0% found this document useful (0 votes)
22 views28 pages

التصوف ومقاصد الشريعة الإسلامية

Uploaded by

nazim
Copyright
© © All Rights Reserved
We take content rights seriously. If you suspect this is your content, claim it here.
Available Formats
Download as DOCX, PDF, TXT or read online on Scribd
0% found this document useful (0 votes)
22 views28 pages

التصوف ومقاصد الشريعة الإسلامية

Uploaded by

nazim
Copyright
© © All Rights Reserved
We take content rights seriously. If you suspect this is your content, claim it here.
Available Formats
Download as DOCX, PDF, TXT or read online on Scribd
You are on page 1/ 28

‫السلوك والمقاصد – التداخل والتكامل (‪)1‬‬

‫د‪ .‬جمال بوشما‬ ‫‪‬‬

‫باحث بمركز دراس بن إسماعيل‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫لما كان الدين اإلسالمي إسالما وإيمانا وإحسانا بمعنى انحصاره‬

‫في مقامات ثالث‪ ،‬حسب حديث جبريل[‪]1‬المشهور؛ فإن مستلزم‬

‫ألمرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬حصول التكامل والتداخل بين هذه المقامات الدينية‬

‫الثالث‪ ،‬من إسالم وإيمان وإحسان‪ ،‬واجتماعها بعالقة اتصالية دائمة‪،‬‬

‫حتى إن المسلم المتحقق بمضامين الدين اإلسالمي يوصف بأنه‬

‫مؤمن ومحسن‪ ،‬أي أنه في طلب دائم للترقي في تلك المقامات ألنها‬

‫من الدين‪ ،‬ال أنه منعكف على مقام دون مقام وال على تحقيق اإلسالم‬

‫واإليمان دون طلب اإلحسان؛‬

‫الثاني‪ :‬لما كانت مقامات الدين اإلسالمي في عالقتها تكاملية‪،‬‬

‫فقد وجب حصول التكامل بين العلوم الخادمة لها ‪ ،‬بحيث إن علوم‬

‫الدين اإلسالمي يجمعها التعاضد والتداخل واالتصال‪ ،‬بحيث يحيل أحد‬


‫منها‬ ‫العلوم‬

‫على اآلخر‪ ،‬أو أنك تجد روح علم منها تسري في اآلخر‪ .‬وهذا حاصل‬

‫عند أخذ العلم من منبعه “من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية‬

‫التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام”[‪ .]2‬ومن‬

‫هنا فإن عدم التحقق بعلم من العلوم اإلسالمية‪ ،‬يجر صاحبه إلى نقص‬

‫في فقه ذلك العلم‪ ،‬وإلى عدم وضوح العالقة التكاملية بين العلوم‬

‫عنده‪ ،‬بل إن ذلك يجره إلى نكران علم من العلوم اإلسالمية الثابتة‬

‫من الدين بالضرورة وفي مثل هذا يقرر الشاطبي‪“ :‬أن كثيرا ممن لم‬

‫يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير‬

‫طريقة الجمهور‪ ،‬وأنهم امتازوا بأحكام غير األحكام المبثوثة في‬

‫الشريعة مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم‪ ،‬ويرشحون‬

‫ذلك بما يحكى عن بعضهم‪ :‬أنه سئل عما يجب في زكاة كذا فقال‪:‬‬

‫على مذهبنا أو على مذهبكم؟ ثم قال‪ :‬أما على مذهبنا فالكل لله‪ ،‬وأما‬

‫على مذهبكم فكذا وكذا‪ .‬وعند ذلك افترق الناس فيهم‪ ،‬فمن مصدق‬

‫بهذا الظاهر‪ ،‬مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هي أعلى‬

‫مما بث في الجمهور‪ ،‬ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى‬

‫الخروج عن الطريقة المثلى‪ ،‬والمخالفة للسنة… ولكن روح المسألة‬


‫الفقه في الشريعة”[‪ .]3‬وينبني على هذا أن فقه التكامل بين التصوف‬

‫والمقاصد من الضرورات العلمية‪ ،‬قصد تحصيل الفهم بكليات‬

‫وجزئيات الدين اإلسالمي وعلومه الخادمة له‪.‬‬

‫والتصوف يتجه إلى تزكية األفراد تزكية قلبية‪ ،‬وتطهير باطنهم‬

‫لتكون موصولة بالله سبحانه‪ ،‬فهو يدرأ عن الفرد آفة الهوى‪ ،‬ونقمة‬

‫االنفصال واالنقطاع‪ ،‬وعذاب البعد‪ ،‬ويمده بإمدادات االقتداء‬

‫واإلتباع‪ُ“ :‬أوَلِئَك اَّلِذيَن َه َدى الَّلُه َف ِبُه َداُه ُم اْق َتِدِه ” [اَالنعام‪.]90 ،‬‬

‫كما يستشعر نعمة الوصل واألنس بالله‪“ :‬اَّلِذيَن ءاَم ُنوا َو َتْطَم ِئُّن‬

‫ُق ُلوُبُهْم ِبِذْكِر الَّلِه َأاَل ِبِذْكِر الَّلِه َتْطَم ِئُّن اْلُق ُلوُب ” [الرعد‪.]28 ،‬‬

‫يتبع في العدد المقبل‬

‫——————————————‪-‬‬

‫‪ .1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب سؤال جبريل النبي صلى‬

‫الله عليه وسلم‪ .‬رقم‪.48 :‬‬

‫‪ .2‬الموافقات لإلمام الشاطبي‪ ،‬ج‪ ،1 :‬ص‪.70 :‬‬

‫‪ .3‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،2 :‬ص‪.212 :‬‬

‫السلوك والمقاصد – التداخل والتكامل (‪)2‬‬

‫د‪ .‬جمال بوشما‬ ‫‪‬‬

‫باحث بمركز دراس بن إسماعيل‬ ‫‪‬‬


‫‪‬‬

‫إن التصوف يرتكز في أساسه على القلب من حيث تزكيته‪،‬‬

‫بتحليته وتخليته وترقيته‪ ،‬وهي من الوظائف النبوية الشريفة‪ ،‬فقد‬

‫كانت التزكية من األدوار األساسية واألولوية للرسول صلى الله عليه‬

‫وسلم اتجاه أمته‪ ،‬ومن اآليات الواردة في التنزيل المبِّينة لذلك‪:‬‬

‫قوله تعالى‪َ“ :‬ر َّبَنا َو اْبَع ْث ِف يِه ْم َر ُس واًل ِمْنُهْم َيْتُلوْا َعَلْيِه ْم‬
‫َأ‬
‫ءاَياِتَك َو ُيَعِّلُمُهُم اْلِكَتاَب َو اْلِح ْكَم َة َو ُيَز ِّكيِه ْم ِإَّنَك ْنَت اْلَعِز يُز‬

