100% found this document useful (1 vote)
1K views10 pages

من المعرفة إلى النظرية والتجربة

المستند يناقش علاقة النظرية بالتجربة في المعرفة العلمية. يتناول مفهومي التجربة والتجريب ودورهما في بناء النظريات العلمية. كما يسلط الضوء على أطروحة كلود برنارد حول منهج الاستقراء في الوصول إلى الحقائق العلمية.

Uploaded by

asmaa barigou
Copyright
© © All Rights Reserved
We take content rights seriously. If you suspect this is your content, claim it here.
Available Formats
Download as PDF, TXT or read online on Scribd
100% found this document useful (1 vote)
1K views10 pages

من المعرفة إلى النظرية والتجربة

المستند يناقش علاقة النظرية بالتجربة في المعرفة العلمية. يتناول مفهومي التجربة والتجريب ودورهما في بناء النظريات العلمية. كما يسلط الضوء على أطروحة كلود برنارد حول منهج الاستقراء في الوصول إلى الحقائق العلمية.

Uploaded by

asmaa barigou
Copyright
© © All Rights Reserved
We take content rights seriously. If you suspect this is your content, claim it here.
Available Formats
Download as PDF, TXT or read online on Scribd
You are on page 1/ 10

‫المعرفة‬

‫الحقيقة‬ ‫النظرية والتجربة‬

‫الحقيقة والرأي‬ ‫التجربة والتجريب‬

‫معايير الحقيقة‬ ‫العقالنية العلمية‬

‫معايير علمية‬
‫قيمة الحقيقة‬
‫النظريات العلمية‬
‫النظرية والتجربة‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫يوصف اإلنسان بكونه ذاتا عارفة‪ ،‬يفكر في ذاته بهدف الوصول إلى حقيقته‪ ،‬كما يسعى‬
‫إلى معرفة حقيقة العالم من حوله‪ ،‬وذلك بتفسير الطبيعة لتحويلها لصالحه‪ ،‬مما يجعله ينتج‬
‫معرفة منظمة‪ ،‬مؤطرة مفاهيميا ومنهجيا‪ .‬وقد تمكن بفضل "التجربة" و"الصياغة الرياضية"‬
‫من أنتاج أنساق و"نظريات" حقق بفضلها نجاحات كبرى جعلته سيدا على الطبيعة ومالكا لها‪.‬‬
‫فكيف يتحدد مفهوم النظرية؟ وما عالقته بالتجربة‪ :‬هل هي بناء عقلي مجرد أم نتاج تجريبي؟‬
‫وما معاييرها؟‬

‫العقل‬ ‫التجربة‬ ‫النظرية‬


‫فعل ذهني مجرد‬ ‫بحبل مفهوم"التجربة" على معنيين‪:‬‬ ‫يفيد لفظ "النظرية"‬
‫يتمثل‬ ‫أ‪ -‬معنى عام‪ :‬احتكاك وتفاعل عفوي وساذج مع‬ ‫التفكير والتأمل العقلي‪.‬‬
‫الموضوعات‬ ‫العالم أو الطبيعة‪ .‬وهو سمة مميزة للمعرفة‬ ‫الناحية‬ ‫من‬ ‫أما‬
‫والقضايا بوساطة‬ ‫العامية‪ .‬كما تدل التجربة على إجراء اختباري‬ ‫اإلبستيمولوجية فالنظرية‬
‫مفاهيم ومقوالت‬ ‫يتأطر في سياق المعرفة العلمية‪ ،‬وهو المقصود‬ ‫هي‪:‬‬
‫(المكان‪،‬‬ ‫بالمعنى الخاص‪:‬‬ ‫"نسق من المفاهيم‬
‫الزمان‪،‬السببية‪،)...‬‬ ‫ب‪ -‬معنى خاص‪ :‬وهو المعنى العلمي الذي يتحدد‬ ‫والمبادئ‬ ‫والقوانين‬
‫وآليات ذهنية‬ ‫في مفهوم "التجريب" بوصفه "مساءلة منهجية‬ ‫(الفرضيات)‪،‬تسعى لفهم‬
‫(التحليل‪،‬المقارنة‪،‬‬ ‫للطبيعة"‪ ،‬ويتمثل في "مجموعة من الخطوات‬ ‫وتفسير الظواهر"‬
‫التركيب‪.)..‬‬ ‫المنهجية يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في‬ ‫"بناء عقلي‪ ،‬فرضي‬
‫وعالقات رياضية‪.‬‬ ‫المختبر‪ ،‬بهدف الكشف عن القوانين المتحكمة‬ ‫استنباطي‪ ،‬يربط نتائج‬
‫فيها"‪.‬‬ ‫بمبادئ"‬

