مختصر كتاب إخاء الأديان للنشر الالكتروني
مختصر كتاب إخاء الأديان للنشر الالكتروني
وفي آخره بعض الدراسات التي صدرت عن الكتاب في الشهر األول لصدوره
1
إخاء األديان
2
ولله طرائق بعدد أنفاس الخالئق
3
دين بين األديان وليس ديناً فوق األديان
4
God is one but his names are many.
5
أئمة اإلسالم الذين صرحوا بإخاء األديان ،واحترموا إيمان الناس من كل األمم
الفالسفة
والكندي وابن رشد وابن باجه وابن طفيل األولى
عن العبث والظلم
الشيخ محيي الدين بن عربي وصدر الدين قبلوا إخاء األديان بوصف الله
المجموعة
القونوي وابن سبعين واألمير عبد القادر تعالى هو المعبود على سبيل الثانية
الجزائري الحقيقة بخالف ظاهر الحال
الصوفية
قبلوا إخاء األديان بوصف
الحالج والسهروردي وعبد الكريم الجيلي المجموعة
األديان إرادة الله وأمره وجبره،
والعفيف التلمساني الثالثة
وأتباعها عباد مأمورون
الخامسة
إسالمية بالقانون الدولي
وقد أفردنا عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز عن القائمة ألنهما إمامان لكل المسلمين ،وال ينبغي
حصرهما في فئة واحدة.
وقد أفردنا في فصل خاص نصوص الكتاب والسنة الداعية إلى إخاء األديان.
6
خطة الدراسة
فصل تمهيدي
7
مقدمة
يثير عنوان إخاء األديان مشاعر متناقضة لدى أتباع الديانات عموماً ،وعلى الرغم من القبول النفسي
شك ،بنصوص قطعية في معظم الديانات، فإنه يصطدم ،بال ّ للعنوان ،واعتباره من أهداف الدين عموماًّ ،
أن مسؤولية أبناء الديانة هي دعوة األديان األخرى للتخلي
التي تعتبر الخالص شأن الديانة الناجية وحدها ،و ّ
عن معتقداتهم والدخول في الديانة الحق ،بهدف بلوغ النعيم السماوي الخالد ،الجّنة أو الفردوس أو النيرفانا
تكرسه األديان من ثقافة وتقاليد.
أو الظهور الجديد ،وفق ما ّ
أن المجتمعات اإلنسانية ،ومنها معظم الدول اإلسالمية ،باتت تمارس قد اًر كبي اًر من اإلخاء
ومن المدهش ّ
الديني ،في إطار المعامالت والتواصل المجتمعي ،وبشكل خاص في الدول الديمق ارطية التي باتت قوانينها
هدمت حواجز كثيرة من تفرض سلوكيات كثيرة من قبول اآلخر واحترامه ومودته ،ويمكن :القول ّإنها قد ّ
النص إلى الحوارات العقيمة التي تجعل من اآلخر دوماً شيطاناً
ولكنها تر ّتد في لحظة ّ
التمييز واالتهامّ ،
ضاالً مصيره الشقاء والخذالن ،تضيق به رحمة الخالق ،وينال َّ
أشد العقاب على ضالله وإص ارره ،وهذا
أن هذا التفكير موجود بشكل مدلول النصوص الظاهرة في األديان اإلبراهيمية بشكل خاص ،ومن المؤكد ّ
ولكنه غير موجود في األديان الفولوكلورية الصينية واليابانية.
أقل في الديانات الفيدية (الهندوسية والبوذية) ّ
أن المسألة ال تتوقف عند الجانب الالهوتي ،بل هو أيسر المسائل ،فهي تتعداه باستمرار وال شك في ّ
إلى الشقاق االجتماعي ،وتبادل الريب واالتهام ،وتحقير الذات اإلنسانية ،فمن كان عند الخالق حقي اًر مرذوالً
طرد من اإليديولوجيا إلى لن يكون عند عباده في حال أفضل ،وسيتنامى شعور الكراهية بشكل م ّ
فإننا لن نكون أبداً أمام مجتمع مستقر أو متراحم ،بل سنجد أنفسنا أمام ركام من
السوسيولوجيا ،ومن ثم ّ
ولكنه ير ّتد في لحظة االصطفاف إلى جحيم الكراهية ونار البغضاء.
البغضاء قد تزّينه بعض الممارساتّ ،
لقد أمضى اإلنسان قروناً طويلة ينظر بعين الريبة والحذر ألخيه اإلنسان ويبادله اتهاماً بعد آخر،
المدمرة
ّ قصة قابيل وهابيل مصدر إلهام للصراع األبدي في األرض ،ووجدت الصراعات والحروب
وانطبعت ّ
وتم تكريس عديد المجرمين أبطاالً ملهمين في التاريخ ،وبات المثاليون اليوتوبيون مساكين
تبري اًر أخالقياًّ ،
القوة والنفوذ.
حالمين ،يرثي لهم الواقع الصاخب الذي ترسمه سياسات التسابق على الثروة و ّ
أن هذا الصراع انعكس أيضاً على جدل أتباع األديان الذي بدا تسخيفاً وتشكيكاً ،ثم صار ومن المؤلم ّ
تحول إلى حروب ضارية ،ووجدت هذه الحروب ،باستمرار ،تبري اًر أخالقياً على تحقي اًر ولعناً وتكفي اًر ،ثم ّ
المقدسة،
التوحش البهيمية ،ووجدت لألسف من بات يطلق عليها الحروب ّ ّ مما فيها من ممارسات
الرغم ّ
إن العقود األخيرة
ويكرس أبطالها ومجرميها رموز التضحية والفداء ،ويطالب بتكرار أعمالهم المجيدة ،بل ّ
ّ
تطبيقية مرعبة أذهلت العالم كّله.
ّ قدمت نماذج
ّ
8
الدينية ،والتوفيق بين الديني
ّ وتسعى هذه الدراسة إلى معالجة هذه المسألة وفق قراءة جديدة للنصوص
تتبنى فكرة ضالل اآلخر وخسرانه،
واالجتماعي والفلسفي ،وتعمد إلى استقراء النصوص الدينية األساسية التي ّ
وتحاول بناء وعي جديد قائم على ثقافة احترام اآلخر اعتقاداً وديانة ومذهباً ،وتجتهد أن تلتمس أجمل ما
وتتبنى تشجيع الديانات على اإلخاء والتراحم فيما بينها ،ونزع أسباب التمييز والكراهية.
في األديانّ ،
كل ديانة
وتتجه هذه الدراسة إلى أفق آخر حيث تبحر في الجوانب المشرقة من االعتقاد الديني لدى ّ
وطائفة ،وتهدف إلى بسط األعذار لدى المخالفين لفهم روح الطقس الذي تمارسه هذه الديانات ،وبيان ّأنها
تتجه إلى أهداف نبيلة.
تتخير من
تقدم للمكتبة العربية رؤية مختلفة لجدل الديانات ،حيث ّ
فإن هذه الدراسة تحاول أن ّ وهكذا ّ
النبوات والفلسفة والحكمة رائع المحاوالت التي انطلقت من إيمان اإلنسان باإلنسان ،وترصد أرق ما امتلكه
ّ
المحبة والعرفان.
ّ اإلنسان من مشاعر وأعمق ما نظر إليه بعين القداسة ،لبناء عالم جديد يتأسس على
أن هناك مكاناً يظهر أجود ما في اإلنسان ،ويكشف عن الجانب النبيل من إنسانيته،
وتتأسس الفكرة على ّ
وهو في الغالب في قدسه الروحي الذي تحمله األديان ،تأسيساً على الحكمة واإلرادة والنبل في مقاصد
مما يؤكد وجود الجانب النبيل
الخالق العظيم ،وإيماناً باإلنسان الذي مارس تقديس هذه القيم بوعيه الجمعيّ ،
أمة.
أمة بعد ّ
في تلك القيم المستقرة جيالً بعد جيل ،و ّ
تشكل الوعي الجمعي لغالبية سكان األرض ،كما سنشرحه باألرقام ،وهي مسؤولة
أن األديان ال تزال ّ
األولّ :
المحبة ومواجهة الكراهية.
ّ أخالقياً عن نشر
أن ثقافة الكراهية والتدابر تنشأ في الغالب من مجتمعات األديان ،وتُبنى على أساس ديني ،وبات
الثانيّ :
من الواجب مواجهة هذه الخطايا باعتماد هدي النبوات ،وإظهار الجانب اإليجابي واإلنساني من ثقافة
األديان.
أن لإلنسان ـ بغض النظر عن أي انتماء ديني ـ مساحة في أعماقه للتأمل والروح .وقد نجح
ومن المؤكد ّ
الفالسفة في إيقاظ هذه المشاعر النبيلة عبر حديثهم عن اإلشراق والفيض والتأمل ،كما نجحت الموسيقا
والشعر في إحياء هذه الروح النقية في اإلنسان ،وباتت هذه المشاعر رصيداً مشتركاً من الصفاء والطهر
9
الدينية في دعم اإلخاء اإلنساني ،وهي
ّ بين سائر األبرار في هذا الكوكب ،وأصبحت هذه القيم ظهي اًر للقيم
لكل جهود إخاء الديانات.
شريك طبيعي ّ
وتولي هذه الدراسة اهتماماً مباش اًر في التأسيس لفكرة إخاء األديان في الوعي اإلسالمي خصوصاً،
ومواجهة السائد في تفكير الرواة من وجوب البغض في الله ،وافتراض الصراع بين األديان صراعاً وجودياً،
أن البقاء
أن إرادة الله قاضية أن تتصارع األديان واإليديولوجيات إلى النهاية و ّ
ال يحتمل أي صيغة وفاقية ،و ّ
لألقوى ومصير اآلخرين االندثار.
إن ثقافة الكراهية لم تقف عند حدود المختلف في الدين ،بل دخلت أيضاً إلى المختلف في
ويجب القولّ :
إن أكثر من عشرة حروب حقيقية في الشرق المذهب ،واتخذت شكالً أشد ضراوة وعنفاً ،ويمكن القولّ :
األوسط قامت في العقود القريبة على أساس طائفي ،أو كان البعد المذهبي جزءاً رئيساً في إيقاظ نوازع
الحرب وتبرير الكراهية.
ورّبما كان التعبير األكثر دقة في ثقافة الكراهية التي يلّقنها التعليم التقليدي هي ما ُروي في حديث ُنسب
للبخاري ّ
بأن الله يقول آلدم يوم القيامة« :يا آدم أخرج بعث النار! فيقول :ما بعث النار؟ فيقول :من ك ّل
ألف تسعمئة وتسع وتسعون إلى النار ،وواحد إلى ّ
الجنة!».2
مطروحا :هل األصل في عالقات األديان الكراهية والعداوة ،وهل تعبدنا الله تعالى ببغض
ً وبات التساؤل
األمة الناجية فبات ال يرى في األمم كلها إالّ الجهل
المخالفين في الدين ،وهل انتمى المولى سبحانه لهذه ّ
األمة دون سواها ،وأسئلة كثيرة باتت تدفع المسلم الملتزم إلى غياهب
والخيبة والضالل ،ومنح شفاعته لهذه ّ
10
أن الخير والفضيلة
وتكرس واقعاً مضطرباً يفترض التآمر بين األنبياء واألمم واآللهة ،و ّ
الحيرة والضياعّ ،
مجرد أوهام يستخدمها اإلكليروس في سيطرته على اإلنسان.
المحبة ّ
و ّ
هذا القلق وهذه الحيرة دفع بجيل كامل من الشباب إلى أفق حائر مرتاب ،وبات يضطرب في وعيه بين
التنكر لعقله ،وبين أن يمضي موغالً في الماضي ويخرج من الحاضر ،أو
التنكر لدينه أو ّ
اتجاهين اثنينّ :
تنم عن سلوك سليم وال تنتج جيالً
أن هذه الخيارات كّلها ال ّ
يعيش الحاضر ويحتقر الماضي ،وال شك في ّ
منسجماً مع نفسه ومع محيطه.
ويجب التأكيد أننا ال نقصد في هذه الدراسة الحديث عن اللقاءات البروتوكولية بين أتباع األديان ،وتشجيع
التعايش والمودة ،وبناء ثقافة المواطنة ،فهذه كلها مقاصد نبيلة ،وهي تجري باستمرار وعلى مستويات كثيرة،
ولكننا نهدف هنا إلى البحث في الجذور ،وإلى تصحيح الوعي بعالقة المسلم باآلخر المختلف على أساس
تربوي واعتقادي ،وليس وفق الحاجات االجتماعية والقانونية.
11
إخاء األديان في الوعي المسيحي
تستعرض الدراسة موقف األديان عموماً من مسألة احتكار الحقيقة واحتكار الخالص ،وتستعرض واقع
المؤسسة والممارسات المطبقة ،وتركز بشكل خاص على الموقف المسيحيّ كل دين ،على ضوء نصوصه
الذي يربط الدينونة بالمخّلص ،وبشكل أكثر إثارة بالمذهب والطائفة ،ويعالج فيه ما عالجه في الموقف
اإلسالمي ولكن بشكل أكثر اختصا اًر.
فإن القرآن الكريم أشار إلى هذه الممارسات في أربعة مواضع ،على أنها أمراض األمم ،وفق
وفي الواقع ّ
أن المسلمين عادوا لممارستها ،واتبعوا سنن من قبلهم شب اًر بشبر
ما شرحه جودت سعيد .ومن المؤسف ّ
وذراعاً بذراع ،ودخلوا في جحر الضب الذي دخلته األمم األولى حين حجرت واسع رحمة الله ،واحتكرت
الحقيقة والخالص عن الناس:
ﳂﳄﳅ
ﳃ ﲿ ﳁ
ﳀ ﭧﭐﭨ ﭐﱡﭐ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ
ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﱠ (البقرة .)888
ﱌﱎﱏﱐ
ﱍ ﱆﱈﱉﱊﱋ
ﱇ وكذلك قوله :ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ
ﱑ ﱒ ﱠ (البقرة.)821
وقوله :ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ
ﱗﱙﱚﱛﱜﱝ ﱞﱟ
ﱘ ﱏﱑﱒ ﱓﱔﱕﱖ
ﱐ
ﱠ ﱡ ﱢ ﱠ (البقرة .)882
ﱐﱒ
ﱑ ﱉﱋﱌ ﱍﱎﱏ
ﱊ ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ
ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱠ (البقرة )831
ويمكننا اعتبار هذه األمراض األخالقية أمراضاً شائعة في األمم ،وهي متالزمة مع ثقافة التبشير ،حيث
يندفع التبشير دوماً بدعوة الناس لطريق الخالص الوحيد ،والحقيقة الوحيدة ،وهو ما يستتبع نظرة دونية
تبشر بها األديان.
لألمم ،تتناقض مع القيم األخالقية التي ّ
وهي األمراض ذاتها التي تعيشها المجتمعات اإلسالمية فيقولون :لن يدخل الجنة إال من كان مسلماً،
ويقولون :كونوا مسلمين تهتدوا ،ويقولون :لن يدخل الجنة إال من كان مسلماً ،ويقولون :ليست النصارى وال
اليهود وال أي من هذه األمم على شيء ،ولن يرضى المسلمون عن اليهود وال النصارى حتى يتبعوا مّلتهم.
12
أمة
محددة ،بل هي نقد لكل ّ أن هذه السياقات ليست نقداً ألمم ّ
وعلينا أن نبذل جهداً خاصاً ليعي المسلم ّ
تمارس احتكار الخالص ،والمسلمون بطبيعة الحال مقصودون أيضاً بهذا المعنى ،فالعبرة هنا بعموم اللفظ
ال بخصوص السبب .ومن الغريب أن يرى المسلمون هذه اآلفة بوضوح في سلوك اليهود والنصارى وأن ال
يروا شيئاً منها في سلوك المسلمين.
حل؟
هل األديان مشكلة أم ّ
وال بد أن نكون واضحين في بداية الدراسة ،فإخاء األديان الذي نسعى إليه غير ممكن في القراءات
الالهوتية السائدة على األقل على مستوى الديانات السماوية ،وبشكل أقل الديانات الدارمية والفولكلورية،
فإن
حيث يلتزم الهوت هذه الديانات بشكل صارم برفض االعتراف باألديان األخرى ،وفي هذه النقطة ّ
متطرفة لرجال الدين أمر في غاية السهولة ،أولئك الذين يبررون باسم الرب نسف كل
ّ استحضار مواقف
المتشددين اإلسالميين باتوا يذكرون
ّ أن عدداً من
جهودنا واعتبارها هرطقة وانحرافاً ،ومن عجيب ما واجهت ّ
كل مسلم ،وذلك
وشدتها على ّبإعجاب مواقف المتشددين في الديانات األخرى ،على الرغم من قسوتها ّ
باعتبارهم صادقين وصريحين ومنسجمين مع عقائدهم ،بخالف دعاة التقريب واإلخاء الذين يتم وصفهم
المتلونين!!
ّ دوماً بالمنافقين
فإن األديان هي جزء من المشكلة وليست جزءًا من الحل ،وهذا ما يرثي لنا فيه دوماً
وفي هذا السياق ّ
بأنه لم يعد
أن الحل في قطيعة كاملة مع الدين ،واالعتراف الصريح ّ التيار العلماني المتشدد الذي يرى ّ
أن مكانه دراسات التراث البائد.
صالحاً للمجتمعات الحديثة و ّ
ويتعين هنا عدم التعميم ،فهذا موقف فريق متشدد من العلمانيين ،ولكن التيار الغالب في العلمانية هو
تيار يفصل بين الدين والدولة ،وال يرفض وجود الدين وما ينهض به من أدوار نفسية واجتماعية انطالقاً من
ذات الفرد.
13
الدين عموماً لن يرّحبوا بمثل هذا الخطاب ،وسيمارسون في الغالب دو اًر رافضاً لإلخاء الديني وربما سيقبلون
إلى حد ما نوعاً من اإلخاء البروتوكولي المتمثل في اللقاءات االستعراضية التي يعقبها عادة تقديم المعاذير
والتبرير للجمهور ،وتأويل ما جرى بأنه لمصلحة الدعوة وتألف الناس إلدخالهم في الدين الحق.
ولكن ما تستهدفه الدراسة هو التيارات التنويرية في هذه األديان ،تلك التي تطالب باستمرار بإصالح
الوعي الديني تجاه اآلخر ،وتطالب بإحياء الجذور اإلنسانية في مقاصد الديانة ،وتغيير النظرة تجاه اآلخر
أن ما حققه فالسفة اإلصالح الديني في هذه األديان ليس قليالً،
المختلف دينياً ،وتراهن هذه الدراسة على ّ
محبباً لدى جمهور عريض من أتباع الديانات ،بل لقد بات له ظهير مؤيد
وفعاالً ،وأصبح ّوقد بات مؤث اًر ّ
بأن الجيل القادم في الديانات
من بعض رجال الدين الشجعان ،وهذه المقدمات تبعث على األمل والتفاؤل ّ
جيل مختلف ،وهو مستعد أن يقبل اآلخر المختلف دينياً على أساس قيم اإلخاء اإلنساني وجوهر الرساالت
الدينية الداعي إلى المحبة واإلخاء.
ومن الضروري أيضاً أن ال يفهم من مقولة إخاء األديان تبرير الممارسات التي يقوم بها رجال الدين،
وقبولها والدفاع عنها ،بل الغاية هي احترام وجودهم االجتماعي وفق القيم التي يعتقدون ،أما تبرير الخرافة
أن في كل دين ركام من الخرافات والممارسات الجاهلية،
والجهل فهذا أمر غير مراد قطعاً ،وال شك في ّ
وكّلها مسندة بحسب ممارسيها إلى النص المقدس ووصايا النبي األول ،ومن ذلك كثير من ممارسات عبادة
البقر واألرواح المختلفة ،وتقديس القذارة ،ونبذ الحضارة ،ومنه في المجتمع اإلسالمي شرب بول البعير
وضرب الشيش والتطبير وما يكون فيهما من إراقة الدم ،وكذلك إنكار دوران األرض وكرويتها وتسخيف
الطب ومنع التداوي ،وغير ذلك مما تجده في كل دين .فهذه الممارسات غير مقبولة على اإلطالق ،وال
يشرفنا العمل لإلخاء مع تيارات الجهل هذه ،بل نستنكرها وندينها ونرفضها بكل ما أوتينا من قوة ،ولو
ّ
مقدس.
ظهرت في أي دين أو نسبت إلى أي كتاب ّ
وسيكرر هذا بطبيعة
ّ ولعل بعضهم يقول هو هذا إذاً! وهذا حال الديانات كلها تغمرها الخرافة إالّ اإلسالم،
الحال أتباع كل دين ،وهنا نختلف تماماً ،بل إنني أجزم أن أكثر من تسعين بالمئة من الممارسات الدينية
في العالم ،قائمة على برهان الحكمة واحترام العقل ،وربط الممارسات بدالالت ذات قيم عليا وغايات محترمة،
وذلك على الرغم من االنتشار الكبير لممارسات الخ ارفة والجهل التي تمأل اإلعالم األخضر ،وال شك في
أن انتشار الخرافات الكبير ناشئ بسبب طبيعة اإلعالم الحديث القائم على اإلثارة واالنفعال.
ّ
فإن الحوار واإلخاء ّإنما نتوجه به إلى التيارات العاقلة الحكيمة ،التي تحترم العقل والمجتمع، وهكذا ّ
وتناضل ضد الخرافة والجهل ،وتمتلك تفسي اًر عقالنياً وإنسانياً للممارسات ،وتمنح أفقاً كافياً لحرية اإلنسان
في اختيار اعتقاده ،ووجوب أالّ يكون لهذا االعتقاد أثر ضار باآلخرين ،ونحن نعتقد ّ
أن هذا التيار أكبر
بكثير مما نتصور ،و ّأنه سمة الزمة لكل المجتمعات الراغبة في قيام حضاري.
14
والسؤال اآلن:
أن
هل تبدو فكرة إخاء األديان حلماً خيالياً غير واقعي؟ وهل نحن ننفرد فيه ونخرج به عن الجمهور؟ أم ّ
يؤيدنا في هذا التوجه؟
هناك من ّ
وهل لهذه الدعوة ظهير في الشريعة اإلسالمية من نصوصها وفقهائها؟
وهل هناك في الطرف اآلخر من األديان من يعبأ بمثل هذه الدعوة ،ويرى فيها مبادرة إيجابية لإلخاء
والتراحم في األرض؟
3
أن أقدم مطالب الدراسة وحاجاتها في الجانب األصولي والفقهي ،وسيقوم العزيز سليمان البوطي
أحاول ّ
باإلبحار في منجم العرفان اإلسالمي ليتخير لنا رائع المواقف والحكمة من حصاد األئمة والفالسفة الكبار،
تعزز وعينا بإنسانية حضارتنا
في اإلسالم وفي األديان وفي الفلسفة ،وآمل أن نصل معاً إلى قناعة إيجابية ّ
اإلسالمية ،وتفتح آفاقنا لبناء شراكة حضارية مع األمم قائمة على الثقة واالحترام.
3لقد تركت هذه العبارة بحرقة وأسى ،فقد كان هذا هو مشروع الدراسة ،ولكن العزيز سليمان لقي الله بسبب جائحة
مني
علي أن أقوم بدوره الذي كان أقدر ّ وعوضه الجنة ،وبات
ّ «كورونا» مطلع شهر آب/أغسطس (3131م) رحمه الله
ّ
عليه.
15
فصل تمهيدي
تعريف الدين
أن
أن الديانات صاحبت اإلنسان في تاريخه منذ النشأة األولى ،وتؤكد األديان جميعاً ّ بات من المؤكد ّ
الدين فطرة اإلنسان ،و ّأنه صاحبه منذ قيامه األول ،فيما تقدم الدراسات األنثروبولوجية قراءات مختلفة لنشأة
الدين ،وعالقته بالغيب والشهود.
التعريف الالهوتي :اعتقاد وسلوك يقوم على اإليمان بوحي من الغيب سماوي أو أرضي،
وتتم عادة إضافة المعاني التي يعتقد فيها المؤمن صواب دينه وبطالن سواه ،وفي التعريف اإلسالمي
األشهر :الدين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصالح في الحال ،والفالح في
المآل.4
التعريف الفلسفي :تفسير الطبيعة والماضي والمستقبل عبر رؤية تستند إلى المطلق
عرفه برادلي :محاولة لبيان حقيقة الخير الكامل (المطلق) عن
وتتسامى على معايير العقل ،فيما ّ
طريق األبعاد الوجودية لإلنسان.5
التعريف االجتماعي :كيان اجتماعي يستند إلى توجيه غيبي ،ويشتمل على انتماء وممارسة
وطقوس ،ويمكن اعتبار ذلك اختصا اًر لما ذهب إليه إميل دوركايم :الدين مؤسسة اجتماعية ،قوامها
التفريق بين المقدس والدنيوي ،ولها جانب روحي من العقائد والمشاعر الوجدانية وآخر مادي مؤّلف
من الطقوس والعادات.6
وتتجه هذه الدراسة إلى االهتمام بالمجتمع حيث الدين أقوى غرائز المجتمع ،وهو حاضر بقوة في
التصورات التي صاحبت عصر األنوار واشتدت مطلع القرن العشرينّ ،
فإن ّ المجتمعات كافة ،وبخالف
تسجل كل يوم حضو اًر جديداً ،وتطرح أساليب متجددة
الديانات ليست ذاهبة إلى انحسار أو انكماش ،بل ّإنها ّ
أن الدين ال يزال يسجل حضو اًر
كل يوم ،وتؤكد اإلحصائيات التي تصدر بشكل متتابع عن مراكز األبحاث ّ
5عبد الهادي عبد السالم ،نادية ،المثالية المطلقة في الفكر الفلسفي الحديث ،نشر جامعة قار يونس8991 ،م ،ص.311
مجلة االستغراب ،بيروت ،عدد 82لعام 3181م ،دراسة للدكتور مصطفى النشار. 6
16
أن تطور العلم ال يتناقض مع الوعي الديني
التكيف مع التطور الحضاري ،و ّ
اجتماعياً قوياً ،و ّأنه قادر على ّ
كل جديد.
الذي بات قابالً لتأويالت واسعة تحتمل التعامل مع ّ
أن ( )%12من سكان العالم ينتمون إلى دين معين ،فيماويسجل مركز بيو لإلحصاء عام (3131م) ّ
ّ
أن هذه النسبة مستمرة إلى عام (3111م) علىيشير إلى أن ( )%81فقط ال ينتمون إلى أي دين ،ويؤكد ّ
األقل.7
ّ
التعدي عليه،
التدين ،وطالب بحماية هذ الحق ،ومنع من ّ وقد اعترف القانون الدولي بحق اإلنسان في ّ
ونص اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان على تأكيد هذا الحق في المادة الثانية ،كما ّ
نص في المادة رقم 81 ّ
حريته في تغيير دينه
الحق ّ
ُّ الدين ،ويشمل هذا
حرية الفكر والوجدان و ّ حق في ّلكل شخص ٌّمنه على التاليّ :
وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم ،بمفرده أو مع
أو معتقدهّ ،
جماعة ،وأمام المأل أو على حدة.
وتقوم الدول الكبرى دوماً بتأسيس هيئات حكومية رسمية لمتابعة الحقوق الدينية لألقليات وحمايتها في
الداخل والخارج ،وتعتبر ذلك جزءاً من مسؤوليتها األخالقية والمجتمعية.
وفي السنوات األخيرة صدرت أحكام قضائية مباشرة في تجريم االعتداء على القيم الدينية آخرها قرار
المحكمة األوربية لحقوق اإلنسان في (3181/81/31م) التي اعتبرت تحقير األديان عمالً إجرامياً ال يمكن
بحرية التعبير.
تبريره ّ
تنص
إن ( )41بالمئة من دول العالم ّ أقرت القوانين المحّلية بدور ريادي للدين ،ويمكن القولّ :
كما ّ
إن خمسة وتسعين بالمئة من دساتير العالم تشير بوضوح إلى
دساتيرها على دين الدولة ،كما يمكن القول ّ
حق إقامة الشعائر لسائر المقيمين.
وجوب حماية المعتقد ،وتوفير ّ
المفوض الخاص لألمم المتحدة لعام (3182م) بشأن الواقع القانوني في العالم للعالقة بين
وفي تقرير ّ
أن:
الدولة والدين ،ينص التقرير على ّ
محدد أو أكثر ،وتعامله بصفة تفضيلية.( )18دولة أعلنت تأييدها لدين ّ
( )813دولة لم تح ّدد ديناً بعينه ديناً للدولة ،وتؤكد حيادها بين األديان وحماية سائر
مواطنيها وحقهم في التدين.
( )81دول لديها نظرة سلبية للدين ،وال ترغب بأي دور له.