‫اْلَحِكيُم ” [البقرة‪.]129 ،‬‬


‫َأ‬
‫وقوله عز من قائل‪َ“ :‬كَم ا ْر َس ْلَنا ِف يُكْم َر ُس واًل ِمْنُكْم‬

‫َو اْلِح ْكَم َة‬ ‫َيْتُلو َعَلْيُكْم ءاَياِتَنا َو ُيَز ِّكيُكْم َو ُيَعِّلُم ُكُم اْلِكَتاَب‬

‫َو ُيَع ِّلُم ُكْم َم ا َلْم َتُكوُنْو ا َتْعَلُم وَن ” [البقرة‪.]151 ،‬‬

‫وقوله جل وعز‪َ“ :‬لَق ْد َمَّن الَّلُه َعَلى اْلُم ْؤ ِمِنيَن ِإْذ َبَع َث‬

‫ِم ْن َاْنُف ِس ِه ْم َيْتُلو َعَلْيِه ْم ءاَياِتِه َو ُيَز ِّكيِه ْم‬ ‫ِف ي ْم َر ُس واًل‬
‫ِه‬

‫َو ُيَع ِّلُمُهُم اْلِكَتاَب َو اْلِح ْكَم َة َو ِإْن َكاُنوا ِم ْن َق ْبُل َلِف ي َض اَل ٍل‬
‫ُمِبيٍن ” [َال عمران‪.]164 ،‬‬

‫وقوله تعالى‪ُ“ :‬ه َو اَّلِذي َبَع َث ِف ي اُاْلِّم ِّييَن َر ُس واًل ِمْنُهْم‬

‫َيْتُلو َعَلْيِه ْم ءاَياِتِه َو ُيَز ِّكيِه ْم َو ُيَع ِّلُمُهُم اْلِكَتاَب َو اْلِح ْكَم َة َو ِإْن‬

‫َكاُنوا ِم ْن َق ْبُل َلِف ي َض اَل ٍل ُمِبيٍن ”[الجمعة‪.]2 ،‬‬

‫وفي حديث النعمان بن بشير المشهور قول رسول الله صلى‬

‫الله عليه وسلم‪ …“ :‬أال وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح‬

‫الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد أال وهي القلب” [رواه‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬رقم‪:‬‬

‫‪.]50‬‬

‫ويتساوق في هذا األمر مع مقاصد الشريعة ألن “المقصد‬

‫الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون‬

‫عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا”[‪.]1‬‬

‫هذا من حيث النظر الكلي‪ ،‬أما من حيث النظر الجزئي؛ فإننا‬

‫نج‪nnn‬د معظم مب‪nnn‬احث مقاص‪nnn‬د الش‪nnn‬ريعة هي مب‪nnn‬احث ص‪nnn‬وفية‪،‬‬

‫إن‬ ‫بل‬

‫السبق في تفصيل القول فيها يرجع إلى الصوفية ولنذكر منها أمورا‪:‬‬

‫األولى‪ :‬مسألة اإلخالص التي تناولتها المؤلفات الصوفية في‬

‫أدق تفاصيلها وجزئياتها‪ ،‬فنجد أن أساس التفريق بين المقاصد‬

‫األصلية والتبعية هو اإلخالص؛ ألن “المقاصد األصلية إذا روعيت أقرب‬

‫إلى إخالص العمل وصيرورته عبادة‪ ،‬وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي‬

‫تغِّبر في وجه َمْح ِض العبودية”[‪]2‬؛‬

‫الثانية‪ :‬مسألة مقاصد المكلف وما يعتريها من تغير وتبدل‪،‬‬

‫وتحديد المحال التي يثاب فيها والتي ال يثاب فيها‪ .‬وتبين ضروب‬

‫موافقة ومخالفة المكلف لقصد الشارع وغيرها من الحاالت التي‬


‫تعتري قصد المكلف‪ .‬ولم يقف الصوفية عند وصف حالة المكلف‬

‫القصدية بل بينوا كيفية الرقي بالقصد ليكون ربانيا وليتحقق‬

‫بالخلوص؛‬

‫الثالثة‪ :‬مسألة المقامات اإلحسانية والتي تناولها علماء‬

‫المقاصد في حديثهم عن المقاصد األصلية والتابعة وتعلق الحظوظ‬

‫بها؛ ألن الناس في أخذهم حظوظهم على مراتب‪:‬‬

‫منهم‪ :‬من ال يأخذها إال بغير تسببه فيعمل العمل أو يكتسب‬

‫الشيء فيكون فيه وكيال على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر‪،‬‬

‫وال يدخر لنفسه من ذلك شيئا‪ ،‬بل ال يجعل من ذلك حظا لنفسه من‬

‫الحظوظ… وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة‪ ،‬فال يأخذ إال من‬

‫الملك؛ ألنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه‪ ،‬وال‬

‫اعتراض على هذا المقام بما تقدم؛ فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا‬

‫من تدبيره لنفسه‪ ،‬فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها‪،‬‬

‫وهؤالء هم أرباب األحوال؛‬

‫ومنهم‪ :‬من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم‪ ،‬إن استغنى‬

‫استعف وإن احتاج أكل بالمعروف… فهؤالء والذين قبلهم لم يقيدوا‬

‫أنفسهم بالحظوظ العاجلة‪ ،‬وما أخذوا ألنفسهم ال يعد سعيا في حظ؛‬

‫إذ للقصد أثر ظاهر‪ ،‬وهو أن يؤثر اإلنسان نفسه على غيره ولم يفعل‬

‫هنا ذلك‪ ،‬بل آثر غيره على نفسه‪ ،‬أو سوى نفسه مع غيره‪ .‬وإذا ثبت‬

‫ذلك كان هؤالء برآء من الحظوظ كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم‬

‫يجعل له حظ”[‪.]3‬‬

‫يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى‬


‫———————————————‬

‫‪ .1‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.144 :‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .167 :‬وانظر كذلك‪ :‬عوارف‬ ‫‪.2‬‬

‫المعارف للسهروردي في حديثه عن اإلخالص‪ ،‬ص‪.72 :‬‬

‫‪ .3‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪166-164 :‬‬

‫السلوك والمقاصد‪ ..‬التداخل والتكامل (‪)3‬‬

‫د‪ .‬جمال بوشما‬ ‫‪‬‬

‫باحث بمركز دراس بن إسماعيل‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫إن التكامل االتصالي بين السلوك والمقاصد –كما تقدم‪ -‬يسري‬