‫وتطرح عالقة النظرية بالتجربة عدة إشكاالت إبيستملوجية في مجال المعرفة العلمية‪ ،‬فيما يخص‬
‫المفاهيم والمناهج‪ ،‬وفيما يخص الحدود الفاصلة بين العقل والتجربة‪ ،‬وفيما يرتبط باليقين واالطالق‬
‫والخطأ ‪ ،‬أو ما يتعلق بشروط العلمية وما يرتبط بها من نسبية وانفتاح وتقدم‪ .‬يمكن التعبير عن هذه‬
‫اإلشكاالت بالتساؤالت التالية‪:‬‬
‫‪ ‬ما هو دور التجريب في بناء النظرية؟‬
‫‪ ‬ما طبيعة المعرفة العلمية المعاصرة؟ وكيف تتحدد عالقة العقل والتجربة داخل هذه المعرفة؟‬
‫‪ ‬ما معيار علمية نظرية ما؟ كيف نميز بين العلم والالعلم؟‬
‫المحور األول‪ :‬التجريب العلمي‪( :‬تجريبيتان‪ :‬التجريب الكالسيكي والتجريب المعاصر)‬

‫اإلشكال‪ :‬حينما نتحدث عن العلوم التجريبية‪ ،‬يتأسس في أذهاننا انطباع بسيط وتلقائي مفاده‬
‫أننا بصدد معرفة علمية تجد بدايتها في المختبر‪ ،‬بين أجهزة ومواد تقبل المالحظة والقياس‬
‫الحسيين‪ .‬وهي إجراءات اعتمدها العلم الكالسيكي في سعيه إلى اإلبتعاد عن التصورات‬
‫الالهوتية والميتافيزيقية‪ ،‬لتأسيس معرفة دقيقة للواقع‪ .‬لكن األزمنة المعاصرة طرحت مشكالت‬
‫تقع تتعلق بالمنهج المناسب للظواهر الجديدة ممثلة في الميكروفيزياء‪ .‬فكيف نميز بين التجربة‬
‫والتجريب؟ التجربة العادية والتجريب العلمي؟ فهل يعتبر التجريب في بُعده الكالسيكي التقليدي‬
‫ال ُمقوم الوحيد لتفسير الظواهر الطبيعية أم أنه في حاجة للخيال العقلي بوصفه تجربة ذهنية؟‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬هل يكفي منهج االستقراء أم ثمة حاجة لالستنباط؟‬

‫‪ -1‬أطروحة كلود برنار‪ )1111/1181( :‬اإلستقراء‬


‫يرى عالم الفيزيولوجيا الفرنسي كلود برنار أن الحقيقة العلمية تتأسس على إلمام "العالم بمبادئ‬
‫المنهج التجريبي"‪ ،‬وذلك بهدف تحقيق أعلى درجات الموضوعية ‪ .‬وقد وضع في سبيل ذلك‬
‫قواعد خاصة بالمنهج التجريبي‪ ،‬وهي‪ :‬المالحظة والفرضية والتجربة وصوال إلى القانون‬
‫العلمي (منهج اإلستقراء)‪:‬‬