انظر موقع بيو لألبحاث المتخصص في دراسات األديان في الواليات المتحدة 7
https://www.pewresearch.org/
17
ويجب التأكيد على أننا وإن كنا نشجع بحماس مبادرات رجال الدين في إخاء األديان ،ونعتبره جوهرياً
أن الجمهور الذي نستهدفه يتجاوز طبقة المتدينين والتراثيين في األديان ،بل نبحث عن الجمهور
وهاماً ،على ّ
العريض لهذه الديانات بغض النظر إن كانوا ملتزمين الهوتياً بالنصوص والطقوس ،أو كانوا يحملون موقفاً
وشكياً بهذه الديانات ،ولكنهم ال يخرجون ضرورة عن دين اآلباء.
نقدياً ّ
إن تص ّور أن األمة الهندية العظيمة أو األمة الصينية العظيمة تصدر في وعيها عن رجال الدين
أن األور ّبيين واألمريكيين يصدرون عن رأي الكنيسة هو ّ
تجن كبير الهندوسي أو البوذي ،وكذلك تصور ّ
أن الشعوب تجاوزت رجال الدين فيها ،ولكن على الحقيقة ،وال يؤدي الغاية التي نريد ،بل ّإنه من المؤكد ّ
أن الجمهور الذي ال يعبأ عادة بتراثه الديني ير ّتد في لحظة المواجهة مع اآلخر الديني
يجب التأكيد دوماً ّ
إلى نصوص الكهنوت ،وهذا ما يجعل البحث في الالهوت الديني أم اًر ضرورياً لبناء إخاء األديان وكرامة
اإلنسان.
ليس المقصود األديان بل اإلنسان ،وإخاء األديان هو في النهاية إخاء اإلنسان ،أو هو التعامل إيجابياً
مع الهيئة األكثر ممارسة للقطيعة واإلقصاء بين الناس ،لتدرك خطأها وتعود إلى الخطاب اإللهي الغامر
بالمحبة والعناية ،فالخلق كّلهم عيال الله.
ّ لسائر الخلق
يستخدم الحوار المشترك في الحقل الديني عدداً من المصطلحات :صراع األديان ،مقارنة األديان ،حوار
نحدد الفوارق في االستخدام
األديان ،حوار أتباع األديان ،وحدة األديان ،توحيد األديان ،ولكن من المناسب أن ّ
بين هذه المصطلحات ومعنى اختيارنا إلخاء األديان.
صراع األديان:
تمر األديان ،دوماً ،خالل تأسيسها بلحظة فارقة توجب تميز األتباع عن اآلخرين ،وفي األديان نصوص
كثيرة مثل ما ورد في القرآن الكريم {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إالّ كانوا به يستهزؤون} ،ويستلزم
هذا الشقاق موقفاً حاداً من التمييز بين األتباع وغير األتباع ،وتعيش الحركات األصولية في األديان كّلها
لحظة الصدام هذه وتبني عليها موقفاً مستم اًر من العداء والتنازع ،بوصفه صراع الحق والباطل ،وصراع
الخير والشر ،وعادة ما يتم تداوله على أنه صراع وجود ال صراع حدود .وفي هذا السبيل وقعت الحروب
الضارية بين األديان ،وأشهرها بطبيعة الحال الحروب الصليبية التي استمرت مئتي عام وأنهكت الشرق
والغرب ،ورسمت حدوداً دموية للعالقات لم تنته إال بوالدة الدولة الحديثة ،وإعالن حقوق اإلنسان ،ولكنها ال
ويعبر عنها في األصولية اإلسالمية
زالت عند شريحة كبيرة من أتباع األديان أصالً من أصول العقيدةّ ،
18
تعبدي ال بد من أن يفضي
محبة المؤمنين ،وبغض غيرهم ،وهو بغض ّ
بعقيدة الوالء والبراء ،التي تقتضي ّ
في النهاية إلى مزيد من الفوضى والدماء.
حرب األديان:
ويمكن نسبة هذا المصطلح للمستشرق برنارد لويس ،وهي نزعة تظهر باستمرار في الغرب والشرق
وبشكل خاص في منعطفات الصراع والمواجهة ،وتغ ّذيها األحزاب العنصرية والمتطرفة .وفي هذا السياق
يمكن إدراج عدد من الكتاب منهم صموئيل هنتنغتون في كتابه (صدام الحضارات) ،وفرنسيس فوكوياما في
مدمرة، (نهاية التاريخ) ،ويرى هؤالء ّ
أن المواجهة بين األديان حتمية ،و ّأنها قد تتخذ صورة حربية وعسكرية ّ
توجه بشكل
إن هذه النظرة السلبية ّ
الحل ،ويمكن القولّ :
أن األديان جزء من المشكلة وليست جزءاً من ّ وّ
أساسي ضد اإلسالم الذي يحمل عقيدة الجهاد والوالء والبراء.
مقارنة األديان:
وهو جهد علمي يهدف إلى التعريف بعدد من األديان في سياق واحد والنظر في تفضيل بعضها على
بعض ،وقد تم استخدام هذا المصطلح دوماً في سياق صراع الديانات ،وتورطت فيه جهود استشراقية عملت
على خدمة التبشير واالستعمار ،قبل أن تظهر الدراسات الموسوعية المحايدة التي تحدثت بموضوعية وعمق
عن اختالف األديان وشرحت ،بدقة وحياد ،عقائد أتباعها.
ومن المؤسف أنني ال أعرف دراسة محايدة بالعربية تتناول بالبحث العلمي الهوت األديان وطقوسها في
سياق إيجابي بناء ،بل تنتهي كتب المقارنة دوماً بإثبات صحة اإلسالم وفساد األديان األخرى ،ومن أشهر
األعمال في ذلك كتب الشهرستاني في (الملل والنحل) ،وابن حزم في ( ِ
الف َصل في الملل واألهواء والنحل)
و(تهافت الفالسفة) للغزالي وكتب ابن تيمية في الرد على النصارى واليهود ،وفي العصر الحديث (موسوعة
مقارنة األديان) للدكتور أحمد شلبي ،و(موسوعة األديان والمذاهب في العالم) ،وسنشير إليها بعد قليل.
19
حوار األديان:
يهدف حوار األديان إلى تبادل المعرفة عن الديانات ،ويحمل عادة حمولة تبشيرية بحيث كل محاور
يظهر أجود ما في دينه ،وينهال على خصمه فيما يعتبره نقصاً وقصو اًر في ديانته.
وتندرج في هذا السياق الحوارات الصاخبة للشيخ أحمد ديدات مع الكهنة المسيحيين ،وكذلك الواعظ
المسلم الهندي الشهير ذاكر نايك ،وهي حوارات ذات طابع سلبي على إخاء األديان ،وتؤدي تلقائياً إلى
مزيد من الكراهية.
وعلى الرغم من المعنى النقدي في المصطلح فقد شاع استخدامه اليوم على المستوى الرسمي في البلدان
اإلسالمية ،وهناك مؤسسات رسمية قائمة في مصر والمغرب وماليزيا وقطر ولبنان والسعودية وإيران تحت
عنوان حوار األديان ،تهدف إلى بناء عالقات إيجابية بين أتباع األديان ،وتحقيق إصالح اجتماعي من
خالل التعارف بين األديان.
أن الحوار
تفضل السعودية استخدام هذا المصطلح ،وذلك تجاوباً مع مطالب الهيئات الدينية التي تعتبر ّ
ّ
مجرد الحوار مع األديان هو اعتراف بالهوتهم.
أن ّبين األديان بدعة ،و ّأنه ال يوجد دين حق إالّ دين واحد ،و ّ
أن الحوار ال يتناول الالهوت ،و ّإنما يتناول
وهنا يتم استخدام مصطلح حوار أتباع األديان ،ويتم التأكيد ّ
المسائل االجتماعية والقضايا المشتركة كالعفاف واألسرة ووقف الحروب.
وحدة األديان:
ويختار أصحاب هذا المنهج منهج األصل الواحد لألديان ،فاألديان في أصولها من المصدر نفسه،
وعلينا أن نبحث عن المشترك بين هذه األديان ونؤسس منها قيماً مشتركة وفضائل موحدة .وعادة ما يبحث
أصحاب هذا االتجاه عن الجذور المشتركة لكل الممارسات الدينية ،وتشابه ما دعت إليه األديان في الصالة
والصوم واألخالق ،ومن أشهر من نادى بوحدة األديان بهذا المعنى اإلمام ابن عربي وعبد الكريم الجيلي
واإلمام ابن الفارض.
20
توحيد األديان:
ويهدف هذا التوجه إلى جمع األديان كلها واستخراج دين جديد يتقبل منها أحسن ما فيها ،ويتخلى عن
أسباب الخصام والنزاع والصراع ،ويبني المستقبل على أساس الوعي بالدين العالمي اإللهي ،ويمكن أن ندرج
قدمه ديفيد هيوم وأوغست كونت وجون ديوي وإيرك فروم وجون
في هذا التفكير أصحاب الدين الطبيعي كما ّ
أن ما طرحه هؤالء الفالسفة ال يعدو أن يكون فلسفة نظرية وليس توليد دينهيك ،ويجب التوكيد على ّ
جديد ،أما المحاولة المباشرة إلطالق هذه الفكرة فقد نسبت للسلطان المغولي أكبر شاه الذي كان أبرز من
قام بمحاوالت حقيقية لبناء دين عالمي إنساني يتوحد فيه المسلمون والهندوس والمسيحيون ،وقد سمي فيما
بعد ( ،)Din I Ilahiوسنناقش ذلك في فصل مستقل.
وفي هذه الدراسة قمنا باستخدام مصطلح مختلف ،وأرجو أن أقدم محدداته بوضوح:
إخاء األديان:
أن
األخوة والمحبة بين أتباع األديان ،بواقعها الحالي ،باعتبار ّ
ّ ويهدف المصطلح إلى بناء أجود عالقات
األديان الحالية هي واقع مجتمعي راسخ ،وهي وفق كل الدراسات االجتماعية واألنثروبولوجية تتخذ هيئات
ومؤسسات وتقاليد مستقرة وراسخة ،وهي تسهم في تشكيل الوعي لدى معظم سكان هذا الكوكب الذي صار
قرية عالمية.
ويتبنى مصطلح إخاء األديان منطق البناء على اإليجابي في عالقات أهل األديان ،واالعتراف باألديان
جميعاً على ّأنها جهود نبيلة وعظيمة تهدف لبناء السعادة في األرض سواء كان مصدرها أرضياً أم سماوياً،
وسواء ذكرت في القرآن الكريم أو لم تذكر.
فإن إخاء األديان ال يفترض حوا اًر تبشيرياً ،وال يفرض تعديالت على المتحاورين للوصول
وبناء عليه ّ
ويشجع التيارات
ّ أن وراء كل سلوك ديني هدف نبيل،
إلى منطقة وسطى ،بل يقبل الجميع كما هم ،ويتقبل ّ
لتتقبل فكرة اإلخاء اإلنساني بغض النظر عن الخالف في المعتقدات
اإلصالحية والتجديدية في األديان كّلهاّ ،
المحبة بين اإلنسان واإلنسان ،ولكم دينكم ولي دين.
ويؤسس لبناء األخوة و ّ
والطقوسّ ،
وإذا كان هناك اتجاه نستهدفه ونواجهه فهو تيار اإلقصاء واالستعالء وإلغاء اآلخرين الذي يمكن أن نجده
أن الحلف المأمول هو حلف مع
وغني عن القول ّ متشددوها ،ولكل أمة متسامحوها،
أمة ّ في كل دين ،فلكل ّ
ّ
المتشددة فيها.
ّ أهل التسامح في األديان ،وسيكون بالضرورة ضد التيارات
فإن إخاء األديان ال يمكنه أن يكون محايداً في كل ما تطرحه األديان ،بل سيختار
وحتى نكون أكثر دقة ّ
الجانب اإليجابي في السلم والحب والرحمة في تراث الديانات ،فيما سيواجه ثقافة البغضاء التي تسربت إلى
21
التراث الديني في ظروف وشروط مختلفة ،وسيسعى إلى اكتشاف سفراء اإلخاء اإلنساني في كل ديانة
وسيبني على تجاربهم واختياراتهم وفلسفتهم ،كما سيشير بوضوح إلى أعداء اإلخاء اإلنساني مهما نالوا من
رتب القداسة في محيطهم الديني.
الالدينيين ،حيث نؤمن وأجد هنا ضرورة للتأكيد مرة أخرى على ّ
أن إخاء الديانات ال يستهدف إقصاء ّ
بأن الخلق جميعاً يحملون فطرة
بأن األهداف النبيلة في اإلخاء موجودة بالفطرة لدى كل إنسان ،ونؤمن ّ
ّ
تشكل الغالبية الساحقة
ولكننا نعالج المشكلة مباشرة في حقل الديانات ألنها ّ
النقاء الروحي والطهر النفسيّ ،
ألن ثقافة الكراهية تجد جذورها في التراث الديني،
للوعي اإلنساني في العالم من جانب ،ومن جانب آخر ّ
للمحبة في تراث األديان وأن نواجه السلبية
ّ وعلينا أن نقوم بما نستطيع لنوقظ الجانب اإليجابي الداعي
المدمرة في التراث نفسه التي أفرزت تاريخياً أشد الحروب م اررة وقسوة.
ّ
ويمكن اإلشارة إلى اإلمام الجليل موالنا جالل الدين الرومي على ّأنه أبرز دعاة إخاء األديان ،ونعتبره
عبر عن هذه الحقيقة ،ومارسها ودافع عنها في التاريخ اإلسالمي.
في الواقع أفضل من ّ
الدراسات السابقة
يمكن القول :إن خطاب إخاء األديان موجود في الواقع في النصوص الدينية في اإلنجيل والقرآن الكريم
كما سنبين ،وهو كذلك موجود في الخطاب التأسيسي للديانات وبشكل خاص الهندوسية والبوذية والسيخية
والبهائية ،وبسط هذه األدلة ومناقشتها هو جوهر هذا الكتاب.
أن النصوص الدينية طافحة أيضاً برفض دعوات اإلخاء ،واعتبار وعلينا ،بالقدر نفسه ،أن نشير إلى ّ
أي انحراف عنه أو موادة لغيره هو انتهاك لجوهر النص
أن ّ
الدين صراطاً مستقيماً وحيداً إلى الله والحقيقة ،و ّ
الديني.
إن الجدل كله سيكون في هذه الدائرة تحديداً ،فالنص الديني كله ّ
حمال أوجه وال زال الناس ويمكن القولّ :
يختلفون فيه تنزيالً وتأويالً ،ويبدو ّ
أن هذا َقدر األديان إلى األبد.
قدم علماء الحضارة اإلسالمية كثي اًر من الدراسات النقدية لألديان ،ومن هذه الكتب:
من جانب آخرّ ،
(الملل والنحل) للشهرستاني ،و( ِ
الف َصل في الملل واألهواء والنحل) البن حزم األندلسي ،و(هداية الحيارى
22
مشابهة في األصل والفرع لكتب النصارى في العصور الوسطى التي ُو ْ
ضعت التهام اإلسالم بالهرطقة
والفساد واالنحراف ،وحتمية الصراع بين الديانتين ،وانتصار المسيحية على اإلسالم.
وفي السياق نفسه ما كتب في العصر الحديث من موسوعات الحوار بين األديان كما نجدها في موسوعة
الدكتور أحمد شلبي (مقارنة األديان) ،وكذلك كتب مقارنة األديان وهي كثيرة ،ومنها كتاب (مقارنة األديان)
لمحمد أحمد الخطيب ،و(موسوعة األديان والفرق والمذاهب) التي أصدرتها هيئة حكومة سعودية بإشراف
مانع حمود الجهني ،وكذلك كتاب أحمد ديدات الذي يتم توزيعه على النت بعنوان (خمسون ألف خطأ في
الكتاب المقدس) ،وكتاب (حوار األديان نشأته وتطوره) للباحث األستاذ عبد الحليم آيت ،وكتاب (الحوار
بين أتباع األديان والثقافات) للدكتور عادل بن علي الشندي ،وكتاب (الحوار بين األديان أسراره وخفاياه)
تكرس لغة العصور الوسطى القائمة على إثبات للدكتور عبد الودود شلبي ،وغيرها كثير ،فهي في الواقع ّ
انحراف اآلخرين وزيغهم وبطالن معتقداتهم وممارساتهم ،وتلتزم عموماً الموقف المشهور عند رجال الدين،
وهو التعامل مع حوار األديان كمنبر للتعريف باإلسالم ،والرد على األديان األخرى وبيان تهافتها وانقضاء
آمادها ونسخها بالشريعة الخاتمة.
أما الدراسات األوربية في العصور الوسطى فال تخرج عن نسق سياقاتها في التراث اإلسالمي ،ولم
تصدر عن األوربيين دراسة جدية في اإلخاء بين اإلسالم والمسيحية .وقد طبعت العالقات بين اإلسالم
أن هذه األجواء
والغرب الحروب الصليبية ثم الحروب التركية في أوربا ثم الحروب االستعمارية ،ومن المؤكد ّ
البناء.
الطاحنة لن تخلق فرصاً للحوار اإليجابي ّ
ولكن مع قيام عصر األنوار ظهرت دراسات نقدية مهمة تناولت التعريف بالدين كقيمة روحية واجتماعية،
مهمة ألداء الكنيسة ،فيبعيداً عن روح التبشير والوعظ ،وقد كتب هيوم وديكارت وكانط دراسات نقدية ّ
قدمها جان جاك روسو وفولتير وإميل دوركايم وسانتيانا وإمانويل
سلسلة دراسات سندرسها في فصل خاصّ ،
كانط ،وتولى جون هيك في النهاية صياغة مشروع التعدد الديني الذي يؤكد وحدة مصادر األديان وغاياتها
وتشابه مفاهيمها في االعتقاد والسلوك.
23
وفي المكتبة العربية ظهرت بعض األعمال المهمة التي تناولت حوار األديان بإيجابية موضوعية ،وقدمت
تصورات متعددة إلمكانية بناء إخاء حقيقي بين األديان ،ومما صدر في هذا الشأن:
صدر بالفرنسية كتاب (تاريخ مقارن لألديان التوحيدية) للكاتب الجزائري محمد أركون وقد ترجم إلى
العربية ،وقد التزم فيه حياداً أكاديمياً ،وفيه ّأرخ للديانات التوحيدية الثالث ،كما صدر عن دار األهلية كتاب
(الوحدة في االختالف) شارك فيه كل من محمد أبو نمر وأمل خوري وإيميلي ويلتي باإلنكليزية وترجم إلى
العربية.
وكتب سليمان مظهر (قصة الديانات) في قراءة إيجابية لتجليات األديان وقيمها الروحية ،وتبدو فيه
بوضوح الرغبة التوفيقية بين مقاصد األديان.
وصدر عن المركز الديمقراطي العربي في ألمانيا كتاب (الفن في حوار األديان األ زلي) للكاتب عبد
الرحمن جعفر الكناني ،وتناول فيه جوانب من الرمزية في الفن للتعبير عن القيم المشتركة بين األديان
بأسلوب فني بعيد عن الالهوت والسياسة.
قدم له
كما نشير إلى كتاب مهم صدر عن دار نيوبوك في القاهرة للباحث األستاذ محمد ثروت وقد ّ
الدكتور يوسف عامر نائب رئيس جامعة األزهر بعنوان (حوار األديان وأثره على التعايش السلمي) ،تناول
فيه حوار األديان برؤية إيجابية ،وتطرق للنموذج الماليزي ،وقدم سجالً تاريخياً لنشاطات حوار األديان من
األخوة اإلنسانية التي وّقعها البابا وشيخ األزهر في أبو ظبي (3189م).
ّ وثيقة المدينة إلى وثيقة
وكتبت
ُ ونشير إلى كتاب (المشترك أكثر مما تعتقد) للكاتب األمريكي وليم بيكر ،وقد ترجمناه للعربية،
مهمة عليه.
مقدمة ّّ
ويمكن اعتبار هذه الدراسات إيجابية في التعامل مع الحوار الديني ،ولكنها اقتصرت على الجانب
االجتماعي ولم تمس الالهوت ،فيما يمكن أن نشير إلى دراسات أكثر تقدماً .وفي هذا السياق نشير إلى
كتاب (الصراطات المستقيمة) للدكتور عبد الكريم سروش ،وهي دراسة عميقة تستخدم األدلة التراثية والتفكير
أن قدر هذا العالم
الغربي في إثبات إمكان وجود وئام حقيقي بين الديانات ،وأكثر من صراط مستقيم ،و ّ
التشارك والتفاهم والتكامل ،وتدعو بوضوح إلى اكتشاف المشترك بين األديان والبناء عليه.
مهند خورشيد عميد كلية الدراسات اإلسالمية بجامعةومن هذه الدراسات ما كتبه باأللمانية الدكتور ّ
مونستر بعنوان( :اإلسالم رحمة -السمات األساسية للتحديث الديني) وفيه يتناول وعياً آخر بالنص الديني
قائم على المقاصد اإلنسانية ،يؤسس العتراف كامل بإيمان اآلخرين ،وقد أثار الكتاب جدالً في المجتمع
األلماني.
ومنها كتاب عبد الجبار الرفاعي( :الدين والنزعة اإلنسانية) ،وهو جزء من ثالثية كتبها بعنوان (الدين
والظمأ األنطولوجي) و(الدين واالغتراب الميتافيزيقي).
24
إشكالية البحث
يمكن تعيين إشكالية البحث ومناطه في السؤال التالي :هل هناك ضرورة تحتّم ظهور تيار إخاء األديان؟
أن ذلك استحالة عقلية
وهل هي مصلحة دينية أم مجتمعية؟ وهل يتعين تعزيز اإلنسانية بإشراف األديان أم ّ
وواقعية؟
وهل سيوافق القادة الدينيون في األديان المختلفة على سعي كهذا؟ أم سيعتبرونه تهديداً للثوابت التي ال
تنازل عنها؟
وهل توجد مشروعية فقهية ونصية للبحث في إخاء األديان؟ وهل سيتقبل المجتمع اإلسالمي تحديداً هذه
الفكرة في ظل تأييد ساحق لمبدأ نسخ األديان كّلها باإلسالم ،واستحالة وجود هدى في غير اإلسالم؟ وما
هي نسبة نجاح فرصة كهذه؟ وما هي التحديات؟ وفي النهاية ما الذي يمكن أن نجنيه من طرح هذه
الدراسات الجدلية الصاخبة في المجتمع اإلسالمي؟
وأخي اًر هل لهذا المطلب صدى في األديان األخرى؟ وهل يشعر الحاملون لهذه الراية بتأييد المؤسسة
الدينية أم أنهم في صراع معها إلى األبد؟
الحل
فرضيات ّ
ّ
تطرح الدراسة الجواب باإليجاب عن السؤال األول .فالضرورة االجتماعية تفترض حتماً خوض هذا
النزال ،فلم يعد مقبوالً في عصر القرية العالمية أن تعيش األديان منفصلة متباعدة ،وبات الهمس في الكنائس
مسموعاً في المساجد ،ولم يعد ممكناً من الجانب المجتمعي االستمرار في ثقافة الكانتونات الدينية المغلقة،
فلم يعد في العالم إغالق وال إطباق ،وكل فتوى تكفير تتبعها شتائم تحقير ،توّفر بالضرورة ظروفاً خطيرة
للعنف الكامن ،الذي ينتظر فرصة طائشة ليكرر ما ابتلينا به في العقود األخيرة من نار العنف.
أما التيار العقالني فهو مدعو إلدراك األرقام الدقيقة القائمة التي يقدمها علم اإلحصاء بعيداً عن العواطف
والتمنيات ،وبعيداً حتى عن قواعد المنطق ،فالدراسات األنثروبولوجية تكاد تكون متفقة على ّ
أن العالم مستمر
أن هذا المشهد مستمر ،مهما ارتبط الدين
في تشكله الديني ،وأنه يعطي أغلبية ساحقة للمنتمين دينياً ،و ّ
إن علينا أن ندرك أن اإلنسان بطبيعته كائن غير منطقي ،تحكمه بالغيب والخرافة ،والكهانة والعرافة ،و ّ
إن األنبياء لم يكتبوا فلسفة عميقة ولكنهم عزفوا
الغرائز والعواطف أكثر مما يحكمه خطاب العقل الحدي ،و ّ
25
تمكنوا من قيادة الجماهير وال زالوا يفعلون وهم في قبورهمّ ،
ويقدم مركز فإنهم ّ
على أوتار صحيحة ،ولذلك ّ
بيو لإلحصاء ومركز أردا التابع لجامعة بنسلفانيا رقماً واحداً لنسبة المنتمين لألديان على نسبة الالدينيين،
أن هذه النسبة مستقرة
بأنهم ال دينيين ،و ّ
التدين في العالم ( )%12مقابل ( )%81للموصوفين ّ
حيث يبلغ ّ
لخمسين عاماً قادماً على أقل تقدير.
ومن المؤكد ّأننا نمارس ما يمارسه مؤمنون كثيرون في األديان كلها ،وستجد جهودنا سبيالً للتكامل،
أن هذا اللون من الخطاب اإليجابي بين أتباع الديانات هوأن فرص النجاح قادمة ،وال أشك ّ وباعتقادي ّ
عودتنا عليه الحضارة في نجاحاتها ،نقيض السياق اإلنكاري الذي
المستقبل ،وهو السياق التراكمي الذي ّ
تمارسه حركات السقوط في األمم البائسة.
أما في الجانب اإلسالمي تحديداً فهو مسؤولية هذه الدراسة وغايتها ،وستقدم الدراسة األدلة النصية
والعقلية والمقاصدية الممكنة لتعزيز هذه الرؤية ،ونرجو أن نكون موفقين في عرض ما يكفي إلقناع الجمهور
الكريم بمشروعية هذا السعي النبيل وجدواه وفائدته.
ومع أنني لست متفائالً بفرص النجاح السريعة لمبدأ إخاء األديان ولكنني أشعر أننا سياق من األمم،
فإن الفائض الحضاريأن األمم التي حققت نجاحاً حضارياً حققت من ثم تقدماً جيداً نحو إخاء األديانّ ،وّ
المتحضر الذي تسود فيه العدالة
ّ أن كل خطوة نخطوها صوب المجتمع ينتج فائضاً أخالقياً ،وقناعتي ّ
ومستقر
ّ والقانون هي من ثم خطوة نحو إخاء األديان ،وما ترسمه هذا الغاية النبيلة من بناء مجتمع آمن
وسعيد.
وتجدر اإلشارة ّأننا حين نقاوم بشدة احتكار الخالص فليس ذلك بدافع من مسؤوليتنا في تنظيم الدار
اآلخرة ،أو مشاركة الله في الحساب وتحديد منازل الناس فيها ،فالحساب بيد الله ،والخالف في شكل الدينونة
وتفاصيلها بالغ التعقيد والتفاوت بين األديان ،ومن الحماقة أن ننصب أنفسنا فيها قضاة وجالّدين ،وربما ال
تكون لدى الناس قناعة أصالً بتفاصيل العالم السماوي ،ولكن ما نبحث عنه بدقة هو خطاب الكراهية الناشئ
أن البشرية ذاهبة إلى نار جهنم ،وهو اعتقاد
جهنم ،وتحديداً في تصور المسلم ّ
أصالً من توعد اآلخر بنار ّ
بالغ األذى في تربية الجيل ،حيث تتأسس التربية ،هنا ،على احتقار الناس وازدرائهم ،وسوء الظن بالخالق
جهنم وال يبالي.
الذي يخلق الناس إلى ّ
26
الفصل األول :األصول الشرعية إلخاء األديان
نتناول في هذا الفصل األصول الشرعية إلخاء األديان تأسيساً على الطريقة التقليدية في االستنباط،
الس ّنة لتأسيس هذا الوعي ،ولكن من الضروري التصريح مسبقاً بأنه
حيث تتوفر نصوص كافية في الكتاب و ُّ
يوجد قدر مماثل من النصوص يرفض اإلخاء الديني كله.
في الواقع قد تكون مسألة اإلخاء الديني أكثر القضايا إلحاحاً للوعي بطبيعة القرآن الكريم بأنه ّ
حمال
أوجه ،وأنه تراث غني ،ال يمكن تكوين مواقف نهائية منه إال بقدر كبير من التعسف ،ومن العسير أن
ّ
ن
المفسرو .