‫سريانا في جملة من المسائل سواء الخاصة بقصد الشارع أو‬

‫المتعلقة بقصد المكلف‪ .‬فباإلضافة إلى المسائل الثالث اُألَّول‪ ،‬نجد‬

‫مسائل أخرى منها‪ :‬مسألة األسباب والمسببات‪ ،‬ومسألة المداومة‬

‫على التكليف‪ ،‬ومسألة األخذ بمراتب أهل السلوك والسير إلى الله‬

‫تعالى‪ ،‬ومسألة األصول األولى واألصول الثانية‪ .‬وهذه المسائل األربع‬

‫تلي الثالث اُألَّول‪ ،‬ولتكن مسألة األسباب والمسببات التالية وهي‪:‬‬


‫التي إذا أخل المكلف بمنهج العارفين الراسخين من حيث الدخول‬

‫فيها‪ ،‬لم تتمحض عبوديته‪ ،‬ولَّم ا يسلم من الركون إلى األغيار‪ ،‬بل إن‬

‫الشركة تخالط توحيده‪ .‬فهو مطلوب مثال أال يلتفت إلى المسبب وأن‪:‬‬

‫“يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن االلتفات إلى األسباب من حيث هي‬

‫أمور محدثة‪ ،‬فضال عن االلتفات إلى المسببات‪ ،‬بناء على أن تفريد‬

‫المعبود بالعبادة أال يشرك معه في قصده سواه‪ ،‬واعتمادا على أن‬

‫التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة؛ ألن بقاء االلتفات إلى‬

‫ذلك كله بقاء مع المحدثات وركون إلى األغيار‪ ،‬وهو تدقيق في نفي‬

‫الشركة”[‪.]1‬‬

‫وهذا مبني على االقتداء بمن تقدم من أهل السلوك وذلك “أن‬

‫العباد من هذه األمة ‪-‬ممن يعتبر مثله ههنا‪ -‬أخذوا أنفسهم بتخليص‬

‫األعمال عن شوائب الحظوظ‪ ،‬حتى عدوا ميل النفوس إلى بعض‬

‫األعمال الصالحة من جملة مكائدها وأسسوا قاعدة بنوا عليها ‪-‬في‬

‫تعارض األعمال وتقديم بعضها على بعض‪ -‬أن يقدموا ما ال حظ للنفس‬

‫فيه‪ ،‬أو ما ثقل عليها حتى ال يكون لهم عمل إال على مخالفة ميل‬

‫النفس‪ ،‬وهم الحجة فيما انتحلوا ألن إجماعهم إجماع‪ .‬وذلك دليل على‬

‫صحة اإلعراض عن المسببات في األسباب‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‬

‫إذ سأله جبريل عن اإلحسان‪“ :‬أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم‬

‫تكن تراه فإنه يراك”[‪ ،]2‬وكل تصرف للعبد تحت قانون الشرع فهو‬

‫عبادة‪ ،‬والذي يعبد الله تعالى على المراقبة يعزب عنه كل ما سواها‪.‬‬

‫وهو معنى بينه أهله كالغزالي وغيره‪]3[.‬‬

‫الخامسة‪ :‬مسألة المشاق والمداومة على التكليف‪:‬‬


‫تتنوع المشقة حسب طبيعة ونوعية المكلفين “أرباب حظوظ‬

‫وأرباب إسقاط حظوظ” واستيعاب مباحث المشقة من النظر‬

‫المقاصدي المؤسس على المسلك الصوفي يساعد على فهم العمل‬

‫الصوفي؛ إذ لما كان مقصود الشارع في األعمال هو دوام المكلف‬

‫عليها فإنه من “هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من األوراد‬

‫في األوقات‪ ،‬وأمروا بالمحافظة عليها بإطالق؛ لكنهم قاموا بأمور ال‬

‫يقوم بها غيرهم‪ ،‬فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب‪ ،‬فمن‬

‫حقه أن ال ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله‬

‫فيه‪ ،‬وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم ال؟‬

‫فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬من جهة شدة التكليف في نفسه‪ ،‬بكثرته أو ثقله في‬

‫نفسه؛‬

‫والثاني‪ :‬من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا”[‪.]4‬‬

‫السادسة‪ :‬األخذ بمراتب أهل السلوك والسير إلى الله‪.‬‬

‫ألن‬

‫أرباب الحظوظ وأرباب إسقاط الحظوظ ليسوا على مرتبة واحدة‪،‬‬


‫كما أن أرباب إسقاط الحظوظ وهم أصحاب األحوال ليسوا على‬

‫وزان واحد‪.‬‬

‫فأرباب الحظوظ حالهم “حال من يعمل بحكم عهد اإلسالم‬

‫وعقد اإليمان من غير زائد‪ .‬والثاني‪ :‬حالهم حال من يعمل بحكم غلبة‬

‫الخوف أو الرجاء أو المحبة‪ ،‬فالخوف سوط سائق‪ ،‬والرجاء حاد قائد‪،‬‬

‫والمحبة تيار حامل”[‪.]5‬‬

‫وقد احتفت المؤلفات الصوفية بذكر أرباب األحوال وأصناف‬

‫السالكين ومراتبهم‪.‬‬

‫السابعة‪ :‬مسألة األصول األولى واألصول الثانية‪.‬‬

‫وتبيان الصلة بين السلوك والمقاصد في هذه المسألة يقتضي‬

‫تبين مفهوم األصول األولى واألصول الثانية‪ .‬فمن المعلوم أن‬

‫“المشروعات المكية وهي األولية كانت في غالب األحوال مطلقة غير‬

‫مقيدة‪ ،‬وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول‪،‬‬

‫وعلى ما تحكمه قضايا مكارم األخالق من التلبس من كل ما هو‬

‫معروف في محاسن العادات‪ ،‬والتباعد عن كل ما هو منكر في‬

‫محاسن العادات فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من‬

‫حدود الصلوات وما أشبهها‪ ،‬فكان أكثر ذلك موكوال إلى أنظار‬

‫المكلفين في تلك العادات‪ ،‬ومصروفا إلى اجتهادهم‪ ،‬ليأخذ كل بما الق‬

‫به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات‪ ،‬وما استطاع من تلك‬

‫المكارم في التوجه بها للواحد المعبود‪ ،‬من إقامة الصلوات فرضها‬

‫ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة‪ ،‬وإنفاق األموال في إعانة‬

‫المحتاجين‪ ،‬ومؤاساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في‬


‫الشريعة‪ ،‬وصلة األرحام قربت أو بعدت‪ ،‬على حسب ما تحسنه‬

‫العقول السليمة في ذلك الترتيب‪ ،‬ومراعاة حقوق الجوار وحقوق‬

‫الملة الجامعة بين األقارب واألجانب‪ ،‬وإصالح ذات البين بالنسبة إلى‬

‫جميع الخلق‪ ،‬والدفع بالتي هي أحسن وما أشبه ذلك من المشروعات‬

‫المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد وكذلك األمر فيما نهي عنه‬

