغبة في اآلخرة.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في قرب نزول الموت،
وحصول الحسرة والندامة بعد الفوت .قال هللا تعالى( :قل إن
الموت الذي تفرون منه فإنه مالقيكم ثم تردون إلى عالم
الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).
وقال تعالى( :حتى إذا جاء أحدكم الموت قال رب
ارجعون لعلي أعمل صالحا ً في ما تركت كال إنها كلمة هو
قائلها).
وقال تعالى( :يا أيها الذين آمنوا ال تلهكم أموالكم وال
أوالدكم عن ذكر هللا) إلى قوله تعالى( :ولن يؤخر هللا نفسا ً
إذا جاء أجلها).
وفائدة هذا التفكر قصر األمل وإصالح العمل وإعداد
الزاد ليوم المعاد.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في األخالق واألعمال
التي وصف هللا بها أولياءه وأعداءه ،وفيما أعد للفريقين في
العاجل واآلجل .قال هللا تعالى( :إن األبرار لفي نعيم وإن
الفجار لفي جحيم) وقال تعالى( :أفمن كان مؤمنا ً كمن كان
فاسقا ً ال يستوون) وقال تعالى( :فأما من أعطى واتقى
وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) إلى آخر السورة ،وقال
تعالى( :إنما المؤمنون الذين إذا ذكر هللا وجلت قلوبهم) إلى
قوله تعالى( :لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)
وقال تعالى( :وعد هللا الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
ليستخلفنهم في األرض كما استخلف الذين من قبلهم) اآلية،
وقال تعالى( :فكالً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ً
ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به األرض ومنهم
من أغرقنا وما كان هللا ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
وقال تعالى( :المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض
يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) إلى قوله تعالى:
(ولعنهم هللا ولهم عذاب مقيم) وقال تعالى( :والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر) إلى قوله( :ورضوان من هللا أكبر ذلك هو الفوز
العظيم) وقال تعالى( :إن الذين ال يرجون لقاءنا ورضوا
بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) إلى قوله( :وآخر دعواهم أن
الحمد هلل رب العالمين).
وثمرة هذا التفكر محبة السعداء ،وحمل النفس على
اتباعهم والعمل بأعمالهم والتخلق بأخالقهم ،وبغض
األشقياء ،وحمل النفس على اجتناب أعمالهم وأخالقهم.
وإن ذهبنا نتتبع مجاري الفكر خرجنا عن مقصودنا من
اإليجاز وفيما أشرنا إليه كفاية للعاقل.
(وينبغي) أن تستحضر عند كل نوع من التفكر ما يناسبه
من اآليات واألخبار واآلثار ،وقد أشرنا إلى ذلك عند كل
نوع بذكر شيء من اآليات المناسبة له.
(وإياك) والتفكر في ذات هللا تعالى وصفاته من حيث
تطلب الماهية وتعقل الكيفية ،فقلما ولع بذلك أحد إال وهوى
في مهاوي التعطيل أو تورط في تورطات التشبيه ،وقد روي
مرفوعا ً إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :تفكروا في
آيات هللا وال تتفكروا في ذات هللا ،فإن لن تقدروه حق قدره".
فهذا ما قصدنا ذكره من آداب هذه الوظائف .ومقصود
األوراد وروحها إنما هو الحضور مع هللا فيها فعليك به ،ولن
تصل إليه ما لم تسلك طريقه ،وهي فعل األعمال الظاهرة
مع تكلف الحضور مع هللا فيها ،فإن واظبت على هذا غشيتك
أنوار القرب وفاضت عليك علوم المعرفة فعند ذلك يقبل
قلبك على هللا تعالى بكليته ويصير الحضور مع هللا سبحانه
سجية لك وخلقا ً راسخا ً فتصير تتكلف الحضور مع الخلق
عند الحاجة إليه .وربما لم تقدر عليه ،وعن هذه الحالة تنشأ
الغَيبة واالستغراق والفناء عما سوى هللا تعالى إلى غير ذلك
من مواجيد أهل هللا ،وأصل ذلك كله المواظبة على األعمال
الظاهرة والمحافظة عليها مع تكلف الحضور مع هللا فيها.
واحذر أن تترك العمل بورد مخافة أن ال تدوم عليه ،فإن
ذلك من الحماقة.
(وينبغي) أن ال تعمل في كل وقت بحسب النشاط
والفراغ ،بل ينبغي أن تسمي شيئا ً تزيد عليه عند النشاط وال
تنقص منه عند الكسل.
(واعلم) أن المسارعة إلى الخيرات ،والمحافظة على
العبادات ،والمداومة على الطاعات ،دأب األنبياء واألولياء
في بداياتهم ونهاياتهم ،ألنهم أعرف الخلق باهلل ،فال جرم
كانوا أعبدهم وأطوعهم وأخشاهم له عز وجل فإن إقبال العبد
على ربه وعبادته له على قدر محبته له ،والمحبة تابعة
للمعرفة ،فكلما كان العبد أعرف باهلل كان أشد حبا ً له وأكثر
عبادة .فإن شغلك جمعك للدنيا واتباعك للهوى عن اتخاذ
األوراد ومالزمة العبادات فاجتهد أن تجعل لربك ساعة من
أول نهارك وساعة من آخره تشتغل فيهما بالتسبيح
واالستغفار وغير ذلك من أنواع الطاعات فقد روي عن هللا
تعالى أنه قال" :ابن آدم اجعل لي ساعة من أول نهارك
وساعة من آخره أكفك ما بين ذلك".
وورد أن صحيفة العبد إذا عرضت على هللا عز وجل من
آخر كل يوم فإن كان في أولها وفي آخرها خير يقول هللا
تعالى للملك أمح ما بين ذلك ،وذلك من فضل هللا علينا وعلى
الناس ولكن أكثر الناس ال يشكرون.
فصــل
(وعليك) بالتمسك بالكتاب والسنة واالعتصام بهما،
فإنهما دين هللا القويم وصراطه المستقيم ،من أخذ بهما سلم
وغنم ورشد وعصم ،ومن حاد عنهما ضل وندم وحاد
وقصم ،فاجعلهما حاكمين عليك ومتصرفين فيك وارجع
إليهما في كل أمرك ممتثالً لوصية هللا ووصية رسوله .قال
هللا تعالى( :يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول
وأولي األمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى هللا
والرسول إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر ذلك خير
وأحسن تأويالً) ومعنى قوله :فردوه إلى هللا والرسول أي إلى
الكتاب والسنة.
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "أوصيكم بما إن
اعتصمتم به لن تضلوا أبدا ً كتاب هللا وسنتي".
فإن سرك أن تكون على الهدى سالكا ً للمحجة البيضاء
التي ال ِّعوج فيها وال أمتا ً فاعرض جميع نياتك وأخالقك
وأعمالك وأقوالك على الكتاب والسنة ،فخذ ما وافق ودع ما
خالف ،واعمل على االحتياط ،واتبع األحسن أبداً ،وال تبتدع
في الدين ،وال تتبع غير سبيل المؤمنين فتخسر الدنيا
واآلخرة ،ذلك هو الخسران المبين.
(وإياك) ومحدثات األمور ومختلفات اآلراء فقد قال عليه
الصالة والسالم" :كل محدثة بدعة وكل بدعة ضاللة" وقال
عليه السالم" :من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
والبدع ثالث" :بدعة حسنة" وهي ما رآه أئمة الهدى مما
يوافق الكتاب والسنة من حيث إيثار األصلح واألنفع
واألحسن،و ذلك كجمع القرآن في مصحف ألبي بكر،
ونصب الديوان وصالة التراويح لعمر ،وترتيب المصحف
واألذان األول يوم الجمعة لعثمان ،وأحكام قتال البغاة لعلي
رضي هللا عنه وعن الخلفاء األربعة.
والثانية" :بدعة مذمومة" على لسان الزهد والورع
والقناعة فقط وذلك كالتوسع في الماالبس والمآكل والمساكن
المباحة.
والثالثة" :بدعة مذمومة مطلقاً" وهي ما خالف نصوص
الكتاب والسنة أو خرق إجماع األمة ،وقد وقع من هذا النوع
للمبتدعة كثير في األصول وقل وقوعه في الفروع ،وكل من
لم يبالغ في التمسك بالكتاب والسنة ،ولم يبذل وسعه في
متابعة الرسول ،وهو مع ذلك يدعي أن له مكانة من هللا
تعرج عليه ،وإن طار في الهواء تعالى ،فال تلتفت إليه وال ِّ
ومشى على الماء وطويت له المسافات وخرقت له العادات،
فإن ذلك يقع كثيرا ً للشياطين والسحرة والكهان والرافين
خرج مث َل ذلك عن ضالل ،وال يُ ِّوالمنجمين وغيرهم من ال ُّ
كونه استدراجا ً وتلبيسا ً إلى كونه كرامة وتأييدا ً إال وجود
االستقامة فيمن ظهر عليه ،وهذا المغرور وأمثاله إنما
يلبسون على الغوغاء والسفلة الذين يعبدون هللا على شك،
وأما أولو العقول واأللباب فقد علموا أن تفاوت المؤمنين في
القرب من هللا على حسب تفاوتهم في متابعة الرسول ،وأنه
كلما كانت المتابعة أكمل كانا لقرب من هللا أتم وكانت
المعرفة به أجل.
وقد قصد أبو يزيد البسطامي إلى زيارة رجل يوصف
بالوالية فقعد له في المسجد فلما خرج حضرته نُخامة فرمى
بها في حائط المسجد فرجع أبو يزيد ولم يجتمع به وقال كيف
يؤمن على أسرار هللا من لم يحسن المحافظة على آداب
الشريعة.
وقال الجنيد رحمه هللا كل الطرق مسدودة إال على من
اقتفى أثر الرسول صلى هللا عليه وسلم.
وقال سهل بن عبد هللا رحمه هللا ال معين إال هللا وال دليل
إال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وال زاد إال التقوى وال
عمل إال الصبر عليها.
(واعلم) أنه ال يستقل بعرض جميع أموره التي تقع له في
ظاهره وباطنه على الكتاب والسنة كل أحد ،فإن ذلك
مخصوص بالعلماء الراسخين فإن عجزت عن شيء من
ذلك ،فعليك بالرجوع إلى من أمرك هللا بالرجوع إليه في
قوله تعالى( :فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون) وأهل
الذكر هم العلماء باهلل وبدينه العاملون بعلمهم ابتغاء وجه هللا
تعالى الزاهدون في الدنيا الذين ال تلهيهم تجارة وال بيع عن
ذكر هللا تعالى الداعون إلى هللا على بصيرة المكاشفون
بأسرار هللا.
وقد عز على بسيط األرض وجود واحد من هؤالء حتى
لقد زعم جماعة من األكابر أنهم مفقودون ،والحق أنهم
موجودون ولكن قد سترهم هللا برداء الغيرة وضرب عليهم
سرادقات اإلخفاء ،لغفلة الخاصة وإعراض العامة ،فمن
طلبهم بصدق وجد في ذلك لم يعوزه –إن شاء هللا تعالى-
وجود واحد منهم ،فالصدق سيف ال يوضع على شيء إال
قطعه ،واألرض ال تخلو من قائم هلل بحجة .وقد قال عليه
الصالة والسالم" :ال تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق ال يضرهم من ناوأهم حتى يأتي أمر هللا".
أولئك نجوم األرض وحمال األمانة ونواب المصطفى
وورثة األنبياء ،رضي هللا عنهم ورضوا عنه ،أولئك حزب
هللا أال إن حزب هللا هم المفلحون.
فصــل
(وعليك) بتحسين معتقدك وإصالحه وتقويمه على منهاج
"الفرقة الناجية" وهي المعروفة بين سائر الفرق اإلسالمية
بأهل السنة والجماعة وهم المتمسكون بما كان عليه رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه ،وأنت إذا نظرت بفهم
مستقيم عن قلب سليم في نصوص الكتاب والسنة المتضمنة
لعلوم اإليمان ،وطالعت سير السلف الصالح من الصحابة
والتابعين ،علمت وتحققت أن الحق مع الفرقة الموسومة
باألشعرية نسبة إلى الشيخ "أبي الحسن األشعري" رحمه
هللا فقد رتب قواعد عقيدة أهل الحق وحرر أدلتها ،وهي
العقيدة التي إجتمعت عليها الصحابة ومن بعدهم من خيار
التابعين ،وهي عقيدة أهل الحق من أهل كل زمان و مكان
وهي عقيدة جملة أهل التصوف كما حكى ذلك أبو القاسم
القشيري في أول رسالته.
وهي بحمد هللا عقيدتنا ،وعقيدة إخواننا من السادة
الحسينيين المعروفين بآل أبي علوي ،وعقيدة أسالفنا من لدن
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى يومنا هذا ،وكان اإلمام
المهاجر إلى هللا جد السادة المذكورين سيدي "أحمد بن
عيسى بن محمد بن علي ابن اإلمام جعفر الصادق" رضي
هللا عنهم لما رأى ظهور البدع وكثرة األهواء واختالف
اآلراء بالعراق هاجر منها ولم يزل –نفع هللا تعالى به -يتنقل
في األرض ،حتى أتي أرض "حضرموت" فأقام بها إلى أن
توفي ،فبارك هللا في عقبه ،حتى اشتهر منهم الجم الغفير
العلم والعبادة والوالية والمعرفة ولم يعرض لهم ما عرض
لجماعات من أهل البيت النبوي من انتحال البدع واتباع
األهواء المضلة ببركات نية هذا اإلمام المؤتمن وفراره بدينه
من مواضع الفتن ،فاهلل تعالى يجزيه عنا أفضل ما جزى
والدا ً عن ولده ويرفع درجته مع آبائه الكرام في عليين
ويلحقنا بهم في خير وعافية غير مبدلين وال مفتونين إنه
أرحم الراحمين .والماتريدية كاألشعرية في جميع ما تقدم.
وينبغي لكل مؤمن أن يحصن معتقده بحفظ عقيدة من
عقائد األئمة المجمع على جاللتهم ورسوخهم في العلم .وال
أحسب مبتغي ذلك يصادف عقيدة جامعة واضحة بعيدة عن
شبَه مثل عقيدة اإلمام الغزالي رضي هللا عنه التي أوردها ال ُّ
في الفصل األول من كتاب قواعد العقائد من اإلحياء ،فعليك
بها فإن تشوفت إلى مزيد فانظر في الرسالة القدسية التي
أوردها في الفصل الثالث من الكتاب المذكور.
وال تتوغل في علم الكالم وال تكثر من الخوض فيه
لمجرد طلب التحقيق في المعرفة فإنك ال تظفر بهذا
المطلوب من هذا العلم .ولكن إن أردت التحقق في المعرفة
فعليك بسلوك طريقه وهي التزام التقوى ظاهرا ً وباطناً،
وتدبر اآليات واألخبار ،والنظر في ملكوت السماوات
واألرض على قصد االعتبار ،وتهذيب أخالق النفس
وتلطيف كثافاتها بحسن الرياضة ،وتصقيل مرآة القلب
بمالزمة الذكر والفكر ،واإلعراض عما يشغل عن التجرد
لهذا األمر .فهذا سبيل التحصيل إن سلكته عثرت -إن شاء
هللا تعالى -على المطلوب ،وظفرت باألمر المرغوب،
والصوفية إنما جاهدوا نفوسهم وبالغوا في رياضتها
وقطعوها عن عاداتها ومألوفاتها لعلمهم بتوقف حصول
كمال المعرفة على ذلك ،وعلى كمال المعرفة يتوقف التحقق
بمقام العبودية الذي هو بغية العارفين وأمنية المحققين رضي
هللا عنهم أجمعين.
فصــل
(وعليك) بأداء الفرائض واجتناب المحرمات ،واإلكثار
من النوافل .فإنك إن فعلت ذلك مخلصا ً لوجه هللا الكريم
حصلت على غاية القرب من هللا وخلعت عليك خلعة المحبة
التي تصير عندها جميع حركاتك وسكناتك هلل وباهلل ،وهي
خلعة الوالية بل خلعة الخالفة ،وقد أشار إليها رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم بقوله فيما يرويه عن ربه تعالى قال:
"ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وال
يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش
بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش
وبي يمشي ولئن سألني ألعطينه ولئن استعاذني ألعيذنه وما
ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي
المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته وال بد له من الموت".
فانظر –رحمك هللا -إلى ما انطوى عليه هذا الحديث
القدسي من األسرار والمعارف وتأمل ما أومأ إليه من
الدقائق واللطائف وما وصل هذا العبد الموفق إلى هذه
المرتبة العظيمة التي صار فيها ما يحبه محبوبا ً هلل وما
يكرهه مكروها ً عند هللا إال بأداء ما فرضه عليه واإلكثار من
النوافل ابتغاء الزلفى لديه فالسباق السباق إن كانت لك همة
في الوصول إلى مراتب الكمال ورغبة في بلوغ درجات
الرجال فقد وضح لك الطريق وبد لك شعاع التحقيق.
(واعلم) أن هللا قد جعل فضله ورحمته في النوافل جبرا ً
لما يقع من الخلل في الفرائض .ولكن ال يجبر خلل الفريضة
إال بنفل من نوعها كالصالة بالصالة ،والصيام بالصيام،
والفرض هو األصل والنفل تابع له ،والذي يؤدي الفرائض
ويجتنب المحارم وال يتنفل أحسن حاالً ممن يتعاطى النوافل
ويقع في إهمال بعض الفرائض ،فإياك أن تعرض عن شيء
من الفرائض اشتغاالً بشيء من النوافل فتأثم بترك الفريضة
وال يتقبل هللا منك النافلة وتقع في ذلك مثل من يشتغل
بتحصيل العلم الذي هو في حقه فضيله ويترك االشتغال
بتحصيل ما هو عليه من العلم فريضة في ظاهره وباطنه،
ومن يقعد عن الكسب مع القدرة عليه اشتغاالً بنوافل العبادات
ويترك عياله يتكففون الناس فقس على هاتين الصورتين ما
عداهما مما في معناهما.
(واعلم) أنك ال تصل إلى القيام بامتثال ما فرض هللا عليك
من طاعته واجتناب ما حرم هللا عليك من معصيته وإلى
العمل بما شرع لك من النوافل التي تقربك إليه زلفى إال
بالعلم ،فعليك بطلبه فقد قال عليه الصالة والسالم" :طلب
العلم فريضة على كل مسلم".
وبالعلم تعرف كون الواجب واجبا ً والمندوب مندوباً،
والمحرم محرماً ،وتعرف كيف تؤدي الواجب وتفعل
المندوب وتترك المحرم فإذن ال بد لك من العلم وال غنى لك
عنه ،وعليه وعلى اعمل به مدار سعادتك في الدنيا واآلخرة.
(واعلم) أن من عبد هللا بغير علم كان الضرر العائد عليه
بسبب عبادته أكثر من النفع الحاصل له بها ،وكم من عابد
قد أتعب نفسه في العبادة وهو مع ذلك مصر على معصية
يرى أنها طاعة أو أنها غير معصية .وقد حكى الشيخ
العارف باهلل محمد بن عربي في باب الوصايا من الفتوحات
عن رجل من أهل المغرب أنه كان كثير االجتهاد في العبادة
وأنه اشترى أتانا ً 1ولم يستعملها في شيء ،فسأله إنسان عن
سبب إمساكها ،قال :ما أمسكتها إال ألحصن بها فرجي!
وكان ال يعلم تحريم إتيان البهائم ،فلما عرفه بتحريمه أشفق
وبكى بكا ًء شديداً .انتهت الحكاية بمعناها.
والعلم الواجب على كل مسلم هو أن يعلم وجوب جميع
الفرائض التي فرضهن هللا عليه وتحريم جميع المحرمات
1األتان :أنثى الحمار
التي حرمهن هللا عليه .وأما العلم بكيفية فعل الشيء الواجب
فال يجب إال عند إرادة مباشرته فمن بلغ أو أسلم في شهر
المحرم مثالً كان الواجب عليه فورا ً أن يتعلم معنى الشهادتين
وينطق بهما ،ويتعلم وجوب الصلوات الخمس وما يجب من
معرفة أركانها وأحكامها ،ومن الواجب عليه أن يعرف
وجوب الصوم والزكاة والحج وغيرها من الواجبات العينية
ويعرف تحريم الزنى وشرب الخمر وأخذ أموال الناس
بالباطل وغيرها من المحرمات الشريعة ولكن ال يجب عليه
أن يتعلم كيفية الصيام والحج إال عند مجيء رمضان وإرادة
الحج ،وال كيفية الزكاة إال حتى يملك ماالً يزكى ويجيء
وقت إخراج الزكاة وهللا أعلم.