نستنتج من ظاهر النص القرآني منهجاً محكماً نهائياً ،ألن الجدل مستمر في كل استنباط يمارسه ّ
وهذه الظاهرة مؤكدة في كتب التفسير كافة ،حيث تقف على الرأي والرأي اآلخر ،والمسألة ونقيضها،
ورحم الله اإلمام القرطبي الذي كان يعد المسائل ،ويقول :وقد اختلفوا في المسألة على قولين وثالثة وأربعة
وبعضها عشرة ،وكل له وجهه واستدالله ،والمسألة الموفية عشرين والموفية ثالثين وأكثر ،ولقد أحصيت في
(الشاملة) فعل «اختلفوا» أو «اختلف فيه» ضمن تفسير القرطبي فبلغ ( )8211مرة .أما تفسير الطبري
األسبق زماناً فقد ورد هذا الفعل فيه ( )3211مرة .وهذه أرقام نستأنس بها وال تنهض بها حجة مستقلة،
ولكنها تعكس روح التعددية واالختالف السائد في الوعي بدالالت النص القرآني ،وهذا في الواقع شأن كل
النصوص األدبية التي تتخذ لالسترشاد والتنوير بخالف النصوص القانونية الصارمة التي يفترض فيها ندرة
االختالف.
وهكذا فنحن نورد اآلية ونعلم ما يقابلها ،وسنأتي على ذكر األدلة المعارضة ،ولكن بعد أن نستوفي الفكرة
في بناء ثقافة إخاء األديان على أساس من األدّلة النصية المتوفرة.
أن اإلسالم قدم احتراماً كبي اًر وغير محدود للديانات األولى ،وأثنى على األنبياء بخالص
وال خالف في ّ
مؤسس اليهودية ،ويحيى مؤسس الصابئة ،وعيسى العبارة ،وخاصة المؤسسون لألديان الباقية وهم موسى ّ
مؤسس المسيحية.
أن أعظم ثنائه على إبراهيم ،ويعتبر إبراهيم رم اًز أعلى لألديان الثالثة المسيحية واليهودية
وال خالف في ّ
محل احترام وتبجيل عند نصف سكان الكوكب األرضي ،على أقل تقدير. واإلسالم ،وهو بذلك ّ
فإن أتباع الديانات :الصابئية واليارسانية والبهائية
وإضافة إلى األديان التوحيدية التي تنتمي إلى إبراهيم ّ
تؤكد صراحة ّأنها تنتمي إلى إبراهيم.
27
كما أن الهندوسية تعتبر مؤسسها براهما ،وتسمى في األدب اإلسالمي :الديانة البرهمية ،وال يوجد اتفاق
على شخصية براهما مؤسس الديانة ،واإلله األكبر فيها ،ومن الواقعي أن نطرح للتداول افتراض ارتباط اسم
أن الديانة برمتها قد ظهرت بشكل واقعي إبان غزو براهما بالنبي إبراهيم ،فسائر الدراسات التاريخية تؤكد ّ
اآلريين القادمين من األراضي اإليرانية وبالد الرافدين قبل ألف وخمسمئة عام ،وهي الفترة التي كان إبراهيم
بشر فيها في العراق ،وشاعت مكانته في المنطقة كرمز لديانات التوحيد.8
قد ّ
زردشت وما يروى عن إبراهيم ،وبشكل خاص في فإن التشابه هائل بين ما يروى عن ا
لزردشتية ّ
أما ا ا
تفاصيل القصة المعروفة عن مقاطعة أسرته له ومحاربتهم له ،وقيام رئيس الكهنة بإلقائه في النار م ار اًر،
أمه فرأته يلهو وسط النار دون أن تؤذيه النار في شيء ،و ّ
أن هذه المعاناة استمرت سائر وكيف وصلت ّ
حياته وحتى لقاءاته المتتالية بالملك كاشتاسب 9وإيمانه برسالته ثم نكوصه عليه تشبه ما يروى في معاناة
حد بعيد ،ومن الواقعي أن نطرح الترابط بين الزرادشتية وبين دعوة إبراهيم ،وهناك
إبراهيم مع النمرود إلى ّ
زردشت وإبراهيم هما شخص واحد في التاريخ. ما يساعد على االفتراض أن ا
أن بداية الحضارة في وادي السند كان بحافز حضاري من وادي الرافدين ،وبشكل خاص في مجال -هناك من يرى ّ
8
الكتابة والعمران والتجارة ،وهذا مرّجح بسبب السبق الحضاري لحضارة وادي الرافدين زمنياً؛ ويؤيد هذا تواصل الرحالت
التجارية بينهما على مدى التاريخ القديم ،ونظرية الغزو اآلري للهند هي إحدى النظريات المستخدمة الستكشاف التاريخ
القديم للهند ،وتقول هذه النظرية أن قبائل بدوية أوربية -هندية أفرادها من ذوي البشرة الفاتحة احتلت الهند وأطاحوا بقبائل
تنتمي إلى الحضارة الدرافيدية؛ وهؤالء من أصحاب البشرة الداكنة ،كان ذلك حوالي ( )8111-8111عام قبل الميالد .
أخذ اآلريون فيما بعد مكانة كبيرة في الهند وأسسوا حضارتهم الخاصة التي عرفت بالحضارة الهندوسية ،وقد اكتسبت هذه
وصدقوها ألنه لم توضع
ّ النظرية شهرة واسعة وباتت معتمدة لدى الباحثين األوربيين ،وقد آمن بها معظم العلماء الغربيين
أسباب كافية إلنكارها أو دحضها.
أن البراهمة هي ديانة الكهنة في الهندوسية ،وقد نشأت عقب الغزوويعتبر غوستاف لوبون في كتابه (حضارات الهند) ّ
اآلري للهند بين ( )8111-8111قبل الميالد ،وهي موضوع الملحمة الهندية الكبرى الماريانا التي تحدثت عن الثقافة
الوافدة من الغرب ،وأن قادة الفتح اآلري هم الذين تحولوا فيما بعد إلى آلهة معبودة في عموم الهند.
المصدر :كتاب ديفيد فراولي :أساطير الغزو اآلري للهند
The Myth of the Aryan Invasion of India David Frawley:
طلع عليه بتاريخ 3131-88-31م.
،www.smithsonianmag.comا ّ
غوستاف لوبون ،حضارات الهند ،ص.google books ،14
9
28
إن التركيز على دور إبراهيم المحوري ال يعني أبداً أننا نفترض ديانة إبراهيمية نبشر بها ،و ّ
أن لها أصوالً ّ
وفروعاً وأركاناً وشعائر ،فذلك كله غير واقعي ،ولكننا نورد هذا السياق تأكيداً على وجود رغبة حقيقية في
اإلسالم في بناء مشترك إنساني بين األديان ،وتشابه في المقاصد والغايات والوسائل.
فإن أركان اإليمان الخمسة التي أُمر المسلم بالتصديق بها تشتمل على وفي سبيل تأكيد هذه الحقيقة ّ
ركنين اثنين يتصالن باإليمان بالنبوات والكتب األخرى ،أن تؤمن بالله ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر.
صح منك االعتقاد الجازم الصحيح بنبوة األنبياء وطهارتهم وقدسيتهم وكذلك باإليمان
فال يتم إسالمك إال إذا ّ
الجازم بقدسية ما جاؤوا به من الكتب المقدسة ،التوراة واإلنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى.
ودون أدنى شك ّ
فإن هذا اإليمان الجازم بالنبوات والكتب يستدعي احترام األنبياء وأصحابهم وتابعيهم
بإحسان ،ويستدعي احترام الكتب التي جاؤوا بها ،وهو ما أكده القرآن الكريم في أربعة عشر موضعاً تكررت
في القرآن الكريم بصيغة {مصدقاً لما بين يديه}{ ،تصديق الذين بين يديه}.
ولكن هذا االحترام الكبير الذي يشير إليه القرآن الكريم لألديان في آيات كثيرة لم يمتد بعد القرآن في
بأن اإلسالم نسخ
تراث أبناء األنبياء ،وتغيرت النظرة للديانات بعد عصر الوحي ،وغلبت الفكرة القائلة ّ
األديان جميعاً ،ولم يعد هناك وجه لبقاء دين بعد اإلسالم .وبات على سائر األديان أن تعترف بالحقيقة،
أن اإلسالم نسخ األديان من
وأن تخلع ما هي فيه ،وأن تتبع ما جاء به الوحي المبين ،وشاع لدى الناس ّ
محرفة باطلة ،وأتباعها أشرار يعلمون الحق ويجحدونه.
أن كل ديانة باقية فهي ديانة ّ
قبله ،و ّ
بأن المجتمع اإلسالمي عرف لونين من االعتقاد في هذه المسألة:
ويمكن القول ّ
أن األديان
-رأي العامة من رجال الدين ،وهو رأي األغلبية الذين كانوا في سياق الفقهاء عموماً ،وهو ّ
أن الله لن يقبل صرفاً وال
قد نسخت وقد بات أتباعها مدعوين لترك أديانهم والدخول في الشريعة الخاتمة ،و ّ
عدالً من أحد من البشر ما لم يدخل في الدين الحق.
-رأي الخاصة من أهل العرفان ،وهم قلة بالنسبة لألغلبية الكاثرة .وهؤالء يرون ّ
أن الحكمة والنور والنبوة
أن الله يتقبل من المتقين من كل أمة ومن
التي وصلت إلى األمم هي سبيل صحيحة لعبادة الله تعالى ،و ّ
كل دين.
أئمته .وسنبسط القول بما يكفي لشرح وجهة نظر الفريقين ،وسنبين ولكل من الفريقين برهانه ورجاله و ّ
سبب اختيارنا لمذهب أهل العرفان ،والبراهين التي نسترشد بها من المنقول والمعقول.
29
األدلة من القرآن الكريم
إن دراسة متأنية في القرآن الكريم ستجعلك تدرك مباشرة ّأنه َينظر إلى العالم نظرته إلى األسرة اإلنسانية
ّ
الواحدة ،وليس تأكيده المستمر على قصة آدم وحواء إال لترسيخ هذه الصورة ،فنحن أسرة واحدة في العالم،
وعلينا دوماً أن نسعى للقاء من جديد ،وأن نهدم ما بناه الشر والبغي في األرض من جدران وحدود وقطيعة،
لتنعم اإلنسانية بروح األسرة الواحدة.
ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱌ ﱠ ،ﭐﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱠ ،ﱡﭐ ﱮ
ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸﱹ ﱠ
وهذا المعنى الذي يقود إلى إخاء األديان لم تتناوله اآليات عرضاً ،بل هو في صلب مقاصد القرآن
يتلمسه المسلم في كل صفحة من الكتاب الكريم:
الكريم ،يكاد ّ
سورة الفــاتـحـة التي هي ّأم الكتاب ،تبدأ بتقرير {الحمد لله رب العالمين} وهو ما يعني براءة الدين الحق
من الفهم العنصري اإلقصائي حيث يكون الرب خادماً لشعبه متربصاً بغيره من الشعوب ،ال يعنيه منهم إال
فأصيرك شعباً عظيماً...
ّ االنتصار عليهم يكرر عبارة :وأفنيهم
فلم يقل في الفاتحة رب المسلمين وال قال في الناس رب المؤمنين ،بل كان الخطاب عاماً يشمل كل
الخلق من كل األديان والملل والنحل.
وما بين مفتتح القرآن الكريم ومختتمه تتالى اآليات بأساليب شتى لتؤكد اإلخاء اإلنساني ووحدة األديان
أن هذا هو السياق المستمر المطلوب لبناء الحياة
في مقاصدها ،ووحدة الرسالة التي بشر بها األنبياء ،و ّ
والسعادة في كوكب األرض.
سورة البقرة تفتتح بقوله سبحانه{ :الذين يؤمنون بما أُنزَل إليك وما أُنزَل من قبلك} وهي إشارة واضحة
إلى ركن اإليمان اليقيني :اإليمان بالله ومالئكته وكتبه ورسله ،واإليمان بالكتب والرسل يفتح الباب واسعاً
أمام دعوات الحوار لنقف على الكلمة السواء.
30
ﲎﲐﲑ
ﲏ وتختتم سورة البقرة بقوله سبحانه :ﭐﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ
ﲟﲡ
ﲠ ﲛﲝﲞ
ﲜ ﲒﲓﲔ ﲕﲖﲗﲘﲙﲚ
ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ البقرة٥٨٢ :
وهو تقرير واضح ألخوة اإليمان بين األنبياء الكرام ،والتي ينبغي أن تتجدد في أبنائهم.
ﲲ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﱠ آل
ﲳ ﲬﲮﲯﲰﲱ
ﲭ ﲩﲪﲫ
عمران٩١١ :
وما بين المطلع والخاتمة تتكرر صور الحوار ومشاهده وغاياته وآدابه ،حتى يوشك أن يكون المقصد
إن اسم السورة (آل عمران) يكشف عن تلك المقاصد ،إذ هم
الرئيس لدالالت هذه السورة العظيمة ،حتى ّ
أهل بيت السيد المسيح.
وفي سورة النساء تفتتح السورة بخطاب إنساني عام يحمل دعوة الحوار واإلخاء ،ﭐﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ
ﱑﱓﱔﱕ
ﱒ ﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉﱊﱋ ﱌﱍﱎﱏﱐ
ﱘ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ النساء٩ :
ﱙ ﱖ ﱗ
ويجيء في آخر السورة بيان واضح جلي باجتماع مقاصد األنبياء على تحقيق العدل والخير ،وتكامل
ﱋ ﱍﱎ
ﱌ الرسالة الواحدة :ﭧﭐﭨﭐﱡﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ
ﱙ ﱘ ﱏﱐﱑﱒ ﱓﱔﱕﱖﱗ
ﱧﱩ
ﱨ ﱚﱛﱜﱝﱞﱟﱠﱡ ﱢﱣﱤﱥﱦ
31
عبرت عنها اآلية :ﱡ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡﭐﱠ ،وفيها تأكيد وجود رساالت غير مذكورة في
ﱬ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱠ
ﱭ القرآن ،مع التأكيد في آية أخرىﭐﱡﭐﱨﱩﱪﱫ
ومن الممكن أن نجد هذا المعنى في كل سورة في القرآن تقريباً ،حيث يتتالى ذكر األنبياء ورساالتهم،
أن عدداً كبي اًر من السور القرآنية اتخذ اسم نبي أو ديانة أو
بشروا بها ،ومن الالفت ّ
المقدسة التي ّ
وكتبهم ّ
أمة أخرى تأكيداً على الهدف األسمى في بناء ثقافة إخاء وتواصل وتكامل ،قائمة على االحترام وليس
على اإللغاء ،فمن السور :سورة آل عمران ،سورة بني إسرائيل (اإلسراء) ،سورة نوح ،سورة إبراهيم ،سورة
هود ،سورة يوسف ،سورة يونس ،سورة األنبياء.
يتكرر النداء بصيغة «يا بني آدم» خمس مرات ،كما يتكرر النداء بصيغة «يا أيها وفي القرآن الكريم ّ
أحب أم كره،
أن اإلنسان أخ لإلنسان ّالناس» 38مرة ،وهي صيغ توحي بالنظرة الكّلّية للعائلة اإلنسانية ،و ّ
وأن على الناس أن يعملوا لبناء األسرة الواحدة.
32
ّإنه لمن الغريب بعد ذلك أن يكون موضوع إخاء األديان ّ
محل خالف ،إذ ما جدوى أن نؤمر باإليمان
جدي وصادق بالرسل الكرام وتصديق شرائعهم واتباع نورهم ثم ال يقودنا هذا المعنى إلى حوار وتعاون وإخاء ّ
مع أتباع هؤالء األنبياء؟!
وما جدوى أن ّ
نتحدث بالتصديق واإلكبار واإلعجاب عن الرسل الكرام عليهم السالم وهم في عالم البرزخ،
ثم نتبع هذا الثناء واإلكبار بتبادل اللعن المستمر وتتابع الشحناء والبغضاء مع أتباع هؤالء المرسلين ،وال
نجادلهم ونحاورهم بالتي هي أحسن اتباعاً لمنهج القرآن الكريم؟!
وبعد هذا االستهالل برصد اإلشارات العابرة يمكننا أن ننتقل إلى بعض النصوص القرآنية المباشرة:
ﱡﭐﱏﱐﱑﱒﱠ
ورد هذا النص القرآني الحكيم ( )84مرة في القرآن الكريم بصيغ متقاربة{ ،مصدق الذي بين يديه}،
{مصدقاً لما بين يديه}{ ،تصديق الذي بين يديه} ،وقد وردت هذه التأكيدات الواضحة م ار اًر لدى اإلشارة
ﱡﭐﱱﱲﱳﱴ ﱵ ﱷ
ﱶ ﱸ ﱹ ﱺﱻ ﱼ ﱽ ﱾﱿ
ﲈ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍﲎ ﲏ
ﲉ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃﲄ ﲅ ﲆ ﲇ
33
تتطور مع القرون ،وتحتاج في كل عصر جديد لشرعة ومنهاج ينسج
الرعية ،وهي قانونهم وحياتهم ،ولكنها ّ
على منوال مقاصدها.
وفي اآلية دعوة الشعب اليهودي لالحتكام إلى التوراة والعمل بمقاصدها ،وهي تشتمل على القيم والفضائل،
أن فيها من أحكام الشرائع التي تتجدد وتتغير بتغير األزمان.
كما ّ
أن القرآن الكريم أشار إلى بعض محاوالت من الكهنة وغيرهم لتحريف بعض نصوص ومن المؤكد ّ
الكتاب أو معانيه .وال يمكن فهم ذلك على ّأنه إلغاء لما في الكتب األولى من هدى ونور ،و ّإنما هو بمنزلة
التنبيه إلى المحاوالت المستمرة الستغالل النص الديني التي ال تتوقف ،وقد حاول األشرار فعل ذلك في
القرآن نفسه.
ﱣ ﱥ ﱦﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱠ
ﱡﭐ ﱝ ﱞﱟﱠﱡﱢ ﱤ
المائدة٧٤ :
واآلية صريحة بان اإلنجيل كتاب الله و ّأنه مصدر أحكام وإلهام ،وفي تطبيق اإلنجيل أيضاً نزلت اآلية
الكريمة {وليحكم أهل اإلنجيل بما أنزل الله فيه} ،والمقصود مقاصده وغاياته التي دعا إليها ،ومن المعلوم
أن اإلنجيل ليس فيه شريعة ،بل موعظة ونصيحة ،ومع ذلك فقد جاء الوعيد شديداً على الذين ال يحكمون ّ
بما أنزل الله فيه ،والمقصود بطبيعة الحال المقاصد وليس األحكام.
وفي اآلية دعوة للمسيحيين لالعتصام بدينهم وتطبيق ما فيه من الفضائل التي تشترك فيها الديانات،
وهو إقرار جلي بإخاء األديان وتساويها وتكاملها وبناء بعضها على بعض.
ﱡﭐﲘﲙﲚﲛﲜﲝﲞﲟﲠﲡﲢ ﲣﲤﲥﲦﲧﲨ
أن هذه اآلية نزلت على النبي ﷺ عند وفاة النجاشي ،حيث كان قد أعلن إيمانه بالرسول،
ومن المعلوم ّ
ولكنه استمر في عقيدة النصارى ،وحوله البطارق ،ومات على المسيحية ،وحين دعا الرسول الصحابة ّ
34
للصالة عليه اعترض بعض الصحابة وقالواُ :نصّلي على علج من علوج الروم ليس على ديننا؟! فنزلت
اآلية:
أن هذه اآلية نزلت في النجاشي أيضاً ،فحين دعاهم الرسول للصالة عليه وقد روى الطبرى عن قتادة ّ
وأنزلت آية آل عمران كما بينا ،عاد بعض الصحابة فاعترضوا وقالوا :إنه لم يكن يستقبل قبلتنا وال يعرف
صالتنا فأنزل الله تعالى{ :ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم}.
واآلية صريحة في قبول إيمان أهل األديان ،سواء كانوا من أهل القْبلة أم من قبلة غيرها طالما عبدوا الله
بإحسان وأحسنوا في عباده.
أن اآلية الكريمة وردت في سياق الحديث عن مصائر الناس في اآلخرة ،حين تزلزل األرض
ومن الالفت ّ
وتحدث األرض أخبارها ،ويقول اإلنسان مالها ،وهو مشهد يشرح اللحظة الحاسمة حيث يلقى الناس
زلزالهاّ ،
أن القرآن الكريم
مصائرهم وجزاء ما قدموه ،وعند ذلك يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ،ومن الواضح ّ
استخدم هنا الناس ولم يستخدم لفظ المؤمنين أو المسلمين ،والناس لفظ عام يشمل سائر الخلق من مسلم
وغير مسلم ،وحين يستقرون على ضفة الحساب الفاصلة ،يأتي الخبر نصاً مباش اًر واضحاً{ :فمن يعمل
مثقال ذرة خي اًر يره ،ومن يعمل مثقال ذرة ش اًر يره}.
35
ﱡﭐﱜﱝﱞﱟﱠ ﱠ الكافرون٤ :
وهذه اآلية الكريمة في سورة الكافرون واضحة في إقرار انتساب اآلخرين إلى أديانهم ،وهي أيضاً صريحة
أن في ّأننا ال نعبد ما يعبدون و ّأنهم ال يعبدون ما نعبد ،ومع ذلك فهي صريحة أيضاً في ّ
أن لهم دينهم ،و ّ
أن المطلوب هو توفير اعتراف قانوني واجتماعي بأديان
المسلم مأمور باإلحسان إلى البشر جميعاً ،و ّ
اآلخرين ،وقد سماه القرآن الكريم ديناً مع ّأنه عبادة أصنام ،وكان السياق أن يقول :لي ديني ولكم كفركم،
الديانتين تقوم على العدل
ْ أن العالقات بين
التدين بدين آخر ،طالما ّ
ولكنه أشار بوضوح إلى حّقهم في ّ ّ
والمساواة والقانون.
أن في اآلية لو َن وعيد للكافرين بأنهم سيحاسبون حساباً شديداً على الشرك ،ولكن
ومع ذلك فال يخفى ّ
ذلك ال يمنع من االعتراف بدينهم وإقرار حقهم في ممارسته.
بأنه كان من الممكن تماماً أن يبقى المشركون على شركهم لو سمحوا للمسلمين
وأستطرد هنا إلى القول ّ
فإن الناس
بإقامة دينهم ،وأن يعيش التوحيد في الشرك في مكة على قاعدة {لكم دينكم ولي دين} ،وبالتأكيد ّ
سيتح ّولون تدريجياً إلى التوحيد مع تتالي نجاحاته سلمياً دون أي إرغام ،ولكن قيام قريش بإخراج المسلمين
من بيوتهم وأرضهم ووطنهم هو الذي نقل الصراع إلى مكان آخر ،وسمح للنبي الكريم أن يقضي على
باطلهم وأوثانهم بعد فتح مكة.
ﱡﭐ ﲝﲞ ﲟﲠﲡﲢﲣﲤﱠ
وردت هذه اآلية الكريمة في سورة النساء ،وفيها اعتبار إلقاء السالم أمارة كافية العتبار الرجل مؤمناً،
وظاهر النص ال يشترط لإليمان الشهادتين وال الصالة وال الصيام ،و ّإنما يشترط إلقاء السالم والعمل ألجل
اإلنسانية ونشر السالم.
أن سبب نزول هذه اآلية كان في رجل قتله المقداد بن األسود في إحدى السرايا، وتشير الروايات إلى ّ
وكان قد قال لهم :السالم عليكم ،فنزلت.
واللفظ باق على عمومه ،فاالسم الموصول من ألفاظ العموم الباقية على عمومها ،ومعناه أننا مأمورون
أن نحكم باإليمان على من يعمل للسالم وينشر السالم ويلقي السالم.
أن السالم هو قيمة روحية ومعنوية ،وهو من أهم أمارات صحة اإليمان ،وهذا
والمعنى الظاهر لآلية ّ
المستوى الذي ترتفع إليه اآلية الكريمة يتسامى على كل المعايير التي كانت سائدة في تلك المرحلة من
التاريخ ،ويؤسس العتراف عميق باإليمان على أساس العمل الصالح ،وبذل السالم ،دون تفصيل في طبيعة
االعتقاد.
36
ﱹ ﱻ ﱼ ﱽﱾ ﱿﱠ
ﱺ ﱡﭐﱩﱪﱫﱬﱭﱮﱯﱰﱱﱲﱳﱴﱵﱶﱷﱸ
الممتحنة٨ :
وهذه اآلية واضحة في وجوب البر والقسط مع المخالفين في الدين إذا كانوا سلميين ال يمارسون الحرب
ضد المسلمين.
المودة والرحمة،
ّ تبروهم وتقسطوا إليهم يشتمل على معنى عميق من
أن التعبير بكلمة أن ّ
وال شك في ّ
البر والقسط ،وهي مفاهيم
فهو ال يقتصر على إقامة العدالة والمساواة واإلنصاف ،بل يتعدى ذلك إلى ّ
أخالقية رفيعة ،تتسامى على اإلطار الحقوقي وتؤسس لقيم البر والود ،وهو ما يكون عادة في األسرة الواحدة
وفي القرابة والرحم.
أن هذه اآلية لم تنزل في النصارى واليهود من أهل الكتاب ،بل نزلت في المشركين الوثنيين
ومن المدهش ّ
من كفار قريش ،ممن لم يقاتلوا ولم يظلموا المسلمين ،وذلك حين قالت أسماء بنت أبي بكر لرسول الله :يا
إن أمي ازرتني وهي مشركة أَفأَصلها؟ فقال« :صلي أمك» ،ونزلت هذه اآلية الكريمة.
رسول الله ّ
ﱡﭐﱚﱛﱜﱝﱞﱟﱠﱡﱢ ﱣﱤﱥﱦﱧﱨﱩﱪﱫ
أن اآلية لم تطالب بأركان اإلسالم الخمسة وال بأركان اإليمان الستة ،وإنما دعت الجميع
ومن الالفت ّ
إلى منطقة وسطى مشتركة للحوار ،تقوم على شرطين :اإليمان والعدل ،أن نؤمن بالله وال يتخذ بعضنا
بعضاً أرباباً من دون الله ،وهي مطالب قريبة ويمكن لهم تلبيتها دون الخروج من دينهم ،وبذلك يمكن العمل
بما اتفقنا عليه واإلعذار فيما اختلفنا فيه ،وهو ما ابتكرت له اآلية الكريمة مصطلحاً لطيفاً صار أشهر وجوه
التعبير عن منصة الحوار :وهو الكلمة السواء.
فإن اآلية صريحة في البراءة من أهل الكتاب إذا تولوا عن الحوار وأنكروا اإليمان بالله،
وبطبيعة الحال ّ
فإن المطلوب هو وأصروا على استعباد بعضهم بعضاً ،ومنع الحريات الدينية ،ومع ذلك فإذا فشل الحوار ّ
تأكيد إسالمنا لله ،واالستمرار في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
37
ﳂﳄﳅﳆﳇ ﱠ آل عمران٩٩٢ :
ﳃ ﱡﭐﲽﲾﲿﳀﳁ
وهذه اآلية الكريمة نص في عمل أهل الكتاب ،وهم اليهود والنصارى عند المفسرين ،وإن كنت أجد ّ
أن
المعنى المراد أوسع وهو األمم الواعية التي تق أر الكتب وتحتكم إلى القانون ،وتمام اآلية{ :ليسوا سواء ،من
أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ،يؤمنون بالله واليوم اآلخر ويسارعون فيأهل الكتاب ّ
يحب المتّقين ،وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين}.
الخيرات والله ّ
فإنهم مشمولون برحمة الله،
أن أبناء األديان إذا ظهر إنصافهم وإيمانهم ّ
وقد دّلت هذه اآلية الكريمة على ّ
أن أعمالهم الصالحة محفوظة عند الله تعالى ،ال يظلمون وال يظلمون ،وما يفعلوا من خير فلن يكفروه.
وّ
ﳂ ﳄ ﳅﳆ ﳇ ﳈ
ﳃ ﲿﳁ
ﳀ ﱡﭐﲶﲷﲸﲹﲺﲻﲼﲽﲾ
ﳋ ﳍ ﳎﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘﳙ ﳚ ﳛ ﳜ
ﳉﳊ ﳌ
ﱞ ﱠ ﱡﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ
ﱟ ﱡﭐﱙﱚﱛﱜﱝ
أن الله تعالى سمى احتكار الخالص أماني وأوهاماً ،وطالبهم بالبرهان في هذه الدعوى وال
وواضح ّ
برهان.
وحين قال المسلمون ما قاله أهل الكتاب من قبل :لن يدخل الجنة إال من كان مسلماً ،فإنهم وقعوا في
األماني نفسها ،فنزلت اآليات في غاية الصراحة والوضوح وهي لشدة وضوحها ال تحتاج إلى تفسير وال
تأويل{ :ليس بأمانيكم وال أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به وال يجد له من دون الله ولياً وال نصي اًر}.
ﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ
ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﱠ النساء٩٥٧ :
38
نص عام ويشمل كل فإن القرآن الكريم يتحدث عن اإليمان والعلم الصالح ،وهو ّ
وفي هذه اآلية الكريمة ّ
بالجنة ويؤكد له ّأنه لن يظلم من عمله الصالح مقدار نقير،
ّ ويبشره
مؤمن بالله ولو لم يكن على مّلتناّ ،
والنقير هو النقرة التي تكون على ظهر بذرة النواة (التمرة) ومع هوان هذه النقرة وال قيمتها ،ولكن الله تعالى
لن يضيع عمالً صالحاً مهما كان صغي اًر وقليالً ،ولو كان بثمن نقرة التمر.
بمجرد
ّ أقر رسول الله اإليمان
وال تشتمل اآلية من صفات اإليمان أكثر من اإليمان بالخالق ،وقد ّ
االعتراف بوجود الخالق كما قبله من الجارية عندما سألها «من ربك؟» فأشارت إلى السماء ،فقال للصحابي:
فإنها مؤمنة».
«أعتقها ّ
ﲌ ﲎﲏﲐ
ﲍ ﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ
ﲑ ﲒ ﱠ النساء٩٥٢ :
وفي هذه اآلية بيان قرآني بالغ األهمية بالدعوة إلى االجتماع على مّلة إبراهيم ،واعتباره أحسن الدين،
واعتباره الحنيفية السمحاء ،وهذه اآلية لها نظائرها في القرآن الكريم ،وهي كثيرة ،ومنها هذه اآليات الست:
39
ﱡﭐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱠ البقرة٩٥٨ :
ﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ
ﲤ ﲥ ﲦ ﱠ البقرة٩١٥ :
أن اإلسالم اسم جامع لما علمته الديانات السماوية من إسالم الوجه
وهذا دعاء النبي إبراهيم ،وفيه بيان ّ
فإن الدعوة إلى اإلسالم يمكن أن تكون دعوة إلى القيم اإلبراهيمية التي ّ
بشر بها من اإليمان لله ،وبذلك ّ
محل احترام وتقدير في الديانات كافة.
والفضائل ،وهي ّ
أن الحديث عن ملة إبراهيم بات يثير الشكوك لدى رجال الدين ،الذين يرونه اعترافاً باألديان
ومن المؤسف ّ
الباطلة ،وتقهق اًر عن التوحيد الخالص ،وباتت الهيئات السلفية تصدر البيان تلو البيان في التحذير من ملة
إبراهيم ،ومشاريع اإلخاء الديني التي تقوم تحت هذه المظلة النبيلة ،وتذهب هذه البيانات المتتابعة إلى ّأنه
ال كرامة ألي شريعة وال مّلة وال كتاب بعد القرآن الكريم ،وهذا سلوك يتناقض لألسف بشكل ح ّاد مع جوهر
آنية المنفتحة المتسامحة تحت عنوان مّلة إبراهيم.الرسالة القر ّ
ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ
ﱠﱡﱢﱣﱤﱥﱦﱧ ﱨﱩﱪﱫﱬﱭﱮ
ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱠ البقرة٩١٤ :
وهذه اآلية واضحة في وجوب إيمان المسلم باألنبياء والثناء على هديهم وكتبهم ونورهم ،وتؤكد على
األنبياء الذين لم يذكروا في القرآن ،ثم التأكيد بعدئذ على مساواة األنبياء ووجوب احترامهم جميعاً وال نفرق
بين أحد منهم ونحن له مسلمون.
أن المساواة بين األنبياء نظير للمساواة بين األمم وبين األديان طالما أنها تدعو للحق والخير
وال شك في ّ
والتوحيد والفضيلة ،وهذه اآلية لها نظائر كثيرة في القرآن الكريم ،وهي كافية لبناء أوثق العالقة مع المختلفين
في الدين ،على أساس احترام أنبيائهم ورسلهم ،ودعوتهم بكامل االحترام والتقدير للزيادة في اإليمان والعمل
الصالح.
أن فكرة مساواة األديان الواضحة والصريحة في هذه اآلية ونظائرها كثيرة ال تحظى اليوم
ومن المؤسف ّ
بقبول في خطاب رجال الدين في اإلسالم ،وتتأسس الفكرة الشائعة على ظهور اإلسالم على األديان ونسخها
وإبطالها ،وأن ما بقي من األديان في األرض جهل وباطل ،ال برهان له في الدنيا وال خالص له في اآلخرة،
وإن كان كثير منهم من يعتقد وجوب إنصافهم وعدم إكراههم على الرغم مما هم فيه من دين فاسد وباطل
ومحرف.
ّ
40
ﱡﭐ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﱠ آل عمران١١ :
تشير هذه اآلية إلى منزلة فريدة منحها الله تعالى آلدم ونوح ،وهما رمز للعائلة اإلنسانية الواحدة ،ثم
تشير إلى مجد خاص بآل إبراهيم وآل عمران ،وتؤسس هذه اآلية وعياً رشيداً لبناء صلة متميزة ومحترمة
وتخصص منزلة
ّ ومكرمة مع أبناء إبراهيم من اليهود والنصارى والصابئة ومن ينتسب إليه من األديان،
خاصة ألسرة السيد المسيح وهم آل عمران.
أمه العذراء
ومفصلة في منزلة السيد المسيح و ّ
ّ أن ما أورده القرآن الكريم من آيات محكمة
وال شك في ّ
البتول ،وتخصيص سورة كبرى للحديث عن هذه األسرة المكرمة ،وسورة كبيرة تحت اسم سورة مريم ،وسرد
تفاصيل قصة والدة المسيح وطهارة أمه ،وهي أدلة كثيرة جداً في القرآن والسنة ...ال شك في أ ّن ذلك يؤسس
أرضية ممتازة للقاء إيجابي ّبناء بين الديانتين األعظم في األرض اإلسالم والمسيحية قام على أعظم االحترام
والتقدير.
ومن الممكن منطقياً القول ّإنه ليس شرطاً لهذا اللقاء اإليجابي الذي تدعو إليه اآليات أن يتخلى المسيحي
ّ
منصة لقاء وحوار متبادل بين الدينين العظيمين ،تتسع
تؤسس ّ يهوديته ،و ّإنما ّ
ّ مسيحيته أو اليهودي عن
ّ عن
التشدد.
فيه دائرة التسامح وتضيق فيه دائرة التصّلب و ّ
ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ
ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱠ البقرة٤٥ :
نزلت هذه اآلية الكريمة بصيغتين متشابهتين جداً ،في سورة البقرة وفي سورة المائدة ،والمقصود من
تكرارها التأكيد على إحكامها ،وفيها النص الواضح على قبول إيمان المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة،
وهذه هي الديانات التي كانت معروفة آنذاك في جزيرة العرب وما حولها.
أن العمل الصالح الذي يؤديه أتباع هذه الديانات هو عند الله بمكان وال يزهق
وتؤكد اآليتان بوضوح ّ
منه شيء ،وال خوف عليهم وال هم يحزنون ،وتقيده باإليمان والعمل الصالح ،وليس في اآلية ما يشير إلى
أنها تحتاج إلى تخصيص أو تقييد أو نسخ ،وقد تكررت لتأكيد المعنى إياه.
41
ﱧﱩﱪﱫ
ﱨ ﱡﭐ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ
ﱬ ﱭ ﱠ النساء٩٤٧ :
والمعنى نفسه أيدته آيات قرآنية كريمة{ :وإن من أمة إال خال فيها نذير ،ولقد بعثنا في كل أمة رسوالً أن
اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ،ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالحق وهم ال يظلمون}.
ﲘﲚﲛﲜ
ﲙ ﱡﭐ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ
ﲝﲞﲟﲠﲡﲢ ﲣﲤﲥﲦﲧ
ﲱﲳﲴﲵ
ﲲ ﲨﲩﲪﲫﲬﲭﲮﲯﲰ
ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﱠ المائدة٨١ - ٨٥ :
ﱜ ﱞﱟ
ﱝ ﱡﭐ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ
ﱠ ﱡ ﱠ المائدة٨٢ :
وردت هذه اآلية الكريمة في سورة المائدة في أعقاب الحديث عن قوم من اليهود والوثنيين حاربوا الرسول
الكريم فوصفوا بأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا ،فيما ورد الثناء بوضوح على الذين هم أقرب الناس إلينا
مودة ،وهم الذين قالوا إنا نصارى.
42
وفي الواقع فإن هذا هو حال كثير من أهل الكتاب الذين نعرفهم والذين يبادلوننا أخلص المحبة والتحية
لكل مقدس في اإلسالم ،وفي الوقت عينه تذرف دموعهم وهم يسمعون في القرآن الكريم خبر والدة السيد
المسيح وأمه الطاهرة البتول.
المفسرين سبب نزول هذه اآلية في وفد النجاشي الذين جاؤوا يستطلعون أمر النبي الكريم
ّ وقد أورد أكثر
وقد تأثروا بحديثه وكالمه وتالوته وفاضت مدامعهم ،ولكن من المؤكد ّأنهم عادوا إلى الحبشة وهم على
دينهم األول ،ولم يتم تدوين أي منهم في كتب تراجم الصحابة ،بل كانوا كما وصفهم الله نصارى ّ
وقسيسين
ورهباناً.
ﱫﱭﱮﱯﱰﱱﱲﱳ ﱴﱵﱠ
ﱬ ﱡﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ
النساء٧٤ :
أن الله ال يجحد العمل الصالح أياً كان من ظهر منه ،ومن الجلي
وقد وردت هذه اآلية الكريمة نصاً في ّ
كل من
أن اآلية وردت بصيغة العموم ولم يرد عليها قيد أو مخصص ،فتبقى على عمومها ،وهي تشمل ّ ّ
فإن الله ال يجحد عمله ،وال ينكر طاعته في الدار اآلخرة.
قام بالعمل الصالح من البشر ّ
ﲝ ﲟﲠﲡﲢﲣﲤﲥﲦﲧﲨ ﲩ
ﲞ ﱡﭐ ﲛ ﲜ
ﲪﲫﲬﲭﲮﲯ ﲰﲱﲲﲳﲴ
ﳂﳄ
ﳃ ﲷﲹﲺﲻﲼﲽﲾ ﲿﳀﳁ
ﲸ ﲵ ﲶ
43
واضح لتنفي التساؤل الموهوم الذي أثاره بعض المعترضين ،كيف يقبل الله منهم وهم على غير دين؟!
فنزلت اآلية{ :وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين}.
ﱍﱏﱐ
ﱎ ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ
ﱑﱒﱓﱔ ﱕﱖﱗﱘﱙﱚﱛﱜ ﱠ
العنكبوت٧٤ :
وفي هذه اآلية الدعوة الصريحة للحوار اإليجابي مع أهل الكتاب ،والتأكيد على وحدة الدين على الرغم من
وينص القرآن الكريم على عبارة {وإلهنا وإلهكم واحد} ،على الرغم مما ورد
ّ االختالف الكبير بين العقيدتين،
من نقد شديد في القرآن الكريم لعقائد أهل الكتاب ،ويمكن اعتبار صيغة {وإلهنا وإلهكم واحد} عنواناً للقاء
بين األديان ،واإلخاء بين أتباعها على الرغم من الخالف العقائدي ،وهو توكيد على الوحدة في المقاصد
على الرغم من االختالف في اآلليات وسبل الوصول.
ﱡﭐ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ
ﳜ ﳝ ﱠ الدخان١١ - ١٨ :
أن األمم التي سعدت باإلسالم
وفي هذه اآلية تنزيه لله سبحانه وتعالى عن العبث في الخلق ،ومن المؤكد ّ
لمجرد ّأنهم في أديان
ال تزال أكثر بكثير من الذين سعدوا باإلسالم ،فلو كان هؤالء قد خلقوا للجحيم والعذاب ّ
فإن ذلك يستلزم على الله تعالى العبث ،فقد خلقهم وهو أعلم بما هم فاعلون ،وال يزال الله تعالى يخلق
أخرى ّ
مليارات من البشر ،وحاشاه أن يكون الخلق عبثاً أو خطأ أو ضالالً ،بل هو الخلق بحق ،وال شك في ّأنه
أراد لهم السعادة والخير ،وله سبحانه طرق متعددة يمنحهم فيها اإليمان والنور{ ،وما يفعلوا من خير فلن
يكفروه والله عليم بالمتقين}.
ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ
ﱗﱙﱚﱛﱜﱝ
ﱘ ﱏﱑﱒ ﱓﱔﱕﱖ
ﱐ ﱎ
ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱠ البقرة٩٩١ :
وردت هذه اآلية في سياق أمراض األمم ،وهو مرض وقع فيه النصارى واليهود ،يتمثل في احتكار
أن تالوة الكتاب تقتضي غير ذلك ،واآلية
الحقيقة ،وقد نهى القرآن الكريم صراحة عن هذا الوهم ،وأشار إلى ّ
صريحة في الدعوة إلى أن نعتقد الخير في كل الكتب السماوية ومثلها كتب العلم واألخالق والفضائل ،وأن
44
أن الله لم يهد سواهم ،وأنهم يحتكرون الحقيقة هم
أن الذين يعتقدون ّ
وبينت اآلية ّ
ونورّ ،
خير اً
في كل منها اً
جاهلون أو كما وصفتهم اآلية {كذلك قال الذين ال يعلمون} ،ويفتئتون على الله ما ال يعلمون ،وأن واجب
أن العالقة بين األمم في األرض يجب أن تقوم على العدل
بأن الحساب شأن الله ،و ّ
المؤمن هو التسليم ّ
واإلخاء والتراحم.
ﱐﱒ
ﱑ ﱉﱋﱌ ﱍﱎﱏ
ﱊ ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ
ﱓﱔﱕﱖﱗ ﱘﱙﱚﱛﱜﱝﱞﱟﱠﱡﱢﱠ
البقرة٩٥٤ :
نسميه بالضبط احتكار الخالص .فقدوهذه اآلية في الواقع تتحدث أيضاً عن أمراض األمم ،وهو ما ّ
الجنة ،ويرون ّأنه ال خير في المسلمين حتى يتركوا دينهم
كان شأن الملل قبل اإلسالم أن يحتكروا الحقيقة و ّ
ويتبعوا ما التزمته اليهود والنصارى ،وقد نعى عليهم القرآن هذا الفهم السقيم .واآلية صريحة في إنكار
أن الملة الحنيفية السمحاء يجب أن تكون على غير هذا وأن تتّسع الختالف احتكار الحقيقة والجنة ،و ّ
المختلفين ،وأن ترضى من المحسنين من كل األمم ولو لم يتبعوا ملتنا ،فالله وحده يهدي من يشاء على
صراط مستقيم ،وعلينا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ثم اإلحسان في الخلق من كل األمم واألديان
والملل.
ﱌﱎﱏﱐ
ﱍ ﱇﱉ ﱊﱋ
ﱈ ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ
ﱒ ﱠ المائدة٩٨ :
ﱓ ﱑ
وهذه اآلية أيضاً جاءت في سياق الحديث عن أمراض األمم ،حيث يكتفي المؤمنون باالنتساب إلى نبي
كريم ،ثم يمارسون التعالي على األمم وازدراء أعمالها الصالحة ،والتأكيد على ّ
أن الله تعالى يثيب الناس
بأعمالهم وإحسانهم في الخلق وليس بانتسابهم إلى األنبياء.
أن الخير محجوب وهذا المرض عينه قد وقع فيه المسلمون أيضاً حيث يعتقدون ّ
أن الله لم يهد سواهم ،و ّ
أن الشفاعة مختصة باألمة المحمدية ،وغير ذلك من االعتقادات التمييزية التي
عن األمم حتى تلحق بنا ،و ّ
نعاها القرآن الكريم على األمم األولى.
أن كثي اًر من التفاسير تستفيض في تفصيل مقاالت األمم في احتكار الحقيقة والجنة ومن المؤسف ّ
واالستئثار بالله ،وتشير إلى ذلك على أنه من عالمات الخطأ في االعتقاد دون أن تشير إلى ّأننا وقعنا في
المرض نفسه ،وبالعبارات ذاتها تقريباً.
45
وبعد ،فهذه نحو ثالثين آية كريمة تناولت من جوانب متعددة مسألة إخاء األديان ،وحسن التواصل
المودة بين المؤمنين وبين أبناء األديان األخرى.
و ّ
فإن النصوص التي تدعو إلى اإلخاء بين األديان كثيرة ومتواترة في القرآن الكريم ،وهي وفي الحقيقة ّ
حاضرة في كل سور القرآن تقريباً ،ولكن كيف أمكن تغييب دالالت هذه اآليات كّلها؟
46
أن آيات العموم السالفة قد تم نسخها أو تقييدها أو تخصيصها بهذه اآليات، فقد اختار أكثر المفسرين ّ
ظموا صحابته وأقاموا شعائره ولم ينكروا معلوماً
و ّأنه ال يتقبل الله إال من المسلمين الذين اتبعوا رسول الله وع ّ
فإن التوجه نحو إخاء األديان يبدو مناقضاً لآليات الناسخة ،والنجاة في
من الدين بالضرورة ،وبهذه القيود؛ ّ
اآلخرة هي فقط للمسلمين الذين صح اعتقادهم وسلوكهم دون العالمين.
ال أستطيع أن أنكر قوة البرهان في الفريقين ،فلكل فريق أدّلته وأجوبته على براهين خصومه ،ويجب علي
ّ
أن األدلة أكثر تزاحماً في الطرف الرافض إلخاء األديان ،فالمفسرون عموماً كتبوا تفاسيرهم في
االعتراف ّ
ظالل دول إسالمية قوية كانت تمارس دورها التقليدي في مواجهة األمم األخرى ،والحرب بين الدولة
اإلسالمية وأوربا المسيحية في الغرب والفرس والفيدات في الشرق لم تتوقف منذ الفتح اإلسالمي ،وقد التهبت
خالل التاريخ بشكل مرعب كما في الحروب الصليبية في الغرب وحروب فارس والهند في الشرق ،وكان
الدين على رأس الحراب والسيوف في الطرفين ،وكانت الدعوة إلخاء األديان في ظروف كهذه تشبه الخيانة
الوطنية في كثير من مراحل الصراع ،وهذا ليس شأن المسلمين وحدهم بل هو واقع الحال في العصور
الوسطى باستمرار ،وقد استمر ذلك باطراد إلى قيام الدولة الحديثة وقيام القانون الدولي.
الغلو
الغلو في النص التي وقعنا فيها ،وهي أحد أشكال ّ ولكن السبب األكبر في ذلك كان في ظاهرة ّ
التي ح ّذر منها القرآن .فقد وقعت األمم األولى في الغلو بأنبيائها ووقعنا في الغلو بالنص القرآني ،ومكانة
األنبياء كمكانة القرآن مقدسة وكريمة ،ولكن الغلو فيها كان سبباً لالنحراف عن أهداف الرسالة .أما الغلو
فإن الغلو في القرآن
في األنبياء فكان في زيادة التقديس والغلو حتى نسبوا لله تعالى أبناء أو شركاء .وكذلك ّ
التدبر والتعقل واالكتفاء في التأمل بالنص ،وفرض النص حاكماً على العقل،
دفع بالمفسرين إلى وقف ّ
وإبطال حكم العقل بحكم النص ،وهو موقف المفسرين عموماً إال قلة منهم اختارت تقديم المعقول وتأويل
المنقول ،وهو منهج األستاذ الجليل ابن رشد ومن نهج نهجه من حكماء اإلسالم.
فإنني لن أمضي على الرد التفصيلي على كل دليل ،ولكنني سأورد األدلة إجماالً ،فاإلسالم الذي
وبالجملة ّ
جاءت اآليات الكريمة بالدعوة إليه دون سواه هو اسم واسع كبير ،وهو ال يشبه المسيحية والموسوية
الزردشتية في االنتماء لألشخاص ،فهو ليس المحمدية ،بل هو اإلسالم ،وهو انتساب إلى الله تعالى،
و ا
يندرج فيه كل من قصد اإليمان بالخالق سبحانه ولو اختلفت أسماؤه أو صفاته ،فلله المشرق والمغرب
فثم وجه الله ،ولله أسماء بعدد ورق الشجر وحبات المطر وذرات التراب ،وخير تفسير
فأينما تولوا وجوهكم ّ
لإلسالم هو النص القرآني نفسه :ﱡﭐ ﲀ ﲁﲂﲃﲄﲅﲆﲇﲈﲉ ﲊﲋ
ﲌ ﲎ ﲏﲐﲑﲒ ﱠ
ﲍ
فإن اآلية لم تذكر أكثر من إسالم الوجه لله ،وهو ما تدعو له كل الديانات ،ثم اشترطت أن
وفي الواقع ّ
يكون محسناً ،وهذا هو العمل الصالح المطلوب من أهل كل ملة ودين ليكتبوا عند الله من أهل القبول ،ثم
47
عقبت باتباع ملة إبراهيم ،وهي صيغة جامعة شاملة تضم األديان السماوية ،وال تزيد الشعائر المروية عن
إبراهيم أكثر من عقيدة الفطرة والقيم األخالقية التي تتفق عليها سائر األديان.
48
النبوية المباركة
ّ األدّلة من السّنة
أن النبي الكريم كان واعياً تماماً برسالة إخاء األديان ،وكانت في جوهر دعوته،
ال بد أن نشير أوالً إلى ّ
تعرف النبي الكريم إلى الراهب بحي ار
وقد أوردت السيرة النبوية عدداً من اإلشارات الالفتة لهذا المعنى ،فقد ّ
وعرف عن الحنفاء العرب أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن قبل اإلسالم ،وسمع من ورقة بن نوفلُ ،
وقس بن ساعدة اإليادي وغيرهم ،وكان يذكرهم بالثناء الحسن ،وكان يذكر باستمرار شريعة إبراهيم
نفيل ّ
التي أمر أن يتبعها بنص اآلية{ :ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}.
وتوجه في صالته
التوجه إلى القبلة في مكةّ ،
ّ وفي إشارة الفتة منذ مطلع الرسالة فقد ترك الرسول الكريم
إلى بيت المقدس ،وهو أمر أثار تساؤالت كبيرة في مكة ،وكانت الغاية بطبيعة الحال التأكيد على ما بين
اإلسالم وأهل الكتاب من المؤاخاة والمودة والتقارب في عبادة الله ،وهو ما لم يكن موجوداً بين الرسول وبين
قريش ،وال شك في أنها رسالة تقارب نبيلة ،وقد استمر المشهد كذلك خمسة عشر عاماً حتى نسخ القرآن
بالتوجه إلى البيت الحرام.
ّ القبلة األولى ،وأمر
ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉﱊﱋﱌﱍﱎﱏﱐﱑﱒﱓ
ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ
ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱹ
ﱺﱻﱼﱽﱾﱠ القصص٢٢ - ٢٩ :
وفي اآليات تصريح واضح بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ،وتصريح واضح بأنهم المسلمون والمؤمنون ،مع
يحجوا البيت.
أنهم لم يتركوا دينهم الذي كانوا عليه ،ولم يقيموا الصالة ،ولم يؤتوا الزكاة ،ولم ّ
49
11
نصت على ّأنه يدخل الجنة
وقد أوردنا قبل قليل ما نزل في النجاشي عند موته من آيات كريمة ّ ،
أن الرجل مات على دينه األول وكان يصّلي إلى بيت المقدس ،وإن ظهر منه اإلقرار
ويؤتى أجره فيها ،مع ّ
والوفاء والمحبة للرسول والرسالة.
أما المقوقس ،فقد راسله النبي الكريم وأوفد له حاطب بن أبي بلتعة ،وكان من نتيجة الحوار تبادل الهدايا
ّ
وتزوجها ،ولقد كان هذا الود حرياً أن
بينه وبين رسول الله ،وقد قبل رسول الله هديته مارية القبطية وأعتقها ّ
يستمر ويدوم ،ولكن المقوقس كان في واقع صعب ،وكان الصراع بين المسيحيين الملكانيين والقبط يلزم
الرجل أن يتريث في بناء عالقات إيجابية مستمرة.
وكذلك فقد أسس الرسول الكريم عالقات طيبة مع سكان المدينة من اليهود ،وهي القبائل الثالث عشرة
التي ورد ذكرها في وثيقة المدينة ،12ولكن وقع لألسف خالف سياسي خطير مع ثالث قبائل منها وهي
قينقاع أوالً والنضير ثانياً وقريظة ثالثاً ،أما القبائل العشر الباقية فقد ظلت العالقة جيدة ،واستمرت إيجابية
وبناءة إلى وفاة الرسول الكريم ،حيث مات ودرعه مرهونة عند يهودي ،وهو دليل واضح على التعاون ّ
التجاري واالجتماعي مع اليهود في المدينة.
أما نصارى نجران فقد وفدوا على الرسول الكريم وحاورهم وناجاهم ودعاهم للمباهلة فأبوا ،وقد أقاموا في
وّ
يتحولوا إلى شيء من اإلسالم.مسجد الرسول أربعة عشر يوماً وهم يؤكدون التزامهم بدينهم األول ،ولم ّ
وهناك رواية بالغة األهمية في {إنسان العيون} البن برهان الدين الحلبي أن القوم أرادوا الصالة فمنعهم
الصحابة ،ولكن الرسول الكريم نهاهم عن ذلك ،وأشار لهم بيده إلى جهة المشرق حيث يصلون ،وهو دليل
ّأنهم كانوا من النصارى النساطرة الذين يصلون صوب الشرق ،وفي صالتهم بالمسجد النبوي موقف ّ
13
متقدم
في إخاء األديان ،واعتراف بأكثر من سبيل لإليمان ،وهذا المعنى ليس بعيداً من جوهر الوثيقة التي كتبها
الرسول الكريم لنصارى نجران عقب انتهاء إقامتهم بالمدينة وعودتهم إلى نجران ،وهي واضحة في إقرارهم
بدينهم واعتقادهم ،واحترام أساقفتهم ورهبانهم وحماية ممتلكاتهم ،وفيها :
انظر سائر التفاسير سورة آل عمران اآلية ،899الطبري ،محمد بن جرير ،جامع البيان في تفسير القرآن ج،1 11
ص.491
السهيلي ،عبد الرحمن بن عبد الله ،الروض األنف ،ج ،4ص.343 12
50
ف َغ ْي َر وَال دم جاهلي ٍ
َّةَ ،وَال ُي ْح َش ُرو َن َوَال ُي ْع َش ُرو َن َوَال َي َ
صُالن ْ
َل فيه ْم َحّقاً َف َب ْي َن ُه ُم ّ
ض ُه ْم َج ْيشَ ،و َم ْن َسأ َ
طأُ أ َْر َ َ َُ َ
ين... ظُلوم َين َوَال َم ْ
ظالم َ
َ
ٍ
الصح َيفة ج َو ُار الله َع َّز وجل وذمة ُم َح َّمد َرُسول الله أ ََبدًا َحتَّى َيأْت َي ُ
الله بأ َْمرهَ ،ما َو َعَلى َما في َهذه َّ
ظْلمٍ.ين ب ُ
يما َعَل ْيه ْم َغ ْي َر ُم ْثَقل َ
َصَل ُحوا ف َ
ص ُحوا َوأ ْ
َن َ
َشهد أَبو س ْفيان بن حر ٍب ،و َغي َالن بن عم ٍرو ،ومالك بن عو ٍ
ف م ْن َبني َنص ٍر ،و ْاألَْق َرعُ ْب ُن َحاب ٍ
س َ ْ َ َ ُ ْ ُ َْ َ ْ ُ ُْ َْ َ ُ ُ َ َ ُْ َْ
ظل ُّيَ ،واْل ُمغ َيرةُ.14
اْل َح ْن َ
أن النبي أمر بإخراج النصارى من جزيرة
والصحيفة وثيقة هامة يلزم منها بطالن الدعوى المزعومة ّ
العرب .فهذا إقرار لهم بالبقاء حماية حقوقهم وكنائسهم ورهبانهم وأساقفتهم ،وهو عهد وعقد ،وليس شريعة
التحول عنه إالّ برضاهم وإذنهم،
ّ من جانب واحد حتّى يعرض لها النسخ والقيد ،بل عقد مع القوم ال يحل
وما كان رسول الله غاد اًر وال لئيماً ،وال يتصور أن يكتب لهم هذا باليمين ثم يأمر الصحابة بعد ذلك أن
أن نصارى نجران لم يخرجوا من بلدهم في عهد الرسول،
ينزعوه باليسار ،وقد أجمع الفقهاء وكتاب السير ّ
بل في عصور متطاولة بعده ،ويشير بعضهم إلى ّأنه قرار عمر بن الخطاب وهو ما نستبعده ألسباب
منهاجية سنأتي على شرحها بعد قليل.
أن عبارة الوثيقة تتجاوز كثي اًر مبدأ التعامل اإليجابي إلى موقف اإلقرار الديني باحترام ما
وال شك في ّ
يعبدون وحمايتهم وحماية كنائسهم ،وهو موقف ال يمكن أن يصدر عن عقيدة أشعرية أو واسطية ترى
األديان كّلها ركاماً من ضالل ،وتوجب الجد والسعي في إبطالها واإلساءة إليها ،وتجعل من أركان الدين
الثابتة عقيدة الوالء والبراء.