‫من المنكرات والفواحش‪ ،‬على مراتبها في القبح؛ فإنهم كانوا مثابرين‬

‫على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن‪.‬‬

‫فكان المسلمون في تلك األحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم‪،‬‬

‫وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم‪ ،‬وهكذا بعد ما هاجر رسول‬

‫الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‪ ،‬وبعد وفاته وفي زمان‬

‫التابعين‪.‬‬

‫إال أن خطة اإلسالم لما اتسعت‪ ،‬ودخل الناس في دين الله أفواجا‬

‫ربما وقعت بينهم مساحات في المعامالت‪ ،‬ومطالبات بأقصى ما يحق‬

‫لهم في مقطع الحق‪ ،‬أو عرضت لهم خصوصيات ضرورات تقتضي‬

‫أحكاما خاصة‪ ،‬أو بدت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات‬

‫وارتكاب الممنوعات‪ ،‬فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك‬

‫العوارض الطارئة‪ ،‬ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات‪ ،‬وتقييدات‬

‫تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات‪ ،‬والمحرمات والمكروهات‪ ،‬إذ‬

‫كان أكثرها جزئيات ال تستقل بإدراكها العقول السليمة‪ ،‬فضال عن‬

‫غيرها‪ ،‬كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات‪ ،‬والسيما‬

‫حين دخل في اإلسالم من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو‬

‫غيره‪ ،‬أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها‬


‫فريقه ومال إليها طبعه‪ ،‬وهي في نفسها على غير ذلك‪ ،‬وكذلك األمور‬

‫التي كان لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها وقد شابها‬

‫مفاسد مثلها أو أكثر هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين‬

‫قووا على عدوهم وطلبوا بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية‪ ،‬وإلى‬

‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل‬

‫ما احتاجوا إليها بغاية البيان‪ :‬تارة بالقرآن‪ ،‬وتارة بالسنة فتفصلت تلك‬

‫المجمالت المكية‪ ،‬وتبينت تلك المحتمالت وقيدت تلك المطلقات‬

‫وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم‬

‫قانونا مطردا‪ ،‬وأصال مستنا إلى أن يرث األرض ومن عليها‪ ،‬وليكون‬

‫ذلك تماما لتلك الكليات المقدمة‪ ،‬وبناء على تلك األصول المحكمة‬

‫فضال من الله ونعمة‪ ،‬فاألصول األول باقية لم تتبدل ولم تنسخ؛ ألنها‬

‫في عامة األمر كليات ضروريات وما لحق بها‪ ،‬وإنما وقع النسخ أو‬

‫البيان على وجوهه عند األمور المتنازع فيها من الجزئيات ال الكليات” [‬

‫‪.]6‬‬

‫يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى‬

‫——————————————–‬

‫‪ .1‬الموافقات ج ‪ ،1‬ص‪ .164 :‬يقول السهروردي‪“ :‬اختلفت‬

‫أحوال الصوفي في الوقوف مع األسباب واإلعراض عن األسباب‬

‫فمنهم من كان على الفتوح ال يركن إلى معلوم وال يتسبب بكسب وال‬

‫سؤال ومنهم من كان يكتسب ومنهم من كان يسأل في وقت فاقته”‬

‫عوارف المعارف‪ ،‬ص‪.147 :‬‬


‫‪ .2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب سؤال جبريل النبي صلى‬

‫الله عليه وسلم‪ .‬رقم‪.48 :‬‬

‫‪ .3‬الموافقات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪ .156-155 :‬انظر عوارف المعارف‪ ،‬ص‪:‬‬

‫‪.475‬‬

‫‪ .4‬نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص‪.207 :‬‬

‫‪ .5‬نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص‪ .121-120‬انظر عوارف المعارف‪ ،‬ص‪.469 :‬‬

‫‪ .6‬نفسه ج ‪ ،4‬ص‪.194 :‬‬

‫‪ )4‬السلوك والمقاصد‪ ..‬التداخل والتكامل (‬

‫د‪ .‬جمال بوشما‬ ‫‪‬‬

‫باحث بمركز دراس بن إسماعيل‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫إن األصول األولى أصول مكية ال توسع في الحظوظ فيها‪ ،‬بل هي‬

‫مبنية على األخذ بمكارم األخالق فعال وتركا‪ ،‬إقداما وإحجاما‪ ،‬أما‬

‫األصول الثانية فمبنية على األخذ بالحظوظ الخاصة والعمل بمقتضى‬

‫الطوارئ العارضة‪.‬‬
‫وفي هذين القسمين يقول الشاطبي‪“ :‬وإذا نظرت إلى أوصاف‬

‫رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين‬

‫القسمين‪ ،‬وبون ما بين المنزلتين‪ ،‬وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة‬

‫واتصافهم بمقتضى تلك األصول‪ ،‬وعلى هذا القمم عول من شهر من‬

‫أهل التصوف‪ ،‬وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم من االتصاف‬

‫بأوصاف الرسول وأصحابه‪ ،‬وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا‬

‫فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في‬

‫المعامالت والمناكحات‪ ،‬فأجروها باألصول األولى على حسب ما‬

‫استطاعوا‪ ،‬وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك‪ ،‬فعاملوا‬

‫ربهم في الجميع وال يقدر على ذلك إال الموفق الفذ‪ ،‬وهو كان شأن‬

‫معامالت الصحابة كما نص عليه أصحاب السير‪ .‬ولم تزل األصول‬

‫يندرس العمل بمقتضاها لكثرة االشتغال بالدنيا والتفريع فيها‪ ،‬حتى‬

‫صارت كالنسي المنسي‪ ،‬وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي‬

‫عن أهله”[‪.]1‬‬

‫فاألخذ باألصل األول جار على طلب الكمال‪ ،‬ومطلق االقتداء‬

‫بالنبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬والسير على منهج الصحابة‪ ،‬ومسلك‬

‫السلف المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين‪ .‬من حيث السير الروحي‬

‫واألخذ بأسبابه الظاهرة الخادمة والموصلة لمعرفة الله ونيل رضاه‬

‫سبحانه‪ .‬أما األخذ باألصل الثاني فهو جار على األخذ بالحظوظ‪ ،‬وهو‬

‫ألرباب الحظوظ وهو قاصر عن األصل األول في االستلذاذ‪ ،‬والتنعم‬

‫بالثمرات الحاصلة باألصل األول‪ .‬لكن “من أخذ باألصل األول واستقام‬

‫فيه كما استقاموا فطوبى له‪ ،‬ومن أخذ باألصل الثاني فبها ونعمت‪،‬‬

‫وعلى األول جرى الصوفية األول‪ ،‬وعلى الثاني جرى من عداهم ممن‬
‫لم يلتزم ما التزموه‪ ،‬ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما‬

‫امتازوا به من نحلتهم المعروفة؛ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم‬