والمحرمات والواجبات العينية معروفة بين المسلمين ال
تكاد تخفى وإنما المهم معرفة األحكام .نعم ول يكفه إال أن
يتلقى جميع ذلك من عالم يخشى هللا ويدين بالحق .والعامة
تخطئ وتصيب فإياك أن تفعل ما يفعلونه وتترك ما يتركونه
اقتداء بهم ،فإن االقتداء ال يصح إال بالعلماء العاملين ،وقد
عز اليوم عالم يعمل بعلمه .فإذا رأيت العالم في هذا الزمان
يفعل شيئا ً أو يتركه مما يجهل كونه حقا ً أو باطالً فال تكتفي
بمجرد رؤيته في الفعل أو الترك حتى تسأله عن وجه ذلك
في الشرع وحكمه من الدين ،وال يحتاج المسلم في تحصيل
ما هو فرض عليه من العلم إلى طول مدة ،وال يكاد تلحقه
مشقة في ذلك لسهولته ،ويكفي الطالب الفطن في تعلم ذلك
أن يجلس مع العالم المتقن ساعة أو ساعتين من زمان وقد
جاء أعرابي إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو يخطب
على منبره فسأله أن يعلمه مما علمه هللا فنزل عن منبره
فعلمه ثم صعد المنبر فأتم خطبته.
وعلى الجملة فمن أراد أن يسلم ويغنم فعليه أن ال يدخل
في شيء وال يقيم على فعل شيء قد دخل فيه حتى يعلم ما
حكم هللا في ذلك الشيء من الوجوب أو الندب أو اإلباحة أو
التحريم فجميع األشياء ال تخلو عن أحد هذه األمور األربعة،
واألشبه أن هذا األمر واجب على كل مسلم.
ثم إن المؤمنين ينقسمون إلى عموم وخصوص ،فالعموم
قد يقعون في ترك الواجبات وفعل المحرمات ،وأحسنهم من
يبادر بالتوبة واالستغفار ،وال يحرصون على فعل النوافل
وينهمكون في المباحات ،وأما الخصوص فيؤدون الواجبات
ويتركون المحرمات بكل حال ويحافظون على فعل
المندوبات ويقتصرون من المباحات على ما يكون وسيلة
إلى القيام بامتثال األوامر واجتناب النواهي وباهلل التوفيق.
فصــل
(وعليك) بلزوم النظافة ظاهرا ً وباطناً ،فإن من كملت
نظافته صار بروحه وسريرته ملَكا ً روحانياً ،وإن كان
بجسمه وصورته بشرا ً جسمانياً .وقد قال رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم" :بني الدين على النظافة" وقال عليه الصالة
والسالم" :إن هللا نظيف يحب النظافة".
وتحصل النظافة الباطنة بتزكية النفس عن رذائل
األخالق ،كالكبر والرياء والحسد وحب الدنيا وأخواتها،
وتحليتها بمكارم األخالق ،كالتواضع والحياء واإلخالص
والسخاء وأخواتها.
وحقائق هذا األخالق وطريقة الخالص من رذائلها
وسبيل التحصيل لفضائلها قد جمعه اإلمام الغزالي في
الشطر الثاني من اإلحياء فعليك بمعرفة ذلك واستعماله.
وأما النظافة الظاهرة فتحصل بترك المخالفات وفعل
الموافقات.
فمن زين ظاهره بمالزمة األعمال الصالحة ،وعمر
باطنه بالتخلق باألخالق المحمودة ،فقد كملت نظافته وإال فله
نصيب منها بقدر بعده عن منكرات األخالق واألعمال
وقربه من محاسنها.
ومن أقسام النظافة الظاهرة ما أرشد إليه الشرع من أخذ
الفضالت وإزالة األدناس ،والتطهر من األحداث واألنجاس.
فمن ذلك :إزالة شعر العانة ،ونتف اإلبط أو حلقه ،وقص
الشارب ،وتقليم الظفر ،ويستحب أن يبتدئ من سبابة اليمنى
إلى خنصرها ومن خنصر اليسرى إلى إبهامها ويختم بإبهام
اليمنى ،وأما الرجالن فيبدأ بخنصر اليمنى ويختم بخنصر
اليسرى كالتخليل في الوضوء ،ويكره تأخير فعل هذه
األشياء عن كل أربعين يوماً.
ومن ذلك إزالة األوساخ التي تجتمع في معاطف البدن
وأغواره بالماء ،وما يجتمع من الرمص على العينين ،ومن
القذر في المنخرين ،ومن الطعام بين األسنان بالخالل.
(وعليك) تنظيف فمك بالسواك ،وكونه من األراك أولى،
ويتأكد عند إرادة الدخول في العبادات ،وتنظيف ثيابك بالماء
كلما تدنست من غير إفراط وتشبه بالمترفين.
ومن السنة التابعة للنظافة :دهن شعر اللحية ،وترجيلها
بالمشط ،وكذا كل شعر يقصد تبقيته ،واالكتحال باإلثمد في
كل عين ثالثاً ،وكان عليه السالم يكتحل في كل ليلة كذلك،
واستعمال الطيب واإلكثار منه فإنه يستر الروائح الكريهة
الثائرة من اإلنسان وغيره ،ويتأكد عند حضور الجمعة
وسائر جموع اإلسالم ،وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم يحبه ويكثر منه ،وربما رئي بريق الطيب على مفرق
رأسه وذلك ليستن به وإال فقد كان عليه السالم له طيب في
جسده يستغني به عن الطيب حتى إنهم كانوا يجمعون عرقه
فيتطيبون به ويستحب أن يتطيب الرجل بما يظهر ريحه
ويخفى لونه والمرأة بضد ذلك.
(وعليك) باالحتراز عن النجاسات كلها ،فإن أصابك
شيء منها مع الرطوبة فبادر بغسله ،وإذا أصابتك جنابة
فبادر باالغتسال في الحال فإن الجنب مطرود عن حضرة
هللا ولذلك حرم عليه اللبث في المسجد وتالوة القرآن.
وقد ورد أن المالئكة ال تدخل البيت الذي فيه جنب وإذا
ذهبت المالئكة جاءت الشياطين من كل ناحية.
واحذر أن تأكل أو تنام وأنت جنب فتتعرض بذلك آلفات
عجز عن عديدة فإن عجزت عن االغتسال في الحال فال ت َ ِّ
غسل الفرج والوضوء.
(وعليك) بتجديد الوضوء لكل فريضة واجتهد أن ال تزال
على طهارة ،وجدد الوضوء كلما أحدثت؛ فإن الوضوء
سالح المؤمن ومتى كان السالح حاضرا ً لم يتجاسر العدو
على الدنو منك ،وقد جار رجل إلى الشيخ أبي الحسن
الشاذلي رضي هللا عنه يسأله أن يعلمه الكيمياء فأمره الشيخ
أن يقيم عنده سنة وشرط عليه أن يتوضأ كلما أحدث ويصلي
ركعتين ووعده التعليم بعد ذلك ،فلما كملت السنة ذهب ذلك
الرجل إلى بئر يستقي منها ماء فطلع الدلو مملوءا ً ذهبا ً أو
فضة فصبه في البئر؛ زهدا ً فيه وجاء إلى الشيخ فأخبره فقال
له الشيخ :قد صرت اآلن كلك كيمياء ونصبه داعيا ً إلى هللا
تعالى.
(وعليك) بصالة ركعتين كلما توضأت .فإن لم تقدر أن
تداوم على الطهارة فاجتهد أن ال تدعها عند الجلوس في
المسجد وقراءة القرآن والعلم والقعود للذكر ونحو ذلك من
العبادات.
وإذا توضأت أو اغتسلت فاحذر أن تقتصر على الفرض
من ذلك بل ينبغي أن تحافظ على السنن واآلداب على نحو
ما بلغك من غسله ووضوئه عليه الصالة والسالم.
(وينبغي) أن تغتسل في بعض األوقات بنية النظافة وإن
لم تصبك جنابة وقد ورد الحث في السنة على االغتسال يوم
الجمعة لحاضريها فعليك به وهو كاف في التنظيف لكن في
بعض األوقات وفي حق بعض األشخاص.
وإذا فرغت من الوضوء وكذا الغسل فقل :أشهد أن ال إله
إال هللا وحده ال شريك له وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله.
فصــل
(وعليك) بالمحافظة على آداب السنة ظاهرا ً وباطنا ً
وعادة وعبادة تكمل لك المتابعة ويتم لك االقتداء برسول هللا
صلى هللا عليه وسلم رسول الرحمة ونبي الهدى.
وإن سرك أن تكون من الصديقين فال تدخل في شيء من
العادات –فضالً عن العبادات -حتى تبحث وتنظر هل دخل
فيه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أو أحد من الصحابة
األئمة ،فإن لم تجدهم دخلوا فيه مع القدرة على ذلك فأمسك
عنه ،وإن شملته اإلباحة ،فإنهم ما أمسكوا عنه إال لخير
علموه في تركه ،وإن رأيتهم دخلوا فيه فاعرف أوالً كيفية
دخولهم فيه واقتد بهم في ذلك ،وقد أمسك بعض العلماء عن
أكل البطيخ وقال قد بلغني أنه عليه الصالة والسالم أكله
ولكن لم يبلغني كيفية تناوله له فلذلك أتركه.
وقد تقدم فيما قبل هذا الفصل ويأتي فيما بعده إن شاء هللا
تعالى نبذة من اآلداب التي تتأكد المحافظة عليها في
العبادات.
ونذكر اآلن في هذا الفصل نبذة من اآلداب التي ينبغي
المحافظة عليها في العادات فنقول:
اعلم أن من حافظ في عاداته على اآلداب النبوية حفظه
هللا من التعدي إلى ما وراءها من األعمال واألخالق الردية
وحصل على المصالح والمنافع الدينية والدنيوية التي جعلها
سره أن تكمل له
هللا بحكمته في تلك األمور العادية ،ومن َّ
الحرية والطهارة من أدناس الحظوظ البشرية فليجعل
حركاته وسكناته في ظاهره وباطنه مضبوطة بالقانون
الشرعي ،تابعة إلشارة الشرع والعقل ،وكيفما وقع ذم
العادات على لسان الصوفية فالمقصود به الدخول فيها على
مقتضى الشهوة والهوى واالسترسال معها دون محافظة
على اآلداب الشرعية.
وقد قال حجة اإلسالم في "األربعين األصل" بعد أن حث
على متابعة الرسول ونبه على شيء من أسرارها :هذا كله
في العادات وأما في العبادات فال أعرف لتارك السنة وجها ً
إال كفرا ً خفيا ً أو حمقا ً جليا ً فاعرف ذلك.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تصدر جميع أمورك باسم هللا
فإن نسيت أن تسمي في أول األمر فقل -إذا تذكرت :-باسم
هللا في أوله وآخره ،واجتهد أن ال تدخل في شيء من العادات
إال بنية صالحة؛ فإذا لبست ثوبك فانو به ستر عورتك التي
وأخرها فيأمرك هللا بسترها وابدأ باليمين في نحو القميص ِّ
النزع ،وارفع إزارك وقميصك إلى نصف الساق ،فإن أبيت
فال تجاوزن الكعب ،وللمرأة إرسال ثوبها على األرض من
كل ناحية قريبا ً من ثلثي ذراع ،واجعل كم قميصك إلى
الرسغ أو إلى أطراف األصابع وإن زدت فال تسرف ،وقد
كان كم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى الرسغ ،وقطع
علي قميص له إلى أطراف األصابع ،وال تتخذ من المالبس
إال ما تحتاج إلى لبسه ،وال تتحر أنفس الملبوس وال أخشنه
وتوسط في ذلك وال تكشف عورتك وال شيئا ً منها لغير
حاجة ،ومتى دعت الحاجة إلى كشف شيء منها فقل عنده:
بسم هللا الذي ال إله إال هو .وقل إذا لبست ثوبك" :الحمد هلل
الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني وال قوة".
ومن السنة لبس العمامة وليس من السنة توسيع األكمام
وكبر العمائم.
(وعليك) أن ال تنطق إال بخير ،وكل كالم ال يحل النطق
به يحرم عليك االستماع إليه ،وإذا تكلمت فرتل كالمك
ورتبه ،واصغ إلى حديث من حدثك وال تقطعن على أحد
كالمه إال إن كان من الكالم الذي يسخط هللا كالغيبة ،واحذر
المداخلة في الكالم ،وال تظهر لمن حدثك حديثا ً تعرفه أنك
تعرفه؛ فإن ذلك مما يوحش الجليس ،وإذا حدثك إنسان بكالم
أو حكى لك حكاية على غير الوجه المنقول فال تقل له ليس
كما تقول ولكنه كذا وكذا ،فإن تعلق ذلك بأمر الدين فعرفه
الصواب برفق.
وإكثار الحلف باهلل ،وال
َ والخوض فيما ال يعنيك
َ (وإياك)
تحلف به تعالى إال صادقا ً عند الحاجة ،واحذر الكذب بجميع
أنواعه فإنه مناقض لإليمان.
واإلكثار من المزاح ،واجتنب
َ (وإياك) والغيبةَ والنميمة
سائر الكالم القبيح ،وأمسك عن رديء الكالم كما تمسك عن
مذمومه ،وتفكر فيما تقول قبل أن تقول فإن كان خيرا ً فقل
وإال فاصمت.
وقال عليه الصالة والسالم" :كل كالم ابن آدم عليه ال له
إال ذكر هللا أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر"
وقال عليه الصالة والسالم" :رحم هللا امرءا ً قال خيرا ً
فغنم أو سكت عن شر فسلم".
وقال عليه الصالة والسالم" :إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما
يلقي لها باالً يهوي بها أبعد من الثريا".
(وعليك) أن ال تنقل قدميك إال إلى خير أو في حاجة ،وإذا
مشيت فال تستعجل ،وال تختال في مشيتك وال تتبختر فتسقط
بذلك من عين هللا ،وال تكره أن يمشى أمامك وال تحب أن
يوطأ عقبك ويمشى خلفك فإن ذلك من أخالق المتكبرين ،وال
تكثر االلتفات وأنت تمشي وال تقف في طريقك لمجرد
الفضول ،وكان عليه الصالة والسالم إذا مشى يتقلع كأنما
ينحط من صبب وإذا نودي من ورائه وقف ولم يلتفت.
(وعليك) إذا جلست بالتحفظ على عورتك واجلس
مستقبالً القبلة على هيئة الخشوع والوقار وال تكثر
االضطراب والتحرك والقيام من مجلسك.
(وإياك) واإلكثار من الحك والتمطط والتجشؤ والتثاؤب
في وجوه الناس وإذا أخذك التثاؤب فضع يدك اليسرى على
فيك.
(وإياك) وكثرة الضحك فإنه يميت القلب وإن استطعت
أن تجعل ضحكك التبسم فافعل ،وال تقم من مجلسك حتى
تقول" :سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن ال إله إال أنت
أستغفرك وأتوب إليك" فقد ورد أن من قال ذلك غفر له ما
كان في مجلسه ذلك.
وإذا أردت النوم فاضطجع على جنبك األيمن مستقبالً
للقبلة تائبا ً من جميع الذنوب عازما ً على قيام الليل قائالً:
باسمك اللهم ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه فاغفر لي
ذنبي ،اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك "ثالثاً" أستغفر هللا
العظيم الذي ال إله إال هو الحي القيوم وأتوب إليه "ثالثاً"
وقل :سبحان هللا "ثالثا ً وثالثين" مرة والحمد هلل كذلك وهللا
أكبر "أربعا ً وثالثين".
وللنوم أذكار غير هذه فال تغفل عنها.
وال تنم إال على طهارة ،وليأخذك النوم وأنت على ذكر
هللا تعالى ،وال تتعود النوم على الفرش الوطيئة فيدعوك ذلك
إلى كثرة النوم وترك القيام بالليل ،فيعظم حزنك وتحسرك
إذا رأيت ما أعد هللا للقائمين .وقد قال عليه الصالة والسالم:
"يحشر الناس في صعيد واحد فينادي مناد أين الذين كانت
تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون
الجنة بغير حساب".
وقال عليه الصالة والسالم" :قالت أم سليمان بن داوود
عليه السالم يا بني ال تكثر النوم بالليل ،فإن من يكثر النوم
بالليل يأتي فقيرا ً يوم القيامة".
وقال اإلمام الغزالي رحمه هللا اعلم أن الليل والنهار أربع
وعشرون ساعة فال يكون نومك فيها أكثر من ثمان ساعات
فيكفيك إن عشت ستين سنة أن تضيع منها عشرين سنة وهي
الثلث.
ومتى تعذر عليك في بعض المواضع الجمع بين التيامن
واالستقبال فنم على يمينك واجتهد أن ال تستدبر القبلة ،وإذا
قصدت باضطجاعك االستراحة دون النوم فال بأس أن
تضطجع على األيسر.
وفي النوم وقت القيلولة معونة على قيام الليل فعليك به.
واحذر أن تنام بعد صالة الصبح فإنه يمنع الرزق ،أو بعد
صالة العصر فإنه يورث الجنون ،أو قبل صالة العشاء فإنه
يورث األرق.
يسرك من الرؤيا فاحمد هللا وأوله
وإذا رأيت في منامك ما ُّ
بخير مناسب يكون كذلك ،وإذا رأيت ما يسوءك فتعوذ باهلل
من الشر واتفل عن يسارك ثالثا ً وتحول إلى جنبك اآلخر
وال تحدث بها أحدا ً فإنها ال تضرك ،وإذا قص عليك أحد
الرؤيا فال تؤولها حتى يسأل منك ذلك أو تستأذنه فيه.
وإذا أكلت أو شربت فابدأ باسم هللا واختم بالحمد هلل ،وكل
واشرب بيمينك ،وإذا قدم إليك طعام فقل :اللهم بارك لنا فيما
رزقتنا وأطعمنا خيرا ً منه إال أن يكون لبنا ً فقل :وزدنا منه
فإنه ال شيء خير منه كما ورد.
(وعليك) بغسل اليدين قبل الطعام وبعده ،وبتصغير
اللقمة ،وتدقيق المضغ ،وال تمدد يدك إلى الطعام حتى تبتلع
وكل من نواحي القصعة وال تأكل من وسطها ْ ما في فمك،
فإن البركة تنزل عليه ،وإذا سقطت لقمتك فأمط ما بها من
أذى ثم كلها وال تدعها للشيطان ،والعَق أصابعك والقصعة
بعد الفراغ ،وكل بالسبابة والوسطى واإلبهام ،وإن احتجت
إلى االستعانة بالبقية في نحو األرز فال بأس.
وإذا أكلت مع غيرك فكل مما يليك إال الفاكهة ،وال تكثر
النظر إلى الحاضرين في حال أكلهم ،وتحدث معهم بما
يناسب الحال ،وال تتكلم والطعام في فمك ،وإن غلبك بصاق
أو مخاط فالو برأسك عنهم أو قم إلى موضع آخر.
وإذا أكلت عند قوم فاثن عليهم وادع لهم بخير وقل بعد
الفراغ من األكل :الحمد هلل .اللهم كما أطعمتني طيبا ً
فاستعملني صالحاً ،الحمد هلل الذي أطعمني هذا الطعام
ورزقنيه من غير حول مني وال قوة .فمن قال ذلك غفر له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وال تتكلف اإلدام لكل طعام ،وال تعب طعاما ً قط وإن كان
رديئاَ.
وال تجعل همتك أكل الطيبات وتناول الشهوات فتكون من
الذين قال فيهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :شرار أمتي
الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسادهم وإنما همتهم ألوان
الطعام وألوان الثياب ويتشدقون في الكالم".
وقال علي ،كرم هللا وجهه :من كانت همته ما يدخل بطنه
كانت قيمته ما يخرج منها.
واجتهد أن ال تدخل بطنك إلى حالالً؛ فإن من أكل الحالل
أربعين يوما ً استنار قلبه ،وجرت ينابيع الحكمة على لسانه،
وأكرمه هللا بالزهد في الدنيا ،وصفت سريرته ،وحسنت
معاملته مع ربه ،ومن أكل الحرام والشبهات كان على الضد
من ذلك كله.
(وإياك) واالتساع في األكل وكثرة الشبع فإنه من الحالل
مبدأ كل شر .ومن آفاته قسوة القلب وفساد الفطنة وتشويش
الفكرة والكسل عن العبادة إلى غير ذلك من اآلفات.
وسبيل االقتصاد في األكل أن تمسك عن الطعام وأنت
تشتهيه وال تتناوله حتى تشتهيه بشهوة صادقة.
وعالمة صدق الشهوة أن تشتهي كل طعام.
وإذا شربت الماء فمصه وال تعبه ،واشرب في ثالثة
أنفاس ،وال تتنفس في اإلناء وال تشرب من ثلمته ،1وال
تشرب وأنت قائم وال من فم السقاء فإن لم تجد إناء فاشرب
على يدك وقل بعد الشرب :الحمد هلل الذي جعله عذبا ً فراتا ً
برحمته ولم يجعله ملحا ً أجاجا ً بذنوبنا.