‫أ‪ -‬المالحظة ‪ :‬معاينة حسية للظاهرة‪ ،‬قد تكون مجهزة بآالت وأدوات علمية‪ .‬ويشترط فيها‬
‫الموضوعية‪ ،‬بعيدا عن رغبات و ميوالت المالحظ وأفكاره المسبقة ‪.‬‬
‫ب‪ -‬الفرضية ‪" :‬تفسير مؤقت لسبب الظاهرة" أو هي "محاولة للتنبؤ باألسباب المنتجة‬
‫للظاهرة"‪.‬‬
‫ج‪ -‬التجريب‪ :‬اصطناع الظاهرة المدروسة في المختبر‪ .‬يشترط فيها أن تكون قابلة للتكرار‪ ،‬كما‬
‫ينبغي أن تكون نتائج التجربة قابلة للتعميم‪.‬‬
‫د‪ -‬القانون‪ " :‬جملة العالقات الثابتة بين الظواهر"‪ .‬يتميز بالحتمية‪ ،‬كما يسمح بإمكانية التنبؤ‪.‬‬
‫والقانون هو الهدف األساس للمنهج التجريبي‪.‬‬
‫هكذا يرى كلود برنار أنه على العالم المالحظ للظواهر أن ينقل بدقة ما هو موجود في‬
‫الطبيعة‪ ،‬إن عليه أن ينصت إلى الطبيعة‪ ،‬وأن يسجل ما تمليه عليه‪ .‬أما العقل فله وظيفة "بعدية"‬
‫تتمثل في تنظيم و"ترميز" المعطيات التجريبية وتحويلها إلى قوانين وعالقات رياضية‪ .‬إنه‬
‫مجرد "آلة تصوير" تنقل الواقع كما هو‪ ،‬بعيدا عن المفاهيم العقلية وأألفكار المسبقة‬
‫(الموضوعية)‪.‬‬
‫تأتي المالحظة إذن في بداية المنهج التجريبي‪ ،‬ثم تتلوها الفكرة العقلية التي تسعى إلى تفسير‬
‫الظاهرة‪ .‬فالتجربة ثم "القانون العلمي"‪ .‬فالتجريب بهذا المعنى منطلق بناء النظرية العلمية‪.‬‬
‫وتكمن قيمة هذه الخطوات المنهجية في إنتاج معرفة علمية تتسم بأعلى درجات الدقة‬
‫والموضوعية‪ ،‬لتجاوز اإلعتبارات الالهوتية والميتافيزيقية‪ .‬والتأكيد بالمقابل على المبادئ‬
‫األساسية الموجهة للبحث العلمي كـالسببية والحتمية وإمكانية التنبؤ‪.‬‬

‫‪ -2‬أطروحة روني طوم‪ )1221/2002(:‬اإلستقراء‪+‬اإلستنباط‬


‫إذا كان التجريب حسب التصور التقليدي الكالسيكي هو معيار التحقق من الفرضية‪ ،‬فإن روني‬
‫طوم يتساءل "من أين تأتي الفرضية؟‬
‫يرى روني طوم أنه ال يمكن الحديث عن فرضية علمية غير مؤسسة على نظرية سابقة‪.‬‬
‫فكل نظرية تتضمن في نظره "كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها"‪ ،‬مما يعني أن لعنصر‬
‫الخيال العقلي دور كبير في التجريب العلمي‪.‬‬
‫لقد عاصر روني طوم الثورة العلمية التي أفرزها القرن العشرون‪ ،‬ال سيما اإلشكاالت التي‬
‫طرحتها المستجدات العلمية متمثلة في "الفيزياء النووية"التي اتخذت من "الظواهر‬
‫الميكروسكوبية" موضوعا لها‪ .‬ولقد أدى اإلنتقال من الماكرو إلى الميكروفيزياء إلى تغير‬
‫"مفهوم الواقع العلمي"‪ .‬ذلك أن الواقع لم يعد ماثال أمام الحواس بل صار باإلمكان بناؤه‬
‫عقليا ‪ :‬التعبير عن اإللكترونات والبروتونات والنوترونات بمفاهيم وعالقات رياضية‪ .‬مما أدى‬
‫إلى تغير المنهج‪ ،‬فلم يعد المنهج االستقرائي كافيا بل ال بد من دعمه بالمنهج االستنباطي‪.‬‬
‫هكذا اعتبر روني طوم أنه‪" :‬من الوهم االعتقاد بأن التجربة وحدها تمكننا من فهم العالقات‬
‫السببية بين الظواهر الطبيعية‪ ،‬بل ال بد من إقحام عنصر الخيال العقلي الذي يعتبر تجربة ذهنية‬
‫مكملة للتجربة التي تتم بواسطة األدوات العلمية في المختبر"‪.‬‬