‫أنهم التزموا أمورا ال توجد عند العامة‪ ،‬وال هي مما يلزمهم شرعا‪،‬‬

‫فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم‪ ،‬وتكلفوا ما لم يكلفوا‪ ،‬ودخلوا‬

‫على غير مدخل أهل الشريعة‪ ،‬وحاشا لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد‬

‫بنوا نحلهم على اتباع السنة‪ ،‬وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من‬

‫الخليقة‪ ،‬لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول اإلسالم‪،‬‬

‫ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ‪ ،‬وتنزيل أعمالهم عليه‪ ،‬تبين‬

‫لك أن تلك الطريق سلك هؤالء‪ ،‬وباتباعها عنوا على وجه ال يضاد‬

‫المدني المفسر”[‪.]2‬‬

‫ومن هنا فاألصول األولى واألصول الثانية ليست على وزان واحد‪،‬‬

‫كما أن ثمراتها ليست على وزان واحد‪ ،‬ومن الضروري أن تكون‬

‫األصول الثانية تابعة لألصول األولى من حيث الوسائل والمقاصد على‬

‫المستوى الكلي‪ ،‬لما كانت مقاصد األصول األولى أعظم وأكمل؛ ألنها‬

‫جارية على االقتداء التام والكامل بالنبي صلى الله عليه وسلم‪ .‬وهذا‬

‫يبين حاجة وافتقار النظر المقاصدي إلى التصوف من حيث إن بناءه‬

‫على األصول األولى ال الثانية‪ .‬كما ينبني على التمييز بين األصلين‬

‫مسألة دقيقة وهي‪:‬‬

‫الثامنة‪ :‬التمييز بين الفتوى الصوفية والفتوى الفقهية‬


‫التقرير‬ ‫على‬ ‫بناء‬

‫المتقدم في مسألة األصل األول واألصل الثاني؛ فإن الفتيا ألرباب‬

‫األحوال‪“ :‬اختصت بشيوخ الصوفية؛ ألنهم المباشرون ألرباب هذه‬

‫األحوال‪ ،‬وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا‬

‫لحظه من حيث أثبته الشارع‪ ،‬فال بد أن يفتيه بمقتضاه‪ ،‬وحدود‬

‫الحظوظ معلومة في فن الفقه‪ ،‬فلو فرضنا جاء سائال وحاله ما تقدم‬

‫لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه”[‪.]3‬‬

‫فالصوفي يفتي أرباب األحوال أي المريدين‪ ،‬أما الفقيه فيفتي‬

‫أرباب الحظوظ‪ ،‬ومن ليس بأرباب األحوال‪ .‬وينجر بنا الحديث عن‬

‫مسألة متعلقة كذلك باألصل األول وهي‪:‬‬

‫التاسعة‪ :‬مسألة الواجب والحرام عند الصوفية‬


‫يرى الصوفية أن الحكم تابع لمجرد االقتضاء‪ ،‬إما اقتضاء الفعل‬

‫وإما اقتضاء الترك‪ .‬فال يوجد فرق في مقتضى الطلب بين واجب‬

‫ومندوب‪ ،‬وال بين مكروه ومحرم “وهذا االعتبار جرى عليه أرباب‬

‫األحوال من الصوفية‪ ،‬ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا‬

‫جملة‪ ،‬وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق اآلخرة‪ ،‬إذ لم يفرقوا‬

‫بين واجب ومندوب في العمل بهما‪ ،‬وال بين مكروه ومحرم في ترك‬

‫العمل بهما‪ ،‬بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على‬

‫السالك‪ ،‬وعلى المكروه أنه محرم”[‪.]4‬‬

‫ولكن الصوفية ال يخالفون جمهور العلماء في تقسيماتهم بل إن‬

‫نظرهم “راجع إلى مجرد اصطالح‪ ،‬ال إلى معنى يختلف فيه؛ إذ ال ينكر‬

‫أصحاب هذا النظر انقسام األوامر والنواهي ‪-‬كما يقول الجمهور‪-‬‬

‫بحسب التصور النظري‪ ،‬وإنما أخذوا في نمط آخر وهو أنه ال يليق‬

‫بمن يقال له‪َ“ :‬و َم ا َخ َلْق ُت اْلِج َّن َو اِالْنَس ِإاَّل ِلَيْعُبُدوِن ” [الذاريات‪،‬‬

‫‪ .]56‬أن يقوم بغير التعبد وبدل المجهود‪ ،‬في التوجه إلى الواحد‬

‫المعبود‪ ،‬وإنما النظر في مراتب األوامر والنواهي يشبه الميل إلى‬

‫مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه‪ ،‬وهذا غير الئق بمن ال يملك‬

‫لنفسه شيئا ال في الدنيا وال في اآلخرة؛ إذ ليس للعبد حق على السيد‬

‫من حيث هو عبد‪ ،‬بل عليه بدل المجهود‪ ،‬والرب يفعل ما يريد”[‪.]5‬‬

‫العاشرة‪ :‬مسألة الحكمة وصلتها المقاصدية‬

‫يتبين أن الحكمة تمثل لب الشريعة وأساسها من حيث إنها نور‬

‫يستنير به العالم ممن توفرت فيه شروط استمدادها لفهم الشريعة‬

‫بغاياتها ومقاصدها‪ .‬يقول اإلمام مالك‪“ :‬إن الحكمة مسحة ملك على‬

‫قلب العبد‪ .‬وقال‪ :‬الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد‪ .‬وقال أيضا‪:‬‬
‫يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله‪ ،‬وأمر يدخله الله القلوب من‬

‫رحمته وفضله‪ ،‬وقد كره مالك كتابة العلم ‪-‬يريد ما كان نحو الفتاوي‪-‬‬

‫فسئل‪ :‬ما الذي نصنع؟ فقال‪ :‬تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم‬