وإذا أتيت أهلك فقل :بسم هللا ،اللهم جنبنا الشيطان وجنب
الشيطان ما رزقتنا ،واستر نفسك وأهلك بثوبك.
(وعليك) بالسكينة والهدوء وإذا أحسست باإلنزال فاقرأ
في نفسك من غير أن تحرك لسانك قوله تعالى( :وهو الذي
خلق من الماء بشرا ً فجعله نسباً) اآلية.
1الثلمة بضم أوله فرجة المكسور
واألفضل للناسك من التزوج وتركه ما كان منهما أسلم
لدينه وأصلح لقلبه وأجمع لفكره ،ويكره كراهة شديدة لمن
ال زوجة له أن يتفكر في شأن النساء التفكير الذي يحمل
النفس على الميل إليهن ،ومن بلي بذلك ولم يقدر على قمعه
بوظائف العبادات فعليه بالتزوج فإن لم يستطيع فعليه
بالصوم فإنه يكسر الشهوة.
وإذا قصدت بيت الخالء لبول أو غائط فالبس نعليك
واستر رأسك وقدم رجلك اليسرى في الدخول واليمنى في
الخروج وقل عند إرادة الدخول "بسم هللا اللهم إني أعوذ بك
من الخبث والخبائث" وعند الخروج "غفرانك الحمد هلل الذي
أذهب عني األذى وعافاني" .وال تذكر هللا على تلك الحالة
إال بقلبك.
وال تستصحب شيئا ً مكتوبا ً عليه اسمه تعالى؛ إجالالً له،
وال تعبث وال تتكلم إال لضرورة وال ترفع من ثوبك إال القدر
الذي يخشى عليه التنجس ،واستتر بحيث ال يراك شخص،
وابعد بحيث ال يسمع منك صوت وال يشم منك ريح ،وال
تستقبل القبلة وال تستدبرها ببول وال بغائط ،وقد يتعذر فعل
ذلك في بعض األبنية فيغتفر للمشقة ،وال تبل في الماء الراكد
وإن كان كثيراً ،إال عند الحاجة وال على األرض الصلبة وال
في مهاب الريح كل ذلك احترازا ً من البول الذي عامة عذاب
القبر منه فعليك باالستبراء منه جهدك من غير خروج إلى
حد الوسوسة ،ويحصل بالتنحنح ونتر الذكر وإمرار اليد
على أسفله برفق ،واستنج بالحجر ثم بالماء فإن اقتصرت
على أحدهما فالماء أفضل وقدم القبل في الماء وأخره في
الحجر وقل بعد االستنجاء "اللهم حصن فرجي من الفواحش
وطهر قلبي من النفاق".
(وعليك) بالتيامن في كل شأنك إال في غسل النجاسات
وإزالة األقذار والدخول في المواضع التي من شأنها
االستقذار فينبغي أن يفعل ذلك كله باليسار.
وإذا عطست فاخفض بها صوتك واستر فمك وقل :الحمد
هلل رب العالمين وال تبصق إال عن شمالك أو تحت قدمك
اليسرى.
(وعليك) بشد أفواه األسقية ،وتخمير 1األواني ،وإغالق
باب المنزل ال سيما عند النوم وعند الخروج منه ،وال تنم
حتى تطفئ كل نار في البيت من سراج وغيره أو تواريها،
وإذا أصبح اإلناء مكشوفا ً أو السقاء مفتوحا ً فال تشرب الماء
الذي فيه وال تستعمله إال فيما يستعمل فيه الماء المتنجس،
وهو طاهر ولكن في استعماله خطر ،وقد ذكر الشيخ ابن
عربي في الفتوحات أن في السنة ليلة مبهمة تنزل فيها
1التخمير :التغطية.
األدواء فال تصادف إناء مكشوفا ً وال سقفا ً محلوالً إال دخلته،
ولذلك أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بشد األسقية
وتخمير اآلنية ،2وإذا لم تجد ما تغطي به اإلناء فاجعل عليه
عودا ً واذكر اسم هللا عليه وتوكل على هللا إن هللا يحب
المتوكلين.
2اآلنية :جمع إناء.
فصــل
(وعليك) بطول المكث وكثرة الجلوس في المسجد بنية
االعتكاف؛ فإن المساجد بيوت هللا وأحب البقاع إليه ،وقد قال
عليه الصالة والسالم" :المسجد بيت كل تقي" وقال عليه
الصالة والسالم" :إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له
باإليمان" وقال هللا تعالى( :إنما يعمر مساجد هللا من آمن باهلل
واليوم اآلخر) وعده عليه السالم في السبعة الذين يظلهم هللا
بظل عرشه يوم ال ظل إال ظله فقال" :ورجل قلبه معلق
بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه" ولكن عليك حال
الجلوس فيه باألدب واالحترام واإلمساك عن فضول الكالم
فضالً عن المحظور منه والحرام ،فإن بدا لك التحدث بشيء
من أمور الدنيا فابرز إلى خارج المسجد ،وال تشتغل في
المسجد إال بالعبادة فقط؛ ألنه لم يبن إال ليعبد هللا فيه .قال هللا
تعالى( :في بيوت أذن هللا أن ترفع ويذكر فيها اسمه) إلى
قوله (وهللا يرزق من يشاء بغير حساب).
وإذا دخلت المسجد فقدم رجلك اليمنى وقل" :بسم هللا
والصالة على رسول هللا اللهم اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب
رحمتك" وال تجلس حتى تصلي ركعتين فإن لم تتمكن من
الصالة فقل أربع مرات "سبحان هللا والحمد هلل وال إله إال
هللا وهللا أكبر" وإذا خرجت منه فقدم رجلك اليسرى وقل ما
تقدم واجعل بدل "أبواب رحمتك" "أبواب فضلك" وزد
"أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم وجنوده".
وإذا سمعت المؤذن فقل مثل ما يقول إال في الحيعلتين
فقل" :ال حول وال قوة إال باهلل" وفي التثويب1صدقت
وبررت ،فإذا فرغت من جوابه فصل على النبي صلى هللا
عليه وسلم ثم قل" :اللهم رب هذه الدعوة التامة والصالة
القائمة آت سيدنا محمدا ً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما ً
محمودا ً الذي وعدته".
وأكثر من الدعاء بين األذان واإلقامة؛ لقوله عليه الصالة
والسالم" :الدعاء بين األذانين ال يرد" ،ومن الدعاء الوارد
في هذا الوقت "اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا
واآلخرة" وقد ورد الحث في السنة على هذا الدعاء في غير
هذا الوقت فعليك به فإنه من أجمع األدعية وأفضلها.
1التثويب :هنا هو قول المؤذن في أذان الصبح خاصة :الصالة خير من النوم.
فصــل
(وعليك) بالمبادرة بالصالة أول الوقت بحيث ال يؤذن
المؤذن لكل مكتوبة إال وقد توضأت وحضرت في المسجد،
فإن لم تفعل ذلك فال أقل من أن تأخذ في االستعداد للصالة
من حين تسمع األذان .وقد قال عليه الصالة والسالم" :فضل
أول الوقت على آخره كفضل اآلخرة على الدنيا" وقال عليه
الصالة والسالم" :أول الوقت رضوان هللا وآخره عفو هللا".
(وعليك) بالمحافظة على السنن الراتبة التي أرشدك
الشرع إلى فعلها قبل المكتوبات وبعدها ،واحذر أن تتساهل
بترك شيء منها وما فاتك منها بعذر فبادر بقضائه.
(وعليك) بالخشوع في صالتك ،وحضور القلب،
وتحسين القيام ،وترتيل القراءة وتدبرها ،وإتمام الركوع
والسجود وسائر األركان ،والمحافظة على السنن واآلداب
التي ندبك الشرع إلى العمل بها في الصالة ،واالحتراز عما
يوجب نقصا ً في الصالة أو يفوت به وجود الكمال؛ فإنك إن
فعلت ذلك خرجت صالتك بيضاء مسفرة تقول :حفظك هللا
كما حفظتني ،وإال خرجت سوداء مظلمة تقول :ضيعك هللا
كما ضيعتني .وقد قال عليه الصالة والسالم " :ليس للمرء
من صالته إال ما عقل منها".
وقال الحسن البصري رحمه هللا :كل صالة ال يحضر
فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع.
والشيطان لعنه هللا حريص على أن يشغل المؤمن عن
صالته ،حتى إنه يفتح عليه عند قيامه إلى الصالة أبوابا ً من
الحوائج ويذكره أشياء من األمور التي تهمه في دنياه لم تكن
له قبل الصالة على بال ،وقصد اللعين بذلك أن يشغله في
صالته عن اإلقبال على هللا والحضور معه فيها ،وإذا لم
يحصل له ذلك فاته اإلقبال على هللا ،وربما خرج من صالته
مأزوراً ،ولذلك استحب العلماء رحمهم هللا للمصلي أن يقرأ
عند إرادة الدخول في الصالة قل أعوذ برب الناس 1تحصنا ً
من الشيطان الرجيم.
(وينبغي) أن ال تداوم في صالتك على قراءة سورة
مخصوصة بعد الفاتحة ،إال إن ورد الشرع به ،وذلك كقراءة
(الم السجدة ،وهل أتى على اإلنسان) في صبح يوم الجمعة.
واحذر أن تداوم في صالتك على قراءة السور القصيرة
كالكافرون واإلخالص والمعوذتين.
وإن كنت إماماً ،فالمصير إلى التخفيف المندوب إليه
اإلمام إلى حديث معاذ رضي هللا عنه وهو أنه أ َّم قوما ً فأطال
1أي سورة الناس كلها.
عليهم جدا ً فشكاه رجل منهم إلى رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،فقال له عليه الصالة والسالم" :أفتان أنت يا معاذ اقرأ
بسبح األعلى ،والشمس وضحاها ،والليل إذا يغشى" .ومن
نظر في كتب األثر عرف ما قلناه ،وقد روي أن آخر صالة
صالها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بالناس صالة المغرب
قرأ فيها بالمرسالت عرفاً .وهللا يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
فصــل
(وعليك) إذا صليت خلف إمام أن تحسن المتابعة له؛ فإنما
جعل اإلمام ليؤتم به ،واحذر أن تقارنه في شيء من أفعال
الصالة ،فضالً عن أن تتقدم عليه .والذي ينبغي ،أن تجعل
أفعالك في صالتك تابعة ألفعاله باألثر .وقد قال عليه الصالة
والسالم" :الذي يخفض ويرفع قبل اإلمام إنما ناصيته بيد
الشيطان".
(وعليك) بالمبادرة إلى الصف األول والمزاحمة عليه من
غير إيذاء ألحد .واحذر أن تتأخر عنه مع إمكان التقدم إليه،
فقد قال عليه الصالة والسالم" :ال يزال قوم يتأخرون" أي
عن الصف األول "حتى يؤخرهم هللا" أي عن فضله
ورحمته .وقال عليه الصالة والسالم" :إن هللا ومالئكته
يصلون على الصف المقدم" وكان صلوات هللا عليه وسالمه
يستغفر ألهل الصف األول ثالثا ً وللثاني مرة.
برص الصفوف وتسويتها .فإن كنت إماما ً كان ِّ (وعليك)
األمر منك بذلك آكد ،وهذا أمر مه ٌّم في الشرع وأكثر الناس
غافلون عنه ،وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
يحرض على ذلك ويتولى فعله بنفسه ويقول" :لتسون
بسد الفُ َرج َّ
ليخالفن هللا بين قلوبكم" وكان يأمر ِّ صفوفكم أو
ويقول" :والذي نفسي بيده إني ال أرى الشيطان يدخل في
خلل الصف كأنه الخذَف" يعني الغنم الصغار.
(وعليك) بالمحافظة على فعل الصلوات الخمس مع
الجماعة والمداومة على ذلك؛ فإن صالة الجماعة تفضل
على صالة المنفرد بسبع وعشرين درجة كما في الحديث
الصحيح ،واحذر أن تدع الصالة في الجماعة لغير عذر أو
لعذر فاسد .ومهما جئت إلى موضع الجماعة فوجدتها قد
صليت ،أو قعدت في بيتك تبتغي بذلك السالمة في دينك
فينبغي أن تضم إليك من يصلي معك؛ ليحصل لك ثواب
الجماعة وتسلم من الوعيد والتهديد الوارد في حق تاركيها،
مثل قوله عليه الصالة والسالم" :لينتهين أقوام عن ترك
الجماعة أو ألحرقن عليهم بيوتهم" وقوله عليه السالم" :من
سمع النداء فارغا ً صحيحا ً فلم يجب فال صالة له" ،وقول ابن
مسعود رضي هللا عنه :لقد رأيتنا وما يتخلف عنها يعني
صالة الجماعة إال منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى
به على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يهادى بين
الرجلين حتى يقام في الصف -يعني من ال ِّكبَر.
وإذا كان هذا التشديد كله في ترك الجماعة فما ظنك به
في ترك الجمعة التي هي فرض عين وقد قال رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم" :من ترك ثالث جمع تهاونا ً طبع هللا
على قلبه" فإذا وقع لك عذر في ترك جمعة أو جماعة فقدر
أن في الموضع الذي تقام فيه رجالً يفرق دنانير على
الحاضرين فإن نشطت للحضور ورغبت فيه فعذرك غير
صحيح واستحي من هللا أن يكون غرض الدنيا أعز عليك
مما عنده.
(واعلم) أن العذر الصادق غايته إسقاط الحرج ،وأما
الثواب فال يحصل إال بالفعل "نعم" قد يحصل الثواب لمن
تعذر عليه الحضور من كل وجه ،كالذي يكون عذره
اإلسهال المتواتر ،أو الحبس عدوانا ً ونحو ذلك ،أو ال يتعذر
عليه الحضور ولكن يلحق بسببه لمسلم غيره مشقة شديدة،
كالذي يكون عذره تمريض الضائع ونحوه ،فصاحب هذا
العذر والذي قبله إن قارن عذرهم الحزن والتحسر على ترك
الحضور حصل لهم الثواب.
ثم إن المؤمن الكامل ال يدع شيئا ً مما يقربه إلى هللا وإن كان
له في تركه ألف عذر حتى يعلم أن تركه أحب إلى هللا من
فعله ،وهذا أقل ما يتفق ،ولذلك تحمل الكمل من أهل هللا في
فعل ما يقربهم إلى هللا أمورا ً تعجز عن حملها الجبال
الرواسي .وأما من ضعف إيمانه وقل يقينه وقصرت معرفته
باهلل فال يعول في ترك ما افترضه هللا عليه إال على سقوط
الحرج (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم ال
يظلمون).
(وعليك) بحمل كل من لك عليه والية من ولد وزوجة
ومملوك على فعل الصلوات المكتوبة .فإن امتنع أحد من
هؤالء من فعلها فعليك بوعظه وتخويفه ،فإن تمرد أو أصر
على الترك فعليك بضربه وتعنيفه ،فإن إمتنع ولم ينزجر عن
الترك فعليك بمقاطعته ومدابرته فإن تارك الصالة شيطان
بعيد عن رحمة هللا ،متعرض لغضبه ولعنته ،تحرم موالته
وتجب معاداته على كل مسلم ،وكيف ال وقد قال رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم" :العهد الذي بيننا وبينهم الصالة فمن
تركها فقد أشرك" وقد قال صلى هللا عليه وسلم" :ال دين لمن
ال صالة له وإنما مثل الصالة من الدين كمثل الرأس من
الجسد".
(وعليك) بالتفرغ يوم الجمعة من جميع أشغال الدنيا،
واجعل هذا اليوم الشريف خالصا ً آلخرتك ،فال تشتغل فيه
إال بمحض خير ومجرد اإلقبال على هللا ،وأحسن المراقبة
لساعة اإلجابة وهي ساعة تكون في كل يوم جمعة ال يوافقها
مسلم يسأل هللا فيها خيرا ً ويستعيذه من شر إال استجاب هللا
له.
(وعليك) بالبكور إلى الجمعة ولو أن تروح إليها قبل
الزوال ،وبالقرب من المنبر ،واإلنصات للخطبة ،واحذر أن
تشتغل عنه بذكر أو فكر ،فضالً عن اللغو وحديث النفس،
واستشعر في نفسك أنك مقصود بجميع ما تسمعه من الوعظ
والوصية واقرأ بعد السالم وأنت ثان رجليك وقبل أن تتكلم
الفاتحة واإلخالص والمعوذتين "سبعا ً سبعاً" وقل أيضا ً بعد
االنصراف من الصالة سبحان هللا العظيم وبحمده "مائة
مرة" ففي الخبر ما يدل على فضل ذلك وباهلل التوفيق.
فصــل
(وعليك) إن كان لك مال تجب فيه الزكاة بإخراج زكاته
طيبة بها نفسك قاصدا ً بها وجه هللا ،مبادرا ً بتمييزها وتفريقها
عند حضور وقتها من غير تأخير ،فإن فعلت ذلك درت عليك
البركات وتضاعفت عليك أنواع الخيرات وصار مالك في
حرز حصين من جميع اآلفات.
(وعليك) بتمييز الزكاة ثم بتفريقها واجتنب ما يفعله بعض
أبناء الدنيا ،وذلك أن أحدهم ال يميز الزكاة عن ماله ولكن
يصير كلما صادف مستحقا ً أعطاه قسطا ً و َح َ
سبًهُ حتى
يستوفي القدر الواجب ،وال تأكل من ثمرك وزرعك الذي
يجيء نصابا ً عند الحصاد بعد بدو صالحه حتى تعلم القدر
الواجب منه جافاً.
وإن أردت أن تأكل من شجرة معينة فال يجب عليك أن
تعرف إال القدر الواجب فيها فقط.
(واعلم) أن من يحتال في إسقاط الزكاة بهبة ونحوها أو
يعطيها غير المستحقين مع العلم ،أو يفرقها على مقتضى
الهوى كالذي يخص بإعطائها من يعود عليه منه نفع عاجل
ال يخرج من الدنيا حتى يعذبه هللا بماله (ولعذاب اآلخرة أكبر
لو كانوا يعلمون).
وإذا كان هذا حال من يخرجها على غير الوجه
المشروع ،فكيف يكون حال من ال يخرج الزكاة رأسا ً (أولئك
الذين اشتروا الضاللة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا
مهتدين).
وقد تقرر أن مانع الزكاة قرين تارك الصالة في الشر وقد
قاتل أبو بكر الصديق –رضي هللا عنه -مانعي الزكاة
وسماهم أهل الردة.
(وعليك) بإخراج زكاة الفطر عنك وعن كل من تلزمك
نفقته وذلك إن استطعت.
(وعليك) باإلكثار من الصدقة وبالتصدق على األرحام
المحتاجين وأهل الخير المقلين خصوصا ً فإن الصدقة تزكو
ويزيد ثوابها بوضعها في مثل هذه المواضع.
(وعليك) بالتصدق بما تحب وبما يعز عليك؛ لتنال البر.
قال هللا تعالى( :لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)،
وباإليثار على نفسك عند الحاجة؛ لتصير من المفلحين،
باإلسرار بالصدقة؛ فإن صدقة السر تطفئ غضب الرب.
وتتضاعف على صدقة العالنية بسبعين ضعفا ً وتسلم من
طرق الرياء المفسد لألعمال ،وال تدع أن تتصدق كل يوم
بشيء وإن قل وباكر به؛ فإن البالء ال يتخطى الصدقة.
وال تخيب سائالً وقف ببابك ولو أن تعطيه تمرة فما دونها
فإنه هدية هللا إليك فإن لم تجد ما تعطيه فأحسن رده بلين من
القول وجميل من الوعد ،وإذا أعطيت مسكينا ً شيئا ً فأظهر له
البشر والبشاشة واستشعر في نفسك أن له المنة عليك لقبوله
منك عرضا ً يسيرا ً حصل لك بسببه من الثواب حظ لو بذلت
الدنيا بحذافيرها في مقابله لكنت رابحاً ،وقد ورد أن اللقمة
الواحدة يصير ثوابها عند هللا أعظم من جبل أحد ،وال يمنعك
من التصدق مخافة الفقر فإن ترك التصدق هو الذي يجلب
الفقر ،وأما التصدق فهو يجلب الغنى والسعة ،حتى إن الذي
يرغب في الدنيا لو أخذ يتصدق لعاد المدبر منها مقبالً إليه
وأمثاله معه.