‫تركيب‪:‬‬
‫نستخلص أن التجريب في معناه الكالسيكي ليس المقوم الوحيد في تفسير الظواهر الطبيعية‪ ،‬بل‬
‫لعنصر الخيال العقلي دور مكمل‪ .‬وهذا ما تؤكده دينامية العلم وحركيته‪ ،‬بما بما يقود إلى التكامل بين‬
‫ما هو واقعي تجريبي من جهة‪ ،‬وما هو عقلي خيالي من جهة أخرى؛ فال يمكن للتجريب العلمي اإلستغناء‬
‫عن التفكير العقلي‪ ،‬إذ أضحت العالقة بينهما معقدة ومتشابكة من حيث المفاهيم والمناهج‪ .‬ومع ذلك‪،‬ال‬
‫يمكن إغفال القيم المستهدفة من راء التجريب العلمي من حيث طلب النزاهة والموضوعية‪ ،‬ومن حيث‬
‫صيانة المعرفة العلمية من نقائضها‪ ،‬وذلك بتوخي الصرامة المنهجية مع الحذر من تسلل التصورات‬
‫الالعلمية إلى العلم كالنزعات المثالية الميتافيزيقية والالهوتية‪.‬‬
‫المحور الثاني‪ :‬العقالنية العلمية‪:‬‬

‫اإلشكال‪ :‬يحيل مفهوم "العقالنية" على كل اتجاه فلسفي أو علمي يتخذ من "العقل"‬
‫مصدرا لمعارفه وإنتاجاته‪ .‬لكن العقالنية المعرفة العلمية المعاصرة "قطعت" مع العلم الكالسيكي‬
‫الذي يجد جذوره وأسسه في الميتافيزيقا‪ .‬ذلك أن القرن ‪ 02‬أفرز مستجدات علمية (الفيزياء النووية‬
‫مثال) أدت إلى إعادة النظر في مفهومي العقل والتجربة المنهج للعلم الكالسيكي‪ ،‬مما يفترض إعادة‬
‫بناء عالقة جديدة بينهما داخل عقالنية علمية جديدة‪ .‬فما أساس المعرفة العلمية المعاصرة؟ هل‬
‫يكمن في العقل المحض‪ ،‬من خالل مفاهيمه ومقوالته وأبنيته الرياضية أم في التجربة؟ وما حدود‬
‫هذين التصورين؟ أال يمكن اإلقرار بحوار جدلي بين العقل والتجربة؟‬

‫‪ -1‬أطروحة هانز رايشنباخ‪:‬‬


‫من منطلق إبستيمولوجي وضعاني (‪ ،)Positivisme‬يرى رايشنباخ أن أساس المعرفة العلمية‬
‫يكمن في الواقع والتجربة‪ ،‬مميزا بين مفهومي "العقالنية" و"المعقولية"‪ .‬ذلك أن األولى (العقالنية)‬
‫تعتبر العقل مصدرا للمعرفة‪ ،‬وتتميز بكونها مثالية ومتعالية عن الواقع ومن ثم التشترط‬
‫"المالحظة"‪ ،‬كما تجد جذورها في الميتافيزيقا‪ .‬في المقابل تشير الثانية (المعقولية) على استخدام‬
‫العقل مطبقا على مادة المالحظة‪ ،‬وهو ما يمنح المعرفة علميتها‪.‬‬
‫إن تأسيس المعرفة على المالحظة والتجربة بالنسبة لرايشنباخ نابع من تشكيكه في "العقل" ومن‬
‫خطر ظهور الميتافيزيقا في المعرفة العلمية‪ .‬ولهذا السبب يرفض "المنهج اإلستنباطي"‪ ،‬ذلك أن‬
‫اإلستنباط المنطقي في الرياضيات يعطي اإلنطباع بعدم الحاجة إلى التجربة‪ ،‬وفي هذه اللحظة ال‬
‫يبقى بين المعرفة العلمية والمعرفة الصوفية إال خطوة قصيرة‪ .‬فيكون عالم الفيزياء أقرب إلى‬
‫المعرفة الالهوتية وأبعد من العلمية‪.‬‬
‫نستخلص أن التجربة منبع المعرفة العلمية وأساس نظرياتها‪ ،‬وهي في نفس الوقت وسيلة‬
‫التحقق منها‪ .‬فهي تمثل نقطة البداية ونقطة الوصول في اآلن نفسه‪.‬‬