وإضافة إلى هذه اإلشارات الواضحة في إقرار مبدأ إخاء األديان في السنة النبوية ،فبإمكاننا أيضاً أن
السنة:
نسترشد ببعض النصوص من ّ
«نحن معاشر األنبياء أبناء عالت أبونا واحد وأمهاتنا شتى».15
«أنا أولى الناس بعيسى بن مريم هو أخي وليس بيني وبينه نبي».16
«من آذى ذمياً فقد آذاني».17
القصة موجودة بتفاصيلها في سائر كتب السير ،والنص بلفظه من :السيرة النبوية البن هشام ،ودالئل النبوة للبيهقي، 14
وزاد المعاد البن القيم ،والسيرة النبوية البن كثير ،وكتاب األموال البن زنجويه ،وما بين قوسين انفرد به البيهقي ،وتجد ذلك
في كتبهم في أخبار السنة التاسعة للهجرة.
ابن قيم الجوزية ،محمد بن أبي بكر ،زاد المعاد ،ج ،2ص ،111والنص أيضاً في سيرة ابن هشام.
رواه اإلمام مسلم بن الحجاج ،صحيح مسلم ،ج ،4ص.221 15
لم أجد لهذا الحديث أصالً في كتب السنة ،ونرجح أن اشتهاره على األلسنة إنما هو رواية بالمعنى للحديث التالي. 17
51
َ « من ظلم معاهداً ،أو انتقصه حقاً ،أو كلَّفه فوق طاقته ،أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس
منه ،فأنا حجيجه يوم القيامة.»18
«الخلق كلهم عيال الله ،وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.»19
ألن لدى الطرف اآلخر ما يقابلها أيضاً،
ومن المؤكد ّأنه لن ينتهي الجدل بإيراد هذه الشواهدّ ،
الس ّنة النبوية ترفض مبدأ اإلخاء بين األديان ،ومنها:
ويمكن أن نشير إلى طائفة من النصوص من ُّ
«والذي نفسي بيده ال يسمع بي أحد من هذه األمة يهودي وال نصراني ثم مات دون أن
يؤمن بي إال دخل النار.»20
«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ال إله إال الله محمد رسول الله ويقيموا الصالة ويؤتوا
الزكاة ،فإذا فعلوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إال بحق اإلسالم ،وحسابهم على الله.»21
«سئل ﷺ عن عبد الله بن جدعان ،وكان رجالً كثير الخيرات فهل ينفعه ذلك؟ قال :هو
في النار ،إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.»22
السجستاني ،أبو داود سليمان بن األشعث ،سنن أبي داود ،ج ،2ص.811 18
52
تمكن الواضعون من إدراجه في كتب أن أكثر ما يستفزني حديث أبي طالب ،وال أدري كيف ّ
والحقيقة ّ
وقوته مسألة موضوعية في الغالب تعتمد القواعد التي وضعها
معتمدة ،ومع ّأنني أعتبر ضعف الحديث ّ
وتم وضعه مك اًر وكيداً بعلي بن أبي طالب،
ولكن هذا الحديث بالذات تفوح منه رائحة السياسةّ ،
المحدثّ ،
ود أبي طالب وحبه
إلثبات بؤس نسبه وتقّلبه في أرحام الكافرين ،وهذا عكس ما كان عليه رسول الله من ّ
والثناء عليه.
كذبتم لعمر الله ُنبزي محمداً *** ولما ُنصاول حوله ونقاتل
وهي مواقف في اإليمان تجاوز فيها كل أحد من وجوه العرب ،وحين رأى ثبات رسول الله قال له :امض
يا بن أخي حتى ينصرك الله فوالله ال نسلمك وال نخذلك.
وقد واجه قريشاً كلها دفاعاً عن رسول الله ،ودخل معه حصار ش ْعب أبي طالب حتى أنهكه الجهد
والجوع واألذى ،ومات بعد رفع الحصار بثالثين يوماً ...وتاريخه كّله صدق وإخالص ووفاء ..ثم يحلو لهذا
لتصور واهم.
ّ الراوي أن يتوعده بنار جهنم خالداً مخلداً فيها نصرة
رواه اإلمام البخاري محمد بن إسماعيل ،الجامع الصحيح ج ،3ص .31وانظر تتمة األبيات في إمتاع األسماع 25
53
وسبحان الله ...ألم يشعر أولئك الذين وضعوا هذه الرواية المتهالكة أنهم يسيئون إلى الله ورسوله ودينه،
فيبررون البطش والظلم ونكران الجميل ،نصرة لفكرة خاطئة؟
ّ
ثم ما هذه الشفاعة التي تذكرها الرواية وتنسبها لرسول الله من أنه شفع له فألبس نعلين من نار يغلي
منه دماغه!!! فهل هي شفاعة أم استهزاء برسول الله؟؟؟ وهل هي كرامة أم إهانة؟؟ قليالً من العقل يرحمكم
الله!
والقول الفاصل في هذه الروايات ّأنها أحاديث شاذة ،والحديث الشاذ هو حديث رواه أهل الصحاح ولكنه
خالف ما هو أشد منه صحة أو أقوى سنداً .وقد ّ
قدمنا اآليات واألحاديث التي أصح من هذا وأوثق ،مما
التمسك بالمشهور اليقيني من الرواية التي تدل
ّ يوجب حتماً الحكم بفساد هذه الروايات وشذوذها ،ووجوب
على رحمة رسول الله وحكمته وهديه ،وهو ما يتحّقق بدّقة في هذه المرويات.
وبعد هذه الدراسة في المصادر النصية ننتقل إلى المصادر العقلية في اإلسالم.
األدّلة من اإلجماع
تشير هذه الدراسة إلى اإلجماع الذي اعتبره علماء أصول الفقه مصد اًر من مصادر التشريع األصلية،
ونحن نتّفق مع األصوليين فيما اختاروه ولكننا نختلف عن السائد عند المشايخ من اعتبار اإلجماع هو ما
جرى في عهد الصحابة دون سواهم ،أو ّأنه إجماع الفقهاء وحدهم ،وهو ما يعني في ّ
ذهنية الناس (رجال
الدين).
ولكن الفهم الحرفي لمنطق اإلجماع مستحيل التحقق ،بل جزم ابن حزم أنه ال يمكن أن يتحّقق إال في
أقل شمولية وذهب معظمعصر الصحابة قبل انتشارهم في األمصار ،ولذلك فقد تحول الفقهاء إلى صيغ ّ
أن اجتماع الناس على أمر في مصر يلزمهم وال يلزم كل أن األغلبية تقوم مقام الجميع ،و ّ
الفقهاء إلى ّ
األمصار ،وفي هذا السياق اشتهر إجماع أهل المدينة وإجماع العترة وإجماع الفقهاء وإجماع المفسرين.
األصفهاني ،أبو الثناء محمد بن عبد الرحمن ،بيان المختصر شرح ابن الحاجب ،ج ،8ص.138 26
األسنوي ،عبد الرحيم بن الحسن ،نهاية السول شرح منهاج الوصول ،ص.318 27
54
فوضت بالحل والعقد من ولي
ويمكن صياغة اإلجماع بمفهوم زماننا :هو اتفاق الهيئة التشريعية التي ّ
ّ
األمة ،ووضع
األمر الذي انعقدت له بيعة صحيحة في بلد من البلدان اإلسالمية بالنظر في مصالح ّ
السّنة.
النصوص التشريعية الالزمة لمصالحها بما يحقق مقاصد الكتاب و ُّ
فإن إخاء األديان متحّقق في ( )13دولة إسالمية من أصل ( )11حيث تنص ووفق هذه الصيغة ّ
أن الدولة
وصوت عليها الجمهور في معظم الدول اإلسالمية ّ
ّ الدساتير التي وضعتها الهيئات التشريعية،
المسلمة مكّلفة بحماية األديان وتوفير حاجات أتباعها من الكنائس والمعابد ،و ّأنه ال يجوز التفريق بين الناس
وقومياتهم .وباتت هذه المواد منصوصاً عليها بصريح العبارة في كل دساتيرّ بناء على أديانهم وأعراقهم
العالم اإلسالمي باستثناء السعودية وإيران فيما تفرض الصومال واليمن وموريتانيا بعض المواد التمييزية ضد
األديان.
إن إجماع الهيئات التشريعية في ( )12بلداً إسالمياً على المساواة بين األديان ،واحترام ما اختاره الناس
ّ
ألنفسهم من دين هو الشكل المنطقي لدليل اإلجماع في العصر الحديث.
وهل تشتمل هذه الهيئات التشريعية على الفقهاء الموثوقين؟ والجواب بطبيعة الحال اإليجاب في معظم
هذه الحاالت ،فهؤالء المكّلفون بكتابة التشريعات هم في العادة أعلى الناس تحصيالً علمياً في الفقه والقانون،
وال يسيء إلى اإلجماع في شيء وجود أهل اختصاص في االجتماع والقانون الدولي ،بل هو شرط نجاحه
العلمانيين فهي خبرات تستأنس بها اللجان التشريعية في
ّ وتحقق بصيرته ،وكذلك وجود بعض المسيحيين أو
كل مكان ،وكذلك كان التاريخ اإلسالمي ،وقد كان من روائع الحضارة اإلسالمية مشاركة أهل األديان فيها،
وقد استعان الخلفاء دوماً بخبرات كبيرة من المسيحيين واليهود والصابئة في الخالفة العباسية بوجه خاص.
أن التعبير بالمجتهدين ينصرف دوماً في الذهنية العامة إلى رجال الدين،
إن المشكلة التي نواجهها دوماً ّ
ّ
من األئمة والواعظين ،ولكن هؤالء على سالمة مقاصدهم ال يمكنهم أن ينشؤوا التشريعات المتينة التي تحكم
عالقة األفراد بالدولة والدولة بمحيطها ،وهي قائمة أساساً على العقود المبرمة في ظل القانون الدولي ،وقد
أمرنا بالوفاء بالعقود ،وال يمكن أن يتحقق ذلك إالّ فيمن درس الفقه والقوانين الحديثة ،وأجرى المقارنات
الوافية ،وهو شأن الفقهاء الراسخين في الشريعة والقانون ،بغض النظر عن كونهم رجال دين واعظين ،بل
الشرط فيهم أن يكونوا من أهل االستقامة ،وهو ما تؤكده اللوائح دوماً في اختيار هذه الهيئات من سالمة
السج ّل العدلي وتحّقق الكفاءة والنزاهة ،وتوّفر قد اًر كبي اًر من الثقافة الرفيعة.
ّ
55
الدليل من القياس
أن االستدالل بالقياس ال يكون إالّ في غياب النص ،والنص موجود وفيه تفاصيل أهل الكتاب، ومع ّ
ولكننا بحاجة للقياس فيما يتصل بحكم األمم التي لم تذكر في القرآن الكريم ،وهذا بالضبط ما فعله الصحابة
الكرام عند الحديث عن المجوس ،حيث قال عمر بن الخطابُ :سّنوا بهم ُسّنة أهل الكتاب.28
أن ما ذهب إليه عمر بن الخطاب في الحكم على المجوس ،هو المنهج نفسه في الحكم على وقناعتي ّ
نسن فيهم ُسّنة أهل الكتاب ،وقد قال الله فيهم:
الهندوس والبوذيين وغيرهم من أهل األديان ،الذين ينبغي أن ّ
{ورسالً قد قصصناهم عليك من قبل ورسالً لم نقصصهم عليك}.
وهكذا فنحن نلحق فرعاً بأصله لعّلة جامعة بين الفرع واألصل.
وأهل الكتاب مصطلح قرآني حضاري ،يمنح غاية االحترام لآلخر المختلف دينياً ،فينسبهم إلى كتاب
صادر عن الله ،ويحترم ما لديه من علم وحكمة ،ويدعوهم بصريح العبارة للحكم بما أنزل الله فيه{ :وليحكم
أهل اإلنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} ،ويخبر كذلك عن التوراة:
{ ّإنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون واألحبار}.
أن تحديد
وأحب أن أضيف هنا رأياً كنت قد شرحته في مقاالت كثيرة ،وليس هذا مقام البسط فيه وهو ّ
أمة تنتظم أحكامها كتب
الكتاب المقصود ال ينبغي أن يقتصر على التوراة واإلنجيل ،بل هو إشارة إلى كل ّ
أمة انتقلت من طور البداوة والفوضى إلى نظام األمم ذات مقررة يتبعها الناس ،والمقصود كل ّ
وقوانين ّ
طورت تشريعاتها من األعراف والعادات إلى القوانين والكتاب
القوانين والمواثيق واألعراف الدولية ،وكل أمة ّ
فهم أهل كتاب ،وبات من الممكن أن ننشئ معها عقوداً وعهوداً واتفاقيات مصونة.
فإن آية { :ال ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
كذلك ّ
وتقسطوا إليهم} ،قد نزلت في الوثنيين المسالمين اتفاقاً ،29وهي أصل يقاس عليه كل وثني وكل ال ديني
وكل ملحد اختار لنفسه اعتقاداً ولم يقاتلنا في الدين ولم يخرجنا من ديارنا ،وهذا ينطبق اليوم على كل أمم
األرض ،من شعوب نبيلة كريمة أياً كانت أديانها ،إالّ األنظمة الظالمة المستبدة التي تشرد شعوبها وتطردهم
من أرضهم وفق بيان القرآن الكريم.
نزلت في الوثنيين من قريش ممن لم يحارب معها ،انظر تفسير اآلية 1في سورة الممتحنة.
56
ويتعين في البشرية كلها مهما كانت ديانتها أن تعامل بالبر والقسط ،وهما مصطلحان يكفيان لقبول كل
ّ
مواثيق األمم المتحدة الداعية إلى وقف التمييز بسبب األديان ،وتوجب دخول األمة اإلسالمية في عقد حقوق
اإلنسان الذي ينص على حق كل إنسان في اختيار دينه ومعتقده بحرية تامة ،وهو مضمون اآلية أيضاً:
{ال إكراه في الدين}.
ويستدل السادة الحنفية باالستحسان مصد اًر رئيساً من مصادر الشريعة .واالستحسان هو ترك القياس
واألخذ بما هو أوفق للناس ،30أو هو العدول عن قياس جلي إلى قياس خفي لحكمة يراها المجتهد .31وفي
ّ
32
تعبير أكثر واقعية ،فاالستحسان هو دليل ينقدح في عقل المجتهد يعسر التعبير عنه .
57
فإن الفقهاء ال زالوا يأخذون باالستحسان مصد اًر لألحكام الشرعية ،وهو اجتهاد في مورد
وفي هذا السياق ّ
النص ،وهو أكثر المصادر إعماالً من الناحية الواقعية خالل التاريخ اإلسالمي ،وتطبيقاته أكثر من أن
إن القوانين الحديثة اليوم في االقتصاد والمرور والنقل وغيرها قائمة على االستحسان
تحصى ،ويمكن القولّ :
والمصلحة المرسلة.
ويتعين الذهاب إلى االستحسان في تأويل النصوص التي وردت بوجوب القطيعة مع األديان وبغض
ّ
أتباعها ،وهي نصوص وردت في سياقات خاصة ،في غياب قانون دولي ومعاهدات محمية ،وقد انتهى
ذلك مع الزمن حيث باتت الدول اإلسالمية اليوم تلتزم بمعاهدات واضحة وصريحة لجهة حماية األديان،
وتوفير حقوقها وحقوق أهلها في العيش الكريم.
واالستحسان الذي هو ترك القياس واألخذ بما هو أوفق للناس ،أو بتعبير أوضح ترك حكم النص
لمصلحة راجحة ،واضح في وجوب التحول إلى بناء عالقات إيجابية مع أهل األديان ،لما في ذلك من
وخاصة بعد أن
ّ لألمة ،ولما يقتضيه العقل والعدل من التعامل مع الناس بالمساواة والعدل،
مصلحة أكيدة ّ
توّقفت الحروب الدينية التي كانت تفرض موقفاً ترّبصياً من األمم بعضها ببعض.
أن هذا التسامح المنصوص عليه في القوانين تجاه األديان ليس مثالياً،
ومن الواجب أن نشير هنا إلى ّ
فالواقع يك ّذبه في كثير من األحيان .وعلى سبيل المثال ففي الهند نزاعات ضارية بين المسلمين والهندوس
حمى الصراع في أعقاب هدم المسجد البابري وبناء معبد هندوسي ألسباب سياسية محض ،وقد تعاظمت ّ
فوق ركامه ،وفي بورما يعاني المسلمون من أقلية الروهينغا مظالم قاسية من فريق من البوذيين ،فيما يعاني
اإليغور المسلمون من مظالم وتمييز شديد تمارسه الحكومة الصينية ّ
ضدهم.
58
أن هذه المظالم المؤلمة تواجه باستمرار اعتراضاً شجاعاً من قيادات هندوسية وبوذية ترفض ذلك
على ّ
أن هذه الممارسات مرفوضة في الديانة ،و ّأنها مظهر من مظاهر تشويه قيم التسامح
بحق المسلمين ،وتؤكد ّ
والرحمة في هذه األديان ،وأنها تشبه التطرف الذي يظهر بين الحين واآلخر في المجتمعات اإلسالمية،
تبر منه المسلمون.
وي ّأ
والمصالح المرسلة هي منفعة لم يشهد الشرع العتبارها وال إللغائها بدليل خاص.36
وسّنة قد سكت تماماً فيما يخص األديان إالّ ما كان في جزيرة العرب من
ومن المؤكد أ ّن النص قرآناً ُ
الس ّنة شيء من أمر األرثوذكسية والكاثوليكية
النسطورية المسيحية واليهودية ،وليس في القرآن وال في ُّ
أن األنبياء
والبروتستانتية والبوذية والهندوسية والسيخية وغيرها من األديان ،وقد وردت نصوص عامة في ّ
يقص علينا كل أخبار الرسل ومنهم من
أن الله لم ّ
أمة إالّ خال فيها نذير ،و ّ
إن ما من ّ
بعثوا في كل أمة ،و ّ
فإن الفقيه المجتهد يمكنه النظر في بناء اإلخاء والعالقات االجتماعية مع األديان
لم نقصص عليك ،وهكذا ّ
المذكورة على ّأنها رساالت لرسل لم يقص الله علينا أخبارهم ،والمدار في الحكم عليها هو المصلحة
المرسلة.
السنة بشأن اليهود والنصارى قد منحهم مكان أهل الكتاب ،وهو مكان
أن النص الوارد في الكتاب و ّعلى ّ
مميز يختلف تماماً عن مكان الوثنيين من عابدي األصنام ،ووفق هذه القراءات فقد اختلفت األحكام اختالفاً
ّ
ّبيناً بين منظومة أهل الكتاب ومنظومة المشركين.
أن المصلحة المرسلة في هذا الباب تتطّلب النظر بشكل عملي في مصالح األمة الحقيقية
وال شك في ّ
األمة الحقيقة في التمييز بين األديان ،وإنصاف أهل اإلسالم
المعتبرة في التعامل مع األديان ،وهل مصلحة ّ
أن اضطهاد أهل األديان مناف لعدالة الله وللقانون الدولي، واضطهاد أهل األديان ،وال يخفى على عاقل ّ
األمة الحقيقة مادياً ومعنوياً.
وسيؤدي إلى إلحاق أذى كبير بمصالح ّ
59
مجرد التمييز ضدهم ،ودفعهم للجزية عن يد
واالضطهاد هنا ال يراد به قتلهم أو ضربهم أو إهانتهم ،بل ّ
وهم صاغرون ،فهو اضطهاد وكذلك إهانة كتبهم واعتقادهم ومنعهم من إقامة شعائرهم الدينية بكل راحة
وطمأنينة.
إن أي قراءة في مصالح األمة المرسلة تلزم األمة بتوقيع االتفاقيات الدولية الداعية إلى حماية أبناء
ّ
األديان ،وتوفير الحرية الدينية لجميع الناس ،وبذلك تبقى األمة اإلسالمية في كنف األسرة الدولية ،وال
تحجب عن رعاياها حقوق المسلمين الناشئة من تبادل المصالح والمنافع مع المجتمع الدولي ،وتوفير الحاجة
برمته.
واألمن للمجتمع ّ
سد الذرائع
الدليل من ّ
سد الذرائع أحد المصادر الرئيسية في الفقه اإلسالمي لتشريع األحكام ،وقد أخذ به بشكل خاص
ويعتبر ّ
اإلمام أحمد بن حنبل.
وسد الذرائع هو إغالق ما ظاهره مباح خشية الوقوع في محظور ،وها هنا تنطبق المسألة سياقاً وسباقاً،
ّ
التدين وبناء المعابد واالمتناع عن التوقيع على معاهدات حقوق اإلنسان
فإنكار حق أبناء الديانات في ّ
سيوفر ذريعة كاملة لإلساءة إلى األمة اإلسالمية برمتها ،ومعاملتها معاملة األمم المارقة ،وتحريض تلك
األمم على منع المسلمين من ممارسة شعائرهم في البالد غير اإلسالمية ،والتضييق عليهم وفق مبدأ المعاملة
بالمثل.
وسيؤدي ذلك من جانب آخر إلى تعثر سير البالد في طريق النهضة والتعاون مع المجتمع الدولي،
ويعلم الخبراء االقتصاديون كم سيكلف األمة اإلسالمية هذا العناء الكبير ،الذي هو في األصل موقف
يتناقض تناقضاً تاماً مع عدالة الله وقسطه ورحمته.
تبنتها الدول المتشددة حيال الديانات من منع بناء الكنائس والتضييق على غير
كما أن المواقف التي ّ
المسلمين أدت إلى نتائج عكسية تماماً ،حيث زرعت الشكوك باستمرار لدى الناشئة من غياب العدالة في
60
فإن القمع كان
جوهر الدين ،وإكراه الناس على اإليمان ،وهو ما أدى إلى الحيرة والشكوك ،ومن جانب آخر ّ
ذريعة الشتداد الحرب ضد المسلمين واتهامهم بالظلم والتمييز.
وقد أخذ اإلمام الشافعي باالستصحاب دليالً ،ومعناه بقاء ما كان على ما كان ،فما انقطع الحكم فيه لزم
استصحاب األصل فيه.
السّنة ،وأن
أن األمم الحديثة كّلها غير مذكورة في الكتاب و ُّ
ويظهر االستدالل باالستصحاب حين يتأكد ّ
النص في أمم آفلة على أمم وافدة ،فهو قياس مع الفارق ،وهو قياس غير مستقيم،
ال وجه لقياس ظاهر ّ
محل نزاع.
الذمة ،وهو هنا ّ
وهاهنا يتعين استصحاب الحكم األصلي ،وهو براءة ّ
أن الحكم فيفالحكم في األصل على تكفير الوثنيين والمشركين ،والقياس وجوب بغضهم وقتالهم ،كما ّ
أن األمر يحتمل استصحاب كل من ذمة الناس ،وهو أصل ال ينتقض إال ببرهان ،والحق ّاألصل هو براءة ّ
يتعين علينا األخذ ببراءة
فإنه ّاألصلين ،ولكن يتعين اختيار أحدهما لمنع إقرار الشيء ونقيضه ،وها هنا ّ
الوثنيين في قريش
ّ الذمة استصحاباً حيث ال يستقيم القياس مع الفارق على الوثنيين ،والفارق هنا هو ّ
أن
حاربوا اإلسالم ،وهموا بقتل النبي ،ومنعوا إسالم أحد من أهل مكة وغلبوهم على أمرهم ،فيما تقوم هذه الدول
اليوم باستقبال المسلمين ،واإلذن بفتح المساجد المدارس الدينية ،وتمكين الناس من عباداتهم وشعائرهم،
فإن استصحاب الحكم ببراءة الذمة أولى من استصحاب الحكم ببغض المشركين.
وعليه ّ
ويتعين هنا أن يكون النظر في العالقات مع هذه األمم قائماً على تقدير العدل والقسط ،واستصحاب
األصل المنصوص عليه في القرآن الكريم من سالمة الفطرة ،واستقرار روح الله تعالى في اإلنسان استصحاباً
ؤكده آيات
لما ورد في النص العزيز من وجود روح الله تعالى في اإلنسان وانبثاقه عن فطرته ،وهو ما ت ّ
كثيرة في القرآن ،ثم سواه ونفخ فيه من روحه ،وبناء عليه فإن شأن المسلم أن يحترم كل ذات نفخ فيها
الرحمن من روحه ،وفي هذا المعنى يقول ابن عربي :ولن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخالئق.
61
أن كل دليل قدمته قد يعرض له دليل يخالفه ،وهيوإذ أضع القلم في بسط هذه األدلة فأنا ال أجهل ّ
أن
المشرفة ،ولكنني قصدت أن يعرف المسلم ّ
ّ السّنة
حمال أوجه ،وكذلك ُّطبيعة األشياء ،فالقرآن الكريم َّ
السّنة وكثير منها عقلي محض ،وقد التزم الفقهاء اتباعه
مصادر التشريع في اإلسالم هي أوسع من الكتاب و ُّ
أن
أن هذه المصادر منتجة ،قادرة على ّ
خالل التاريخ ،ونجحوا في ابتكار الحلول الناجحة لكل ما واجههم ،و ّ
توفير الدليل لكل استنباط فيه مصلحة األمة.
أن هذه المصادر قد ختمت أيضاً و ّأنها مقصورة على ما استنبطه القدماء ،وال أما أولئك الذين يرون ّ
يصح االستدالل بها إال فيما استنبطه السابقون ،و ّأنها غير صالحة إلنتاج أحكام جديدة فهؤالء لن يقبلوا
ّ
استنباطنا هذا ،وسيعتبرون أننا نلوي أعناق المصادر كما لوينا أعناق النصوص.
ونبسط هنا أربعة أدّلة عقلية أخرى مؤيدة بنصوص من الوحي في مسألة إخاء األديان ،وهي ّ
تأمالت
عقلية وبرهانية دعت إليها نصوص الوحي المبين ،وأكدتها الروايات المختلفة ،ولكن لم يدرجها الفقهاء عادة
في سياق إخاء األديان ،وإعذار المختلف في الدين والمذهب ،مع ّأنها أعظم األدلة على نبل رسالة إخاء
األديان وكرامة اإلنسان وطهر مقاصدها ،وقد اخترت ترتيبها في خمسة عناوين:
اإلمام البيروني
البيروني...
أبو الريحان البيروني ( 444-223هجرية) كان أبرز علماء الدولة الغزنوية ،التي س ـ ـ ــيطرت على الخالفة
العباســية .كان يتقن ســبع لغات ،وهو أول من شــرح دوران األرض حول محورها ،ويعتبر من أعظم العقول
عبر التاريخ...
62
أما الجانب األهم من حياته فهو موقفه من أديان الهند ،فقد كلفه الس ـ ـ ــلطان محمود الغزنوي أن يزور الهند
ويتعرف إلى فلســفتها ،وبعد ســنوات عديدة أمضــاها في الهند تعلم فيها اللغة الســنســكريتية ،كتب رؤيته في
أديان الهند في كتاب خاص بعنوان (تحقيق ما للهند من مقولة في العقل أو مرذولة) ...وكان مدهشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
أنـه أكـد أن األصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل في العقيدة عندهم هو التوحيد ،وأن المثقفين منهم ال يعرفون خالقاً وال ارزقاً إال الله،
أن االعتقاد لدى حكماء الديانة الهندوس ـ ـ ـ ــية يتجه إلى التوحيد،
وأن جوهر فلس ـ ـ ـ ــفة الهند هي اإليمان ،وأكد ّ
فيما يرتع العامة بالتعدد والشرك وعبادة األيقونات!
وفي عبارة دقيقة يكتب البيروني شـ ـ ــارحاً المعتقدات الهندوسـ ـ ــية بقوله« :واعتقاد الهند في الله سـ ـ ـ ـبحانه أنه
الواحــد األزلي من غير ابتــداء وال انتهــاء ،المختــار في فعلــه ،القــادر الحكيم أي المــدبر المبقي ،الفرد في
ملكوته ...ال يشبه شيئاً وال يشبهه شيء».
ومن النصـ ـ ـ ــوص السـ ـ ـ ــنسـ ـ ـ ــكريتية أدهش البيروني العالم بالكشـ ـ ـ ــف عن التوحيد في عقيدة الهندوس ،عرفاناً
ص ــوفياً خالصـ ـاً ،الله طاهر ،وغير متجس ــد ،وال صـ ــورة له ،وهو واحد أحد ال ثاني له ،وال يمكن رؤيته وال
تجسيده وكل ما خطر ببالك فالله خالف ذلك.