(واعلم) أن للصدقة منافع عاجلة وآجلة ،فمن منافعها
العاجلة أنها تزيد في الرزق والعمر ،وتدفع ميتة السوء،
وتجلب الصحة للجسم والبركة للمال ،ومن منافعها اآلجلة
أنها تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ،وتكون ظالً على
رأس صاحبها يوم القيامة ،وسترا ً له من العذاب إلى غير
ذلك من المنافع وما يذكر إال من ينيب.
فصــل
(وعليك) باإلكثار من أعمال البر وخصوصا ً في شهر
رمضان؛ فإن ثواب النافلة فيه يعدل ثواب الفريضة في
غيره ،وأيضا ً فإنه يحصل في رمضان من التيسير والنشاط
في أعمال البر ما ال يحصل مثله وال قريب منه في غيره من
الشهور؛ وذلك ألن النفس المتكاسلة عن البر مسجونة
بالجوع والعطش ،والشياطين المثبطة عن الخير مصفدة،
وأبواب النار مغلقة ،وأبواب الجنة مفتحة ،والمنادي ينادي
كل ليلة بأمر هللا :يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر.
(وينبغي) أن ال تعرج في هذا الشهر الشريف على غير
عمل اآلخرة ،وال تدخل في شيء من أعمال الدنيا إال إذا كان
ضرورياً ،واجعل شغلك بأمر المعاش في غير رمضان
وسيلة إلى الفراغ للعبادة فيه ،و ُخص العشر األواخر منه
بمزيد إقبال على هللا ولزوم للعبادة ،وإن أمكنك أن ال تخرج
من المسجد في هذه العشر إال إلى ما ال بد منه فافعل.
(وعليك) بصالة التراويح في كل ليلة من رمضان وقد
جرت العادة في بعض البالد بتخفيفها جدا ً حتى ربما وقع
بسبب ذلك في ترك بعض األركان فضالً عن السنن،
والمعروف من فعل السلف توزيع القرآن من أوله إلى آخره
على هذه الصالة كل ليلة يقرؤون منه فيها شيئا ً حتى يختموه
في بعض الليالي من آخر الشهر فإن أمكنك أن تقتدي بهم في
ذلك فالغنيمة الغنيمة ،وإال فال أقل من إتمام أركان الصالة
والمحافظة على آدابها.
وأحسن المراقبةَ لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر
وهي الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ومن
كوشف بها رأى األنوار الساطعة ،وأبواب السماء مفتحة
والمالئكة تصعد وتنزل وربما رأى الموجودات كلها ساجدة
هلل تعالى الذي خلقها ،وجمهور العلماء على أنها في العشر
األواخر من رمضان ،وفي األوتار منها أرجى ،وقد كوشف
بها بعض العارفين ليلة السابع عشر وإليه ذهب الحسن
البصري ،وقال بعض العلماء :إنها أول ليلة من رمضان
وذهب جماعة من األكابر إلى أنها ليست ليلة مخصوصة
ولكنها تنتقل في ليالي رمضان ،قالوا والسر في ذلك أن
يصير المؤمن في كل ليلة من هذا الشهر في غاية اإلقبال
على هللا تعالى وعلى طاعته رجاء أن يصادف هذه الليلة
التي قد أبهمت عليه وهللا أعلم.
(وعليك) بتعجيل الفطور عند تيقن الغروب وتأخير
السحور ما لم تخش الوقوع في الشك ،وبتفطير الصائمين
ولو على تمرات أو شربة من الماء؛ فإن من فطر صائما ً
كان له مثل أجره ال ينقص ذلك من أجره شيئاً ،واجتهد أن
ال تفطر وال تفطر صائما ً إال على طعام حالل.
(وعليك) بالتقليل من األكل ،وتناول الموجود من الحالل
من غير إيثار للطيب المالئم ،فإن مقصود الصوم كسر
الشهوة ،واالتساع في األكل وقصد الطيبات ال يكسرها ولكنه
يقويها ويهيجها.
(وعليك) بصيام األيام التي ورد الشرع بالترغيب في
صيامها كيوم عرفة لغير الحاج ،ويوم عاشوراء،
وتاسوعاء ،والست من شوال ،وابتدئ فيها من ثاني يوم
العيد؛ فإن ذلك أبلغ في رياضة النفس.
(وعليك) بصيام ثالثة أيام من كل شهر فإن ذلك يعدل
صيام الدهر .وإن تحريت له األيام البيض فهو أحسن؛ ألنه
عليه الصالة والسالم كان ال يدع صيامها حضرا ً وال سفراً.
(وعليك) باإلكثار من الصوم مطلقا ً وال سيما في األوقات
الفاضلة كاألشهر الحرم واأليام الشريفة كاالثنين والخميس.
(واعلم) أن الصيام قطب الرياضة وأساس المجاهدة وقد
ورد أن الصوم نصف الصبر ،وقال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف" قال هللا تعالى" :إال الصيام فإنه
لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"
"للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه"
"ولخلوف فم الصائم أطيب عند هللا من ريح المسك" وهللا
يقول الحق وهو يهدي السبيل.
فصــل
(وعليك) بالمبادرة إلى أداء ما فرض هللا عليك من الحج
والعمرة عند االستطاعة ،وإياك والتأخير بعد حصولها فربما
عجزت أو مت بعد التمكن فيستقر الوجوب في ذمتك وتعد
به مقصرا ً وقد قال عليه الصالة والسالم" :من لم تحبسه
حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ومات ولم
يحج فليست إن شاء يهوديا ً وإن شاء نصرانياً".
(وعليك) عند القدرة بالتطوع بالحج والعمرة كغيرهما من
القربات؛ فقد ورد عن هللا تعالى أنه قال" :إن عبدا ً قد
صححت جسمه وأكثرت ماله تأتي عليه خمسة أعوام وال
يغدو علي لعبد سوء" الحديث بمعناه.
(وعليك) عند إرادتك المسير إلى الحج بتعلم واجباته
وسننه وأذكاره ،وبتعلم أدلة القبلة ورخص السفر وآدابه وما
يقال فيه من األذكار ،وال تجعل قصدك الحج مشتركا ً بينه
وبين التجارة بل ينبغي أن ال يصحبك شيء من متاع الدنيا
إال ما تقصد إنفاقه في مدة سفرك وإن كان والبد فاجتنب أخذ
ما يشغلك عن أداء المناسك على وجهها وتعظيم شعائر هللا
كما ينبغي.
(وعليك) بزيارة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فإن
زيارته عليه السالم بعد وفاته كزيارته في حياته وهو صلى
هللا عليه وسلم حي في قبره وكذلك سائر األنبياء ،ومن الجفاء
أن تحج بيت هللا وتترك زيارة حبيب هللا لغير عذر ناجز.
(واعلم) أنك لو جئت على رأسك من أقصى بالد اإلسالم
لزيارته صلى هللا عليه وسلم لم تقم بشكر نعمة الهداية التي
أوصلها هللا إليك على يده.
(وعليك) إذا أردت الشروع في أمر مهم كالسفر والزواج
ونحوهما بمشاورة من تثق بمعرفته وأمانته من إخوانك ،ثم
إذا صادفت إشارته ما النفس فعليك بصالة ركعتين من غير
الفريضة بنية االستخارة ،وادع بعدهما بالدعاء المشهور.
قال عليه الصالة والسالم" :ما خاب من استخار وما ندم من
استشار".
(وعليك) إذا نذرت هلل نذرا ً من صالة أو صدقة أو غير
ذلك من القربات بالمبادرة بالوفاء به ،وال تتعود اإلكثار من
النذر؛ فإن الشيطان ربما أغراك بذلك ليوقعك في اإلخالل.
وإذا حلفت على فعل شيء ثم رأيت الخير في تركه ،أو
على ترك شيء ثم رأيت الخير في فعله ،فكفر عن يمينك
وأت الذي هو خير.
(واحذر) أن تحلف أو تشهد على مقتضى الظن وإن كان
غالباً ،فضالً عن الوهم والشك .وإذا أخذت مال مسلم بيمينك
فالواجب عليك رد ما أخذته وتكفير يمينك ،وكفارتها إطعام
عشرة مساكين لكل مسكين مد أو كسوتهم أو تحرير رقبة
فإن لم تجد فصيام ثالثة أيام.
(وإياك ثم إياك) واليمين الفاجرة ،فإنها تدع الديار بالقع-
أي خراباً .وتغمس صاحبها في نار جهنم.
(والحذر كل الحذر) من شهادة الزور؛ فإنها من أكبر
الكبائر وقد قرنها عليه الصالة والسالم باإلشراك باهلل ،وإذا
كان كتمان الشهادة من العظائم فما الظن بافترائها .نسأل هللا
العافية والسالمة قبل حصول الندامة.
فصــل
المحرمات والشبُهات؛ فإن الورع َّ (وعليك) بالورع عن
مالك الدين ،والذي عليه المدار عند العلماء العاملين .وقد
سحت ت من ُ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :كل لحم نَ َب َ
فالنار أولى به" وقال عليه الصالة والسالم" :من اتقى
الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات
وقع في الحرام".
(واعلم) أن الذي يتناول الحرام والشبهات ق َّل أن يوفق
لفعل العمل الصالح ،وإن وفق له ظاهرا ً فال بد أن يعرض
له من اآلفات الباطنة ما يفسده عليه كالعُجب والرياء.
وعلى كل حال فالذي يأكل الحرام عمله مردود عليه؛ ألن
هللا طيب ال يقبل إال طيباً.
وبيان ذلك أن األعمال ال يتصور فعلها إال بحركات
الجوارح ،وحركات الجوارح ال تستطاع إال بالقوة المكتسبة
من الغذاء ،فإذا كان الغذاء خبيثا ً كانت القوة والحركات
المتولدة منه خبيثة ،قال عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما:
لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا ،وصمتم حتى تكونوا
كاألوتار لم يتقبل هللا ذلك منكم إال بورع حاجز( .وروي)
مرفوعا ً إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :من اشترى
ثوبا ً بعشرة دراهم وفيها درهم من حرام لم يتقبل هللا له صالة
ما دام عليه شيء منه" وإذا كان هذا حكم الثوب الذي عشر
ثمنه من حرام فكيف يكون الحال لو كان كله كذلك! وإذا كان
هذا في الملبوس الذي هو على ظاهر الجسد فما الظن به في
الغذاء الذي يتخلل العروق واألوصال ويسري في سائر
البدن؟
(واعلم) أن المحرمات قسمان:
(أحدهما) شيء محرم لعينه كالميتة والدم والخمر ونحو
ذلك ،وهذا النوع ال يحل بوجه من الوجوه إال عند الضطرار
وهو توقف بقاء النفس المحترمة على تناوله مع فقدان غيره.
(والثاني) حالل في نفسه كالحنطة والماء الطاهر ولكنه
مملوك لغيرك فال يزال محرما ً عليك حتى يصير إليك من
وجه سائغ في الشرع كالبيع والهبة واإلرث ونحو ذلك.
شكوأما الشبهات فهي درجات (فمنها) ما تُيُ ِّقن تحريمه و ُ
في حله وهذه الشبه حكمها حكم الحرام.
(ومنها) ما تيقن حله وشك في تحريمه وهذه الشبه تركها
من الورع.
(ومنها) ما هو بين ذلك كالذي يحتمل أن كون حالالً
ويحتمل أن يكون حراماً .وقد قال عليه الصالة والسالم" :دع
ما يريبك إلى ما ال يريبك".
وإنما يستدل على ورع الرجل بإحجامه عن األمر
المشكل حتى يتضح ،وال يكون العبد من المتقين حقا ً حتى
يترك الحالل المحض الذي يخشى عند تناوله الوقوع في ما
وراءه من الشبهات والحرام .وقد قال صلى هللا عليه وسلم:
"ال يبلغ العبد درجة المتقين حتى يترك ما ال بأس به حذرا ً
مما به بأس" وقالت الصحابة رضوان هللا عليهم :كنا نترك
سبعين بابا ً من الحالل مخافة الوقوع في الحرام ،وهذا أمر
ودع منه من زمان قديم فمن لنا بورع يحجزنا عن قد ت ُ ِّ
الشبهات والمحرمات فال حول وال قوة إال باهلل.
(وعليك) بمعرفة جميع ما حرم هللا عليك لتجتنبه فإن من
ال يعرف الشر يقع فيه.
(واعلم) أنه ال يُخشى على ذي دين من وقوعه في تناول
المحرمات العينية كأكل ما ال يحل أكله من الحيوانات ،وال
في أخذ أموال الناس عدوانا ً وظلما ً بالغصب والنهب
والسرقة؛ فإن ذلك إنما يصدر غالبا ً من جبار عنيد أو شيطان
مريد ،وإنما دخل االشتباه على أهل الدين من حيث إهمالهم
النظر في ثالثة أمور:
"األول" ترك التفتيش في موضعه ،وبيان ذلك أن الناس
ينقسمون بالنسبة إليك ثالثة أشخاص:
"شخص" معروف عندك بالخير والصالح فكل من
طعامه وعامله إذا شئت وال تسأل.
"والثاني" شخص مجهول عندك وال تعرفه بخير وال
بشر ،فإذا أردت أن تعامل هذا أو تقبل هديته فمن الورع أن
تسأل ،ولكن برفق حتى إنك لو عرفت أنه ينكسر قلبه لذلك
كان السكوت أفضل.
"والثالث" شخص معروف عندك بالظلم كالذي يعمل
بالربا ويجازف في بيعه وشرائه وال يبالي من أي جهة يصل
إليه المال ،فينبغي أن ال تعامل هذا رأساً ،وإن كان وال بد
فقدم التفتيش والسؤال ،وهذا كله من الورع حتى تعلم أن
الحالل في يده نادر عزيز فعند ذلك يجب عليك االحتراز.
وإذا وصلت إليك عين تعلم أو ظن بعالمة ظاهرة أنها
حرام أو شبهة فال تتوقف عن ردها وإن وصلت إليك على
يد أصلح الصالحين.
(واألمر الثاني) عدم االحتراز من المعامالت الفاسدة
والمكروة وطريق الخالص أن تجتنب جميع البيوع الفاسدة
والمكروهة .فال تبع وال تشتري إال بصيغة صحيحة ،وال
بأس بالمعاطاة في المحقرات ،واجتنب الغش والكذب
والحلف على السلع ،وال تكتم عيبا ً في سلعتك لو اطلع عليه
المشتري لم يشترها بذلك الثمن.
(واحذر كل الحذر) من المعاملة بالربا؛ فإنه من الكبائر
قال هللا تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا وذَ ُروا ما بقي من
الربا إن كنت مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من هللا
ورسوله) وقد لعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم آكل الربا
وموكله وكاتبه وشاهده.
وجملة القول في الربا أنه يحرم بيع النقد بمثله كالفضة
بالفضة والمطعوم بمثله كالحنطة بالحنطة إال ِّمثْالً بمثل يدا ً
بيد ،فإن اختلف النوع كالذهب بالفضة والتمر بالحنطة جاز
التفاضل ووجب التقابض في الحال ،وال ربا في بيع الحيوان
بالحيوان والثوب بالثوب والمطعم بالنقد.
(وإياك) واالحتكار وهو أن تشتري طعاما ً تعظم الحاجة
إليه وتدخره بنية الغالء.
(واألمر الثالث) االنهماك في شهوات الدنيا والتبسط في
ملذوذاتها ،فعند ذلك يعسر الورع ويضيق الحالل فإن هذا
ضه من الدنيا
سرف والحالل ال يحتمل السرف ،وأما من غر ُ
أخذ قدر الضرورة أو الحاجة فالورع ميسر له.
قال حجة اإلسالم نفع هللا به :وإذا قنعت في السنة بقميص
خشن ،وفي اليوم والليلة برغيفين من الخشكار لم يعوزك من
الحالل ما يكفيك؛ فإن الحالل كثير ،وليس عليك أن تتيقن
باطن األمور بل عليك أن تحترز من كل ما تعلمه حراما ً أو
تظنه ظنا ً حصل من عالمة ناجزة مقرونة بالمال انتهى.
وإذا حاك في نفسك شيء فمن الورع اجتنابه وإن أحله
ظاهر العلم؛ فإن اإلثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر
وإن أفتاك المفتون كما قال عليه الصالة والسالم ،وهذا
خاص بمن له قلب مستنير ،وفي جانب الكف دون األخذ.
وال تحسب أن الورع خاص بالمطعوم والملبوس ،بل هو
عام في جميع األمور ولكن ينبغي لك إذا كان في يدك حالل
وأحل منه أو حالل وشبهة أن تقدم المطعوم بما كان أحل أو
وللطعمة من الحالل أثرُّ أطيب؛ فإن المدار كله على الغذاء،
كبير في تنوير القلب ونشاط الجوارح للعبادة ،وقد قال بعض
السلف :كل ما شئت فمثله تعمل .وقال إبراهيم بن أدهم رحمه
هللا تعالى :أطب مطعمك وما عليك أن ال تقوم الليل وال
تصوم النهار .فاعلم ذلك! وباهلل التوفيق.
فصــل
(وعليك) باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه
القطب الذي عليه مدار الدين ،وألجله أنزل هللا الكتب وأرسل
المرسلين ،وقد انعقد على وجوبه إجماع المسلمين،
وتظاهرت نصوص الكتاب والسنة على األمر به والتحذير
من تركه .قال هللا تعالى( :ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم
المفلحون).
وقد وصف هللا المؤمنين في غير موضع من كتابه باألمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،و حظهم في بعض المواضع
على اإليمان ،وفي بعضها على إقامة الصالة وإيتاء الزكاة،
وقال تعالى( :لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان
داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا
ال يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يعملون) وقال
تعالى( :واتقوا فتنة ال تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)
اآلية.
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :من رأى منكم
منكرا ً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه
وذلك أضعف اإليمان".
وقال صلوات هللا وسالمه عليه" :والذي نفسي بيده
َّ
ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن هللا أن َّ
لتأمرن بالمعروف
يبعث عليكم عذابا ً منه ثم تدعونه فال يستجيب لكم".
وقال عليه الصالة والسالم" :ليس منا لم يرحم صغيرنا
ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
(واعلم) أن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض
كفاية إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين ،واختص
الثواب بالقائمين به ،وإذا لم يقم به أحد عم الحرج كافة
العالمين به القادرين على إزالته.
والواجب عليك إذا رأيت من يترك معروفا ً أو يفعل منكرا ً
أن تعرفه بكون ذلك معروفا ً أو منكراً ،فإن لم يدعه فعليك
بوعظه وتخويفه ،فإن لم ينزجر فعليك بتغييره وقهره
بالضرب وكسر آلة اللهو المحرمة وإراقة الخمر ورد
األموال المغصوبة من يده إلى أربابها .وهذه الرتبة ال يستقل
بها إال من بذل نفسه هلل ،أو كان مأذونا ً له من جهة السلطان،
وأما الرتبتان األولتان أعني التعريف والوعظ فال يقصر
مفرط.
مخبط أو عالم ِّ
عنهما إال جاهل ِّ
(واعلم) أن األمر بالمعروف واجب ،والنهي عن المحرم
واجب واألمر بالمندوب والنهي عن المكروه مستحب.
(وعليك) إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر ولم
يُسمع لك ،بمفارقة موضع المنكر وهجر مرتكبه حتى يفيء
إلى أمر هللا.
(وعليك) بكراهة المعاصي وكراهة المصرين عليها
وبغضهم في هللا وهذا واجب كل مؤمن.
شتمت فظهر عليك من الغضب وتغير ظلمت أو ُ وإذا ُ
الوجه ووجدت من كراهة الفعل والفاعل ما ال يكون مثله
وال أعظم منه عند سماعك المنكر ومشاهدته ،فتحقق أنك
ضعيف اإليمان وأن عرضك ومالك أعز عليك من دينك.
وإذا علمت وتحققت أنك إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن
منكر ال يستمع لك وال يقبل منك أو علمت أنه يحصل عليك
بسببه ضرر ظاهر في نفسك أو مالك جاز لك السكوت
وصار األمر والنهي بعد أن كان واجبا ً من الفضائل العظيمة
الدالة من فاعلها على محبة هللا وإيثاره على من سواه ،وأما
إذا علمت أن المنكر يزيد بسبب النهي أو يتعدى الضرر إلى
غيرك من المسلمين فالسكوت حينئذ أولى وربما وجب.
(وإياك) والمدهنةَ فإنها من الجرائم وهي أن يكون الحامل
لك على السكوت الخوف من فوات مال أو جاه أو نفع يكون
من قبل المباشر للمنكر أو غيره من الفسقة.