‫*التصوف‪ :‬نزعة دينية يرى أنصارها أن حقيقة التدين تكمن في اإلنقطاع عن الواقع والملذات‬
‫الحسية‪ ،‬مع اإلرتقاء في العوالم الروحانية‪.‬‬
‫‪ -2‬أطروحة ألبير إنشتاين‪:‬‬
‫يتساءل الفيزيائي األلماني ألبرت إنشتاين‪" :‬إذا كانت التجربة هي مبتدأ ومنتهى معرفتنا‬
‫بالواقع‪ ،‬فأي دور تبقيه للعقل في مجال المعرفة العلمية؟"‬
‫من منطلق إبستيمولوجي عقالني‪ ،‬يرى رائد النظرية النسبية أن المفاهيم العلمية إبداعات حرة‬
‫للعقل البشري‪ ،‬وأنها تجد أساسها في البناء الرياضي الخالص‪ .‬فهو يرى أن "نسقا كامال من‬
‫الفيزياء النظرية يتكون من مفاهيم وقوانين أساسية للربط بين تلك المفاهيم والنتائج التي تشتق‬
‫منها بواسطة االستنباط المنطقي‪ ،‬وهذه النتائج هي التي يجب أن تتطابق معها تجاربنا الخاصة"‪.‬‬
‫هكذا يلعب العقل بمفاهيمه وقوانينه دورا جوهريا في بناء النظرية العلمية‪ .‬أما التجربة‪ ،‬فلها‬
‫وظيفة "بعدية" تكمن في ضرورة التطابق مع ما يتوصل إليه اإلستنباط المنطقي الرياضي‪.‬‬
‫لقد واجهت الفيزياء المعاصرة ظواهر ميكروسكوبية يصعب تحديدها وتعيينها في الزمان و‬
‫المكان‪ ،‬ولم يعد العالم يواجه موضوعات قابلة للمالحظة والقياس الحسيين كما هو الحال في‬
‫التجريب الكالسيكي (الماكروفيزياء)‪ .‬ولهذا عمل على تجريد وتمثيل هذه الظواهر(اإللكترونات‬
‫والبروتونات والنوترونات‪ )...‬بمفاهيم ورموز‪ ،‬وحلت العالقات الرياضية محل التجريب الحسي‪.‬‬
‫لقد أدى اإلنتقال من الماكرو إلى الميكروفيزياء إلى تغير "مفهوم الواقع العلمي"‪ .‬كان من نتائجه‬
‫أن تغير المنهج العلمي‪ ،‬فحل المنهج الفرضي اإلستنباطي محل المنهج التجريبي‪ .‬ذلك أن الواقع‬
‫لم يعد ماثال أمام الحواس بل صار باإلمكان بناؤه واإلستدالل عليه عقليا (رياضيا)‪.‬‬
‫وتكمن قيمة هذا الموقف‪ ،‬في تجاوز النسق النظري "النيوتوني" (‪ )Newton‬الذي قامت عليه‬
‫العقالنية الكالسيكية‪ .‬ذلك أن الفيزياء النيوتونية‪ ،‬وإن رفضت المبادئ التي اعتبرها ديكارت‬
‫فطرية (الزمان والمكان مثال)‪ ،‬أكدت على "ثباتها"‪ ،‬مما جعلها امتدادا "للميتافيزيقا" والفكر‬
‫الالهوتي‪.‬‬
‫يستفاد مما سبق أن إنشتاين يولي أهمية قصوى للعقل متجاوزا المنهج التجريبي الكالسيكي‪،‬‬
‫ومؤكدا على نسبية الحقائق العلمية‪ .‬إما التجربة فتلعب دورا ثانويا يتمثل في التطابق مع النتائج‬
‫التي يصل إليها العقل الرياضي‪.‬‬

‫تركيب أول‪ :‬نحن أمام تصورين إبستيمولوجيين متقابلين‪ ،‬يعتبر فيه األول أن التجربة منبع‬
‫النظرية‪ ،‬ويرى الثاني أن العقل الرياضي وحده يستطيع إبداع النظريات العلمية‪ .‬لكن‪ ،‬ماحدود‬
‫هذين التصورين؟ أال يمكن اإلقرار بجدلية العقل والواقع‪ ،‬النظرية والتجربة‪.‬‬