‫ثم ال تحتاجون إلى الكتاب”[‪.]6‬‬

‫تلك عشرة كاملة من المسائل الكلية والمعالم اإلجمالية المبينة‬

‫للتداخل والتكامل الحاصل بين التصوف ومقاصد الشريعة‪ ،‬ويندرج‬

‫تحت كل مسألة من المسائل الكلية المتقدمة العديد من الجزئيات‬

‫الناظمة لكلي المسألة‪.‬‬

‫وعلى الجملة فقد تلخص مما تقدم أمور‪:‬‬

‫األولى‪ :‬تبين أن مقامات الدين اإلسالمي من إسالم وإيمان‬

‫وإحسان تجمعها الصلة التكاملية‪ ،‬ومتداخلة تداخال متشابكا بحيث ال‬

‫انفكاك فيه‪ ،‬ويجمعها مسمى الدين اإلسالمي‪ .‬ففي حديث جبريل‬

‫المشهور قوله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله‬

‫عليهم‪“ :‬هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم”؛‬

‫الثانية‪ :‬وهي متصلة باألولى مفادها أن السالك والسائر إلى الله‬

‫سبحانه وتعالى مطالب بتلك المقامات الثالثة كلها‪ ،‬ليصح سيره‬

‫ويستكمل تدينه‪ ،‬بحيث ال يقف عند مقام دون مقام‪ ،‬وال تصده فهوم‬

‫دون استكمال تدينه‪ ،‬واالستمداد من نفحات مقام اإلحسان؛‬

‫الثالثة‪ :‬لما كان التصوف يختص بمقام اإلحسان من الدين‬

‫اإلسالمي‪ ،‬وقد ثبت أن اإلحسان هو أعلى مقامات الدين اإلسالمي؛‬

‫لذلك فإن التصوف يختص بأعلى المقامات‪ ،‬وهو الزاد الدائم‬


‫للمقاصد‪ ،‬من حيث تبيانه لجزئيات دقيقة من الكليات‪ ،‬كمقاصد‬

‫المكلف وما يعتريها من ضروب التغير والتلون‪ ،‬ومسألة اإلخالص…‬

‫الرابعة‪ :‬تبين في كثير من المسائل المتقدمة أن منزلة التصوف‬

‫من المقاصد كمنزلة الروح من الجسد‪ ،‬بناء على خاصية اإلمداد؛‬

‫الخامسة‪ :‬يتبين من خالل النظر في الدراسات المقاصدية‬

‫المعاصرة غياب االستمداد من علم التصوف قصد التجديد في علم‬

‫األصول عموما‪ ،‬فال يبدأ التجديد دون تحقق المجدد بمقامات الدين‪،‬‬

‫كما أن تجديده خصوصا في علم األصول منوط بمدى تغلغله في‬

‫التجربة السلوكية قصد استمداد الفهوم الجزئية المساعدة على‬

‫التجديد في علم األصول‪ ،‬والدليل على ذلك هو مسألة التمايز بين‬

‫األصول األولى واألصول الثانية؛‬

‫السادسة‪ :‬لما كانت العلوم في الشريعة اإلسالمية تؤخذ عن‬

‫أهلها أي عن المتحققين بها على التمام والكمال؛ فإن تحصيل علم‬

‫السلوك أو تقول مقام اإلحسان‪ ،‬البد من أخذه عن أهله المتحققين به‬

‫على التمام والكمال؛ فلكل علم رجاله‪.‬‬

‫——————————————————‬

‫‪ .1‬الموافقات‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص‪ .195 :‬انظر مفهوم التصوف حسب حد‬

‫الصوفية في عوارف المعارف‪ ،‬ص‪.57 :‬‬

‫‪ .2‬نفسه‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص‪.197 :‬‬

‫‪ .3‬نفسه‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص‪ .198 :‬انظر عوارف المعارف‪ ،‬ص‪ 163 :‬و‬

‫‪.459‬‬

‫‪ .4‬نفسه‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص‪.199 :‬‬

‫‪ .5‬نفسه‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص‪.203 :‬‬


‫‪ .6‬نفسه‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص‪ .80 :‬انظر عوارف المعارف‪ ،‬ص‪.531 :‬‬

‫التص‪nn‬وف ومقاص‪nn‬د الش‪nn‬ريعة اإلس‪n‬المية‪ ،‬قاع‪nn‬دة‪" :‬اإلخالل ب‪nn‬المكمالت‬


‫طريق إلى اإلخالل بالضروريات"‬
‫مصطفى بوزغيبة‬
‫مركز اإلمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة‬

‫هذه القاعدة جليلة الق‪nn‬در‪ ،‬عظيم‪nn‬ة النف‪nn‬ع‪ ،‬ومعناه‪nn‬ا‪ :‬أن المكل‪nn‬ف إذا تج‪nn‬رأ على اإلخالل‬
‫بالمكمالت‪ ،‬فغ‪nn‬دا أو بع‪nn‬د غ‪nn‬د س‪nn‬يتجرأ على اإلخالل بالض‪nn‬روريات‪ ،‬من ب‪nn‬اب النظ‪nn‬ر إلى‬
‫م‪nn‬آالت األفع‪nn‬ال‪ ،‬وذل‪nn‬ك أن النفس البش‪nn‬رية من طبعه‪nn‬ا الخل‪nn‬ود إلى البطال‪nn‬ة والكس‪nn‬ل‪،‬‬
‫واستصعاب كل سهل‪ ،‬والتهاون في األمور البس‪nn‬يطة‪ ،‬وبالت‪nn‬الي ت‪nn‬ركن إلى ال‪n‬رخص‪ ،‬وال‬
‫ترى فيها أي بأس‪ ،‬بل ُتزين له ترك العمل الصالح‪ ،‬واإلقدام على المكروه‪nn‬ات‪ ،‬وتت‪nn‬درج‬
‫معه حتى تسقط هيب‪nn‬ة الش‪nn‬ريعة من قلب‪nn‬ه‪ ،‬حينه‪nn‬ا ال يج‪nn‬د غضاض‪nn‬ة في ت‪nn‬رك الواجب‪nn‬ات‬
‫والفرائض واإلخالل بالضروريات‪ ،‬وارتكاب المحظورات‪ ،‬وعلى هذا المع‪nn‬نى حم‪nn‬ل بعض‬
‫العلماء قول الن‪nn‬بي ص‪nn‬لى الل‪nn‬ه علي‪nn‬ه وس‪nn‬لم‪{ :‬لعن الله السارق يسرق البيض‪bb‬ة‬
‫فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع ي‪bb‬ده}‪ ]1[،‬ألن ثمن البيض‪nn‬ة أق‪nn‬ل من نص‪nn‬اب‬
‫السرقة‪ ،‬ولكن بالنظر إلى ما سيؤول إليه عمل السارق في المستقبل من التجرؤ على‬
‫سرقة ما هو أعظم من البيضة‪.‬‬

‫من أجل ذلك جاءت هذه القاعدة لتضبط لنا سلوك المكلف من التهاون والتفري‪nn‬ط في‬
‫األحكام الشرعية مهما تكن درجتها إال في حاالت استثنائية (الضرورة‪.)...‬‬

‫وقد عمل السادة الصوفية بهذه القاعدة وخّر جوا على ضوئها مسائل هامة اس‪nn‬تند إليه‪nn‬ا‬
‫الشاطبي كثيرا في كتابه الموافقات‪ ،‬وأثنى على الصوفية بعملهم هذا‪ ،‬وفيم‪nn‬ا يلي ه‪nn‬ذه‬
‫المسائل‪:‬‬