(وعليك) إذا أمرت أو نهيت باإلخالص هلل تعالى،
والرفق وحسن السياسة ،وإظهار الشفقة؛ فما اجتمعت هذه
الخصال في عبد مع كونه عامالً بما أمر به مجتنبا ً لما نهى
عنه إال كان لكالمه صولة وهيبة في الصدور ووقع في
القلوب وحالوة في األسماع وقل أن يُ َردَّ عليه مع هذا كالمه،
وكل من تحقق بمراقبة هللا والتوكل عليه وتخلَّق بالرحمة
على عباده لم يقدر أن يملك نفسه عند مشاهدة المنكر حتى
يزيله أو يحال بينه وبين ذلك بما ال قدرة له على دفعه.
س وهو طلب الوقوف على عورات س َ
(وإياك) والتج ُّ
المسلمين ومعاصيهم المستورة ،قال عليه السالم" :من تتبع
عورة أخيه المسلم تتبع هللا عورته حتى يفضحه ولو في
جوف بيته".
* * *
(واعلم) أن المعصية إذا سترت لم تضر إال مرتكبها فإذا
ظهرت ولم تغير عم ضررها.
(وعليك) إذا تفاحش ظهور المعاصي والمنكرات في
موضع أنت فيه وأيست من قبول الحق بالعزلة فإن فيها
السالمة ،أو بالهجرة إلى موضع آخر وهي أولى فإن العذاب
إذا نزل على موضع يعم الخبيث والطيب ويكون للمؤمن
الذي لم يقصر في نصرة دين هللا كفارة ورحمة ولغيره عقابا ً
ونقمة وهللا أعلم.
فصــل
(وعليك) بالعدل في رعيتك الخاصة والعامة وكمال
الحفظ والتفقد لها؛ فإنه هللا تعالى سائلك عنها وكل راع
مسؤول عن رعيته .وأعني برعيتك الخاصة جوارحك السبع
وهي اللسان والسمع والبصر والبطن والفرج واليد والرجل
فإن هذه الجوارح رعية استرعاك هللا إياها وأمانة ائتمنك
عليها فعليك بكفها عن معصيته واستعمالها في طاعته؛ فإن
هللا تعالى إنما خلقها لك لتطيعه بها وهي من أجل نعم هللا
عليك ،وشكرها أن تطيعه سبحانه بها وأن ال تعصيه بشيء
منها ،فإن تركت ذلك ولم تفعله فقد بدلت نعمة هللا كفراً ،ولوال
أن هللا تعالى سخر لك هذه الجوارح وجبلها على طاعتك
لكنت ال تستطيع أن تعصي هللا بشيء منها ،وكل جارحة
منها تقول لك بلسان حالها إذا أردت أن تعمل بها معصية :يا
عبد هللا اتق هللا وال تكرهني على فعل ما حرم هللا علي فإذا
عصيت هللا بها ترجع إلى هللا وتقول قد نهيته يا رب فلم يسمع
وأنا بريئة مما صنع ،وسوف تقف بين يدي هللا تعالى فتنطق
جوارحك شاهدة لك بما عملت بها من خير ،وعليك بما
عملت بها من شر في يوم (ال مرد له من هللا ما لكم من ملجأ
يومئذ وما لكم من نكير) (يوم ال ينفع مال وال بنون إال من
أتى هللا بقلب سليم).
وأعني برعيتك العامة من جعل هللا لك عليه والية من ولد
وزوجة ومملوك فكل هؤالء من رعيتك ،والواجب عليك
حرم
إرشادهم إلى القيام بما فرض هللا عليهم من طاعته وما َّ
عليهم من معصيته ،واحذر أن تسامحهم في ترك واجب أو
عهم إلى ما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدارارتكاب محرم ،واد ُ
اآلخرة ،وأحسن أدبهم وال تغرس في قلوبهم حب الدنيا
وشهواتها فتكون بذلك مسيئا ً إليهم ،وقد ورد أن أهل اإلنسان
وولده يتعلقون به بين يدي هللا ،ويقولون :يا ربنا إن هذا لم
فاقتص لنا منه.
َّ يعرفنا ما أوجبت علينا من حقك ِّ
(وعليك) بمعاملتهم بالعدل والفضل ،أما العدل فهو أن
توفِّيهم حقوقهم التي أوجبها هللا لهم عليك من النفقة والكسوة
والمعاشرة بالمعروف ،ومن العدل الواجب أن تردع بعضهم
عن ظلم بعض وتقتص لمظلومهم من ظالمهم وفي الحديث:
"إن العبد يكتب جبارا ً وما يملك إال أهل بيته" يعني فيجور
عليهم.
وأما الفضل فهو أن ال تستقصي عليهم في طلب الحقوق
التي أوجبها هللا لك عليهم ،وأن ترفق بهم وتخالقهم باألخالق
الكريمة وتباسطهم في بعض األوقات من غير إثم بقدر ما
تزول الوحشة والتنفير وتبقى الهيبة والتوقير.
(وعليك) بالعفو عن مسيئهم والصفح عن جانيهم،
واجعلهم باطنا ً في حل مما اختلسوه من مالك ،فإنك سوف
تجد ذلك في كفة حسناتك ،فال ينبغي أن يكون حظك منهم
الثواب وحظهم منك العقاب .وقد سئل رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم :كم يُ ْغفَ ُر للرقيق في كل يوم؟ قال" :سبعون زلة".
وهذه المسامحة إنما هي في حقوقك ،وإما في حقوق هللا
فال وجه لها.
و ُخص النساء من أهل بيتك بمزيد حفظ وتفقد فإنهن
ناقصات عقل ودين وعلمهن أحكام الحيض وفرائض الغسل
والوضوء والصالة والصيام وحقوق األزواج وما يجري
مجرى ذلك.
وقد تتسع رعية بعض العباد كالسالطين والعلماء ،وكل
راع مسؤول عن رعيته .قال تعالى (إن هللا يأمر بالعدل
واإلحسان) اآلية وقال عليه الصالة والسالم" :اللهم من ولي
من أمر أمتي شيئا ً فرفق بهم فارفق به ومن شق عليهم فاشقق
عليه" وقال عليه الصالة والسالم" :ما من وال يموت وهو
غاش لرعيته إال حرم هللا عليه الجنة" الحديث.
(وعليك) ببر الوالدين فإنه من أوجب الواجبات وإياك
وعقوقهما؛ فإنه من أكبر الكبائر قال تعالى( :وقضى ربك
أن ال تعبدوا إال إياه وبالوالدين إحساناً) اآلية والتي بعدها
وقال تعالى( :أن اشكر لي ولوالديك) فانظر كيف قرن األمر
باإلحسان إليهما بتوحيده وشكرهما إياه بشكره فعليك بابتغاء
مرضاتهما وامتثال أمرهما ما لم يكن معصية ،واجتناب
نهيهما ما لم يكن طاعة واجبة ،وبإيثارهما على نفسك وتقديم
مهماتهما على مهماتك.
ومن العقوق أن تؤذيهما بقطع ما تستطيع إيصاله من
المعروف إليهما فكيف بتقطيب الوجه واالنتهار لهما ،فقد
قال عليه الصالة والسالم" :يوجد ريح الجنة من مسيرة ألف
عام وال يجده عاق وال قاطع رحم وال شيخ زان وال مسبل
إزاره خيالء ،إنما الكبرياء هلل رب العالمين".
وقال عليه الصالة والسالم عن هللا تعالى" :من أصبح
مرضيا ً لوالديه مسخطا ً لي فأنا عنه راض ومن أصبح
مسخطا ً لوالديه مرضيا ً لي فأنا عنه ساخط".
(وينبغي) للوالد أن يعين ولده على بره بعد االستقصاء
عليه في طلب الحقوق ،وال سيما في هذا الزمان الذي عز
فيه وجود البر وعم فيه وجود الشر ،وصار الولد يَعُدُّ أبر
أوالده من لم يسيء إليه منهم ،وقد قال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :رحم هللا والدا ً أعان ولده على بره".
(وعليك) بصلة الرحم األقرب فاألقرب ،وباإلحسان إلى
الجيران األدنى بابا ً فاألدنى .قال هللا تعالى( :واعبدوا هللا وال
تشركوا به شيئا ً وبالوالدين إحسانا ً وبذي القربى واليتامى
والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب
بالجنب) اآلية.
وقد أمر هللا باإلحسان إلى القرابة في مواضع عديدة من
كتابه العزيز .قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :الصدقة
على القرابة صدقة وصلة" وقال عليه السالم" :من كان
يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليصل رحمه" وفي حديث آخر:
"من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليكرم جاره" .وقال عليه
الصالة والسالم" :ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى
سيورثه".ِّ خشيت أنه
وال تتم صلة األرحام واإلحسان إلى الجيران إال بكف
األذى عنهم واحتمال األذى منهم وبذل المعروف حسب
االستطاعة لهم.
وقد قال عليه الصالة والسالم" :ليس الواصل بالمكافئ
إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" وقال عليه
الصالة والسالم" :وطنوا أنفسكم على أن تحسنوا إذا أحسن
الناس وال تسيئوا إذا أساءوا" .وباهلل التوفيق.
فصــل
(وعليك) بالحب في هللا والبغض في هللا فإنه من أوثق
عرى اإليمان .وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :أفضل
األعمال الحب في هللا والبغض في هللا تعالى" فإذا أحببت
العبد المطيع هلل لكونه مطيعا ً أو أبغضت العاصي هلل لكونه
عاصيا ً ال لغرض آخر فأنت ممن يحب في هللا ويبغض في
هللا حقيقة ،وإذا لم تجد في نفسك محبة ألهل الخير لخيرهم
وكراهة ألهل الشر لشرهم فاعلم أنك ضعيف اإليمان.
(وعليك) بمصاحبة األخيار واعتزال األشرار ومجالسة
الصالحين ومجانبة الظالمين .قال عليه الصالة والسالم:
"المرة على دين خليله فلينظر أحكم من يخالل" .وقال عليه
الصالة والسالم" :الجليس الصالح خير من الوحدة،
والوحدة خير من الجليس السوء".
(واعلم) أن مخالطة أهل الخير ،ومجالستهم تزرع في
القلب محبة الخير وتعين على العمل به ،كما أن مخالطة أهل
الشر ومجالستهم تغرس في القلب حب الشر وحب العمل به،
وأيضا ً فإن من خالط قوما ً وعاشرهم أحبهم ضرورة ً سواء
كانوا أخيارا ً أو أشرارا ً والمرء مع من أحب في الدنيا
واآلخرة.
(وعليك) بالرحمة لعباد هللا والشفقة على خلق هللا ،وكن
رحيما ً شفيقا ً ألوفا ً مألوفاً ،واحذر أن تكون فظا ً غليظا ً أو
فاحشا ً جافياً ،قال عليه الصالة والسالم" :إنما يرحم هللا من
عباده الرحماء ومن ال يرحم ال يرحم" وقال عليه السالم:
"المؤمن ألوف مألوف وال خير فيمن ال يألف وال يؤلف".
ضالين وتذكير (وعليك) بتعليم الجاهلين وإرشاد ال َّ
الغافلين ،واحذر أن تذع ذلك قائالً إنما يعلم ويذكر من يعمل
بعلمه وأنا لست كذلك ،أو إني لست بأهل لإلرشاد ألنه من
أخالق األكابر ،وهذا كله تلبيس من الشيطان؛ فإن العليم
والتذكير من جملة العمل بالعلم ،واألكابر ما كانوا أكابر إال
بفضل هللا والعمل بطاعته وإرشادهم عباد هللا إلى سبيل هللا،
وإذا لم تكن أهالً فليس لك طريق إلى حصول األهلية إال فعل
الخير والدعاء إليه وإنما الشؤم في الدعوى والدعاء إلى غير
الحق.
(وعليك) بجر قلوب المنكسرين ،ومالطفة الضعفاء
والمساكين ،ومواساة المقلين ،والتيسير على المعسرين،
وإقراض المستقرضين ،وفي الحديث أن ثواب القرض يزيد
على ثواب الصدقة بثمانية أضعاف؛ وذلك أن القرض ال
يأخذه إال محتاج.
(وعليك) بتعزية من نزلت به مصيبة قال عليه السالم:
"من عزى مصابا ً أي صبره كان له مثل أجره".
(وإياك) والشماتة بأحد من المسلمين وهي أن تفرح بما
ينزل به من المصائب .قال عليه الصالة والسالم" :ال تظهر
تعير مسلما ً
الشماتة بأخيك فيعافيه هللا ويبتليك" واحذر أن ِّ
بذنب وقع فيه فإن من عير مسلما ً بذنب لم يمت حتى يبتلى
بمثل ما عيره به.
(وعليك) بالتفريج عن المكروبين ،وقضاء حوائج
المحتاجين ،وستر عورات المذنبين ،قال عليه الصالة
والسالم" :من يسر على معسر يسر هللا عليه ،ومن ستر
فرج عن مسلم كربة مسلما ً ستره هللا في الدنيا واآلخرة ،ومن َّ
من كرب الدنيا فرج هللا عنه كربة من كرب يوم القيامة،
ومن كان في حاجة أخيه كان هللا في حاجته وهللا في عون
العبد ما كان العبد في عون أخيه".
(وعليك) بإماطة األذى عن طريق المسلمين؛ فإن ذلك
من شعب اإليمان وفي الحديث قال النبي صلى هللا عليه
وسلم" :رأيت رجالً يتقلب في الجنة في غصن شوك قطعه
من طريق المسلمين".
(وعليك) برحمة اليتيم والمسح على رأسه .قال عليه
السالم" :من مسح على رأس يتيم كتب هللا له بكل شعرة
مرت عليها يده عشر حسنات" واجتهد في إدخال السرور
على قلوب المؤمنين بكل أوجه أمكنك ما لم يكون إثماً.
(وعليك) بالشفاعة لكل من سألك أن تشفع له في حاجة
إلى من لك عنده جاه؛ فإن هللا يسأل العبد عن جاهه كما يسأله
عن ماله ،وإذا توجه على عبد شيء من الحدود الشرعية
كحد الزنا والسرقة فاحذر أن تشفع له؛ فإن الشفاعة في
الحدود غير جائزة ،وإذا شفعت شفاعة فأهديت لك بسببها
هدية فال تقبلها فإنها رشا.
(وعليك) بالتبسم في وجوه المؤمنين ،وطالقة الوجه
وإظهار البشر لهم ،وطيب الكالم معهم ،ولين الجانب
وخفض الجناح لهم .قال هللا تعالى لنبيه (واخفض جناحك
للمؤمنين) وقال عليه الصالة والسالم" :ال تحقرن من
المعروف شيئا ً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" وقال عليه
الصالة والسالم" :الكلمة الطيبة صدقة" ومن المأثور :إذا
التقى المسلمان فتصافحا قسمت بينهما مائة رحمة تسعة
وتسعون منها ألكثرهما ِّب ْشراً.
واحذر أن تهجر مسلما ً لحظ نفسك فإن اقتضت المصلحة
الدينية هجره ،فال تهجره فوق ثالثة أيام .فقد قال عليه الصالة
والسالم" :من هجر أخاه فوق ثالث أدخله هللا النار إال أن
يتداركه هللا برحمته" .ومحل هذا إذا كان الهجر للتأديب فأما
إذا كان إلتيانه باطالً أو تركه حقا ً فال آخر له إال برجوعه
إلى الحق.
(وعليك) بإظهار الفرح واالستبشار بكل ما يتجدد
للمسلمين من المسار ،كنزول األمطار ،ورخاء األسعار،
وظهورهم على الباغين والكفار.
(وعليك) بالحزن واالغتمام بسبب ما ينزل بهم من الباليا
كالوباء والغالء والفتن ،وتوجه إلى هللا في أن يكشف ذلك
عنهم مع التسليم لقضائه وقدره .وقد قال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" .وقال
صلوات هللا عليه" :مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم مثل
الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالسهر والحمى".
(وعليك) إذا أسدى إليك مسلم معروفا ً بقبوله منه وشكره
ومكافأته عليه فإن لم تقدر عليها أو كان ممن توحشه المكافأة
فعليك بالدعاء له .وقد قال عليه الصالة والسالم" :لو أهدي
إلي ذراع أو كراع لقبلت ولو دعيت إلى ذراع أو كراع
ألجبت" وقال" :من اصطنع إليكم معروفا ً فكافئوه فإن لم
تقدروا على ذلك فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه"
وقال عليه السالم" :من قال لمن أسدى إليه معروفا ً جزاك
هللا خيرا ً فقد أبلغ في الثناء".
(وإياك) أن تكسر قلب مسلم برد صنيعته عليه ،وأنت تعلم
أن الواصل إليك على يده إنما هو من هللا حقيقة وإنما هو
واسطة مسخر مقهور وفي الحديث :من أتاه شيء من غير
مسألة وال استشراف نفس فرده فإنما يرده على هللا".
وفي الرد آفة عظيمة وهي أن العامة مجبولون على
تعظيم من يرد صالتهم عليهم ،فربما كان الحامل لبعض
النساك على الرد التظاهر بالزهد؛ حرصا ً منه على حصول
المنزلة عندهم ،ومن ههنا كان بعض المحققين يأخذ من أيدي
الناس ظاهرا ً ثم يتصدق به سراً.
وقد يجب الرد في مسائل ،وقد يندب:
"منها" أن يحمل إليك ما تعلم أو تظن بعالمة أنه حرام،
أو تحمل إليك صدقة واجبة على ظن أنك من أهلها وأنت
لست كذلك.
"ومنها" أن يكون المسدي إليك ظالما ً مصرا ً على الظلم
وتخشى إذا قبلت معروفه أن قلبك يميل إليه أو تداهنه في
الدين أو يغلب على ظنك أنك متى قبلت شيئا يصير بحيث ال
يقبل منك ما تلقيه إليه من الحق.
"ومنها" أن تعلم من حال إنسان أنه يقصد بصلته إضاللك
عن سبيل هللا بمساعدته على باطل أو ترك حق ،ومن هذا
القبيل ما يأخذه القاضي والعامل وغيرهما من والة األمور
من الخصمين أو أحدهما إذا ترافعا إليهم ،وهذا هو الرشا
المحرم ،وله تتمات مذكورة في مواضعها فعليك بالرد في
جميع هذه المسائل المذكورة.
(واحذر) أن تدعو على نفسك أو على ولدك أو على مالك
أو على أحد من المسلمين وإن ظلمك؛ فإن من دعا على من
ظلمه فقد انتصر .وفي الخبر "ال تدعوا على أنفسكم وال على
أوالدكم وال على أموالكم ال توافقوا من هللا ساعة إجابة".
(وإياك) أن تؤذي مسلما ً أو تسبه بغير حق فقد قال عليه
الصالة والسالم" :من آذى مسلما ً فقد آذاني ومن آذاني فقد
آذى هللا" وقال عليه السالم" :سباب المؤمن فسوق وقتاله
كفر".
واحذر أن تلعن مسلما ً أو بهيمة أو جمادا ً أو شخصا ً بعينه
وإن كان كافرا ً إال إن تحققت أنه مات على الكفر كفرعون
وأبي جهل أو علمت أن رحمة هللا ال تناله بحال كإبليس .وقد
ورد أن اللعنة إذا خرجت من العبد تصعد نحو السماء فتغلق
دونها أبوابها ثم تنزل إلى األرض فتغلق دونها أبوابها ثم
تجيء إلى الملعون فإن وجدت فيه مساغا ً وإال رجعت على
قائلها.
(وعليك) بالتأليف بين قلوب المؤمنين وتحبيب بعضهم
إلى بعضهم بإظهار المحاسن وستر القبائح.
(وعليك) بإصالح ذات بينهم فإن في اإلصالح فضالً
يزيد على فضل النفل من الصالة والصيام وال سيما بين
الوالد وولده والقريب وقرابته .قال هللا تعالى( :إنما المؤمنون
إخوة فأصلحوا بين أخويكم).
(وإياك) وإفساد ذات البين بالنميمة والغيبة ونحوهما مما
يوجب التنافر والتدابر؛ فإن ذلك عند هللا تعالى عظيم.
أما النميمة فهي أن تنقل كالم إنسان إلنسان تقصد بذلك
اإلفساد بينهما .وقد قال صلى هللا عليه وسلم" :ال يدخل الجنة
نمام" وقال عليه السالم" :أبغضكم إلى هللا تعالى المشاءون
بين األحبة بالنميمة المفرقون بين اإلخوان".
وأما الغيبة فهي أن تذكر إنسانا ً في غيبته بما يكرهه لو
كان حاضرا ً تقصد بذلك تنقيصه ،وسواء حصل التفهيم
بالنطق أو اإلشارة أو الكتابة .وقد قال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله
وعرضه" وقال عليه السالم" :الغيبة أشد من الزنى"،
وأوحى هللا إلى موسى عليه السالم :من مات تائبا ً من الغيبة
فهو آخر من يدخل الجنة ،ومن مات مصرا ً عليها فهو أول
من يدخل النار.