وأش ـ ـ ــار البيروني إلى أن حكماء الهند يقفون بجالل وهيبة أمام حضـ ـ ـ ـرة الله تعالى ،ويس ـ ـ ــمونه البراهما ،وال
يقدمون له أي وصـ ـ ـ ـ ــف أو تمثال ،ويقولون :نحن أقل من أن نتوجه إليه وهو أكبر من أن يصـ ـ ـ ـ ــغي إلينا،
والعجز عن اإلدراك إدراك ،والبحث في ذات الله إشراك..
وفي عبارة دقيقة يكتب البيروني شـ ـ ــارحاً المعتقدات الهندوسـ ـ ــية بقوله« :واعتقاد الهند في الله سـ ـ ـ ـبحانه أنه
الواحــد األزلي من غير ابتــداء وال انتهــاء ،المختــار في فعلــه ،القــادر الحكيم أي المــدبر المبقي ،الفرد في
38
ملكوته ...ال يشبه شيئاً وال يشبهه شيء».
38البيروني ،أبو الريحان محمد بن أحمد ،تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذول ،عالم الكتب.
قمنا بتحديد النصوص من مصدرها األصلي في الفيدات الهندوسية باللغة اإلنكليزية وأشرنا إلى مواضع ورودها. 39
63
اس فلم
ثم ينقل البيروني صفة الله عندهم عن كتاب من كتبهم يسميه (باتنجل)« :وهو وإن غاب عن الحو ّ
تـدركه فقد عقلته النفس ،وأحاطت بصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــفاته الفكرة ،وهذه هي عبادته الخالصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة ،وبالمواظبة عليها ينال
السعادة؛ فهذا كالمهم في هذا الكتاب المشهور».40
وتحدث البيروني ببالغ االحترام عن الصـ ـ ـ ـ ــابئة الحرانية ،وقال في كتابه (اآلثار الباقية في األمم الخالية):
الصابئة أناس يوحدون الله وينـ ـ ــزهونه عن القبائح ،كقولهم :ال يحد ،وال ُيرى ،وال يظلم وال يجور ،ويسمونه
باألسماء الحسنى مجا اًز.
وأفرد في كتــابــه تفسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي اًر مختلف ـاً لعقيــدة النص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارى في األب والولــد ،وتحــدث عن أثر اللغــات في تغير
المص ـ ـ ـ ــطلح ،وأن األبوة هنا أبو الكل :أص ـ ـ ـ ــعد إلى أبي وأبيكم ،وأظهر إنص ـ ـ ـ ــافاً غير معتاد أبداً في حوار
األديان في تلك المرحلة من التاريخ...
الزردشـ ـ ـ ــتية والبوذية واليهودية ،وكان مدهش ـ ـ ـ ـاً في روايته ألقوال األديان بكل
وبمثل هذا تحدث عن الديانة ا
احترام ،فكان يظهر أجمل ما في هذه األديان ويلتمس ألصـ ـ ـ ـ ــحابها المعاذير ،في حيادية مدهشـ ـ ـ ـ ــة لم يكن
العالم يعرفها آنذاك...
كان أبو الريحان يرى أن األديان كلها تدل على الله{ ،ولله المش ـ ـ ـ ـ ـ ــرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}،
وأن على األديان أن تدرك أنها صـ ـ ـ ـ ــادرة من ذات واحدة ،وأن على أتباعها أن يتعاونوا في القضـ ـ ـ ـ ــاء على
الفقر والتس ـ ـ ـ ــول والمرض والظلم ،وأنه يجب وقف التبش ـ ـ ـ ــير القائم على تس ـ ـ ـ ــخيف دين اآلخرين ،وتش ـ ـ ـ ــويه
أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم..
لقد ألزم البيروني نفسه أن ال ُيقحم نفسه في خطاب حجاجي قائم على ثنائية الحق والباطل والنور والظالم
ّ
والهدى والزيغ ،وأكد أن ذلك شأن االنفعاليين وليس شأن العلماء الموضوعيين.
لقد تحدث عن األديان باحترام بالغ ،واعتبرها إلهية المص ـ ــدر ،وأكد دور اإلنس ـ ــان في تطورها واس ـ ــتكمالها،
ورسم صورة جميلة للمانوية واليهودية والهندوسية ،وهذا قدر من اإلنصاف ال تعرفه األمم التي ظلت تتقاتل
بعد البيروني ألف عام إلثبات صحة عقائدها.
حين تق أر عبارات البيروني في األمم واألديان تسمع في ثنايا خطابه :أمة بين األمم وليس أمة فوق األمم،
ونبي بين األنبياء وليس نبياً فوق األنبياء ،ودين بين األديان وليس ديناً فوق األديان.......
الحالج
البيروني ،أبو الريحان ،تحقيق ما للهند ،عالم الكتب ،ج ،8ص.38 40
64
الحسين بن منصور الحالج ،صاحب الطواسين ( 219-344هجرية) عاش ومات في العراق.
قد يكون الحالج الفريد من المش ـ ـ ــاهير الذي تم قتله بالفعل بتهمة الردة ،فليس صـ ـ ـ ـواباً ّ
أن القتل بالردة كان
شـائعاً ،بل كان ناد اًر ،ولم يقتل أحد بالردة إال ووراء الحكم قدر غير قليل من السـياسـة ،والحالج نفسه كان
متهماً بتأييد اإلس ـ ــماعيلية والدعوة للرض ـ ــا من آل محمد ،وهي تهمة كانت تكفي لوص ـ ــمه بالقرمطية وقتله،
أن األئمة الفالسـفة قد تم تكفيرهم في عصور الحقة ،ولكنهم في الواقع عاشوا وزراء مكرمين كابن صـحيح ّ
المقفع وابن سـ ـ ـ ــينا والبيروني والفارابي والسـ ـ ـ ــهروردي وابن طفيل وابن باجه وابن رشـ ـ ـ ــد ولسـ ـ ـ ــان الدين ابن
الخطيـب ،وقد تغيرت عليهم األيام بتقلبات السـ ـ ـ ـ ـ ـ ــياسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة ومكرها ،ولكن من غير الواقعي أن نقول إنهم قد
حوكموا بالردة أو أعدموا فيها.
يبقى الحالج فريداً في هذا الموقف ،مع تسـ ــليمنا بأن آخرين تعرض ـ ـوا لهذا اللون من العقاب ،ولكن لم نجد
من المشـاهير من أعدم بتهمة الردة إال وله موقف سـياسـي اسـتفز السـلطان وأغضبه ،فسخر في سبيل ذلك
فتاوى التكفير.
ويمكن القول :إن الحالج قد بنى موقفه من وحدة األديان تأس ـ ـ ــيسـ ـ ـ ـاً على مذهبه في التس ـ ـ ــليم لله وإس ـ ـ ــقاط
التكليف بإسقاط اإلرادة ،فالله وحده هو من اختار للناس معارفهم ومواقعهم ومصائرهم وعقائدهم ومآالتهم،
ومن غير الواقعي بنــاء على هــذا الموقف أن يكون التفــاوت في الحس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب يوم القيــامــة مبنيـاً على أديــان
الناس ،فهي ليست اختيارات العبد بل هي إرادة المعبود وحده ،وهو ما كان يشرحه في البيتين الشهيرين:
---
65
قال الحالج« :يا بني األديان كلها لله .ش ـ ـ ـ ـ ــغل بكل دين طائفة ال اختيا اًر فيهم بل اختيا اًر عليهم .فمن الم
43
أحداً ببطالن ما هو عليه فقد حكم انه اختار ذلك لنفسه".
واعلم أن اليهودية والنصـرانية واإلسالم وغير ذلك من األديان هي ألقاب مختلفة ،وأسام متغايرة ،والمقصود
منها ال يتغير وال يختلف» .ثم أنشد:
وأما الجحيم فلم يكن الحالج يقرؤها على الصورة التي يقدمها الفقهاء ،ولم تكن تعني له نا اًر {كلما نضجت
جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} ،بل كانت تعني عنده الفناء في الله ،واالس ـ ــتغراق في وصـ ـ ــاله،
وقال:
45
وكل مآربي قد نلت منها *** سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
وعلى الرغم من أن إعــدام الحالج كــان بــأمر من الخليفــة المقتــدر ،ومكر من الوزير حــامــد بن العبــاس،
وش ـ ـ ـ ـ ــهود عدد كبير من الفقهاء والمش ـ ـ ـ ـ ــايخ ،ولكن طائفة غير قليلة من الفقهاء كانوا يتحدثون عن الحالج
كواحد من أعظم أئمة اإليمان ،ومنهم الشـ ـ ــبلي وابن الخفيف وابن عطاء الله السـ ـ ــكندري ،ونصـ ـ ــر الحادب
والواسطي والنصرابادي الذي قال :إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحالج بال ريب.
وسـيبقى الحالج لغ اًز في تاريخ التفكير في اإلسالم ،وال تزال اآلراء فيه في غاية التناقض ،ولكنني ال أتردد
في القول :إن يوم ص ـ ـ ــلب الحالج كان يوماً أس ـ ـ ــود مش ـ ـ ــؤوماً في تاريخ الحض ـ ـ ــارة اإلس ـ ـ ــالمية ،وإن إعادة
االعتبار للحالج مســ ـ ــؤولية تاريخية ،وهو بحق أشـ ـ ـ ــهر الرجال الذين صـ ـ ـ ــلبوا بسـ ـ ـ ــبب أفكارهم وحريتهم في
االعتقاد.
66
وال يؤمن بك ال نبوة وال رسـ ـ ــالة وال ش ـ ـ ـريعة ،فما معنى هذا الحب من طرف واحد؟ وما معنى التزلف إليهم
وقد أخبر القرآن الكريم{ :ولن ترضى عنك اليهود وال النصارى حتى تتبع ملتهم}.
وال بد أوالً أن نجيب عن اآلية الكريمة ،فنحن أوالً ال نبحث عن رضـا اليهود وال عن رضـا النصارى ،وإنما
نبحث عن رضا الله الذي أمرنا بنشر المحبة بين عباده.
وثانياً إن هذه اآلية هي إحدى اآليات التي أوردها القرآن الكريم لبيان أمراض األمم وانحرافاتها وهي تحكي
مـا انحرف إليـه الوعي الالهوتي لـدى النصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارى واليهود من احتكــار الحقيقــة ،ويعلم كــل عـاقــل أن القرآن
يحذرنا من هذا الفهم القاصـ ــر ،ومن الواضـ ــح أننا وقعنا فيه وبتنا ال نرضـ ــى عن اليهود وال عن النصـ ــارى
حتى يتبعوا ملتنا ،وقد اتبعنا في ذلك سـ ــنن من قبلنا شـ ــب اًر بشـ ــبر وذراعاً بذراع ،ودخلنا معهم جحر الضـ ــب
الذي دخلوه.
وال شـك في أن الديانات عموماً تقوم على احتكار الخالص ،وأن النصـوص المؤسسة عادة ما تتحدث عن
اختصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاص اللـه تعـالى لهـذه الملة بطريق النجاة والخالص ،ودعوة الناس للدخول في هذا الهدى لتحقيق
السعادة في الدنيا والنجاة في اآلخرة.
وهذا القدر من الوعي موجود في معظم األديان ،وفي كل ديانة يمكن أن تجد هذه النصوص ،وهي بالعادة
مادة ضـ ـ ـ ـ ــرورية لرجال الدين في كل ملة لتأمين الحماسـ ـ ـ ـ ــة الكافية للدعوة إلى الدين ،واألسـ ـ ـ ـ ــباب الموجبة
العتناق الديانة دون سواها.
ويمكننـا القول مع عبــد الرحمن الحــاج أن كـل دين يعتقــد بــأنــه يمتلـك الحقيقــة وحــده ،فــالخالص (بحس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب
المصـ ـ ــطلح المسـ ـ ــيحي واليهودي) والنجاة والفالح (بحسـ ـ ــب المصـ ـ ــطلح اإلسـ ـ ــالمي) ،أو التنوير (بحسـ ـ ــب
المص ــطلح البوذي) هو وقف على أتباع هذا الدين دون غيرهم ،أما هذا الغير فيكون مص ــيره إلى العذاب،
ويتجاوز هذا االعتقاد غالباً التعارضـ ـ ـ ـ ــات الدينية إلى التعارضـ ـ ـ ـ ــات المذهبية بين أتباع الدين نفسـ ـ ـ ـ ــه ،بين
الكاثوليكية والبروتســتانتية في المســيحية ،وبين الماهايانا والهنايانا أو الثيرافادا في البوذية ،والشــيعة والســنة
في اإلسالم ،األمر الذي يزيد التعددية الدينية تعقيداً.46
ولكن من المؤكد أن قد ظهر في األديان كافة ،كما رأينا في اإلس ـ ـ ـ ـ ــالم ،مفكرون أح ارر يدعون إلى اإلخاء
اإلنســاني ويرون في اإلخاء بين األديان مدخالً لبناء الحياة الســعيدة واســتجابة إلرادة الخالق في بناء أس ـرة
إنســانية واحدة ،تكون فيها األديان على اختالفها أبواباً للوصــول إلى الخير اإلنســاني والتواصــل مع المولى
سبحانه.
46الحاج ،عبد الرحمن ،مقال منشور في مجلة الملتقى لإلبداع والتطوير بتاريخ 3111/3/32م.
67
ومع ذلـك يمكن القول :إن ظاهرة امتالك الحقيقة واحتكار الخالص أشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ما تكون ظهو اًر في اإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالم
الزردشـ ــتية والشـ ــوندوية والرسـ ــتفارية ،فيما تخفت في اليهودية والهندوسـ ــية والبوذية،
والمسـ ــيحية والسـ ــيخية و ا
ولكنها ال تكاد توجد في الديانات األخرى كالكونفوشـ ـ ـ ـ ـ ــية والطاوية والشـ ـ ـ ـ ـ ــنتو والبهائية والكاودائية والتنريكو
واألوموتو.
كما يجب القول :إن الحديث عن الديانات نصـ ــوص ـ ـاً وطقوس ـ ـاً ال يعبر بالضـ ــرورة عن فكر الشـ ــعوب التي
تنتمي إليها ،فلم يعد خطاب الكهنة يمثل المس ـ ـ ـ ـ ــيحيين واليهود والهندوس والبوذيين ،كما أنه لم يعد خطاب
المش ـ ـ ــايخ يمثل المس ـ ـ ــلمين بل بات لهذه الش ـ ـ ــعوب وعي مختلف ،قد يبادل الهوته االحترام والتقدير ،ولكن
وشكياً بالالهوت التقليدي.
السواد األعظم من هذه الشعوب بات يحمل فك اًر نقدياً ّ
وحين نتوجه إلى اإلخاء بين األديان فنحن ال نقصد فقط طبقة الكهنة ورجال الدين ،مع أننا نبحث أوالً عن
خطابها وأدبياتها ،ولكننا نقصـد الوصول بخطاب التسامح واإلخاء إلى تلك الشعوب العريضة ،سواء كانت
تلتزم طقوسها وتستمع إلى كهنتها كما هو حال المتدينين منهم ،أو تلك األغلبية التي ال تقيم وزن ًا لالهوت
ولكنها في الوقت نفسه ال تخرج من عباءة انتمائها إلى دين اآلباء واألجداد.
وفي الفص ـ ـ ــل التالي س ـ ـ ــنعرف بمواقف الديانات المختلفة من احتكار الحقيقة والخالص ومدى اســ ـ ــتعدادها
إلخــاء األديــان ،ثم نجتهــد أن نقــدم هنــا المحــاوالت التي قــدمهــا حكمــاء معروفون في الــديــانــات الس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمــاويــة
األساسية نحو إخاء األديان.
قائمة األديان
ندرج فيما يلي قائمة األديان التي س ـ ـ ـ ـ ــنتعرف عليها ،ونرص ـ ـ ـ ـ ــد موقفها من األديان األخرى ومن اإلس ـ ـ ـ ـ ــالم
47
خصوصاً وهي تشمل ( )31ديناً ،وتضم أكثر من ( )811طائفة ومذهب:
الـ ـعـ ـ ــدد الـ ـتـ ـقـ ـريـ ـب ــي تاريخ
وصف مختصر بالد االنتشار باالنكليزية الديانة
بالمليون 3131 التأسيس
أتباع السيد المسيح عليه السالم 3.212.111.111 أوربا وأمريكا 8م Christianity المسيحية
هذه القائمة مقتبسة من موقع ARDAمؤسسة أرشيف األديان The Association of Religion Data 47
68
الص ـ ـ ـ ـ ـ ــين والهنـد وما
أتباع الحكيم بوذا المعلم النبيل 112.111.111 111ق.م Buddhism البوذية
حولهما
أس ـ ـ ـسـ ـ ــها غورو ناناك ،وتضـ ـ ــم الهنـ ــد وبـ ــاكسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ــان
30.000.000 8131م Sikhism السيخ
تقاليد إسالمية وهندوسية وبريطانيا
8311
أتباع النبي موسى عليه السالم 84.111.111 فلسطين وأمريكا Judaism اليهودية
ق.م
تنسـ ـ ــب للنبي الكريم يحيى عليه ال ـع ـراق وسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوري ـ ـ ـة
70.000 21م Sabaism الصابئة
السالم والمهجر
69
تنسب لإلمبراطور هيالسيالسي 111111 جامايكا 8921م Rastafari الرستفارية
وتجدر اإلش ــارة إلى أن مركز بيو لد ارس ــات األديان )Pew Research Center( PRCوهو أهم مركز
متخصـ ــص في هذا اللون من الد ارسـ ــات اكتفى بالحديث عن سـ ــتة أديان كبرى في العالم ،وهي المس ـ ـيحية
واإلســالم والهندوســية والبوذية واليهودية والفولكلورية الصــينية كما أضــاف صــنفاً ســابعاً تحت عنوان :غير
منتسبين ( )Unaffiliatedوصنفاً آخر تحت عنوان أديان أخرى ،وهذه هي قائمة بيو لعام (3131م):
النســبة من ســكان
العدد في العالم الديانة
العالم
وكان بيو قد جمع الديانات الكونفوش ـ ـ ـ ـ ــية والطاوية والش ـ ـ ـ ـ ــنتو تحت عنوان الديانات الفولكلورية ،ولكننا رأينا
تفصيل كل من هذه األديان في دراسة منفصلة.
وتتفاوت نسـبة النمو العددي بين أتباع األديان تبعاً لمعدالت الخصوبة والنمو السكاني والهجرة والتحوالت،
وقد رصدت موسوعة العالم المسيحي ( )World Christian Encyclopediaالتي تصدرها جامعة أدنبرة
هذه الظاهرة لمدة أربعين عاماً من (3181–8911م) وانتهت إلى األرقام التالية:
70
9.85% Daoism
4.26% Bahá'í
4.23% Islam
3.08% Sikhism
2.76% Buddhism
2.62% Hinduism
2.60% Jainism
2.50% Zoroastrianism
2.10% Christianity
0.37% Unaffiliated
-0.03% Judaism
-0.83% Shintoism
71
المسيحية
يقوم الالهوت المسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيحي على فكرة الخالص والمخلص ،وهي أن النجاة يوم الدينونة محصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورة بأولئك
المؤمنين بالخالص بدم المســيح ،فمن آمن به خلص (مرقص( )82 :82 :من آمن واعتمد خلص ومن لم
يؤمن يدن) ،وعليه انتشرت القاعدة المشهورة( :ال خالص خارج الكنيسة).
وتشـتهر هذه العقيدة عند المســيحيين حتى تبدو واحدة من مسـلمات الدين األســاســية ،بل إنها تذهب إلى ما
هو أكثر انحسـ ـ ـ ـ ـ ـا اًر وض ـ ـ ـ ـ ــيقاً ،فيقتص ـ ـ ـ ـ ــر الخطاب الكاثوليكي على حص ـ ـ ـ ـ ــر الخالص بالكاثوليكية وكذلك
األرثوذكسـ ـ ــي والبروتس ـ ـ ـتانتي ،مع فوارق في التعليل ،ولكنها تتجه إلى فهم واحد وهو أن الخالص المأمول
من الفادي العظيم الذي ضـ ـ ــحى بروحه لخالص المؤمنين لن يسـ ـ ــتفيد منه إال أتباع الديانة وأتباع المذهب
تحديداً.
األوموتو
األوموتو ديانة صــغيرة في اليابان ( ،)Oomotoوقد نشــأت في منطقة كيوتو التاريخية باليابان في مجتمع
الديانة الش ـ ــنتوية ،حيث وفرت بيئة الش ـ ــنتو جواً حاف اًز للتوجهات الدينية المختلفة نظ اًر لالنفتاح الذي يس ـ ــود
عموماً في الديانة الشنتوية .وتنسب ديانة أوموتو للراهبة ديكوشي ناو ( )Deguchi Naoالتي عاشت في
اليابان في الفترة من (8981–8122م) وهي ربة منزل من بلدة إيابي الصغيرة في المرتفعات الجبلية حول
كيوتو ،وقد عاشت حياة من الفقر والزهد ،وتروي مصادر األوموتو أن ديكوشي رهنت كل ما تملكه إلطعام
زوجها وأطفالها .ويمكن اعتبار عام (8193م) العام التأسـ ـ ــيسـ ـ ــي للديانة ،حيث تلقت ديكوشـ ـ ــي ناو الوحي
اإللهي من الكامي في جبل أيابي ،وسـ ــتصـ ــبح تلك الرؤية الروحية منطلق التأمالت والنسـ ــك الذي يمارسـ ــه
أبناء ديانة األوموتو في اليابان .ويؤكد األوموتو على أنهم يتشـ ـ ـ ـ ــابهون مع الشـ ـ ـ ـ ــنتو في البحث عن طريق
اآللهة ،ويختلفون مع البوذية التي تلتزم البحث عن طريق اإلنسان ،ويؤكدون أنهم يختلفون عن الشنتو في
التأكيد على وجود اإلله األعلى فيما يتحدث الشنتو عن آلهة متساوية.
ومنـذ تـأسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيس الـديـانة حتى اآلن فإن القيادة الروحية ألتباع الديانة تكون للنسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ،وهن بنات وحفيدات
ديكوش ـ ــي من جهة األمهات ،وقد بدأت بالس ـ ــيدة ناو ديكوش ـ ــي ثم أونيس ـ ــابارو التي توفيت عام (8941م)
واآلن ترأس الديانة كوري ناي ديكوشي ( )nai Deguchi Kureالمولودة عام (8911م).
ويعبر األوموتو عن اعتقادهم بأن الكامي هو الروح األعلى للكون ،وأن الس ـ ـ ـ ـ ـ ــبيل متاحة ليتحد اإلنس ـ ـ ـ ـ ـ ــان
بالكامي األعلى فيبلغ بذلك الس ـ ـ ــعادة المنش ـ ـ ــودة .وتش ـ ـ ــير موس ـ ـ ــوعة ( )adherentsلألديان أن عدد أفراد
الديانة عام (8991م) بلغ مليونين من اليابانيين ،ولكن الموقع الرسـ ـ ــمي للديانة يشـ ـ ــير في عام (3131م)
إلى أن عددهم يبلغ ( )813ألفاً .وتتبنى األوموتو بشكل واضح فكرة إخاء الديانات ،وتقوم باستمرار بنشاط
72
متواصل للتواصل مع الديانات المختلفة في العالم ،وبات مؤتمر حوار األديان الدولي أحد تقاليد الديانة في
أيابي وكيوتو ،وتش ـ ـ ـ ــارك األوموتو باس ـ ـ ـ ــتمرار في الفعاليات الدولية لحوار األديان ،ويقوم رؤســ ـ ـ ــاء الطائفة
باسـ ــتمرار بزيارة القيادات الدينية واليهودية والمسـ ــيحية واإلسـ ــالمية في العالم .وتنظر الديانة بعين التقديس
الثنين من الكتب التي تعتبرها جزءاً من وحي ديكوشـ ــي وهما أفديسـ ــاكا ( )Ofudesakiوريكاي مونوغتري
( )Reikai Monogatariوكالهما من جمع أونيسـابارو وزوجها سابارو .ويلتزم األوموتو بدعم كبير للغة
االس ــبرانتو بوص ــفها مش ــروع اللغة العالمية ،ويعتبرون تعليم االس ــبرنتو جزءاً من طقوس ــهم الدينية باعتبارها
أداة للتواص ـ ــل بين البش ـ ــر وبناء مش ـ ــترك إنس ـ ــاني ،وهو يقع في أرس أهدافهم .وقد أس ـ ــس األوموتو جامعة
خاص ـ ـ ــة بعنوان :جامعة الحب والس ـ ـ ــالم ،تهدف إلى تخريج خبراء في العلوم اإلنس ـ ـ ــانية واالجتماعية ،كما
تهدف بشـ ـ ـ ـ ــكل مباشـ ـ ـ ـ ــر إلى بناء الجسـ ـ ـ ـ ــور مع الديانات ،وتعزيز ثقافة التعدد الديني ،ولقاء الديانات على
المشترك اإلنساني.48
تجربتي مع األوموتو
بدأت تجربتي مع طائفة األوموتو في جامع أبي النور بدمشـ ـ ـ ـ ـ ــق (8992م) حين عاد الشـ ـ ـ ـ ـ ــيخ كفتارو من
مؤتمر لألديان كان في موســكو ،وتعرف فيه إلى عدد من المبجلين في الطائفة ،وأنس فيهم لطفاً وانفتاحاً،
وحدثهم عن اإلسـ ــالم كرسـ ــالة جامعة لألديان ،وقام بزيارتهم في اليابان ،والتقى زعيمتهم الروحية ديكوشـ ــي
الحفيدة وابنتها الرائعة كوري ناي ،حيث اس ـ ـ ــتقبل بأعلى مسـ ـ ـ ــتوى من االحترام والتبجيل .بعد ذلك وجه لهم
الشـ ـ ــيخ كفتارو دعوة لزيارة سـ ـ ــورية في رمضـ ـ ــان من العام نفسـ ـ ــه ،حيث حضـ ـ ــر بالفعل أربعة من رؤسـ ـ ــاء
الطائفة.
خالل ش ـ ـ ــهر كامل كان وفد األوموتو يش ـ ـ ــاركون الحياة الروحية مع المس ـ ـ ــلمين في جامع أبو النور ،وأمام
اآلالف من الناس نطقوا الشـ ــهادتين ،وصـ ــاروا يصـ ــلون ويصـ ــومون مع اإلخوان في المسـ ــجد ...وفي آخر
رمض ـ ــان س ـ ــافر بهم الش ـ ــيخ كفتارو ،إلى الس ـ ــعودية حيث قاموا بأداء العمرة وزيارة قبر الرس ـ ــول الكريم ،ثم
عادوا إلى بالدهم .وبعد عودتهم تحدث الخطباء والمشايخ أن طائفة األوموتو قد دخلت في اإلسالم ،وأنهم
مقدمة لدخول اليابان كلها في اإلسـ ـ ـ ـ ـ ــالم ،وهكذا تصـ ـ ـ ـ ـ ــور الناس أن القوم عادوا لتحطيم أصـ ـ ـ ـ ـ ــنامهم وهدم
معابدهم وتسريح كهنتهم ،واستقدام مشايخ من األزهر وبناء المساجد وتنظيم رحالت الحج والعمرة.
ولكن األمور لم تكن كذلك ،ووص ـ ـ ـ ــلت األنباء أن القوم عادوا إلى دينهم القديم ،وأنهم لم يلتزموا ش ـ ـ ـ ــيئاً من
أحكام اإلسـ ـ ــالم ،وتواترت األخبار بهذا المعنى ،وارتفعت أص ـ ـ ـوات غاضـ ـ ــبة تطالب بمعاملتهم كمرتدين أو
مخادعين {قال بعضهم لبعض آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره.}....
48للتوسع حول األوموتو ننصح بالرجوع إلى الموسوعة البريطانية بريتانيكا وفق الرابط التالي:
https://www.britannica.com/topic/Omoto
73
كانت قناعتي أن األوموتو لم يؤمنوا باإلس ـ ـ ـ ـ ـ ــالم عدواً لألديان ،بل آمنوا به ص ـ ـ ـ ـ ـ ــديقاً نبيالً ألديانهم ،وأنهم
اقتبسـ ـ ـوا من اإلس ـ ــالم أروع ما فيه ليض ـ ــيفوه إلى تجربتهم الروحية العميقة .....وفي عام (3112م) تلقيت
دعوة منهم إللقاء محاض ـرات في جامعتهم المســماة جامعة الحب والســالم في أيابي ،وســافرت مع الصــديق
العزيز إس ــماعيل ياس ــين ،وقال لي الس ــيد كيتارو :إننا س ــنس ــتض ــيفك في الغرفة نفس ــها التي نزل بها الشـ ـيخ
كفتارو ،وكانت بالفعل غرفة رائعة متواض ـ ــعة مفروش ـ ــة بالحص ـ ــير وفيها فراش يوض ـ ــع في اليوك (الحائط)
تفرشه بالعشي وتطويه بالنهار!...