‫اقتضاء األوامر‪ :‬الوجوب والنواهي الحرمة‪:‬‬ ‫‪-1‬‬


‫من المعلوم عن‪nn‬د علم‪nn‬اء األص‪n‬ول‪ ،‬وعن‪nn‬د الص‪nn‬وفية على الس‪nn‬واء‪ ،‬أن األوام‪nn‬ر والن‪nn‬واهي‬
‫تتفاوت من حيث اقتضاؤها أقسام الحكم الشرعي‪ :‬الوجوب والندب واإلباحة والكراهة‬
‫والحرمة‪ ،‬باعتبار جلب المصلحة ودفع المفس‪nn‬دة الناش‪nn‬ئ عن امتث‪nn‬ال األوام‪nn‬ر واجتن‪nn‬اب‬
‫النواهي‪ ،‬إال أن الص‪nn‬وفية لهم تقس‪nn‬يم آخ‪nn‬ر‪ ،‬حيث ُيبق‪nn‬ون الحكم تابع‪nn‬ا لمج‪nn‬رد االقتض‪nn‬اء‬
‫وليس لالقتضاء إال وجهان ‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬اقتضاء الفعل‪.‬‬

‫واآلخر‪ :‬اقتضاء الترك‪.‬‬

‫فال فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب وال بين مكروه ومحرم‪.‬‬

‫"وهذا االعتبار جرى عليه أرب‪nn‬اب األح‪nn‬وال من الص‪nn‬وفية ومن ح‪nn‬ذا ح‪nn‬ذوهم ممن اط‪nn‬رح‬
‫مطالب الدنيا جملة وأخذ بالحزم والع‪nn‬زم في س‪nn‬لوك طري‪nn‬ق اآلخ‪nn‬رة إذ لم يفرق‪nn‬وا بين‬
‫واجب ومندوب في العمل بهما وال بين مكروه ومحرم في ت‪nn‬رك العم‪nn‬ل بهم‪nn‬ا ب‪nn‬ل ربم‪nn‬ا‬
‫أطلق بعضهم على المندوب انه واجب على السالك وعلى المكروه ان‪nn‬ه مح‪nn‬رم وه‪nn‬ؤالء‬
‫هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص"‪]2[.‬‬

‫وقد أخذ الصوفية بهذا المسلك لعدة اعتبارات‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنهم ينظرون إلى اآلمر‪ ،‬أي الجهة التي صدر منها األم‪nn‬ر ال األم‪nn‬ر في ح‪nn‬د‬
‫ذاته‪ ،‬فهم يعملون على إرضاء حبيبهم والتودد إليه وذلك ال يك‪nn‬ون إال باالمتث‪nn‬ال لك‪nn‬ل م‪nn‬ا‬
‫يوجبه واالنتهاء عما منعه‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬ينظرون إلى معنى األمر والنهي‪ ،‬وله اعتبارات‪:‬‬

‫‪"-1‬النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها فإن امتثال األوامر واجتناب الن‪nn‬واهي من‬
‫حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك‪.‬‬

‫فطالب القرب ال فرق عنده بين ما هو واجب وبين ما ه‪n‬و من‪n‬دوب ألن الجمي‪n‬ع يقتض‪n‬يه‬
‫حسبما دلت عليه الشريعة كم‪nn‬ا ان‪nn‬ه ال ف‪nn‬رق بين المك‪nn‬روه والمح‪nn‬رم عن‪nn‬ده ألن الجمي‪nn‬ع‬
‫يقتضي نقيض القرب وهو إما البعد وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب‬
‫هو المطلوب"‪]3[.‬‬

‫لذلك نجدهم يحذرون مريديهم من الوقوف مع المقامات واألن‪nn‬وار ويط‪nn‬البونهم ب‪nn‬التحرر‬


‫منها ألنها من األغيار إلى ما هو مطلوب آال وهو الحبيب المحبوب‪.‬‬

‫‪" -2‬النظر إلى ما تضمنته األوامر والنواهي من جلب المص‪nn‬الح ودرء المفاس‪nn‬د‬
‫عند االمتثال وضد ذلك عند المخالفة‪ .‬فإذا كان التف‪nn‬اوت في م‪nn‬راتب األوام‪nn‬ر والن‪nn‬واهي‬
‫راجعا إلى مكمل خادم ومكم‪nn‬ل مخ‪nn‬دوم وم‪nn‬ا ه‪nn‬و كالص‪nn‬فة والموص‪n‬وف فم‪nn‬تى حص‪nn‬لت‬
‫المندوبات كملت الواجبات وبالضد فاألمر راجع إلى ك‪n‬ون الض‪n‬روريات آتي‪n‬ة على أكم‪n‬ل‬
‫وجوهه‪nn‬ا فك‪nn‬ان االفتق‪nn‬ار إلى المن‪nn‬دوبات كالمض‪nn‬طر إلي‪nn‬ه في أداء الواجب‪nn‬ات ف‪nn‬زاحمت‬
‫المندوبات الواجبات في هذا الوجه من االفتقار فحكم عليها بحكم واحد‪.‬‬

‫وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كان رائ‪nn‬دا له‪nn‬ا وأنس‪nn‬ا‬
‫بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة األنس بما فوقها"‪]4[.‬‬

‫‪ -2‬األخذ بالعزائم دون الركون إلى الرخص‪:‬‬


‫وهي من األصول التي بنا عليها الصوفية مذهبهم في العمل بمقاصد الشريعة‪ ،‬ألنها من‬
‫مقتضى العمل باألوامر واجتناب النواهي وترك ال‪nn‬رخص ال‪nn‬تي هي من قبي‪nn‬ل التوس‪nn‬عة‬
‫على الناس‪.‬‬

‫"ومن تم ال نراهم يأخذون بالرخصة أو المب‪n‬اح المطل‪n‬ق الس‪n‬توائهما في االش‪n‬تمال على‬


‫حظ العبد بجانب حق الخالق‪ .‬وإذا َعَّن لهم األخذ بها‪ ،‬فإنم‪nn‬ا يك‪nn‬ون ذل‪nn‬ك من حيث ورود‬
‫اإلذن الشرعي المجرد‪ ،‬معتبرين فيها حق الله أوال‪ ،‬حتى إذا تحقق لهم حظ النفس من‬
‫خاللهما كان بطريق التبعية ال باألصالة"‪]5[.‬‬

‫فالصوفية يتحملون المشاق في سبيل إرضاء حبيبهم وإبقاء حب‪nn‬ل الوص‪nn‬ال مع‪nn‬ه‪ ،‬وذل‪nn‬ك‬
‫لن يتأتى إال بمحاربة الكسل والخمول والبطالة وكذا مخالفة الهوى والنفس‪.‬‬