(وإياك) والظلم فإنه ظلمات يوم القيامة وال سيما ظلم
العباد فإنه الظلم الذي ال يتركه هللا .وقد قال رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم" :إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة
بحسنات كثيرة ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال
هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته
أخذ من سيئاتهم فطرحت على سيئاته ثم يقذف به في النار"
فإن وقعت في ظلم أحد فبادر بالخروج منه بالتمكين من
القصاص إن كان من المظالم النفسية ،وبطلب اإلحالل إن
كان من المظالم العرضية ،وبرد ما أخذته إن كان من المظالم
المالية ،وفي الحديث" :من كانت عليه ألخيه مظلمة فليستحل
منه قبل أن يأتي يوم ال دينار فيه وال درهم إنما هي الحسنات
والسيئات" فإن تعذر عليك رد بعض المظالم حتى لم يمكن
بحال فعليك بصدق اللجأ إلى هللا تعالى واالفتقار
واالضطرار في أن يرضي عنك خصمك ،وباإلكثار لمن
ظلمته من الدعاء واالستغفار.
(وعليك) بالذب عن دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم
في غيبتهم وحضورهم كما تذب عن نفسك وفي ذلك كله فإن
من نصر مسلما ً نصره هللا ومن خذل مسلما ً خذله هللا.
فصــل
وعليك بالنصح لكل مسلم ،وغايته أن ال تكتم عنه شيئا ً
ترى في إظهاره له حصوالً على خير أو نجاة من شر .قال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "الدين النصيحة".
ومن النصح أن تكون لكل مسلم في غَيبته كما تكون له
في حضوره ،وأن ال تظهر له من المودة بلسانك فوق ما
يضمره قلبك .ومنه إذا استشارك مسلم في شيء وعرفت أن
الصواب في خالف ما يميل إليه أن تخبره به.
ومما يدل على خالف النصح الحسد للمسلمين على ما
آتاهم هللا من فضله .وأصله أن يشق عليك إنعام هللا تعالى
على عبد من عبيده بنعمة في دينه أو دنياه وغايته أن تتمنى
زوال النعمة عنه ،وقد ورد أن "الحسد يأكل الحسنات كما
تأكل النار الحطب" والحاسد معترض على هللا في ملكه
وتدبيره وكأنه يقول بلسان حاله :يا رب إنك وضعت النعمة
في غير موضعها وال بأس بالغبطة وهي أن ترى نعمة من
هللا على عبد من عبيده فطلب منه سبحانه مثلها.
(وعليك) إذا أثنى عليك أحد بكراهية الثناء بقلبك ،ثم إن
أثنى عليك بما فيك فقل الحمد هلل الذي أظهر الجميل وستر
القبيح ،وإن أثنى عليك بما ليس فيك فقل كما قال بعض
السلف :اللهم ال تؤاخذني بما يقولون واغفر لي ما ال يعلمون
واجعلني خيرا ً مما يظنون.
وأما أنت فال تثني على أحد إال إن علمت أنه يزداد بثنائك
نشاطه في الخير ،أو كان فاضالً ال يعرف فضله فأثنيت عليه
للتعريف بفضله بشرط السالمة من الكذب في جهتك ،ومن
االغترار في جهة من تثني عليه.
(وعليك) إذا أردت أن تنصح إنسانا ً في أمر بلغك عنه
بالخلوة به والتلطف له في القول له وال تعدل إلى التصريح
مع إمكان التفهيم بالتلميح فإن قال لك من بلغك عني هذا؟ فال
تخبره كي ال تثير العداوة بينه وبينه ،ثم إن قبل منك فاحمد
هللا واشكر له وإن لم يقبل فارجع على نفسك باللوم وقل لها
يا نفس السوء من قبلك أتيت ،فانظري لعلك لم تقومي
بشرائط النصح وآدابه.
وإذا ائتمنك إنسان على شيء فعليك بحفظه أشد مما
تحفظه لو كان ملكا ً لك.
(وعليك) بأداء األمانة وإياك والخيانة فيها وقد قال رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم" :ال إيمان لمن ال أمانة له" وقال
عليه السالم" :ثالث متعلقات بالعرش :النعمة تقول اللهم إني
بك فال أكفر ،والرحم تقول اللهم إني بك فال أقطع ،واألمانة
تقول اللهم إني بك فال أخان".
(وعليك) بصدق الحديث وبالوفاء بما عاهدت عليه
ووعدت به فإن نقض العهود والخلف في الوعود من أمارات
النفاق وفي الحديث" :آية المنافق ثالث إذا حدث كذب وإذا
وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وفي رواية" :وإذا عاهد غدر
وإذا خاصم فجر".
(وعليك) بالحذر من المراء والجدال فإنهما يوغران
ويولدان العداوة والبغضاء فإن
ِّ الصدور ويوحشان القلوب
ماراك أو جادلك محق فعليك بالقبول منه؛ ألن الحق أحق أن
يتبع ،أو مبطل فعليك باإلعراض عنه؛ ألنه جاهل وهللا تعالى
يقول( :وأعرض عن الجاهلين).
(وعليك) بترك المزاح رأسا ً فإن مزحت نادرا ً على نية
تطييب قلب مسلم فال تقل إال حقا ً قال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :ال تمار أخاك وال تمازحه وال ت ِّعده موعدة ً
فتخلفه".
(وعليك) بإجالل المسلمين وتوقيرهم ال سيما أهل الفضل
منهم كالعلماء والصلحاء والشرفاء ومن له شيبة في اإلسالم.
(وإياك) أن تروع أحدا ً من المسلمين أو تخيفه أو تستهزئ
به أو تسخر منه أو تنظر إليه بعين االستحقار فإن هذا كله
من األخالق المشؤومة واألفعال المذمومة .وقد قال رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم" :بحسب امرئ من الشر أن يحقر
أخاه المسلم".
(وعليك) بالتواضع فإنه من أخالق المؤمنين.
(وإياك) والتكبر فإن هللا ال يحب المتكبرين ،ومن تواضع
رفعه هللا ومن تكبر وضعه هللا ،قال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم" :ال يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"
وقال عليه السالم" :الكبر بطر الحق" يعني رده و"غمط
الناس" يعني احتقارهم.
ومن نظر إلى نفسه بعين التعظيم وإلى غيره بعين
االستصغار فهو من المتكبرين.
وللمتواضعين والمستكبرين أمارات تميز بعضهم عن
بعض (ليميز هللا الخبيث من الطيب).
فمن أمارات التواضع حب الخمول وكراهية الشهرة
وقبول الحق ممن جاء به من شريف أو وضيع.
ومنها محبة الفقراء ومخالطتهم ومجالستهم.
ومنها كمال القيام بحقوق اإلخوان حسب اإلمكان مع شكر
من قام منهم بحقه وعذر من قصر.
ومن أمارات التكبر محبة التصدر في المجالس والمحافل
والتقدم على األقران وتزكية النفس والثناء عليها والتشدق
في الكالم والتبجح باآلباء واالختيال والتبختر في المشية
وترك الوفاء بحقوق اإلخوان مع مطالبتهم بالحقوق.
فصــل
(وعليك) بإقراء السالم على كل من تعرفه ومن ال تعرفه
من المسلمين ،وإذا سلمت على أحد منهم فال يرد عليك فال
تسيء به الظن ،وقل لعله لم يسمع أو لعله رد فلم أسمعه.
وإذا دخلت بيتك فسلم على أهلك ،وإذا دخلت مسجدا ً أو
بيتا ً وليس فيه أحد فقل :السالم علينا وعلى عباد هللا
الصالحين ،وإذا لقيت مسلما ً فاجتهد أن تبدأه بالسالم قبل أن
يسلم عليك قيل لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :إذا لقي
المسلم المسلم فأيهما يبدأ بالسالم؟؟ قال أوالهما باهلل" وفي
الحديث" :يسلم الراكب على الماشي ،والقائم على القاعد،
والصغير على الكبير ،والقليل على الكثير".
(وعليك) بتشميت العاطس إذا حمد فإن لم يحمد فذكره
بقولك الحمد هلل .وال تدخل على بيت غيرك حتى تستأذن
أوالً فإن استأذنت ثالثا فلم يؤذن لك فال ت ُ ِّعد االستئذان ،وإذا
ناداك مسلم فاجبه بالتلبية.
وإذا دعاك إلى طعامه فال تترك اإلجابة إال لعذر شرعي،
وإذا أقسم عليك أن تفعل شيئا ً أو تتركه ف ِّب َّر قسمه ما لم يكن
فيه معصية هلل .وال تسأل أحدا ً باهلل شيئا ً وإن سئلت باهلل شيئا ً
فإياك أن تمنع ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :ملعون
من سأل باهلل فلم يعط".
(وعليك) بعيادة المرضى ،وتشييع الجنائز ،وبزيارة
إخوانك المسلمين في هللا كلما اشتقت إليهم ،وبمصافحتهم
عند اللقاء ،وسؤالهم عن أحوالهم ،والسؤال عمن غاب منهم؛
فإن كان مريضا ً عدته ،وإن كان في شغل أعنته إن استطعت
وإال دعوت له.
(وعليك) بحسن الظن بجميع المسلمين واحذر أن تسيء
الظن بأحد منهم ،قال عليه الصالة والسالم" :خصلتان ليس
فوقهما شيء من الخير :حسن الظن باهلل وحسن الظن بعباد
هللا ،وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر :سوء الظن باهلل،
وسوء الظن بعباد هللا".
وغاية حسن الظن بالمسلمين أن ال تعتقد الشر في شيء
من أفعالهم وأقوالهم وأنت تجد له محمالً في الخير
كالمعاصي فنهاية حسن الظن بمرتكبيها أن تنهاهم عنها
وتظن بهم أن إيمانهم يحملهم على االنتهاء عنها وترك
اإلصرار عليها بالتوبة منها.
وغاية سوء الظن بالمسلمين أن تعتقد السوء في أفعالهم
وأقوالهم التي ظاهرها الخير (ومثال ذلك) أن ترى مسلما ً
يكثر الصالة والصدقة والتالوة فتظن به أنه ما فعل ذلك إال
مرائيا ً للناس وحرصا ُ على المال والجاه وهذا الظن الفاسد
ال يصدر إال من ذي طوية خبيثة وهو من أخالق المنافقين
وقد قال هللا تعالى في وصفهم( :الذين يلمزون المطوعين من
المؤمنين في الصدقات) ،أي يرمونهم بالرياء .وقال صلى
هللا عليه وسلم" :أكثروا من ذكر هللا حتى يقول المنافقون إنكم
مراءون".
(وعليك) باإلكثار من الدعاء واالستغفار لنفسك ولوالديك
وقرابتك وأصحابك خصوصا ً ولسائر المسلمين عموما ً فإن
دعاء المسلم ألخيه بظهر الغيب مستجاب .وقال صلى هللا
عليه وسلم" :دعوتان ليس بينهما وبين هللا حجاب دعوة
المظلوم ودعوة المسلم ألخيه بظهر الغيب".
وقال عليه السالم" :إذا دعا المسلم ألخيه بظهر الغيب
قال الملك آمين ولك بمثله" وقال ميمون بن مهران رحمه
هللا من استغفر لوالديه بعد كل مكتوبة فقد قام بالشكر لهما
الذي أمره هللا به في قوله( :أن اشكر لي ولوالديك).
وورد أن من استغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل يوم
سبعا ً وعشرين مرة كان من الذين يستجاب دعاؤهم وبهم
يرزق العباد ويمطرون وهذا وصف األولياء.
(واعلم) أن حقوق المسلم على المسلم كثيرة فإذا أردت
القيام بها على وجهها فعامل المسلمين في غيبتهم
ووطن
ِّ وحضورهم بما تحب أن يعاملوك به وجاهد نفسك
قلبك على أن تحب لهم من الخير ما تحب لنفسك وتكره لهم
من الشر ما تكره لنفسك .وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم" :ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه"
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :المسلم للمسلم كالبنيان
يشد بعضه بعضاً" ،وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وقال يحيى بن معاذ رحمه هللا :إذا لم تستطع أن تنفع
المسلمين فال تضرهم ،وإذا لم تستطع أن تسرهم فال تسؤْ هم
وإذا لم تستطع أن تفرحهم فال تغمهم ،وإذا لم تستطع أن
تمدحهم فال تذمهم ،وقال سيدي محيي الدين عبد القادر
الجيالني رضي هللا عنه :كن مع الحق كأن ال خلق وكن مع
الخلق كأن ال نفس ،وقال بعض السلف :الناس مبتلى ومعافى
فارحموا أهل البالء واشكروا هللا على العافية والحمد هلل رب
العالمين.
فصــل
(وعليك) بالتوبة من كل ذنب سواء كان صغيرا أو كبيرا
ظاهرا ً أو باطنا؛ً فإن التوبة أول قدم يضعها العبد في طريق
السلوك وهي أساس جميع المقامات وهللا يحب التوابين .قال
هللا تعالى( :إن هللا يحب التوابين ويحب المتطهرين) ،وقد
قال هللا سبحانه وتعالى( :وتوبوا إلى هللا جميعا ً أيها المؤمنون
لعلكم تفلحون) ،وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:
"التائب من الذنب كمن ال ذنب له" ...الحديث.
(واعلم) أن التوبة ال تصح بدون ترك الذنب والندم على
فعله والعزم على أن ال تعود إليه ما عشت.
وللتائب الصادق عالمات منها رقة القلب وكثرة البكاء
ولزوم الموافقة وهجر قرناء السوء ومواطن المخالفة.
واإلصرار وهو أن تذنب ثم ال تتوب على الفور، (وإياك) ِّ
والواجب على كل مؤمن أن يحترز من المعاصي صغائرها
وكبائرها كما يحترز من النيران المحرقة والمياه المغرقة
والسموم القاتلة وال يفعل الذنب وال يقصده وال يتحدث به
قبل وقوعه وال يفرح به بعد الوقوع ،فإذا وقع فيه كان
الواجب ستره وكراهته والمبادرة بالتوبة منه في الحال .
(وعليك) بتجديد التوبة في كل حين فإن الذنوب كثيرة
والعبد ال يخلو في ظاهره وباطنه من معاص عديدة وإن
حسنت حالته واستقامت طريقته ودامت طاعته ،وحسبك أن
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان مع عصمته وكماله
المطلق يتوب إلى هللا تعالى ويستغفره في كل يوم أكثر من
سبعين مرة .
باإلكثار من االستغفار آناء الليل وآنا َء النهار
(وعليك) ِّ
وال سيما عند األسحار ،وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم" :من لزم االستغفار جعل هللا له من كل هم فرجاً ،ومن
كل ضيق مخرجاً ،ورزقه من حيث ال يحتسب".
وأك ِّثر أن تقول :رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب
الرحيم .فقد كانوا يعدون لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم من
هذا الذكر المبارك في المجلس الواحد قريبا ً من مائة مرة .
(وعليك) بدعوة ذي النون عليه السالم وهي ال إله إال
أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فقد ورد أنها اسم هللا
األعظم وأنه ال يقولها مهموم وال مغموم إال فرج هللا عنه
قال هللا تعالى( :فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي
المؤمنين) .
(وعليك) بالرجاء والخوف فإنهما من أشرف ثمرات
اليقين وقد وصف هللا بهما عباده السابقين فقال وهو أصدق
القائلين( :أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيُّهم
أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان
محذوراً) وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال هللا تعالى:
يظن بي ما يشاء" وقال عليه "أنا عند ظن عبدي بي ْفل َّ
الصالة والسالم ،قال هللا تعالى" :وعزتي وجاللي ال أجمع
على عبدي أمنين وال خوفين إن هو ِّأمنَني في الدنيا أخفته
يوم أبعث عبادي وإن هو خافني في الدنيا أ َمنته يوم أجمع
عبادي".
وأصل الرجاء معرفة القلب بسعة رحمة هللا وجوده
وعظيم فضله وإحسانه وجميل وعده لمن عمل بطاعته
فيتولد من هذه المعرفة حالة فرح تسمى الرجاء .وثمرته
المقصودة منه كثرة المسارعة في الخيرات ،وشدة المحافظة
على الطاعات فإن الطاعة هي السبيل الموصلة إلى رضوان
هللا وجنته.
وأما الخوف فأصله معرفة القلب بجالل هللا تعالى وقهره
وغناه عن جميع خلقه وشديد عقابه وأليم عذابه اللذين توعد
بهما من عصاه وخالف أمره فيتولد من هذه المعرفة حالة
و َجل تسمى الخوف .وثمرته المقصودة منه ترك المعاصي
وشدة االحتراز منها فإن المعصية هي الطريق الموصلة إلى
سخط هللا ودار عقوبته.
وكل رجاء وكل خوف ال يحمالن على فعل الموافقات
الترهات
وترك المخالفات معدودان عند أرباب البصائر من َّ
والتهويسات التي ال حاصل لها وال طائل تحتها فإن من رجا
شيئا ً طلبه ومن خاف شيئا ًهرب منه ال محالة.
(واعلم) أن الناس ثالثة "عبد ٌ" قد أناب إلى ربه واطمأنت
نفسه به وانقشعت ظلمات شهواته بإشراق أنوار قربه فلم
تبق له لذة إالَّ في مناجاته وال راحة إال في معاملته فصار
رجاؤه شوقا ً ومحبة وخوفه تعظيما ً وهيبة" ،وعبد ٌ" ال يأمن
على نفسه من التقاعد عن المأمورات والركون إلى
المحظورات ،والذي ينبغي لهذا العبد استواء الخوف
والرجاء حتى يكونا كجناحي الطائر .وفي الحديث" :لو وزن
خوف المؤمن ورجاؤه العتدال" وهذا حال أكثر المؤمني .
"وعبد ٌ" قد غلب عليه التخليط واستولى عليه التفريط،
فالالئق به غلبة الخوف عليه لينزجر عن المعاصي إال عند
الموت فينبغي أن يكون رجاؤه غالبا ً على خوفه لقوله عليه
الصالة والسالم" :ال يموتن أحدكم إال وهو يحسن الظن
باهلل".
(وعليك) إذا تكلمت في الرجاء مع العامة باالقتصار على
ذكر الرجاء المقيد وهو أن تذكر الوعد الجميل والثواب
الجزيل المتوقف على فعل الحسنات و ترك السيئات.
(واحذر) أن تخوض معهم في الرجاء المطلق وذلك مثل
أن تقول :العبد يذنب والرب يغفر ،ولوال الذنوب لم يظهر
عفو هللا وحلمه ،وما ذنوب األولين واآلخرين في سعة رحمة
هللا إال كنقطة في بحر لجي ونحو ذلك .وهذا الكالم حق ولكنه
يضر بالعامة وربما أغراهم بركوب المعاصي فتكون أنت
السبب في ذلك ،وما كل حق يقال ،ولكل مقام رجال.
واألمن من مكر هللا فإنهما
َ ط من رحمة هللا(وإياك) والقنو َ
من كبائر الذنوب قال تعالى( :ومن يقنط من رحمة ربه إال
الضالون) وقال( :فال يأمن مكر هللا إال القوم الخاسرون).
والقنوط عبارة عن تمحض الخوف حتى ال يبقى للرجاء
وجود البتة .
واألمن عبارة عن تجرد الرجاء حتى ال يبقى للخوف
وجود بحال.
فالقانط واآلمن جاهالن باهلل واقعان ال محالة في ترك
الطاعة وفعل المعاصي؛ فإن القانط يترك الطاعة ألنه يرى
أنها ال تنفعه واآلمن يرتكب المعصية بظنه أنها ال تضره
نعوذ باهلل من درك الشقاء وسوء القضاء.
(وإياك) وأماني المغفرة القاطعةَ عنها وهي ما تسمعه
على لسان طائفة من المغترين من قولهم( :إن هللا يغفر
ي عنا وعن أعمالنا وخزائنه مملوءة الذنوب جميعاً) وهو غن ٌّ
بالخير ورحمته وسعت كل شيء ،مع إصرارهم على فعل
المعاصي وترك األعمال الصالحة ،وكأنهم يقولون بلسان
أحوالهم أن الطاعات ال تنفع وإن المعاصي ال تضر وهذا
بهتان عظيم ،وقد قال هللا تعالى( :فمن يعمل مثقال ذرة خيرا ً
يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا ً يره) وقال تعالى( :وهلل ما في
السماوات وما في األرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) وقال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت
والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على هللا األماني".
ولو أنك قلت لواحد من هؤالء المغرورين :اقعد عن
سخر منك ،وقال الكسب والتجارة وهللا تعالى يأتيك برزقك لَ ِّ
صب، بالكد والن َ
ِّ ما رأينا شيئا ًيجيئ إال بالسعي والطلب ،بل
مع أن هللا تعالى قد تكفل له بالدنيا ولم يتكفل له باآلخرة فهل
ذلك إال انعكاس وانتكاس على أم الرأس!