في أيـابي أريـت تمـامـاً ما كنت أتوقعه ،تجربة روحية عظيمة ونبيلة ،وقلوب بيضـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء نقية ،تؤمن بالخالق
وتس ــبح بحمده ،وتص ــلي عند طلوع الش ــمس وعند غروبها ،وتؤمن بالناس جميعا أفراداً في أسـ ـرة الله ،وفي
معبـد من أجمـل معـابد الدنيا وأكثرها تألقاً وأناقة وجماالً وسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــط جنات تجري من تحتها األنهار ،وفي ظل
ممدود وماء مسكوب وطلح منضود أقاموا جامعتهم جامعة الحب والسالم ،وفي ركن هام في معبدهم رأيت
صو اًر لمشاركتهم في العمرة مع الشيخ كفتارو ،وصو اًر للقائهم بالبابا ،وصو اًر للقائهم بالداالي الما في حشد
رائع لتجارب اإليمان الروحية في هذا العالم الكبير.
إنهم يؤمنون بالله الواحد ،ويؤمنون بألف اســم من أســمائه ،ويؤمنون بالحقيقة الواحدة ،ويؤمنون بألف درب
يوصل إليها ،ويؤمنون باإلشراق الروحي ،ويؤمنون بألف دين يسمو إليه ،ويؤمنون بالنور الواحد ،ويؤمنون
بألف مصباح يقتبس من نوره ،ويؤمنون بالحب الواحد ،ويعرفون ألف قلب يلتهب بأشواقه وأذواقه....
ومع أن حركة نقد الدين وإص ــالحه كانت جزءاً أس ــاس ــياً من عص ــر النهض ــة وما تاله من عص ــر األنوار،
ولكن من المبالغة أن نقول :إن الفالسفة األوربيين كانوا يتجهون إلى إخاء بين األديان ،حتى على مستوى
المذاهب اإلنسانية ،فقد ظلت الديانات في تصورهم جزءاً من المشكلة ال جزءاً من الحل.
74
ويجب القول إنه حتى في حركات اإلصـ ـ ـ ـ ـ ــالح الديني بكل أشـ ـ ـ ـ ـ ــكالها لم يظهر ما يكفي للحديث عن إخاء
األديـان ،ولم تظهر الحـاجة الملحة إلخاء األديان ،فأوربا ظلت في نظر غالبية األوربيين نادياً مسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيحياً،
واالنقسـامات المسـيحية المتالحقة كانت توفر في الذهن الشائع ظاهرة األديان المتعددة ،وكان الحديث عن
التوحد واإلخاء والتقارب يتم عادة تحت راية المس ـ ـ ــيح المخلص وفي س ـ ـ ــياقه .كما أن العالقة مع اإلس ـ ـ ــالم
ارتبطت لألس ـ ـ ــف بصـ ـ ـ ـدامات عنيفة لم تتوقف منذ الحروب الص ـ ـ ــليبية ثم الحروب التركية في أوربا وأخي اًر
عصــر االســتعمار .ويمكن القول :إن األمور بدأت تأخذ منحى آخر منذ مطلع القرن العش ـرين مع انتشــار
وسائل المواصالت الحديثة ،وبعد أن تكرس لقاء الشعوب واألمم كحتمية تاريخية واجتماعية ،حيث ظهرت
تيارات كثيرة تطالب بإخاء األديان ،وتبنت األمم المتحدة عدة مبادرات تتصـ ــل بذلك ،وأطلقت هيئات مهمة
محـاوالت جـديـة إلقـامـة هيئـة الـديانات المتحدة ولكنها لم تجد طريقها بما يكفي إلحداث التغيير االجتماعي
بشكل جذري.
ويلزم القول أن هؤالء الحكماء ال يمثلون بالضـ ــرورة الديانة المسـ ــيحية وال اليهودية ،وربما كانت لهم مواقف
س ـ ـ ـ ــلبية من التراث المس ـ ـ ـ ــيحي ،ولكنني أعتبرهم في النهاية مفكرين مس ـ ـ ـ ــيحيين يحملون رؤية إخاء األديان
وكرامة اإلنسـ ــان ،وتحدث بعضـ ــهم بحرية واحترام عن اإلسـ ــالم ،وكانوا يطرحون آفاقاً للعيش والتكامل بين
أتباع الديانتين قائم على أس ـ ــاس االعتراف واالحترام بالرس ـ ــالة المحمدية ،وتقدير آفاق التكامل واإلخاء بين
اإلســالم وبين القيم الحضــارية التي تم تقديمها عبر أوربا بوص ــفها نادياً مســيحياً ،ال يزال يؤس ــس األحزاب
المسيحية ،وينص على المسيحية ديناً للدولة ،ويحافظ على الصليب في صدر تسعة عشر علما من أعالم
الدول األوربية.
وسـنورد في نهاية الفصـل مواقف عدد من هؤالء المشـاهير واألدباء في الحضــارة الغربية الذين طرحوا رؤى
متقدمة في إخاء األديان ،وبوجه خاص في العالقة باإلسـ ـ ـ ـ ــالم رسـ ـ ـ ـ ــالة ورس ـ ـ ـ ـ ـوالً ،وقراءتهم اإليجابية لروح
التعاون والتكامل واإلخاء بين اإلسالم والديانة المسيحية بوجه خاص.
ش ـ ـ ـ ــاع مص ـ ـ ـ ــطلح الدين الطبيعي في القرن الثامن عش ـ ـ ـ ــر في س ـ ـ ـ ــياق المحاوالت النقدية التي طرحها العلم
التجريبي على المس ـ ــلمات االعتقادية المس ـ ــيحية ،ووجوب إص ـ ــالحها ،ويرى واض ـ ــعو المص ـ ــطلح أنه يمكن
الوصل إلى األهداف النبيلة للدين عن طريق البحث في المشترك اإلنساني ،وغايات الطقوس والممارسات،
حيث يمكن استخراج نسق ديني طبيعي يتناسب مع الجغرافيا والديموغرافيا والموروث الديني بعد إصالحه.
ويجــب اإلشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارة هنــا إلى الفيلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوف ديفيــد هيوم (8112-8188م) الــذي كتــب (محــاورات في الــدين
الطبيعي) ،ومع أن رس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالتــه ال تهــدف إلى اإلخــاء اإلنس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاني بين األديــان ،بــل ال تتجــه إلى أي هــدف
75
اجتماعي ،وهي محض إرواء للمعرفة وسفر إلى الحقيقة ،ولكنها على كل حال تعزز الفكرة من وجه آخر،
فهي تقترح دو اًر أكبر للضمير ورغبة الكمال بوصفها تجلياً دينياً ،يساعد في تحرير الدين من الالهوت.
وفي معــالجــة مبــاشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة لمفهوم الــدين الطبيعي يقول هيوم« :الــدين الطبيعي دين عقالني وال يتوكــأ على
الوحي ،وفي مقابل الدين الطبيعي هناك الدين الوحياني الذي يعتمد على الوحي واإللهام اإللهيين».49
كما أنه يؤكد أنه باإلمكان رصــ ــد مشـ ـ ــاعر الناس نحو الكمال وموقفهم من الفض ـ ــائل والرذائل لنصـ ـ ــل إلى
قواعــد للــدين الطبيعي ،إن ميــل اإلنسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان نحو الكمــال المطلق ميــل فطري يتم أحيــانـاً عبر االعتقــاد بــاللــه
الالمتناهي ،كما يتم أيضـاً على شكل ميل نحو رغبة جامحة بسمو الذات ،إنها محاولة لرفع اإلنسان نفسه
من التراب األرض ــي إلى الس ــموات الالمتناهية .وتؤس ــس فكرة الدين الطبيعي لقدرة الكيان االجتماعي على
تخير قيم مفيدة للمجتمع ،من القيم المشتركة ومشاعر الضمير ،يتم منحها طابعاً قدسياً وروحانياً يحقق ما
تحققه الغريزة الدينية ،ويحمل الناس على إنتاج دين مفيد يحقق لهم السعادة والمحبة.
وال يخفي هيوم شــكوكه تجاه الديانات التوحيدية بوصــفها احتكا اًر للحقيقة قد يتســبب في الكراهية والحروب،
متعددة األديان يس ــود بينها التسـ ـامح الديانات ُّ
التعددية أكثر تســامحاً من التوحيد؛ فالش ــعوب ّ أن ّ ويرى هيوم َّ
الديانات التَّوحيديَّة التي ترى َّأنها وحدها التي تحوز
أن هذا ال يحدث مع ّ وثقـافـة العيش سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــويـاا ،في حين َّ
الحق المطلق ،وما عداها من أص ـ ـ ـ ـ ــحاب الديانات األخرى فهم على وهم وض ـ ـ ـ ـ ــالل .و َّ
أن من واجب هؤالء َّ
ثم َّ
يتكدر مناخ الحق وإجبارهم على اعتناق ما يؤمنون به ،ومن َّ
ّ الضالين إلى طريق
ّ الموحدين إرشاد هؤالء
ّ
50
العام ليسود الصراع والحرب وسفك الدماء .
السالم ّ
ولكن ذلك غير واقعي ،فقد مارس الرومان واإلغريق الوثنيون أشد البطش بحق الفالسفة التنويريين ،فقد تم
إعدام ســقراط بالســم ألنه عارض آلهة أثينا ،وحكم باإلعدام على بروتاجوراس وإنكســاجوراس وأرســطو الذي
فر إلى خلقيس وقال :لن أسمح ألثينا أن ترتكب جريمة أخرى بحق الفلسفة.
وفي الواقع فإن التسامح والتعصب سياق اجتماعي أكثر مما هو نسق فلسفي.
49خاني ،محمد فتح الله علي ،فلسفة الدين عند هيوم ،ترجمة حيدر نجف ،ص.11
50سامية عبد الرحمن ،الدين والمعجزة في فكر هيوم التجريبي ،مجلة االستغراب ،عدد 81لعام 3189م.
ّ
76
ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ
ﲯﲰﲱ ﲲﲳﲴﲵﲶﲷﱠ
الزمر٧٤ :
77
دراسات حول الكتاب في الشهر األول لصدوره
78
حان الوقت لينفض أتباع األديان السماوية عنهم و ْه َم أنهم شعب الله المختار
محمد حبش" :إخاء األديان" يالمس روح األخوة اإلنسانية دون أن يخوض في دعوات
التوحيد
االثنين 20/20/0202
79
هل تبدو فكرة اإلخاء بين األديان حلما ً خياليا ً غير واقعي؟ وهل نحن ننفرد فيه ونخرج به دون بقية
أن هناك من يؤيّدنا في هذا التوجه؟ وهل لهذه الدعوة ظهير في الشريعة اإلسالمية من الديانات ،أم ّ
نصوصها وفقهائها؟ وهل هناك في األديان األخرى من يعبأ بمثل هذه الدعوة ،ويرى فيها مبادرة
إيجابية لإلخاء والتراحم في األرض؟ وهل تشهد المجتمعات المتحضّرة ونخبها الفكرية إصالحا ً
حقيقيا ً في اإلخاء مع اآلخر الديني؟
القاهرة -حاول الباحث اإلسالمي السوري محمد حبش اإلجابة عن جملة من األسئلة المتعلقة باإلخاء
بين األديان بوصفها الوسيلة المثالية والطريق السالك إلى اإلخاء بين اإلنسان بغض النظر عن أصوله
وتاريخه ولونه وعرقه.
وأطلق الدكتور حبش المتخصص في الشريعة ودراسات األديان مشروعا ً الفتا ً في الفكر اإلسالمي
تحت عنوان إخاء األديان وكرامة اإلنسان ،يالمس عميق األخوة اإلنسانية دون أن يخوض في
دعوات توحيد األديان وإنتاج ديانات جديدة.
ويرى حبش في كتابه “إخاء اإلنسان” أن إخاء األديان يثير مشاعر متناقضة لدى أتباع الديانات،
فرغم القبول النفسي للعنوان واعتباره من أهداف الدين فإنّه يصطدم بنصوص قطعية في معظم
الديانات التي تعتبر الخالص شأن الديانة الناجية وحدهاّ ،
وأن مسؤولية أبناء الديانة هي دعوة معتنقي
األديان األخرى للتخلي عن معتقداتهم والدخول في الديانة الحق بهدف بلوغ النعيم السماوي الخالد،
الجنّة أو الفردوس أو النيرفانا أو الظهور الجديد ،وفق ما ّ
تكرسه األديان من ثقافة وتقاليد.
أن المجتمعات اإلنسانية، وأشار في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بال حدود إلى أنه من المدهش ّ
ومنها معظم الدول اإلسالمية ،باتت تمارس قدرا ً كبيرا ً من اإلخاء الديني ،في إطار المعامالت
والتواصل المجتمعي ،وبشكل خاص في الدول الديمقراطية التي باتت قوانينها تفرض سلوكيات كثيرة
من قبول اآلخر واحترامه ومودته ،وهدّمت حواجز كثيرة من التمييز واالتهام ،ولكنّها ترتدّ في لحظة
النص إلى الحوارات العقيمة التي تجعل من اآلخر دوما ً شيطانا ً ضاالً مصيره الشقاء والخذالن، ّ
تضيق به رحمة الخالق ،وينال أشدَّ العقاب على ضالله وإصراره ،وهذا مدلول النصوص الظاهرة
أن هذا التفكير موجود بشكل أقل في الديانات الفيدية في األديان اإلبراهيمية بشكل خاص ،ومن المؤكد ّ
“الهندوسية والبوذية” ،ولكنّه غير موجود في األديان الفلكلورية الصينية واليابانية.
80
الشقاق االجتماعي
محمد حبش
باحث سوري في الشريعة واألديان ،يتبنى عددا من قضايا التجديد الديني أهمها رفض احتكار
الخالص وتجديد فقه المرأة في اإلسالم وإحياء مصادر الشريعة الغائبة .صدر له 00كتابا ،من
بينها:
أن المسألة ال تتوقف عند الجانب الالهوتي ،بل هو أيسر المسائل ،فهي تتعداه باستمرار ال شك في ّ
إلى الشقاق االجتماعي ،وتبادل الريب واالتهام ،وتحقير الذات اإلنسانية ،فمن كان عند الخالق حقيرا ً
مرذوالً لن يكون عند عباده في حال أفضل ،وسيتنامى شعور الكراهية بشكل ّ
مطرد من األيديولوجيا
إلى السوسيولوجيا ،ومن ثم فإنّنا لن نكون أبدا ً أمام مجتمع مستقر أو متراحم ،بل سنجد أنفسنا أمام
ركام من البغضاء قد تزيّنه بعض الممارسات ،ولكنّه يرتدّ في لحظة االصطفاف إلى جحيم الكراهية
ونار البغضاء.
والحظ حبش أن اإلنسان أمضى قرونا ً طويلة ينظر بعين الريبة والحذر ألخيه اإلنسان ويبادله اتهاما ً
صة قابيل وهابيل مصدر إلهام للصراع األبدي في األرض ،ووجدت الصراعات بعد آخر ،وانطبعت ق ّ
81
والحروب المد ّمرة تبريرا ً أخالقياً ،وت ّم تكريس عدد من المجرمين أبطاالً ملهمين في التاريخ ،وبات
المثاليون اليوتوبيون مساكين حالمين ،يرثي لهم الواقع الصاخب الذي ترسمه سياسات التسابق على
أن هذا الصراع انعكس أيضا ً على جدل أتباع األديان الذي بدا والقوة والنفوذ .ومن المؤلم ّّ الثروة
تحول إلى حروب ضارية .ووجدت هذه الحروب، تسخيفا ً وتشكيكاً ،ثم صار تحقيرا ً ولعنا ً وتكفيراً ،ثم ّ
باستمرار ،تبريرا ً أخالقيا ً على الرغم م ّما فيها من ممارسات التو ّحش البهيمية ،ووجدت لألسف من
ويكرس أبطالها ومجرميها رموز التضحية والفداء.
ّ بات يطلق عليها الحروب المقدّسة،
وأكد الباحث السوري أن كتابه يسعى إلى معالجة هذه المسألة وفق قراءة جديدة للنصوص الدينيّة،
والتوفيق بين الديني واالجتماعي والفلسفي ،ويعمد إلى استقراء النصوص الدينية األساسية التي تتبنّى
فكرة ضالل اآلخر وخسرانه ،ويحاول بناء وعي جديد قائم على ثقافة احترام اآلخر اعتقادا ً وديانة
ومذهباً ،ويجتهد في التماس أجمل ما في األديان ،ويتبنّى تشجيع الديانات على اإلخاء والتراحم فيما
بينها ونزع أسباب التمييز والكراهية.
ولف ت إلى أن كتابه يتجه أيضا إلى أفق آخر ،حيث يبحر في الجوانب المشرقة من االعتقاد الديني
لدى ك ّل ديانة وطائفة ،ويهدف إلى بسط األعذار لدى المخالفين لفهم روح الطقس الذي تمارسه هذه
الديانات ،وبيان أنّها تتجه إلى أهداف نبيلة .وهكذا فإنّه يحاول أن يقدّم للمكتبة العربية رؤية مختلفة
النبوات والفلسفة والحكمة رائع المحاوالت التي انطلقت من إيمان لجدل الديانات ،حيث يتخيّر من ّ
اإلنسان باإلنسان ،ويرصد أرق ما امتلكه اإلنسان من مشاعر وأعمق ما نظر إليه بعين القداسة ،لبناء
عالم جديد يتأسس على المحبّة والعرفان.
أن هناك مكانا ً يظهر أجود ما في اإلنسان ،ويكشف عن الجانب ويقول حبش إن الفكرة تتأسس على ّ
النبيل من إنسانيته ،وهو في الغالب في قدسه الروحي الذي تحمله األديان ،تأسيسا ً على الحكمة
واإلرادة والنبل في مقاصد الخالق العظيم ،وإيمانا ً باإلنسان الذي مارس تقديس هذه القيم بوعيه
الجمعي ،م ّما يؤكد وجود الجانب النبيل في تلك القيم المستقرة جيالً بعد جيل وأ ّمة بعد أ ّمة.
واعتبر أن كتابه ال يهدف إلى تكريس قطيعة معرفية ومجتمعية مع الالدينيّين ،فهدفه هو اإلخاء
اإلنساني ،والغاية اإلنسان وليست األديان ،وإنّما ّ
كرس الحديث عن إخاء األديان لمعنيَيْن اثن ْين،
أن األديان ال تزال تش ّكل الوعي الجمعي لغالبية سكان األرض ،وهي مسؤولة أخالقيا ً عن األولّ :
نشر المحبّة ومواجهة الكراهية.
أن ثقافة الكراهية والتدابر تنشأ في الغالب من مجتمعات األديان ،وتُبنى على أساس ديني، والثانيّ :
وبات من الواجب مواجهة هذه الخطايا باعتماد هدي النبوات ،وإظهار الجانب اإليجابي واإلنساني
أن لإلنسان -بغض النظر عن أي انتماء ديني -مساحة في أعماقه للتأمل من ثقافة األديان .ومن المؤكد ّ
والروح .وقد نجح الفالسفة في إيقاظ هذه المشاعر النبيلة عبر حديثهم عن اإلشراق والفيض والتأمل،
كما نجحت الموسيقى والشعر في إحياء هذه الروح النقية في اإلنسان ،وباتت هذه المشاعر رصيدا ً
مشتركا ً من الصفاء والطهر بين سائر األبرار في هذا الكوكب ،وأصبحت هذه القيم ظهيرا ً للقيم الدينيّة
في دعم اإلخاء اإلنساني ،وهي شريك طبيعي لك ّل جهود إخاء الديانات.
82
مواجهة احتكار الخالص
أولى حبش اهتماما ً مباشرا ً بالتأسيس لفكرة إخاء األديان في الوعي اإلسالمي ،ومواجهة السائد في
تفكير الرواة من وجوب البغض في الله ،وافتراض الصراع بين األديان صراعا ً وجوديا ال يحتمل
وأن إرادة الله قاضية أن تتصارع األديان واأليديولوجيات إلى النهاية ّ
وأن البقاء أي صيغة وفاقيةّ ،
لألقوى ومصير اآلخرين االندثار.
إن “ثقافة الكراهية لم تقف عند حدود المختلف في الدين ،بل دخلت أيضا ً إلى المختلف في وقال ّ
إن أكثر من عشر حروب حقيقية في الشرق األوسط المذهب ،واتخذت شكالً أشد ضراوة وعنفاًّ ..
قامت في العقود القريبة على أساس طائفي ،أو كان البعد المذهبي جزءا ً رئيسا ً في إيقاظ نوازع
نص مشهور :افترقت اليهود الحرب وتبرير الكراهية .وتمضي عقيدة احتكار الخالص إلى الغاية في ّ
إحدى وسبعين فرقة ،وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة ،وتفترق أمتي ثالثا ً وسبعين فرقة كلّها
في النار ّإال واحدة .ورغم الجهود التأويلية الكثيرة التي قدّمها الفقهاء ،وكذلك الجهود النقدية التي
قدّمها الرواة ،ظلت هذه الروايات أهم دوافع اإلقصاء والكراهية”.
وتوقف حبش أيضا باهتمام أمام الجهود الكبيرة التي بذلها اإلصالحيّون المسيحيون لمواجهة احتكار
الخالص ،ويستعرض بشكل خاص فالسفة عصر األنوار ،وكذلك فالسفة الدين الطبيعي واإلصالح
الديني ،ويرصد التطورات اإليجابية التي تحققت على مستوى المؤسسات المسيحية الرسمية ،والتي
األخوة اإلنسانيّة بين البابا وشيخ األزهر.
ّ توجت خاصة بتوقيع وثيقة
ّ
83
وتساءل “هل األديان مشكلة أم ح ّل؟” ،وتابع أن “إخاء األديان الذي نسعى إليه غير ممكن في
القراءات الالهوتية السائدة على األقل على مستوى الديانات السماوية ،وبشكل أقل الديانات الدارمية
والفلكلورية ،حيث يلتزم الهوت هذه الديانات بشكل صارم برفض االعتراف باألديان األخرى ،وفي
متطرفة لرجال الدين أمر سهل ،أولئك الذين يبررون باسم الرب ّ فإن استحضار مواقف هذه النقطة ّ
أن عددا ً من المتشدّدين
نسف كل جهودنا واعتبارها هرطقة وانحرافاً ،ومن عجيب ما واجهت ّ
اإلسالميين باتوا يذكرون بإعجاب مواقف المتشددين في الديانات األخرى ،على الرغم من قسوتها
وشدّتها على ك ّل مسلم ،وذلك باعتبارهم صادقين وصريحين ومنسجمين مع عقائدهم ،بخالف دعاة
المتلونين!”.
ّ التقريب واإلخاء الذين يتم وصفهم دوما ً بالمنافقين
فإن األديان هي جزء من المشكلة وليست جزءا ً من الحل ،وهذا وواصل موضحا “في هذا السياق ّ
أن الحل في قطيعة كاملة مع الدين ،واالعترافما يرثي لنا فيه دوما ً التيار العلماني المتشدد الذي يرى ّ
الصريح بأنّه لم يعد صالحا ً للمجتمعات الحديثة ّ
وأن مكانه دراسات التراث البائد .ويتعين هنا عدم
التعميم ،فهذا موقف فريق متشدد من العلمانيين ،ولكن التيار الغالب في العلمانية هو تيار يفصل بين
الدين والدولة ،وال يرفض وجود الدين وما ينهض به من أدوار نفسية واجتماعية انطالقا ً من ذات
الفرد”.
أن رجال الدين في كل األديان في الغالب ال ينظرون بودّية لهذه الجهود ،ويرتابونولفت حبش إلى ّ
فيها ألنّها قائمة على تفكيك التفسير الحرفي للدين ،والنهوض بتفسير مقاصدي سيكون من نتيجته
بطبيعة الحال دور أقل لرجال الدين ودور أكبر للعقل وشروط المجتمع ،وهو ما يرونه عملية مبرمجة
ضد المؤسسات والطقوس والممارسات الشعائرية التي يقودها رجال الدين .وبذلك فإنّه يمكن القول
إن رجال الدين عموما ً لن ير ّحبوا بمثل هذا الخطاب ،وسيمارسون في الغالب دورا ً رافضا ً لإلخاء
ّ
الديني وربما سيقبلون إلى حد ما نوعا ً من اإلخاء البروتوكولي المتمثل في اللقاءات االستعراضية
التي يعقبها عادة تقديم المعاذير والتبرير للجمهور ،وتأويل ما جرى بأنه لمصلحة الدعوة وتآلف
الناس إلدخالهم في الدين الحق.
وقال “إنني ال أقدم العالم للمسلم على أنّه جمعية خيرية ،ولكنه ليس بالضرورة وكر ذئاب ،وأن العالم
يفكر كما نفكر ففي كل أمة متعصبون ومتسامحون ،واتجاه الهوتي صارم واتجاه إنساني متسامح،
وأن التاريخ اإلسالمي طافح باألسماء الكبيرة التي تبنت الدعوة إلى إخاء األديان ،وناضلت في سبيل
هذه الغاية النبيلة”.
وخلص الباحث السوري إلى التأكيد على “أن كل الديانات خاضت حوارا ً كهذا ،وأن الكهنة كانوا
يقفون باستمرار ضد التوجه التكاملي مع اآلخرين ،ويفضلون التأكيد على احتكار الحقيقة واحتكار
الخالص ،ولكن رجال الفكر والحكمة لم يتوقفوا في كل األديان عن المواجهة مع التيارات المتشددة،
84
وقد باتت جهودهم مثمرة وناجحة ،وأصبح التيار المؤمن باإلخاء اإلنساني في سائر األديان أكبر من
التيار المطالب باالنعزال والعكوف على ثقافة القدماء واختياراتهم” ،مشيرا إلى أن اإلسالم مؤهل
ألن يكون رائدا ً في ثقافة إخاء األديان وكرامة اإلنسان ،فنصوصه طافحة بهذه الحقائق ،ومنهجه
التربوي طافح برفض اآلبائية والورائية ،وهو يؤكد باستمرار على البحث في المستقبل .وحين
استعراض الماضي بكل تلويناته ،من تاريخ وتراث وثقافة ،وما ارتبط به من نزاع وحروب وكذلك
من نصوص وردت في ظروف مختلفة تمنع اإلخاء اإلنساني وتحول دون اللقاء واإلخاء بين أهل
األديان ،فإن المنهاج القرآني أصيل وواضح وقد تكرر في صفحة واحدة مرتين “ ِت ْل َك أ ُ َّمةٌ قَ ْد َخلَ ْ
ت
س ْبت ُ ْم َوال تُسْأَلُونَ َ
ع ّما كانُوا يَ ْع َملُونَ ” (البَقَ َرة .)201 ت َولَ ُك ْم ما َك َ لَها ما َك َ
سبَ ْ
واعتبر حبش أن الوقت حان لينفض المسلم وكذلك المسيحي واليهودي و ْهم أنهم شعب الله المختار،
وحان الوقت ليدخل الجميع إلى عقد جديد يؤمن فيه الجميع بالدين قوة روحية طامية ،ونورا ً يشرق
به الله في قلب ابن آدم ،والنور ال يطفئ النور ،والعافية ال تشاقق العافية ،واألمل ال يصادم األمل،
إنها قيم تتراكم في انبثاقها من الذات اإللهية التي يقدمها القرآن الكريم كما يقدمها اإلنجيل الكريم ،كما
تقدمها كتب الحكمة في سائر العصور.
85
الدراسة الثانية عن كتاب إخاء األديان :حنان عقيل
المفكر السورى محمد حبش :نحتاج إلى «إخاء إنسانى» على قاعدة «لكم دينكم ولى
دين» (حوار)
األحد /61مايو 2:708 - 0206/م
شدد على ضرورة إعادة االعتبار لـ«اإلسالم الصوفى المتسامح» الذى يقبل االختالف فى
الفقه والعقيدة
المرجعيات الدينية تستنكر العمل العنيف لكنها تعود لتأسيسه على مقاعد الدرس
نتعامل مع الماضى بقداسة مفرطة وبات من الواجب ممارسة النقد البنّاء لعصور السلف
ال يه م فى الفقهاء كثرة الصوم والصالة وااللتزام بظاهر النص الدينى بل علمهم بحاجات
األمة واستنباط القوانين الحيوية
اهتم المفكر اإلسالمى السورى محمد حبش عبر نشاطه البحثى واألكاديمى وإصداراته التى
تربو على األربعين كتابًا بالتجديد الدينى ،إذ أصدر العديد من الكتب منها «النبى
الديمقراطى» ،و«المسلمون وعلوم الحضارة» ،و«إسالم بال عنف» ،و«منهج التجديد
واإلصالح» ،و«المعتمد فى أصول الفقه» ،و«المشترك أكثر مما نعتقد» ،كما أسس فى
سوريا «مركز الدراسات اإلسالمية» و«رابطة كتاب التنوير» ،وعمد إلى تعزيز خطاب
86
سا ً
فضال عن انتخابه مرتين رئي ً التنوير اإلسالمى عبر المشاركة فى عدة مؤتمرات إسالمية،
لجمعية علماء الشريعة فى سوريا.