‫‪ -3‬أطروحة غاستون باشالر‪:‬‬


‫من منطلق ابستيمولوجي نقدي‪ ،‬يرى باشالر انه ال يمكن تأسيس العلوم الفيزيائية دون حوار‬
‫فلسفي بين العالم العقالني والعالم التجريبي‪ .‬ذلك انه يرفض الموقف الذي تبنته كل من النزعة‬
‫العقالنية المنغلقة والنزعة التجريبية الساذجة‪ ،‬مؤكدا على أن عالم الفيزياء المعاصر يحتاج ليقين‬
‫مزدوج‪:‬‬
‫أوال‪ :‬يقين بوجود الواقع في قبضة ما هو عقلي…‬
‫ثانيا‪ :‬يقين بأن الحجج العقلية هي من صميم لحظات هذه التجربة‪.‬‬
‫هكذا يعتبر باشالر العقل العلمي المعاصر عقال منفتحا على الواقع‪ .‬وهو ما أضحى يعرف‬
‫بـ"العقالنية المنفتحة" والمطبقة‪ ،‬إلى جانب تجريبية مبنية‪ .‬فالمعرفة العلمية المعاصرة ال تتأسس‬
‫داخل وعي معزول عن الواقع‪ .‬والواقع العلمي نفسه هو واقع متحول ومبني بناء نظريا وعقليا‪.‬‬
‫يقول باشالر‪":‬ال توجد عقالنية فارغة‪ ،‬كما التوجد اختبارية عمياء"‬
‫نستخلص أن الموقف البشالري بصدد أساس العقالنية العلمية‪ ،‬يؤكد على الحوار الجدلي بين‬
‫العقل والتجربة‪ .‬وتكمن قيمة هذا التصور الجديد في كونه يعيد النظر في أسس المعرفة العلمية‪،‬‬
‫والتي مست مفاهيم العقل والتجربة والواقع‪.‬‬
‫تركيب‪ :‬يكشف اإلشتغال على أساس العقالنية العلمية عن توتر وصراع‪ ،‬كما يكشف عن تداخل‬
‫وتكامل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال يمكن تصور نظريات علمية دون اإلعتراف بوجود حوار جدلي بين العقل‬
‫والتجربة ‪ .‬عقل قطع مع األنساق الفلسفية التي أطرت العلم الكالسيكي‪ ،‬وتجربة مبنية تجاوزت‬
‫بدورها التجريب التقليدي الساذج‪ .‬وقد أفضت هذه النظرة الجديدة إلى مراجعات نقدية مست‬
‫المفاهيم والمناهج العلمية كمفهوم التجربة والواقع واليقين واالستقراء واالستنباط والجدل‪ ،‬مما‬
‫يدلل على دينامية العلم وحركيته ونسبيته وانفتاحه‪.‬‬
‫المحور الثالث‪ :‬معايير علمية النظريات العلمية‬

‫‪ ‬المعيار‪ :‬المقياس أو القاعدة أو المؤشر الذي نحكم من خالله على القضايا ونميز فيما بينها من‬
‫حيث الصدق أو الكذب‪ ،‬الصحة او الخطأ القبول أو الرفض‪.‬‬

‫اإلشكال‪ :‬يطرح الحوار الجدلي بين العقل العقل والتجربة إشكالية تتعلق بالتمييز بين‬
‫النظريات من حيث قوتها ونجاعتها‪ .‬ذلك أن تتعدد النظريات العلمية وتختلف وتتنافس وتتصارع فيما‬
‫بينها‪ ،‬مما يطرح إشكالية معيار علميتها‪ .‬فما معيار صدق وصالحية النظريات العلمية؟ ومتى تكون‬
‫النظرية مقبولة من الناحية العلمية‪ :‬بالتحقق التجريبي أم اإلتساق المنطقي أم القابلية للتكذيب والتفنيد؟‬
‫وكيف نميز بين العلم والالعلم؟‬