وقد قال الحسن البصري رحمه هللا :إن أماني المغفرة قد
لعبت بأقوام حتى خرجوا من الدنيا مفاليس ،يعني من
األعمال الصالحة ،قال رحمه هللا :إن المؤمن جمع إحسانا ً
وخوفاً ،وإن المنافق جمع إساءة وأمنا ً فالمؤمن ال يصبح إال
خائفاً ،وال يمسي إال خائفاً ،يعمل ويقول:لعلي أنجو!
والمنافق يترك العمل ويقول سواد الناس كثير وسوف يغفر
لي .انتهى.
وقد كان األنبياء واألولياء مع كمال معرفتهم باهلل وحسن
ظنهم به وصالح أعمالهم وقلة ذنوبهم أو عدمها بالكلية في
غاية من الخوف واإلشفاق (أولئك الذين هدى هللا فبهداهم
اقتده).
فصــل
(وعليك) بالصبر فإنه مالك األمور وال بد لك منه ما
دمت في هذه الدار وهو من األخالق الكريمة والفضائل
العظيمة قال هللا تعالى( :يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر
والصالة إن هللا مع الصابرين) وقال تعالى( :وجعلناهم أئمة
يهدون بأمرنا لما صبروا) وقال تعالى( :إنما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب) وقال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :الصبر أمير جنود المؤمن" وقال عليه الصالة
والسالم" :في الصبر على ما تكره خير كثير" وفي وصيته
البن عباس رضي هللا عنهما "واعلم أن النصر مع الصبر
وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً".
(واعلم) أن السعادة موقوفة على حصول القرب من هللا
وحصوله موقوف على اتباع الحق واجتناب الباطل أبداً،
والنفس مجبولة بأصل فطرتها على كراهية الحق والميل إلى
الباطل ،فال يزال من همه تحصيل السعادة في حاجة إلى
الصبر تارة بحمل النفس على اتباع الحق ،وأخرى بحملها
على اجتناب الباطل.
والصبر على أربعة أقسام (أولها) الصبر على الطاعات،
ويحصل باطنا ً باإلخالص وحضور القلب فيها ،وظاهرا ً
بلزومها والدوام عليها والدخول فيها بنشاط واإلتيان بها على
الوجه المشروع.
ويبعث على هذا الصبر ذكر ما وعد هللا على فعل
الطاعات من الثواب عاجالً وآجالً ،ومن لزم الصبر على
هذا الوجه وصل إلى مقام القرب وهناك يجد في الطاعات
من الحالوة واللذة واألنس ما ال يوصف ،وينبغي لمن حصل
له هذا األمر أن ال يسكن إليه دون هللا.
(وثانيها) الصبر عن المعاصي ويحصل ظاهرا ً باجتنابها
والبعد عن مظانها ،وباطنا ً بترك تحدث النفس بها وميله
إليها؛ ألن أول الذنوب خطرة .وأما تذكر الذنوب السالفة فإن
كان يحصل به خوف أو ندم فهو حسن وإال فتركه أحسن،
ويبعث على هذا الصبر تذكر ما توعد هللا به على المعاصي
من العقاب عاجالً وآجالً ،ومن واظب على الصبر على هذا
الوجه أكرمه هللا بوجود األنفة من المعاصي كلها حتى يصير
دخول النار أهون عليه من ارتكاب أدناها.
(وثالثها) الصبر على المكاره وهي نوعان:
"األول" ما يحصل من هللا بال واسطة كاألمراض
واآلفات وذهاب األموال وموت األعزة من األقارب
واألصحاب ،ويحصل باطنا ً بترك الجزع وهو التبرم
والتضجر ،وظاهرا ً بترك الشكوى إلى الخلق ،وال يناقضه
وصف العلة للطبيب وفيضان العين عند المصيبة نعم
يناقضه لطم الخدود وشق الجيوب والنياحة ونحو ذلك.
ويبعث على هذا الصبر العلم بأن الجزع مؤلم في نفسه
وهو مع ذلك مفوت للثواب وموجب للعقاب ،وأن الشكوى
إلى من ال يستطيع أن ينفع نفسه وال أن يكشف عنها ضرا ً
من الحماقة وهذه صفة كل مخلوق ،ومع ذلك فالشكوى دالة
على عدم االكتفاء باهلل الذي بيده ملكوت كل شيء ،وذكر ما
في الصبر على المصائب والعاهات والفاقات من الثواب
وأن هللا تعالى أعلم بما يصلح له من نفسه .وقد قال هللا تعالى:
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من األموال
واألنفس والثمرات) إلى قوله تعالى( :وأولئك هم المهتدون).
ومن لزم الصبر على هذا الوجه ذوقه هللا حالوة التسليم
بروح الرضا وسيأتي إن شاء هللا تعالى ذكر الرضا وروحه ََّ
فيما بعد.
"والنوع الثاني" من المكاره ما يكون من قِّبَل الخلق من
األذى في النفس أو ال ِّعرض أو المال.
ويحصل كمال الصبر على ذلك بكف النفس عن بغض
حب الشر له ،وكف اللسان عن المؤذي إن كان مسلماً ،وعن ِّ
الدعاء عليه وترك المؤاخذة له رأساً؛ إما حلما ً واحتماالً أو
عفوا ً وصفحا ً اكتفاء بنصرة هللا في األول ورغبة في ثوابه
في الثاني.
ويبعث على هذا الصبر العل ُم بما ورد في فضل كظم
الغيظ واحتمال األذى والعفو عن الناس ،قال هللا تعالى( :فمن
عفا وأصلح فأجره على هللا إن هللا ال يحب الظالمين) وقال
تعالى( :ولمن صبر وغفر إن لك لمن عزم األمور).
وقال عليه الصالة والسالم" :من كظم غيظا ً ولو شاء أن
ينفذه لنفذه مأل هللا قلبه أمنا ً وإيماناً" .وقال عليه السالم:
"ينادي مناد يوم القيامة ليقم من أجره على هللا فيقوم العافون
عن الناس".
ومن لزم الصبر على هذا الوجه أكرمه هللا بحسن الخلق
وهو رأس الفضائل ومالك الكماالت.
وقال صلى هللا عليه وسلم" :الشيء أثقل في الميزان من
حسن الخلق وإن العبد لَيبلغ بحسن خلقه درجة صاحب
الصالة والصيام".
وقال عليه السالم" :أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا ً يوم
القيامة أحسنكم ُخلُقاً".
وقال ابن المبارك رحمه هللا تعالى :حسن الخلق بسط
الوجه وبذل المعروف وكف األذى.
وقال اإلمام الغزالي نفع هللا به :حسن الخلق هيئة راسخة
في النفس تصدر عنها األخالق الجميلة بسهولة.
(ورابعها الصبر عن الشهوات) وهي كل ما تميل النفس
إليه من مباحات الدنيا ،ويحصل كمال الصبر عنها بكف
النفس باطنا ً عن التفكير فيها والميل إليها ،وظاهرا ً بكفها عن
طلبها والتعريج عليها ،ويبعث على هذا الصبر العلم بما في
طلب الشهوات وتناولها من الشغل عن هللا وعن عبادته ومن
التعرض للوقوع في الشبهات والمحرمات ومن هيجان
الحرص على الدنيا وحب البقاء فيها والتمتع بشهواتها ،قال
أبو سليمان الداراني رحمه هللا ترك شهوة واحدة أنفع للقلب
من عبادة سنة ومن أدمن الصبر عن الشهوات أكرمه هللا
بإخراج حبها من قلبه حتى يصير يقول كما قال بعض
العارفين أشتهي أن أشتهي ألترك ما أشتهي فال أجد ما
أشتهي وباهلل التوفيق.
فصــل
(وعليك) بالشكر هلل على ما أنعم به عليك ،وما بك من
نعمة في ظاهرك وباطنك ودينك ودنياك إال وهي من هللا،
قال هللا تعالى( :وما بكم من نعمة فمن هللا) وهلل عليك من
النعم ما تعجز عن عده وحده وإحصائه فضالً عن القيام
بشكره (وإن تعدوا نعمة هللا ال تحصوها) ولو أن الفقير
المريض من الموحدين تفكر فيما هلل عليه من النعم لشغله
أداء شكره عن مكابدة الصبر فعليك ببذل االستطاعة في
شكر ربك ثم باالعتراف بالعجز عن القيام بما يجب عليك
من شكره.
(واعلم) أن الشكر سبب إلبقاء النعم الموجودة ووسيلة
إلى حصول النعم المفقودة .قال هللا تعالى( :لئن شكرتم
ألزيدنكم) وهللا تعالى أكرم من أن ينزع نعمه عن شاكر.
وقال تعالى( :ذلك بأن هللا لم يك مغ َِّيرا ً نعمة أنعمها على قوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم) أي بترك الشكر عليها ،وقد أمر هللا
عباده بشكره في عدة مواضع من كتابه ،قال هللا تعالى:
(كلموا من طيبات ما رزقناكم واشكروا هلل إن كنتم إياه
تعبدون) وقال تعالى( :كلوا من رزق ربكم واشكروا له)
وقال عليه الصالة والسالم" :ليتخذ أحدكم لسانا ً ذاكراً ،وقلبا ً
شاكراً) وقال عليه السالم" :اإليمان نصفان نصف صبر
ونصف شكر).
(واعلم) أنه كما يجب عليك أن تشكر هللا على النعم
الخاصة بك كالعلم والصحة ،كذلك يجب عليك أن تشكره
على النعم العامة كإرسال الرسل وإنزال الكتب ورفع السماء
وبسط األرض.
وأصل الشكر معرفة القلب بالنعم وأنها من هللا وحده لم
يصل إليها شيء منها بحوله وقوته بل بفضل هللا ورحمته.
وغاية الشكر أن تطيع هللا بكل نعمة أنعم بها عليك فإن لم
تطعه بها فقد تركت الشكر عليها وإن عصيته بها فقد وقعت
في الكفران ،وعنده تتبدل النعم بالنقم ومن بقيت عليه نعمة
مع عصيانه هلل بها فهو مستدرج .قال هللا تعالى:
(سنستدرجهم من حيث ال يعلمون) (إنما نملي لهم ليزدادوا
إثماً).
وفي الحديث" :إن هللا يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"
ومن الشكر كثرة الثناء على هللا والفرح بالنعم من حيث
أنها وسيلة إلى نيل القرب من هللا أو من حيث أنها دالة على
عناية هللا بعبده.
ومن الشكر تعظيم النعمة وإن كانت صغيرة ،يروى عن
مسوسة فاعلم
سقت إليك حبة َّ هللا أنه قال لبعض أنبيائه :إذا ُ
أني قد ذكرتك بها فاشكرني عليها.
ومن الشكر التحدث بالنعم من غير خروج إلى ما يوهم
تزكية النفس في الدينيات والتبجح بالدنيا في الدنيويات،
واألعمال بالنيات والخير كله في االقتداء بالسلف الصالح
في جميع الحاالت وهللا تعالى أعلم.
فصــل
(وعليك) بالزهد في الدنيا فإنه بشير السعادة ومظهر
العناية وعنوان الوالية ،وكما أن حب الدنيا رأس كل خطيئة
كذلك يكون بغضها رأس كل طاعة وحسنة ،ويكفيك مزهدا ً
في الدنيا أن هللا تعالى سماها في عدة مواضع من كتابه
العزيز "متاع الغرور".
وقال الحسن رحمه هللا تعالى :متاع الغرور كخضرة
النبات ولعب البنات ،وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه هللا
تعالى :متاع الغرور اسم للجيفة المنتنة وقد حصر هللا تعالى
الدنيا في اللهو واللعب اللذين ال يلتفت إليهما عاقل وال يعرج
عليهما إال كل غبي جاهل ،فقال تعالى( :وما الحياة الدنيا إال
لعب ولهو) إلى غير ذلك.
(واعلم) أن الزهد في الدنيا ألهله نعيم عاجل وال
يستطيعه إال من شرح هللا صدره بإشراق أنوار المعرفة
واليقين ،قال صلى هللا عليه وسلم" :إن النور إذا دخل القلب
انشرح له وانفسح" قيل فهل لذلك من عالمة قال" :نعم:
التجافي عن دار الغرور واإلنابة إلى دار الخلود".
وقال صلى هللا عليه وسلم" :الزهادة في الدنيا تريح القلب
والبدن والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن".
وقال عليه الصالة والسالم" :ازهد في الدنيا يحبك هللا
وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".
وأصل الزهد معرفة القلب بحقارة الدنيا وخستها ،وأنها
لو كانت تزن عن هللا جناح بعوضة ما سقى كافرا ً منها شربة
ماء ،وأنها ملعونة ملعون ما فيها إال ما كان هلل منها ،وأن
من أخذ منها فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو ال يشعر.
وثمرة هذه المعرفة المقصودة منها ترك الميل إلى الدنيا
باطنا ً وترك التنعم بشهواتها ظاهراً.
وأدنى درجات الزهد أن ال يقع بسبب الدنيا في ركوب
معصية وال في ترك طاعة.
وأعلى درجاته أن ال يتخذ من الدنيا شيئا ً حتى يعلم أن
أخذه أحب إلى هللا من تركه وبين هاتين الدرجتين درجات
كثيرة.
وللزاهد الصادق عالمات منها :أن ال يفرح بالموجود،
وال يحزن على المفقود من الدنيا ،ومنها أن ال يشغله طلب
الدنيا والتمتع بها عما هو خير له عند ربه.
(وعليك) بإخراج حب الدينار والدرهم من قلبك حتى
يصير عندك بمنزلة الحجر والمدر ،وبإخراج حب المنزلة
عند الناس من قلبك حتى يستوي عنك مدحهم وذمهم وإقبالهم
وإدبارهم؛ فإن حب الجاه أضر على صاحبه من حب المال
وكالهما داالن على الرغبة في الدنيا ،وأصل حب الجاه حب
التعظيم ،والعظمة من صفات هللا فهو منازعة للربوبية ،وأما
حب المال فإنما أصله حب التمتع بالشهوات وذلك من
صفات البهائم .وقد قال عليه الصالة والسالم عن هللا تعالى:
"العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا ً منهما
قذفته في النار" .وقد قال عليه الصالة والسالم "ما ذئبان
جائعان أرسال في زريبة غنم بأفسد لها من حب الشرف
والمال في دين الرجل المسلم".
(وعليك) بإيثار التقلل من الدنيا واإلقتار على ما ال بد منه
من مالبسها ومآكلها ومناكحها ومساكنها وسائر أمتعتها.
(وإياك) أن تتسع في شهواتها وتدعي مع ذلك الزهد
وتحتج لنفسك بالحجج الداحضة عند هللا تعالى وتطلب لها
وإعراض رسول هللا صلى هللا
ُ التأويالت البعيدة عن الحق،
عليه وسلم واألنبياء قبله واألئمة بعده عن التنعم بالدنيا مع
القدرة عليه من الحالل ال يخفى على من له أدنى معرفة
بالعلم .وإذا لم تقدر على الزهد في الدنيا فما عليك أن تعترف
بالرغبة فيها والحرص عليها ولست مأثوما ً إال على طلبها
والتمتع بها على وجه محرم في الشرع .والزهد مقام فوق
ذلك.
وليت شعري لو أن هللا تعالى فرض علينا التوسع في
الدنيا فمن أين لنا القدرة عليه في زمان عز فيه ما يواري
العورة ويسد الجوعة من الحالل فإنا هلل وإنا إليه راجعون.
فصــل
(وعليك) بالتوكل على هللا ،فإن من توكل على هللا كفاه
وأغناه وتواله (ومن يتوكل على هللا فهو حسبه) والتوكل من
ثمرات صدق التوحيد وثباته في القلب واستيالئه عليه .قال
هللا تعالى( :رب المشرق والمغرب ال إله إال هو فاتخذه
وكيالً) فانظر كيف بدأ بإثبات الربوبية ثم بإثبات االنفراد
باإللهية ثم أمرنا بالتوكل عليه جل وعال فلم يبق في تركه
عذر للبرية ،وقد أمر هللا عباده بالتوكل عليه ورغبهم فيه
بقوله( :وعلى هللا فليتوكل المؤمنون) وبقوله تعالى( :فتوكل
على هللا إن هللا يحب المتوكلين) وقال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم" :لو توكلتم على هللا حق توكله لرزقكم كما يرزق
الطير تغدو ِّخ َماصا ً وترو ُح بطاناً".
(واعلم) أن أصل التوكل على هللا معرفة القلب بأن
األمور كلها بيد هللا ما ينفع منها وما يضر وما يسوء منها
وما يسر وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على أن ينفعوه بشيء
لم ينفعوه إال بشيء قد كتبه هللا له أو على أن يضروه بشيء
لم يضروه إال بشيء قد كتبه هللا عليه.
ويشترط لصحة التوكل أن ال تعصي هللا بسببه وأن
تجتنب ما نهاك عنه وتفعل ما أمرك به معتمدا ً في جميع ذلك
عليه ومستعينا ً به ومفوضا ً إليه.
وال يقدح في توكلك دخولك في شيء من األسباب الدنيوية
إذا كنت معتمدا ً على هللا دونه.
نعم َمن صدق توكله ضعف دخوله في األسباب الدنيوية،
وأما التجرد عنها بالكلية فال يحمد إال في حق من دام إقباله
على هللا وطهر قلبه عن االلتفات إلى غير هللا ولم يضيع
بسببه من هم عيال عليه من خلق هللا ،قال رسول هللا صلى
يضيع من يعول".
ِّ هللا عليه وسلم" :كفى بالمرء إثما ً أن
(واعلم) أن االدخار والتداوي من األمراض ال يقدحان
في أصل توكل من يعلم أن المغني والنافع والضار هو هللا
وحده وقد ادخر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لعياله لبيان
الجواز ،وأما هو صلى هللا عليه وسلم فما كان يدخر لنفسه
شيئا ً إلى غد وربما ادخر له غيره فنهاه عند الشعور به .ولما
سئل عليه الصالة والسالم عن السبعين األلف الذين يدخلون
يسترقون وال
ْ الجنة بغير حساب من أمته فقال" :هم الذين ال
يكتوون وال يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون".
وللمتوكل الصادق ثالث عالمات" :األولى" أن ال يرجو
غير هللا وال يخاف إال هللا ،وعالمة ذلك أن ال يدع القول
بالحق عند من يرجى ويخشى عادة من المخلوقين كاألمراء
والسالطين" .والثانية" أن ال يدخل قلبه هم الرزق ثقة
بضمان هللا بحيث يكون سكون قلبه عند فقد ما يحتاج إليه
كسكونه في حال وجوده وأشد" .والثالثة" أن ال يضطرب
قلبه في مظان الخوف علما ً منه أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه
وما أصابه لم يكن ليخطئه.
ومن هذا القبيل ما حكي أن سيدي الشيخ عبد القادر
الجيالني نفع هللا به كان يتكلم في القدر فسقطت عليه حية
عظيمة ففزع الحاضرون فَرقا ً فالتفَّت على عنق الشيخ
ودخلت من أحد كميه وخرجت من اآلخر والشيخ نفع هللا به
ثابت لم يضطرب ولم يقطع كالمه.
طرح للسبع ليأكله فلم يؤذه :فيوقيل لبعض الشيوخ وقد ُ
طرحت للسبع قال في حكم سؤر أي شيء كنت تفكر حين ُ
السباع من العلم .وحسبنا هللا ونعم الوكيل.
فصــل
(وعليك) بالحب في هللا حتى يصير سبحانه أحب إليك
مما سواه بل حتى ال يصير لك محبوب إال إياه.
وسبب وجود الحب من جهة المحبوب إما وجود كمال
فيه أو حصول نوال منه.
فإن كنت ممن يحب ألجل الكمال فالكمال والجمال
والجالل هلل وحده ال شريك له في شيء من ذلك ،وما يلوح
على صفحات بعض الموجودات من معنى كمال أو يبدو
عليها من رونق جمال فهو المكمل والمجمل لها سبحانه
وتعالى بل هو الموجد لها والمخترع ولوال أنه أنعم عليها
باإليجاد لكانت مفقودة معدومة ولوال ما أفاض عليها من
أنوار جمال صنعته لكانت قبيحة مشئومة.
