مقدمة للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم
مقدمة للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم
لقد كان القرآن الكريم خاتم كتب هللا المنزلة على أنبيائه المرسلين صلوات هللا عليهم أجمعين ،خصَّ به سبحانه خاتم المرسلين
صلى هللا عليه وسلم ،وقد حوى من علوم الهداية ما ال يتصور المزيد عليه ،حتى استنهض همم علماء هذه األمة ،في التوسع
في تبيين تلك العلوم من ثنايا القرآن الكريم ،فألفوا كتبا ً في تفسير الذكر الحكيم ،على مناهج من الرواية والدراية ،وعلى أنحاء
ُني بغريب القرآن ،فألف في تبيين مفردات القرآن كتبا ً نافعة ،ومنهم من اهتم بمشكل اإلعراب، من وجوه العناية ،فمنهم من ع َ
فتوسع في تبيين وجوه اإلعراب على لهجات شتى القبائل العربية ،ومنهم من نحا نحو توجيه وجوه القراءات المروية في
تفسير القرآن الكريم ،ومنهم من ألف في مشكل معاني القرآن ،ومنهم من خدم آيات المواعظ واألخالق ،ومنهم من شرح آيات
التوحيد والصفات ،ومنهم من أوضح آيات الحالل والحرام ،ومنهم من خصَّ جدل القرآن بالتأليف ،إلى غير ذلك من علوم
.أشار إليها كل من ألف في علوم القرآن
يقول ابن عاشور في هذا الصدد" :إن معاني القرآن ومقاصده ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية األطراف موزعة على
آياته؛ فاألحكام مبينة في آيات األحكام ،واآلداب في آياتها ،والقصص في مواقعها ،وربما اشتملت اآلية الواحدة على ف َّنين من
".ذلك أو أكثر
عرَّ ف المشتغلون بالشأن القرآني التفسير الموضوعي للقرآن بأنه الكشف الكلي عن مراد هللا في قضية قرآنية معينة بحسب
.الطاقة .ويقسمونه إلى أنواع أهمها هو دراسة موضوع من خالل القرآن الكريم
فهذا النوع من التفسير ينظر إلى موضوع معيَّن في القرآن كله ،ليجلِّي جوانبه ،ويح ِّدد مالمحه ،ويربطه بالحياة ،ومن َث َّم يرتب
المجال لكل دارس كي يربط تخصصه بهدايات الوحي ،ويصنع الحياة على عينه؛ فالفقيه يجد َم ِع ْي َنه في آيات األحكام ،والمفكر
يلتقي بالموارد القرآنية التي يبحث عنها في مظان التدبر وإعمال النظر ،واالقتصادي يقف على آيات المال واإلنفاق والثروة
واإلعمار ،وعالم الكونيات يرى مطلوبه في آيات الفلك والنجوم وحركة الكواكب والليل والنهار ،والباحث التربوي يلقى
ضالته في آيات اإلرشاد والوعظ والتوجيه واالعتبار ،والمؤرخ يعثر على أخبار األمم السابقة ودروس العبر القرآنية وأحوال
األقوام والدول الغابرة ،وباحث االجتماع يجمع ثروة هائلة من اآليات الدالة على سنن االبتالء والتم ُّكن واالستدراج والزوال
وأحوال العمران .ومن هنا يبدو ثراء القرآن بالموضوعات الحيوية التي ال تقوم حياة الناس بدونها ،وال يستقيم معاشهم من
.غيرها
يع ُّد التفسير الموضوعي للقرآن -بحسب المهتمين بهذا النوع من التفسير -األقدر على أن يجلي وجوها ُ جديدة لإلعجاز
القرآني ،فإذا كان فهم القرآن يتوقف على إدراك ما تدل عليه آياته من طريق العبارة ،والتعرف على مراميه من طريق
اإلشارة ،وإدراك لطائفه ومن ثم بلوغ حقيقته على وجهها ،فإن َفه ِْم القرآن فهما ً مستقيما ً إنما يتأتى من طريق التفسير
.الموضوعي ،الذي تجتمع عنده خيوط غيره من فنون التفسير جملة
على أن التفسير الموضوعي ال يعدو أن يكون وليداً أصيالً لتفسير القرآن بالقرآن ،نشأ في أحضانه ،وبدأ لونا ً من ألوانه ،ثم
أصبح ذا سمات متميزة مستقلة بعد نموه واتساعه ،والمهتم بالتفسير ال يخرج في عمله بصورة أو بأخرى عن دائرة تفسير
القرآن بالقرآن ،إذ إنه منشغل دائما ً بضم وحدات إلى وحدات ،وفروع إلى فروع ،يقارن كالً منها بغيره ،ويستعين ببعضها
على فهم بعض ،كي يصل في النهاية إلى الصورة الشاملة التي يبتغيها .كما أن كثيراً من الذين تصدوا لهذا النوع من التفسير
.ع ُّدوا النظر في الواقع ابتداء وانتهاء عنصراً أساسا ً في التفسير الموضوعي
يبقى أن يشار إلى أن التفسير الموضوعي للقرآن إذا كان يساعد المفسر على كشف مزيد من أسرار القرآن و ِح َكمِه وهداياته،
.فإن هذا ال يعني أنه ُي َم ِّكنه من حسم القول في مراد هللا من كتابه ،أو اإلتيان بالقول الفصل في تفسيره