‫‪ -1‬النزعات التجريبية (فرنسيس بيكون‪ ،‬رايشنباخ‪ ،‬دوهيم)‬


‫" إن النظرية الفيرياثية ليست تفسيرا ‪ .‬إنها نسق من القضايا الرياضية المسنبئطة من عدد‬
‫قليل من المبادئ‪ ،‬غايتها أن تمثل تماما وببساطة‪ ،‬وبصورة صحيحة‪ ،‬ما أمكن ذلك‪ ،‬مجموع‬
‫بيير دوهيم‬ ‫القوانين التحريية‪".‬‬
‫= معيار صالحية النظريات العلمية يكمن في معيار التحقق التجريبي‪.‬‬
‫= تثبت التجربة صحة النظرية‪.‬‬
‫= التجربة حاسمة ونهائية‪.‬‬
‫‪ -2‬اإلتجاهات العقالنية (ألبرت أينشتاين‪ ،‬ماكس بالنك)‬
‫= معيار صالحية النظريات العلمية يكمن في معيار اإلتساق التناسق المنطقي‪.‬‬
‫= أهمية االستدالل الرياضي‪.‬‬
‫= يكفي أن تكون النظرية متماسكة من الناحية الصورية دون اشتراط التجربة‪.‬‬

‫‪ -3‬أطروحة بيير تويليي‪P. Thuillier :‬‬


‫ينتقد بيير تويليي النزعة التجريبية إلنغالقها على التحقق التجريبي‪ .‬فإذا كان التجريبيون عموما‪ ،‬يرون‬
‫بأن اتفاق النظرية مع التجربة هو المعيار الوحيد للحقيقة العلمية؛ فإن بيير تويليي يرى أن النزعة‬
‫التجريبية "إختزالية وتبسيطية"‪ ،‬مؤكدا على معيار تعدد اإلختبارات ‪ .‬وذلك من خالل تكرار وتنويع‬
‫التجربة‪ ،‬ألن "التحقق التجريبي ال يعطي دالئل قطعية‪ ،‬وإنما يعطي تأكيدات غير مباشرة‪ ،‬تكون جزئية‬
‫ومعرضة دائما للمراجعة"‪.‬‬
‫فالتحقق التجريبي ليس معيارا وحيدا ونهائيا لعلمية وصالحية النظرية العلمية‪ ،‬بل ال بد من خروج‬
‫النظرية من عزلتها التجريبية ‪ ،‬وانفتاحها على فرضيات نظريات أخرى‪ .‬دون إغفال أهمية التناسق‬
‫المنطقي بالتأكيد على الطابع األكسيومي للنظرية‪.‬‬
‫نستخلص أن العلم ال يقر من وجهة نظر بيير تويليي بتجربة علمية منغلقة ونهائية‪ ،‬ألن انغالقها سيؤدي‬
‫إلى فنائها‪ .‬ولهذا‪ ،‬يؤكد على أن نتائج التحقق التجريبي تبقى جزئية وقابلة دائما للمراجعة‪ .‬وهو ما يعكس‬
‫نسبية المعرفة العلمية وإمكان تطورها ما دامت تتحول وفق الحوار المستمر بين النظريات‪.‬‬

‫‪ -4‬أطروحة كارل بوبر‪:‬‬

‫‪No matter how many instances of white swans we may have‬‬


‫‪observed, this does not justify the conclusion that all swans are white.‬‬
‫‪Karl Popper The Logic of Scientific Discovery‬‬