وإن كنت ممن يحب ألجل النوال فلست ترى إحسانا ً وال
تشاهد امتنانا ً وال ترى إكراما ً وال تبصر إنعما ً عليك وعلى
سائر الخلق إال وهللا تعالى هو المتفضل بجميع ذلك بمحض
الجود والكرم فكم من خير قد أسداه إليك! وكم من نعمة قد
أنعم بها عليك! فهو سيدك وموالك الذي خلقك وهداك،
والذي له مماتك محياك ،والذي أطعمك وسقاك ،وكفلك
ورباك وأسكنك وآواك ،يرى القبيح منك فيستره ،وتستغفره
منه فيغفره ،ويرى الجميل منك فيكثره ويظهره ،وتطيعه
بتوفيقه ومعونته فينوه باسمك في الغيوب ويقذف تعظيمك
وحبك في القلوب ،وتعصيه بنعمته فال يمنعه وجود العصيان
عن إفاضة اإلحسان ،فكيف ينبغي لك أن تحب غير هذا اإلله
الكريم؟ أم كيف يحسن منك أن تعصي هذا الرب الرحيم؟
(واعلم) أن أصل المحبة المعرفة وثمرتها المشاهدة
وأدنى درجاتها أن يكون حب هللا تعالى هو الغالب على
قلبك ،ومحك الصدق في ذلك أن ال تجيب أحب الخلق إليك
إذا دعاك إلى ما يكون سخط هللا في فعله كالمعاصي أو في
تركه كالطاعات .وأعلى درجاتها أن اليصير في قلبك حب
لغير هللا البتة .وهذا عزيز ودوامه أعز منه ،وعند دوامه
تضمحل البشرية بالكلية وعنه ينشأ االستغراق باهلل الذي ال
يبقي معه شعور الوجود وأهله بحال.
(واعلم) أن محبة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وسائر
أنبياء هللا ومالئكته وعباده الصالحين وما يعين على طاعته
كل ذلك من محبته تعالى .قال صلى هللا عليه وسلم" :أحبوا
هللا لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني بحب هللا وأحبوا أهل
بيتي بحبي" وقال عليه الصالة والسالم عن هللا" :وجبت
ي
ي والمتزاورين ف َّ ي والمتجالسين ف َّمحبتي للمتحابين ف َّ
ي".
والمتباذلين ف َّ
وللمحبة الصادقة عالمات أجلُّها وأعالها كمال المتابعة
برسول صلى هللا عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأخالقه قال
هللا تعالى( :قل إن كنتم تحبون هللا فاتبعوني يحببكم هللا)
وبحسب المحبة هلل تكون المتابعة لحبيب هللا إن كثيرا ً فكثير
وإن قليالً فقليل وهللا على ما نقول وكيل.
فصــل
(وعليك) بالرضا بقضاء هللا تعالى فإن الرضا بالقضاء
من أشرف ثمرات المحبة والمعرفة ،ومن شأن المحب أن
يرضى بفعل محبوبه ُحلوا ً كان أو ُمراً ،وقد قال صلى هللا
عليه وسلم عن هللا" :من لم يرض بقضائي ولم يصبر على
بالئي فليلتمس ربا ً سواي".
وقال عليه الصالة والسالم" :إن هللا إذا أحب قوما ً ابتالهم
فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط".
فالواجب عليك أيها المؤمن أن تعلم وتعتقد أن هللا تعالى
هو الذي يهدي ويضل ويشقي ويسعد ويقرب ويبعد ويعطي
ويمنع ويخفض ويرفع ويضر وينفع ،فإذا علمت ذلك وآمنت
به فالواجب عليك أن ال تعترض على هللا في شيء من أفعاله
ال ظارها ً وال باطناً ،ولسان االعتراض أن تقول لم كان هذا،
وألي شيء كان هذا ،وهال كان هذا كذا ،وبأي ذنب استحق
فالن ما جرى علي.
فمن أجه ُل ممن يعترض على هللا في ُملكه وينازعه في
سلطانه ،وهو مع ذلك يعلم أنه تعالى هو المنفرد بالخلق
واألمر والحكم والتدبير يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (ال
يسأل عما يفعل وهم يسألون) بل الواجب عليك أن تعتقد أن
جميع أفعال هللا تعالى وقعت على وجه ال أحكم منه وال أعدل
وال أفضل منه وال أكمل.
وهذا حكم الرضى بأفعال هللا تعالى على وجه اإلجمال،
وأما على وجه التفصيل ،فإن األمور التي تخصك على
قسمين (منها) ما يالئمك كالصحة والغنى وهذا القسم ال
يتصور فيه سخط إال من حيث نظرك إلى من فضل عليك
في ذلك فالواجب عليك عنده أن ترضى بما قسم هللا لك من
حيث أن له سبحانه وتعالى أن يفعل في ملكه ما يشاء أو من
حيث أنه تعالى قد اختار لك ما هو األصلح لك واألنسب
لحالك وهذا أكمل (ومنها) مما ال يالئمك كالمصائب
واألمراض واآلفات فحرام عليك أن تتبرم بشيء من ذلك أو
تجزع عنده ،بل األكمل لك أن ترضى وتسلم فإن لم تستطع
فلتصبر ولتحتسب ،قال النبي صلى هللا عليه وسلم" :اعبد
هللا تعالى بالرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره
خير كثير".
وليس من الرضا في شيء ما يجده بعض األغبياء من
الطمأنينة عند ترك بعض المأمورات وارتكاب بعض
المحظورات فإن فعل المعاصي وترك الطاعات مما يسخط
هللا تعالى فكيف يرضى هو بشيء ال يرضى هللا به قال هللا
ي عنكم وال يرضى لعباده تعالى( :إن تكفروا فإن هللا غن ٌّ
ضه لكم) وإنما رضي هذا المسكين الكفر وإن تشكروا ير َ
عن نفسه وظن أنه رضي عن ربه ،والرضا عن هللا وعن
النفس يبعد أن يجتمعا في موطن واحد.
وما أحسن ما قاله اإلمام الغزالي رضي هللا عنه في
رسالته إلى أبي الفتح الدمشقي رحمه هللا :الرضا هو أن
ترضى بما يفعل هللا باطنا ً وتفعل ما يرضيه ظاهراً .فإن أراد
العبد أن يعرف ما عنده من الرضا ْفليلتمسه عند نزول
المصائب وورود الفاقات واشتداد األمراض فسوف يجده
هناك أو يفقده.
سفلة أبناء الزمان حين يقال لهم ماوكثيرا ً ما تسمع من َ
لكم تتركون الطاعات وتفعلون المحرمات فيقولون هذا شيء
قد قضاه هللا علينا وقدَّره لنا وال محيص لنا عنه وإنما نحن
عبيد مقهورون فهذا هو مذهب الجبرية بعينه ،ومنتحله قائل
بلسان حاله إن لم يقل بلسان مقاله :ال فائدة في إرسال الرسل
وإنزال الكتب ،ويا عجبا ً كيف يصدر ممن يدعي اإليمان
االحتجاج لنفسه على ربه وهلل الحجة البالغة على جميع
خلقه ،أم كيف يرضى المؤمن لنفسه أن يتشبه بالمشركين
القائلين( :لو شاء هللا ما أشركنا وال آباؤنا وال حرمنا من
شيء) أوال يسمع ما رد هللا عليهم به إذا يقول لنبيه (قل هل
عنكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إال الظن وإن أنتم إال
تخرصون).
ثم إنه ال يسع المشركين إذا رجعوا إلى هللا أن يحتجوا
بهذه الحجة الداحضة عند هللا بل يقولون( :ربنا غلبت علينا
شقوتنا وكنا قوما ً ضالين) (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا
نعمل صالحا ً إنا موقنون).
(واعلم) أن الدعاء واإللحاح فيه ال يقدح في الرضا بل
هو من الرضا والدعاء معرب عن التحقق بالتوحيد وهو
لسان العبودية وعنوان التحقق بالعجز واالضطرار والذل
واالفتقار ،ومن تحقق بهذه األوصاف عرف ووصل ،وعلى
غاية القرب من هللا حصل ،وقد ورد عن رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم" :إن الدعاء مخ العبادة وسالح المؤمن ونور
السماوات واألرض أن من ال يسأل هللا يغضب عليهم" .وقال
موالنا جلت قدرته( :وهلل األسماء الحسنى فادعوه بها) (وقال
ربكم ادعوني أستجب لكم).
وما وقع من الخليل عليه السالم من اإلمساك عن الدعاء
لسر يختص بتلك الحال وإالحين طرح في النار إنما ذلك ٍ
فقد حكى هللا عنه الدعاء في مواضع عديدة من كتابه بل لم
يحك عن أحد من األنبياء أكثر مما حكاه عنه ،فتفقه في كتاب
هللا واستخرج العلوم منه فإنها بجملتها مودعة فيه ال يشذ
منها دقيق وال جليل وال جلي وال خفي .قال هللا تعالى( :ما
فرطنا في الكتاب من شيء) (وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا ً لكل
شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين).
خاتمة
في وصايا إلهية
وردت بها أخبار قدسية ،وآثار صحيحة مروية
قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما ً
فال تظالموا ،يا بعادي كلكم ضال إال من هديته فاستهدوني
أهدكم ،يا عبادي كلكم جائع إال من أطعمته فاستطعموني
أطعمكم ،يا عبادي كلكم عار إال من كسوته فاستكسوني
أكسكم ،يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر
الذنوب جميعا ً فاستغفروني أغفر لكم ،يا عبادي إنكم لن
تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني ،يا
عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى
قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ،يا عبادي
لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب
رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ،يا عبادي لو
أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد
فسأولني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك مما
عندي شيئا ً إال كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ،يا عبادي
إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا ً
فليحمد هللا ومن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفسه".
وقال صلى هللا عليه وسلم" :إن هللا أوحى إلي أن
تواضعوا حتى ال يفخر أحد على أحد وال يبغي أحد على
أحد".
وقال صلى هللا عليه وسلم" :رأيت ربي في المنام فساق
الحديث إلى أن قال :يا محمد قلت :لبيك قال :إذا صليت فقل:
اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب
المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير
مفتون".
وقال صلى هللا عليه وسلم" :قال هللا تعالى :ابن آدم قم إلي
أمش إليك وامش إلي أهرول إليك ،ابن آدم اذكرني ساعة
من أول النهار وساعة من آخره أكفيك ما بين ذلك ،ابن آدم
ال تعجز أن تصلي لي أربع ركعات من أول النهار أكفك
آخره" ،وأوحى هللا إلى آدم عليه السالم "أربع خصال فيهن
جماع الخير لك ولولدك خصلة لي وخصلة لك وخصلة فيما
بيني وبيك وخصلة فيما بينك وبين عبادي ،أما التي هي لي
فتعبدني ال تشرك بي شيئاً ،وأما التي هي لك فعملك أجزيك
به ،وأما التي هي فيما بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي
اإلجابة ،وأما التي هي فيما بينك وبين عبادي فتصحبهم بما
تحب أن يصحبوك به".
وفي صحف إبراهيم عليه السالم" :وعلى العاقل أن يكون
ممسكا ً للسانه عارفا ً بزمانه مقبالً على شأنه ،وعلى العاقل
أن تكون له أربع ساعات :فساعة يناجي فيها ربه ساعة
يحاسب فيها نفسه ،وساعة يفضي فيها إلى إخوانه اللذين
يبصرونه بعيوب نفسه ،وساعة يخلي فيها بين نفسه
وشهواتها" يعني المباحة.
وفي التوراة( :يا ابن آدم) ال تعجز أن تقوم بين يدي
مصليا ً فأنا هللا الذي اقتربت إليك وبالغيب رأيت نوري .وفي
بعض كتب هللا المنزلة( :يا ابن آدم) خلقتك لعبادتي فال
تلعب ،وتكفلت لك برزقك فال تتعب( ،يا ابن آدم) اطلبني
تجدني فإنك إذا وجدتني وجدت كل شيء وإذا فتك فاتك كل
شيء فأنا أحب إليك من كل شيء (ابن آدم) أنا هللا الذي أقول
للشيء كن فيكون ،أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون.
وأوحى هللا إلى موسى عليه السالم( :يا ابن عمران) كن
يقظانا ً وارتد لنفسك إخوانا ً فكل خدن وصاحب ال يوازرك
على مسرتي فهو لك عدو (يا موسى) مالك ولدار الظالمين
فليست لك بدار ،أخرج عنها همك وفارقها بقلبك فبئست
الدار هي ،إال لعامل عمل فيها الخير فنعمت الدار هي( ،يا
موسى) إني مرصد للظالم حتى آخذ منه لمن ظلمه( ،يا
موسى) إذا رأيت الغنى مقبالً فقل :ذنب عجلت عقوبته وإذا
رأيت الفقر مقبالً قل :مرحبا ً بشعار الصالحين( .يا موسى)
ال تنس ذكري فعند نسيانه تكثر الذنوب ،وال تجمع المال فإن
جمعه يقسي القلب (يا موسى) قل للظالمين ال يذكروني فإنهم
إذا ذكروني أذكرهم باللعنة؛ ألني آليت على نفسي أن أذكر
من ذكرني.
وأوحى هللا إلى بعض أنبيائه عليهم السالم قل لقومك ال
يدخلوا مداخل أعدائي وال يلبسوا مالبس أعدائي وال يركبوا
مراكب أعدائي وال يطعموا مطاعم أعدائي فيكونوا أعدائي
كما هم أعدائي.
وأوحى هللا إلى داود عليه السالم :كن بي مستأنسا ً ومن
سواي مستوحشا ً (يا داود) قل للصديقين من عبادي :بي
فليفرحوا ،وبذكري فليتنعموا (يا داود) حببني إلى عبادي.
قال :يا رب ،وكيف أحببك إلى عبادك؟ قال :ذكرهم آالئي
(يا داود) من رد إلي هاربا ً كتبته جهبذاً( ،يا داود) إذا رأيت
لي طالبا ً فكن له خادماً( ،يا داود) ال تسأل عني عالما ً قد
أسكرته الدنيا فيضلك عن سبيلي أولئك قطاع الطريق على
عبادي( ،يا داود) اعمل بعمل األبرار ،وال تبسم في وجوه
الفجار ،وخالط أودائي مخالطة وخالف أعدائي مخالفة( ،يا
داود) كن لألرملة واليتيم كاألب الشفيق أزيد في رزقك
وأكفر عنك ذنبك( ،يا داود) غض طرفك وصن لسانك فإني
ال أحب الفاسقين .وأكثر من االستغفار لنفسك وللخاطئين.
وأوحى هللا تعالى إلى بعض أنبيائه عليهم السالم :اذكرني
غضبت فال أمحقك فيمن أمحق. ُ غضبت أذكرك إذا
َ إذا
وأوحى هللا إلى عيسى عليه السالم أن قل لبني إسرائيل ال
يدخلوا بيتا ً من بيوتي إال بقلوب طاهرة وأبصار خاشعة
وأبدان نقية وأخبرهم أني ال أستجيب لهم دعوة وألحد من
الخلق قبلهم مظلمة.
وأوحى إليه أيضاً :يا ابن مريم ،عظ نفسك ،فإن اتعظت
فعظ الناس ،وإال فاستح مني.
وفي بعض اآلثار عن هللا تعالى" :قل للذين يتفقهون لغير
الدين ،ويتعلمون لغير العمل ،ويلبسون للناس مسوح المساك
ألسنتهم أحلى من العسل ،وقلوبهم أمر من الصبر ،أبي
يغترون! ،أم علي يجترئون! فإن حلفت ألبعثن على أولئك
فتنة ،تترك الحليم منهم حيران".
وأوحى هللا إلى موسى عليه السالم :إذا رأيت الفقراء
فسائلهم كما تسائل األغنياء ،فإن لم تفعل فضع كل شيء
علمتك تحت التراب.
وأوى هللا إلى داود عليه السالم :يا داود ،قل ألوليائي
وأحبائي :ليفارق كل واحد منهم صاحبه ،فإني مؤنسهم
بذكري ،ومحادثهم بأنسي ،وكاشف الحجاب فيما بيني وبينهم
ينظرون إلى عظمتي ،فأبلغ يا داود عني أهل األرض :أني
حبيب لمن أحبني ،وجليس لمن جالسني ،ومؤنس لمن
استأنس بي ،وصاحب لمن صاحبني ،ومطيع لمن أطاعني،
ومختار لمن اختارني ،فهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي
ومعاملتي ،فأنا هللا الجواد الماجد ،أقول للشيء كن فيكون.
وأوحى هللا إلى بعض أنبيائه عليهم السالم :عبدي هب لي
من عينيك الدموع ومن قلبك الخشوع ثم ادعني أستجب لك
وأنا القريب المجيب ،عبدي قف على المدائن والحصون
وأبلغهم عني كلمتين قل لهم :ال يأكلون إال طيبا ً وال يتكلمون
إال الحق وإذا أراد أحد منهم الدخول في أمر فليتدبر عاقبته
فإن كان خيرا ً فليمضه وإن كان شرا ً فال يأته.
وأوحى هللا إلى عيسى عليه السالم قل لبني إسرائيل
يحفظوا عني حرفين قل لهم ليرضوا بدنيء الدنيا لسالمة
دينهم كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين لسالمة دنياهم.
وأوحى هللا إلى موسى عليه السالم :يا موسى كن كالطير
الوحداني يأكل من رؤوس األشجار ويشرب من الماء
القراح ،فإذا جنه الليل أوى إلى كهف من الكهوف استئناسا ً
به واستيحاشا ً ممن عصاني (يا موسى) إني آليت على نفسي
أن ال أتم لمدبر عني عمالً ،وألقطعن أمل 1كل من يؤمل
غيري ،وألقصمن ظهر من استند إلى سواي ،وألطيلن
وحشة من استأنس بغيري ،وألعرضن عمن أحب حبيبا ً
سواي (يا موسى) إن لي عبادا ً إن ناجوني أصغيت إليهم،
وإن نادوني أقبلت عليهم ،وإن أقبلوا علي أدنيتهم ،وإن دنوا
مني قربتهم ،وإن تقربوا مني اكتنفتهم ،وإن والوني ،واليتهم،
وإن صافوني صافيتهم ،وإن عملوا لي جازيتهم ،أنا مدبر
أمورهم ،وسائس قلوبهم وأحوالهم ،لم أجعل لقلوبهم راحة
إال في ذكري؛ فهو ألسقمهم شفاء ،وعلى قلوبهم ضياء ،ال
يستأنسون إال بي ،وال يحطون رحال قلوبهم إال عندي ،وال
يستقر بي قرار إال إلي.
وأوحى هللا إلى داود عليه السالم( :يا داود) بشر المذنبين
وأنذر الصديقين .فقال :وكيف أبشر المنذرين وأنذر
الصديقين؟ فقال :بشر المذنبين أنه ال يتعاظمني ذنب أن
أغفره ،وأنذر الصديقين أن ال يعجبوا بأعمالهم فإني ال أضع
عدلي وال حسابي على أحد إال هلك( .يا داود) كتبت الرحمة
على نفسي وقضيت المغفرة على من استغفرني .أغفر
الذنوب جميعها صغيرها وكبيرها وال يكبر ذلك علي وال
1األمل هنا بمعنى الرجاء.
يتعاظمني فال تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وال تقنطوا من
رحمتي فإن رحمتي وسعت كل شيء ورحمتي سبقت
غضبي ،وخزائن السماوات واألرض بيدي والخير كله
بيدي .ولم أخلق شيئا ً مما خلقت لحاجة كانت مني إليه؛ ولكن
لتعلم قدرتي ،ويعلم الناظرون في حكم تدبيري وصنعي( .يا
داود) اسمع مني والحق أقول :من لقيني من عبادي وهو
يخاف عذابي لم أعذبه بناري (يا داود) اسمع مني والحق
أقول :من لقيني من عبادي وهو مستح من معاصيه أنسيت
حفظته ذنبه ولن أساله عنه(يا داود) اسمع مني والحق أقول:
لو أن عبدا ً من عبادي عمل حشو الدنيا ذنوبا ً وهو مصر
عليها ثم ندم واستغفرني مرة واحدة وعلمت من قلبه أنه ال
يريد أن يعود إليها أبدا ً ألقيتها عنه أسرع من هبوط الطائر
من السماء إلى األرض ،قال داود إلهي لك الحمد من أجل
ذلك ال ينبغي لمن يعرفك أن يقطع رجاءه عنك.
اللهم آتنا من لدنك أجرا ً عظيما ً واهدنا صراطا ً مستقيماً،
واجعلنا من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ،ذلك الفضل من
هللا وكفى باهلل عليماً ،والحمد هلل أوالً وآخرا ً وباطنا ً وظاهراً،
هو األول واآلخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم،
ما شاء هللا ال قوة إال باهلل العلي العظيم ،الحمد هلل الذي هدانا
لهذا وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا هللا .قال المؤلف قدس هللا
سره ونور ضريحه ونفع المسلمين به :وكان الفراغ من
تأليفها في أحد شهور سنة تسع وستين وألف ( )1069من
الهجرة النبوية ،على صاحبها -وهو سيدنا وموالنا ووسيلتنا
إلى ربنا محمد رسول هللا وعلى آله أفضل الصالة والسالم،
ما بقيت الليالي واأليام .والحمد هلل رب العالمين.