درس «حبش» العلوم اإلسالمية فى المعهد الشرعى للدعوة واإلرشاد ،ونال اإلجازة فى
الشريعة من جامعة دمشق ،كما حصل على ثالث درجات ليسانس فى العلوم العربية
واإلسالمية من جامعات دمشق وطرابلس وبيروت ،ثم حصل على الماجستير والدكتوراه من
جامعة القرآن الكريم فى الخرطوم ،ويعمل حاليًا أستاذًا للفقه اإلسالمى فى جامعة أبوظبى .
«الدستور» حاورت المفكر السورى ،الذى نالت أطروحاته استحسان قوى تنويرية عدة ،حول
عدد من القضايا التى تبنّى الدفاع عنها فى كتاباته ،على رأسها محاربة الفكر المتطرف،
وتجديد فقه المرأة ،والتركيز على أهمية اإلخاء بين األديان انطالقًا من كتابه «إخاء األديان»
الصادر حديثًا عن دار «مؤمنون بال حدود».
87
ومن ثم ،فالكتاب يتناول بدقة أدلة اإلخاء الدينى من مصادر اإلسالم العشرة :الكتاب والسنة
واإلجماع والقياس واالستحسان واالستصالح والعرف والذرائع واالستصحاب وشرع من
ً
متصال قبلنا ،ويقدم األدلة ويستحضر فى الوقت نفسه األدلة التى تقابلها ويناقشها ،ويقدم سياقًا
من أدلة الشريعة لمبدأ إخاء األديان ،ثم يقدم استقصا ًء تفصيليًا ألئمة اإلسالم الكبار من فالسفة
وحكماء وفقهاء وحقوقيين من الذين سبقوا إلى القول بإخاء األديان كما نتبناه ،ويكشف عن أن
مبدأ إخاء األديان نادى به مئات المفكرين والفالسفة خالل التاريخ اإلسالمى ،ولألسف فإن
ضا لمبدأ إخاء األديان هم رجال الدين فى كل األديان. الطبقة األكثر رف ً
يستعرض الكتاب كذلك مواقف األديان المختلفة ،ويستوفى سبعة عشر دينًا سائدًا فى العالم،
ويستخرج من كالم حكماء األديان مواقف اإلخاء الدينى ،ويؤسس للجسور المشتركة بين
األديان ،كما يستعرض مواقف فالسفة عصر األنوار بشكل خاص الذين نجحوا فى تحويل
المزاج العام فى المسيحية من عقيدة احتكار الخالص واحتقار المخالفين إلى عقيدة إنسانية
تؤمن بالتعدد واالختالف وتحترمه.
■قلت «نعيش آخر عصور التعصب الدينى» ..ما الذى قصدته هنا؟ وكيف يمكن الركون
إلى أمل بنهاية نفق التعصب الدينى المظلم فيما يعتصر العالم بويالت التعصب الدينى وما
ينجم عنه من عنف وإرهاب؟
شر بذلك -أرجو أال أكون قد وقعت فى مطب اإلفراط فى التفاؤل ،ألن الواقع العربى ال يُب ّ
أبدًا ،ولكنه سياق التاريخ ،وبالمقارنة مع أوروبا فى القرن الثامن عشر فإن الروح الصليبية
التى أشعلت الحروب باستمرار نحو ثمانية قرون كانت جاهزة لالستمرار وتملك كل موارد
النصوص المتعصبة والتاريخ الدموى المقدس ،ولكن الجهود الجبارة التى قام بها عمالقة الفكر
األوروبى ،وبشكل خاص إيمانويل كانط وفولتير ورينيه ديكارت وجان جاك روسو واليبنتز
وفيورباخ وهيجل ،نجحت فى النهاية فى التأسيس للمذهب اإلنسانى فى المسيحية وفرضت
على المجتمعات المسيحية التخلى عن فكرة احتكار الخالص واحتقار المخالف ،إلى اعتماد
القيم الديمقراطية فى اإليمان ،وهو ما أوقف الحروب الدينية وفتح الحوار وأعاد أنسنة الديانة
المسيحية بعد قرون من الحروب الدينية الضارية.
إننى أراهن على أن نقوم بهذا الدور ،وأعتقد أن اإلرادات السياسية فى البالد العربية
واإلسالمية تتقبل ذلك وتسهم فيه ،فيما تعيش الدول الفاشلة ،وبشكل خاص اليمن وسوريا
والعراق ،الفوضى المدمرة التى توفر جحيم الصراع على كل المستويات والذرائع .
■ما السبب ،برأيك ،فى انتشار األفكار الدينية المتكلسة والرجعية فى مقابل خفوت أثر اآلراء
التنويرية لمختلف المفكرين اإلسالميين على مدار العصور؟ و َم ْن المسئول عن تغييب العقل
على حساب النص فى الخطاب الدينى السائد؟
-قناعتى أن األمر سياق تاريخى عاشته معظم األمم فى سقوطها الحضارى ،ولكن ال بأس
من اإلشارة إلى بعض المنعطفات المهمة ،فقد كانت سيطرة الحركة الوهابية على الحرمين
88
الشريفين واعتماد سياسة نصية حرفية صارمة ونشرها فى العالم اإلسالمى سببًا جوهريًا فى
انتشار ما أسميه عبادة النص ،وانحسار دور العقل ،وبالفعل فقد انتشر التفكير القائم على مبدأ
حراسة التوحيد الذى يقتضى محاربة كل أنواع الشرك ،وقد اندرج فيها ببساطة كل األنظمة
واألنماط االجتماعية السائدة فى العالم اإلسالمى ومنها الصوفية واألشعرية والتيارات العقالنية
والعلمانية .
لقد بدأ هذا الصراع بين العقل والنص ،أو بين الرأى والرواية ،منذ فجر اإلسالم ،ويمكن
القول إن مذهب العقل والفقه انتصر خالل العصر الذهبى لإلسالم ،وأنتج عشرة مصادر
للشريعة تمتاز بالمرونة والتسامح ،تشاركت فيها المذاهب واألديان والتيارات االعتزالية
والعلمانية بقدر ظاهر وواضح ،واستمر ذلك أكثر من عشرة قرون ،وال مناص من القول إن
انتصارا لتيار النص على تيار العقل ولتيار الرواية على تيار الفقه،
ً الحركة الوهابية كانت
وبالتالى والدة التيارين األساسيين فى السلفية :السلفية الجهادية المقاتلة والسلفية العلمية
المحتكرة لإليمان ،وبالتالى انتشار التشدد بالصيغة المعروفة.
وقد استفاد هذا التيار الغاضب بشكل كبير من الفشل السياسى فى أفغانستان والعراق وسوريا
والي من وليبيا ،فأسس كيانات سياسية مدمرة ،كما شكل ،وال يزال ،كيانات خطرة فى كل
عواصم العالم التى تنتشر فيها الجاليات اإلسالمية ..وكذلك كان قيام المشروع اإليرانى ببعده
مباشرا للصدام العنيف وتفجير ذرائع القتال لدى السلفية الجهادية والسلفية
ً الطائفى سببًا
الشيعية فى مناطق التوتر وبؤر الصراع.
ويجب القول إنه ال يكفى أن نتبرأ من العنف لنكون فى عافية وخير ،فالمرجعيات الدينية تبادر
الستنكار العمل العنيف دو ًما ،ولكنها تعود لتأسيسه على مقاعد الدرس ،وعلى سبيل المثال
فإن قتل المرتد وقتل تارك الصالة وتحقير المشرك المختلف فى الدين كلها ال تزال فى مناهج
التعليم الدينى ،سواء فى السعودية أو فى األزهر وفى دمشق.
■هناك دائ ًما معضلة تواجه الفكر التجديدى للدين اإلسالمى ،تتمثل فى التمسك بآراء فقهية
قديمة كانت استجابة لمعطيات تاريخية لم تعد موجودة ..هل ثمة حدود يفرضها اإلسالم
ضا التى ينبغى الوقوف عندها فى استدعاء النصوص الفقهية لالجتهاد الدينى؟ وما الحدود أي ً
القديمة؟
-فى كتابى «نظام الحكم فى اإلسالم» ،المقرر فى جامعة أبوظبى ،طالبت بإعادة االعتبار
للفقه الذى هو التفسير الواقعى المتطور للنص القابل للتطور والتغير بواقع تغير الزمان
والمكان ،وال أقصد بالطبع الفقه القديم الذى أدى رسالته وانتهى دوره ،بل أقصد الفقه المستمر
القائم على أصول الفقهاء والمستعد للتطور مع الحياة وإيجاد الحلول لكل جديد ،وحتى أكون
واض ًحا فأنا أقصد بالفقهاء هنا رجال الفقه والقانون من الحقوقيين الذين اطلعوا على النص
الدينى ،واطلعوا على تجارب األمم والقانون الدولى ،وهم رجال القانون الذين تنتدبهم الدولة
الحديثة لكتابة القانون فى ضوء مصالح األمة وحاجاتها وتجارب األسرة الدولية ،مع االحترام
للتاريخ اإلسالمى كنص وفقه ورواية ،وال يهم فى هؤالء الفقهاء كثرة الصوم والصالة
89
وااللتزام بظاهر النص الدينى ،بل علمهم بحاجات األمة واستنباط القوانين الحيوية التى تنفع
الناس.
إن دساتير الدول اإلسالمية فى ٣٥دولة من أصل ٣٨دولة إسالمية ُكتِبت بلغة فقهية متطورة،
وباتت تؤسس إلخاء األديان وكرامة اإلنسان واحترام النص الدينى ،وكذلك قوانين المعامالت
والدفاع والصحة والمرور واالقتصاد التى يكتبها خبراء متخصصون فى كل قانون ،وهؤالء
تحديدًا هم من نسميهم الفقهاء ،وكذلك كان اسمهم فى التاريخ اإلسالمى عندما كانوا يكتبون
القوانين واألسس الناظمة لبناء الدولة والمجتمع فى الدول اإلسالمية عبر التاريخ.
وال شك أن الفقهاء بهذا المعنى أبعد ما يكونون عن طبقة رجال الدين التى تقف عادة ضد كل
تطور وتحديد وتحديث.
■ما السبيل إلى استعادة البُعد الروحى فى الدين الذى جرى تغييبه جراء خطاب دينى
متطرف؟ وما األهمية التى يُمثلها ذلك فى الوقت الراهن؟
-مع األسف ،لقد عاش المسلمون فى غمار حياة دينية بسيطة أسميها اإلسالم الشعبى ،قائمة
على قيم التسامح والمحبة والغفران ،قبل أن ينتشر التيار المتصلب فى العقيدة الذى ال يقبل
أى خالف ،لقد كان الخالف الفقهى فى المجتمعات اإلسالمية كالخالف االعتقادى وكانت
اال بعنوان اإلسالم الشعبى ،وفيه أستعرض الناس تتقبل شعبيًا هذه االختالفات ،لقد كتبت مق ً
مثال المسجد األموى فى الشام الذى زاره كل فقهاء العالم اإلسالمى وصلوا فيه ،وذكروه بكل ً
احترام ،ولكن التيار السلفى اليوم بات يرى فى هذا المسجد عشرين بدعة منكرة توجب هدمه،
وهذه الحقائق التى تقبلها المسلمون على مر القرون بكل محبة وتسامح باتت اليوم تعتبر من
أشد مظاهر الشرك وال أشك أبدًا أنه لو تمكن منها التيار السلفى فسيفعل بالمسجد كله ما فعله
عا عن التوحيد وقمعًا للشرك!بمسجد النبى يونس فى الموصل دفا ً
تجب إعادة االعتبار لإلسالم الصوفى السهل المتسامح الذى يقبل االختالف فى الفقه والعقيدة
ويأذن بالتعايش واإلخاء ،وهذا هو الواقع الطبيعى للمجتمعات اإلسالمية قبل أن يصل إليها
خطاب التشدد.
■قوبِل كتابك «المرأة بين الشريعة والحياة» بهجوم عنيف بسبب انتهاجك منه ًجا فقهيًا غير
سائدِ ..لم برأيك تواجه الكتابات التنويرية الخاصة بقضية المرأة على وجه التحديد بسيل من
الهجوم مهما اختلف المنهج ال ُمتبع؟
-لقد كان موقف رجال الدين من كتابى ضاريًا وشديدًا ،وخسرت عملى كأستاذ جامعى عدة
سنوات قبل أن أستأنفه فى بلد آخر ،ومن المؤلم أن رجال الدين ال ينظرون للمرأة إال ضمن
إثنية صارمة ،إما قديسة وإما عاهرة ،ولديهم االستعداد لوصم كل عمل إصالحى فى شئون
المرأة بأنه تآمر على األسرة المسلمة واستجداء للغرب وخيانة للقيم اإلسالمية فى العفاف.
90
ومع أن الكتاب ال يختار أدلته إال من األئمة المعتمدين عند فقهاء أهل السنة والجماعة وليس
فيه أى رأى جديد ،ولكنه اعتُبِر مشروع هرطقة وزندقة «كما صرح علنًا بذلك الشيخ
البوطى» ،وقد قُلت فى مقدمة الكتاب :إن جميع اآلراء والفتاوى التى تقرأها فى هذا الكتاب
معروفة فى كتب الفقه والرواية ،ولها أدلتها من الكتاب والسنة ،وأشرت إلى مواضعها فى
مظانها ،ويقتصر دورى على نشرها وتوظيفها لإلجابة عن أسئلة محددة ،ولكن رجال الدين
قد حكموا عليها تاريخيًا بأنها قراءات شاذة وبات االقتراب منها عدوانًا على الشريعة.
على كل حال لقد ظهر من الكتاب ،حتى اآلن ،ست طبعات ،وفى اعتقادى أنه قدم رؤية جديدة
لإلسهام فى تمكين المرأة ،وصرحت بوجوب تحويل الحجاب من دائرة الفرض الواجب إلى
دائرة المستحسن الجميل ،ومنح المرأة الحرية والمسئولية فيما تختاره من لباس وزى وطالبت
بوقف معركة األزياء التى يعتبرها كثير من اإلسالميين والعلمانيين على السواء معركة
مصيرية يربطون بها كل قيم النهضة والتخلف.
وأشعر بمرارة بواقع المرأة المسلمة التى فرض عليها الغياب عن الحياة بسبب أوهام غير
ومؤخرا نشرت مواقع التواصل حفالت تكريم النساء فى إدلب وحلب وقد فرض ً واقعية،
أمرا محزنًا أن بنات فى
ضا صار ًما ال يوجد فيه أدنى استثناء ،وكان ً النقاب على الجميع فر ً
سن الورد أمرن بالنقاب األسود الكامل ،وهو واقع جديد حتى على هذه األرياف المحافظة،
فى حين أنها كانت فى عصر الرسالة شريكة وقيادية ولم يكن مجتمع النبوة نفسه يعرف هذا
الفصل الصارم بين الذكور واإلناث الذى يفرض على المرأة المسلمة فى األرياف ويحول
دون علمها وتحصيلها وسفرها ومشاركاتها الرياضية والفنية والعملية.
■من المنوط به تحرير العقل اإلسالمى من تقديس الماضى وشخوصه وإدخال بذرة النسبية
فى الرؤى الدينية؟ وإلى أى مدى يمثل ذلك ركيزة فى محاربة التوجهات األحادية والتكفيرية؟
-إننا نتعامل مع الماضى بقداسة مفرطة ،لقد أنكر القرآن الكريم على المسيحيين الغلو فى
تعظيم عيسى بن مريم ،وقال «يا أهل الكتاب ال تغلوا فى دينكم» ،وقد وقعنا فى هذا الغلو
نفسه ،فى تقديس تراثنا كله ،فالنص مقدس والصحابة مقدسون واألئمة مقدسون والرواية
مقدسة وحروب الردة مقدسة والغزوات مقدسة ويختصر كثير من اإلسالميين رسالتهم كلها
فى العودة إلى عصر السلف المقدس ،وهى القرون الخيرية الثالثة التى وردت بالنص.
ولكن هذه القرون الخيرية شهدت حروبًا ضارية بين المسلمين وانقسامات ونزاعات مريرة،
وقدمت مواقف ال تتناسب إطالقًا ومكان القدوة ،وبات من الواجب ممارسة النقد البنّاء لما
فيها ،األمر الذى يصنف دو ًما بأنه التالعب بالثوابت !
لقد طرحت المسألة بجرأة ووضوح؛ إن المستقبل هو المقدس ،أما الماضى فقد حكم فيه الله
تعالى بآية تكررت مرتين ،وأنا أسميها آية السلف الصالح« :تلك أمة قد خلت لها ما كسبت
ولكم ما كسبتم وال تسألون عما كانوا يعملون».
91
■ثمة خطاب من الجانبين الدينى والعلمانى يرسخ لفكرة التعارض بين الدين والعلمانية فيما
ترى أن اإلسالم يزخر بأسس علمانية ...ما الذى تقصده فى هذا الصدد؟
-اإلسالم الذى تقدمه السلفية الجهادية ال يمكنه التصالح مع أى تيار علمانى ،وكذلك العلمانية
الالئكية التى تطالب بشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس ال يمكنها التعايش مع أى دين .ولكن
العلمانية بما هى احترام األديان وكرامة اإلنسان وفصل الدين عن الدولة يمكنها أن تعمل
بتشارك حيوى مع التيارات الدينية ،وكذلك اإلسالم الشعبى التاريخى ،الذى عاشه الناس قبل
ظهور التيارات السلفية المتشددة فى االعتقاد فى ظالل المذاهب األربعة والطرق الصوفية،
يمكنه أن يعيش فى بيئة متعددة دون احتماالت صراع أو صدام عنيف.
لقد ناقشت هذه المسألة فى كتابى «العلمانى والفقيه» ،وقلت إن المطلوب هو مراجعات عميقة
صا باتت تقدم
فى المنهج ،وكما نتحدث عن السلفية المتشددة ،فإن العلمانية العربية خصو ً
نماذج ساخطة غاضبة ترفض التعايش مع قيم الدين ،وهذا فى الواقع تطرف ال يمكن أن يعود
بأى خير على مجتمعاتنا اإلسالمية ،لقد قلت لهم يو ًما أيها العلمانيون إنكم تتحولون بشكل
ضا طائفة مغلقة فيها كل ما فى كهوف الطوائف من انغالق وريبة وسوء متسارع لتكونوا أي ً
ظن وعجز عن التعامل والتكامل.
92
مقال صحيفة الناس نيوز – محمد حبش 0206/0/61
محمد حبش
أستاذ الفقه اإلسالمي في جامعة أبو ظبي
ال أدري إن كان من الواقعي ان أبادر للكتابة عن كتابي بقلمي ،أسابق الغبطة والزهو ،فالكتاب الجديد
لكاتبه كالمولود الجديد ،وقد جرت العادة أن ينجز الكاتب كتابا ً ويتولى النقاد التعريف به وتقويمه
ونقده ،ولكنني أجد نفسي مندفعا ً للكتابة في كتابي الجديد ،أسابق القلم خاصة انني أعتبره رسالتي التي
كرست حياتي لها في إخاء األديان وكرامة اإلنسان وقد صدر أخيرا ً عن دار مؤمنون بال حدود
الواسعة االنتشار.
وأجد نفسي في الكتاب وقد استوفيت ما أريد قوله ،فقد أرهقني تقديم المعاذير وإرضاء الناس ،وليس
في الدنيا فضيلة أولى من الصدق والوضوح ،بعيدا ً عن زخارف المجامالت ،فالعالم لم يعد يقبل
خطابا ً بوجهين ولسانين ،وصار من الواجب حسم المسائل ،وأن ال تأخذك في الحق لومة الئم.
ومع أن عنوان اإلخاء الديني يحظى بالقبول النفسي لدى المؤمن عموما ً ولكنه يصطدم ،بال ّ
شك،
بنصوص قطعية في معظم الديانات ،التي تعتبر الخالص شأن الديانة الناجية وحدهاّ ،
وأن مسؤولية
أبناء الديانة هي دعوة األديان األخرى للتخلي عن معتقداتهم والدخول في الديانة الحق ،بهدف بلوغ
النعيم السماوي الخالد ،الجنّة أو الفردوس أو النيرفانا أو الظهور الجديد ،وفق ما ّ
تكرسه األديان من
ثقافة وتقاليد.
93
أن المجتمعات اإلنسانية ،ومنها معظم الدول اإلسالمية ،باتت تمارس قدرا ً كبيرا ً من اإلخاء ومع ّ
النص إلى الحوارات العقيمة
ّ الديني ،في إطار المعامالت والتواصل المجتمعي ،ولكنّها ترتدّ في لحظة
التي تجعل من اآلخر دوما ً شيطانا ً ضاالً مصيره الشقاء والخذالن ،تضيق به رحمة الخالق ،وينال
أشدَّ العقاب على ضالله وإصراره ،وهذا مدلول النصوص الظاهرة في األديان اإلبراهيمية بشكل
أن هذا التفكير موجود بشكل أقل في الديانات الفيدية (الهندوسية والبوذية) ولكنّه خاص ،ومن المؤكد ّ
غير موجود في األديان الفولوكلورية الصينية واليابانية.
أن المسألة ال تتوقف عند الجانب الالهوتي ،بل هو أيسر المسائل ،فهي تتعداه باستمرار وال شك في ّ
إلى الشقاق االجتماعي ،وتبادل الريب واالتهام ،وتحقير الذات اإلنسانية ،فمن كان عند الخالق حقيرا ً
مرذوالً لن يكون عند عباده في حال أفضل ،وسيتنامى شعور الكراهية بشكل ّ
مطرد من اإليديولوجيا
إلى السوسيولوجيا ،ومن ثم فإنّنا لن نكون أبدا ً أمام مجتمع مستقر أو متراحم ،بل سنجد أنفسنا أمام
ركام من البغضاء قد تزيّنه بعض الممارسات ،ولكنّه يرتدّ في لحظة االصطفاف إلى جحيم الكراهية
ونار البغضاء.
لقد أمضى اإلنسان قرونا ً طويلة ينظر بعين الريبة والحذر ألخيه اإلنسان ويبادله اتهاما ً بعد آخر،
صة قابيل وهابيل مصدر إلهام للصراع األبدي في األرض ،ووجدت الصراعات وانطبعت ق ّ
والحروب المد ّمرة تبريرا ً أخالقياً ،وت ّم تكريس المجرمين أبطاالً ملهمين في التاريخ ،ومن المؤلم ّ
أن
هذا الصراع انعكس أيضا ً على جدل أتباع األديان الذي بدا تسخيفا ً وتشكيكاً ،ثم صار تحقيرا ً ولعنا ً
تحول إلى حروب ضارية ،ووجدت هذه الحروب ،باستمرار ،تبريرا ً أخالقيا ً على الرغم وتكفيرا ً ،ثم ّ
م ّما فيها من ممارسات التو ّحش البهيمية ،ووجدت لألسف من بات يطلق عليها الحروب المقدّسة،
إن العقودُكرس أبطالها ومجرموها رموز التضحية والفداء ،ويطالب بتكرار أعمالهم المجيدة ،بل ّ وي ّ
األخيرة قدّمت نماذج تطبيقيّة مرعبة أذهلت العالم كلّه.
وتسعى هذه الدراسة إلى معالجة هذه المسألة وفق قراءة جديدة للنصوص الدينيّة ،والتوفيق بين الديني
واالجتماعي والفلسفي ،وتعمد إلى استقراء النصوص الدينية األساسية التي تتبنّى فكرة ضالل اآلخر
وخسرانه ،وتحاول بناء وعي جديد قائم على ثقافة احترام اآلخر اعتقادا ً وديانة ومذهباً ،وتجتهد أن
تلتمس أجمل ما في األديان ،وتتبنّى تشجيع الديانات على اإلخاء والتراحم فيما بينها ،ونزع أسباب
التمييز والكراهية.
وهكذا ّ
فإن هذه الدراسة تحاول أن تقدّم للمكتبة العربية رؤية مختلفة لجدل الديانات ،حيث تتخيّر من
النبوات والفلسفة والحكمة رائع المحاوالت التي انطلقت من إيمان اإلنسان باإلنسان ،وترصد أرق ّ
ما امتلكه اإلنسان من مشاعر وأعمق ما نظر إليه بعين القداسة ،لبناء عالم جديد يتأسس على المحبّة
والعرفان.
94
أن هناك مكانا ً يظهر أجود ما في اإلنسان ،ويكشف عن الجانب النبيل من وتتأسس الفكرة على ّ
إنسانيته ،وهو في الغالب في قدسه الروحي الذي تحمله األديان ،تأسيسا ً على الحكمة واإلرادة والنبل
في مقاصد الخالق العظيم ،وإيمانا ً باإلنسان الذي مارس تقديس هذه القيم بوعيه الجمعي ،م ّما يؤكد
وجود الجانب النبيل في تلك القيم المستقرة جيالً بعد جيل ،وأ ّمة بعد أ ّمة.
ويقدم الكتاب مجموعة من المفاجآت غير المتوقعة ،فمع أن السائد ان فكرة مساواة األديان وإخائها
مرفوضة بالمطلق لدى رجال الدين في معظم األديان وخاصة اإلسالم والمسيحية ولكن الدراسة
تحشد سيالً من النصوص الشرعية األسياسية في القرآن والسنة تعزز بشكل مباشر منطق إخاء
األديان ،وتستخدم الدراسة كذلك وسائل الفقه اإلسالمي في االستحسان واالستصالح والعرف
والذرائع للوصول إلى أفق مجيد من إخاء اإلديان ،كما يستعرض مئات المواقف الشجاعة لقادة
ومفكرين مسلمين ومسيحيين على مستوى عال من المصداقية والقبول تحدثوا بوضوح وشجاعة عن
إخاء األديان ،واستطاعوا أن يؤسسوا للمذهب اإلنساني العابر لألديان والطوائف واألوطان ،ونادوا
بصراحة وشجاعة برفض احتار الخالص واحتكار الله واحتكار الحقيقة.
ثم تطوف الدراسة باألديان كلها فتستنطق في نصوصها التأسيسية نداءات مدهشة للمساواة بين األديان
ووجوب وقف جهود الكراهية والتبشير القائم على تزييف اآلخر وتحقيره ،وتصل إلى نخبة من القادة
الدينيين في كل ديانة نادوا بإخالص نحو إخاء األديان وكرامة اإلنسان.
ثم تخصص الدراسة فصالً خاصا ً نستعرض فيه جهود فالسفة عصر األنوار لهدم فكرة احتكار
الحقيقة التي قامت عليها إمبراطورية الكنيسة خالل العصور الوسطى ،وتربط بين جهودهم النبيلة
المعززة بالعلم والفلسفة وبين جهود الحكماء في كل دين نحو وقف احتكار الخالص والجنة والله،
وتؤسس لعيش مشترك قائم على احترام كل أشكال اإليمان.
لقد أردت أن أقول بوضوح :ليس إخاء األديان محض طموح طائش يحمله أفراد مغامرون مسكونون
بالمذهب اإلنساني ،بل إن التاريخ طافح بالرجال الكبار الذين أسسوا لهذا الوعي ،وهو يصنفهم في
التاريخ اإلسالمي في خمسة أصناف :فالسفة اإلسالم وحكمائه ،وأئمة الصوفية ،وفقهاء اإلخاء
اإلنساني ،وفقهاء اللجان التشريعية في برلمانات الدول اإلسالمية الذين نجحوا في 25دولة منها
على تضمين الدستور نفسه مواد المساواة والحرية والمواطنة ،ونصوا بوضوح على بناء أعلى
مستوى من إخاء األديان بين اإلنسان واإلنسان.
أرجو أنني لم أكن ضيفا ً ثقيالً عليكم إذ حملتكم على قراءة كتابي الجديد ،ولكنني أكتب ذلك وأنا على
غاية اليقين بأننا نعيش آخر عصور التعصب الديني ،وأن اإلنسانية ماضية على إعالن دين بين
األديان وليس دينا ً فوق األديان ،وأمة بين األمم وليس أمة فوق األمم ،أو كما عبر الرسول الكريم
نفسه( :ال تخيروني على األنبياء) نبي بين األنبياء وليس نبيا ً فوق األنبياء.
95
الفهرس
فصل تمهيدي
خاتمة
96