‫يرفض كارل بوبر بدوره معيار التحقق التجريبي الذي تبنته النزعات التجريبية‪ .‬ويرى أن معيار علمية‬
‫النظرية هو قابليتها للتفنيد أو التكذيب‪.‬‬
‫يرى كارل بوبر أن " نظرية معينة تعد خارج مجال العلم التجريبي عندما ال نستطيع وصف كل ما‬
‫يمكن أن يأتي التفنيد المحتمل لها"‪ ،‬وهذا يعني أن النظرية التي ال تقبل التكذيب‪ ،‬ال تقبل التجريب‪ ،‬أي‬
‫أنها تعتبر يقينية ومطلقة‪ .‬وهذا يجعلها أبعد من مجال المعرفة العلمية‪ ،‬وأقرب من المعرفة الميتافيزيقية‪.‬‬
‫وللتجربة بالنسبة لكارل بوبر وظيفة مغايرة لما يعتقده التجريبيون عموما‪ .‬ذلك أن وظيفتها ال تكمن في‬
‫إثبات صحة النظرية‪ ،‬بل تنحصر فقط في إثبات كذبها‪ .‬فعندما تقبل النظرية التكذيب التفنيد تكون علمية‪.‬‬
‫في كتابه "منطق الكشف العلمي" ينبه كارل بوبر إلى أنه "مهما كان عدد حاالت البجع األبيض التي‬
‫سبق أن الحظناها‪ ،‬فإن ذلك ال يبرر النتيجة القائلة كل البجع أبيض"‪ .‬ذلك أن آالف القضايا الجزئية‬
‫(المالحظات والتجارب) ال يمكن أن تثبت صحة القضية الكلية (النظرية)‪ .‬وفي المقابل تستطيع قضية‬
‫جزئية واحد ة (=التجربة) أن تكشف كذب القضية الكلية (النظرية)‪ .‬ألننا نستطيع الحصول على تجربة‬
‫واحدة مختلفة‪ ،‬مما يؤدي إلى إثبات زيف النظرية وكذبها‪.‬‬
‫ينحصر دور التجربة إذن في بيان كذب النظرية‪ ،‬والكشف عن األخطاء والعيوب الموجودة بها‪ .‬وحينما‬
‫يعمل العالم على تصحيح هذه العيوب‪ ،‬فهو يقوي بذلك بنية النسق النظري الذي يحتمل دائما وجود‬
‫ثغرات وأخطاء يسهم تصحيحها باستمرار في تطور المعرفة العلمية‪.‬‬
‫تكمن قيمة هذه األطروحة في كونها قدمت تصورا جديدا لمعيار النظرية العلمية‪ ،‬معيار نقلنا من منطق‬
‫اإلثبات والتأكيد إلى منطق التكذيب والتزييف الذي يسمح بتعديل النظريات باستمرار‪ .‬مما يدل على‬
‫انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها‪.‬‬
‫تركيب‪ :‬تتعدد معايير علمية النظريات العلمية نظرا للصرع القوي الذي يعرفه مجتمع العلم‪ .‬وهي‬
‫تتراوح بين مقياس التحقق التجريبي واإلتساق المنطقي والقابلية للتكذيب والتفنيد وتعدد‬
‫االختبارات‪ .‬غير أن اإلبستيمولوجيا المعاصرة تميل إلى معيار الصالحية المنفتح‪ .‬والذي تقبل‬
‫تعدد وتنوع اإلختبارات‪ ،‬وقابلية التكذيب‪ ،‬إلى جانب تمسكه بنسبية الحقيقة العلمية‪ ،‬ضمانا لتقدمها‪.‬‬

‫تركيب عام لمفهومي النظرية والتجربة‪:‬‬


‫الحديث عن العلم حديث عن وقائع ومالحظات وتجارب ومفاهيم وفرضيات وقوانين‪.‬‬
‫وتكمن أهمية النظرية العلمية في كونها الخيط الناظم لكل هذه العناصر‪ .‬و تفسر هذه األهمية‬
‫حدة الجدل اإلبستيمولوجي حول وظائف النظرية وعالقتها بالتجربة‪ ،‬ومعايير صالحيتها‪.‬‬
‫وهو جدل يمكن النظر إليه كصورة جديدة للجدل الفلسفي بصدد عالقة الفكر بالواقع‪.‬‬
‫وقد أكد العلم المعاصر أنه ال وجود لتجربة معزولة عن العقل‪ ،‬وال وجود لنظرية منغلقة‪ ،‬ألن‬
‫انغالقها يؤدي إلى فنائها؛ مؤكدا على حوار جدلي بين النظرية والتجربة‪ .‬وقد أدى هذا الجدل‬
‫إلى مراجعات نقدية تمثلت في إعادة النظر في جملة مفاهيم فلسفية وعلمية‪ ،‬كمفهوم الواقع‬
‫واليقين والعقل والتجربة والخطأ والكذب‪ .‬بما يسمح للعلم بمراجعة ذاته باستمرار وبما يؤشر‬
‫على ونسبيته وانفتاحه وإمكان تقدمه‪.‬‬

You might also like