‫من أجل ذلك مدح الشاطبي طريقتهم واعتبرها مسلكا سليما ألن العمل بالرخص في‪nn‬ه‬
‫إتباع للشهوات النفس وأهوائه‪nn‬ا كم‪nn‬ا ال ي‪nn‬ؤمن في‪nn‬ه من الس‪nn‬قوط في حبائ‪nn‬ل الش‪nn‬يطان‬
‫ومكره "وألجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تالمذتهم بترك إتب‪nn‬اع ال‪nn‬رخص جمل‪nn‬ة وجعل‪nn‬وا‬
‫من أص‪nn‬ولهم األخ‪nn‬ذ بع‪nn‬زائم العلم وه‪nn‬و أص‪nn‬ل ص‪nn‬حيح مليح مم‪nn‬ا أظه‪nn‬روا من فوائ‪nn‬دهم‬
‫رحمهم الله"‪]6[.‬‬

‫ولذلك قالوا‪" :‬إذا انحط الفقير عن درج الحقيقة إلى رخص الشريعة فق‪nn‬د فس‪nn‬خ عه‪nn‬ده‬
‫مع الله تعالى ونقضه"‪]7[.‬‬

‫وبه‪nn‬ذا يتم‪nn‬يز نظ‪nn‬ر الص‪nn‬وفية عن نظ‪nn‬ر الفقه‪nn‬اء فهم ينظ‪nn‬رون إلى م‪nn‬آالت األفع‪nn‬ال من‬
‫تحصيل الكمال والتقرب إلى موالهم بأحسن الهيئ‪nn‬ة وأتم ص‪nn‬ورة‪ ،‬يق‪nn‬ول الش‪nn‬يخ زروق‪:‬‬
‫"نظر الصوفي للمعامالت أخص من نظر الفقيه‪ ،‬إذ الفقيه يعتبر ما يسقط ب‪nn‬ه الح‪nn‬رج‪،‬‬
‫والصوفي ينظر ما يحصل به الكمال"‪]8[.‬‬

‫إن هذا المنهج الذي سلكه الص‪nn‬وفية جعلهم ال يخرج‪nn‬ون عن الوس‪n‬طية واالعت‪nn‬دال ال‪n‬تي‬
‫هي من خصائص هذه األمة‪ ،‬بل هم واقفون عند حدود الشرع في حركاتهم وسكناتهم‪،‬‬
‫ويحاسبون أنفسهم على النقير والقطمير أكثر من غيرهم ممن لم ينتظم في سلوكهم‪،‬‬
‫ويدافع الش‪n‬اطبي عن أح‪n‬والهم هت‪n‬ه بقول‪n‬ه‪" :‬فيظن الظ‪n‬ان أنهم ش‪n‬ددوا على أنفس‪n‬هم‬
‫وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعل‪nn‬وا‬
‫ذلك وقد بنوا نحلتهم على إتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليق‪nn‬ة"‪.‬‬
‫[‪]9‬‬

‫وحجتهم في ذلك أن الرخصة تختلف من شخص إلى آخر وكذلك فإنه‪nn‬ا تت‪nn‬أثر ب‪nn‬األحوال‬
‫وكذا الزمان‪ ،‬والمكلف فقيه نفسه في األخذ بها أو تركها‪.‬‬

‫والصوفية بسلوكهم طريق المجاهدات والمكابدات والتضحية بالغالي والنفيس في ذات‬


‫الحبيب صار الصعب الشاق سهال‪ ،‬بل يتلذذون به ويجدون فيه حالوة ال تض‪nn‬اهيها حالوة‪،‬‬
‫وعلى هذا يتخرج قولهم "سقطت عنا التكاليف" أي ُكلفة ومشقة أداء العبادة ال العبادة‬
‫نفسها كما يتوهم البعض‪ ،‬يقول اإلمام الشاطبي متح‪nn‬دثا عن أح‪nn‬والهم‪" :‬ف‪ِn‬إلُف الش‪nn‬يء‬
‫واالعتياد عليه يحول الصعب الشديد إلى الميس‪nn‬ور المحتَم ل ودلي‪nn‬ل ذل‪nn‬ك م‪nn‬ا يأخ‪nn‬ذ ب‪nn‬ه‬
‫أرباب األحوال أنفسهم من رياضات ومعالجات تصير الشاق وغير المعت‪nn‬اد عن‪nn‬د غ‪nn‬يرهم‬
‫إلى مألوف ومعتاد عندهم وهم ليسوا ب‪n‬دعا في ذل‪n‬ك ب‪n‬ل لهم أص‪n‬ل يس‪n‬تندون إلي‪n‬ه آال‬
‫ت‪nn‬رى إلى قول‪nn‬ه تع‪nn‬الى‪{ :‬واستعينوا بالص‪bb‬بر والص‪bb‬الة وإنها لكبيرة إال على‬
‫الخاشعين}‪ ]10[،‬حيث بين الله ع‪n‬ز وج‪n‬ل أن الص‪n‬الة كب‪n‬يرة على المكل‪n‬ف واس‪n‬تثنى‬
‫الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وس‪nn‬لم فه‪nn‬و ال‪nn‬ذي ك‪nn‬انت ق‪nn‬رة‬
‫عينه الصالة حتى كان يستريح إليه‪nn‬ا من تعب ال‪nn‬دنيا ويق‪nn‬ول‪{ :‬أرحنا بها ي‪bb‬ا بالل}[‬
‫‪ ]11‬وقام بها حتى تورمت قدماه‪.‬‬

‫فإذا كان كذلك فمن خص بورثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية"‪]12[.‬‬

‫والسبب الثاني الذي يجعل الشاق سهال والصعب ميس‪nn‬ورا ه‪nn‬و‪ :‬الوص‪nn‬ال من محب‪nn‬وبهم‪،‬‬
‫والطمع في رضاه والخوف من الُبعد‪ ،‬ولسان حالهم يقول‪:‬‬

‫و كل ما فوق التراب تراب‬ ‫إذا صح منك الود فالكل هين‬

‫وليتك تصفـــو واألنام غضاب‬ ‫مريـرة‬ ‫ليتك تحلــو و الحياة‬

‫ويبين الشاطبي هذا السبب بقوله‪" :‬فإننا ندرك ونشاهد أنه قد يك‪nn‬ون للعام‪nn‬ل المكل‪nn‬ف‬
‫حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس وحسبنا من ذلك أخبار‬
‫المحبين الذين صابروا الشدائد وحمل‪nn‬وا أعب‪nn‬اء المش‪nn‬قات من تلق‪nn‬اء أنفس‪nn‬هم من إتالف‬
‫مهجهم إلى م‪nn‬ا دون ذل‪nn‬ك وط‪nn‬الت عليهم اآلم‪nn‬اد وهم على أول أعم‪nn‬الهم حرص‪nn‬ا عليه‪nn‬ا‬
‫واغتناما لها طمعا في رضا المحبوبين واعترفوا بأن الشدائد والمشاق سهلة عليهم ب‪nn‬ل‬
‫لذة لهم ونعيم وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم اليم‪.‬‬

‫وعلى هذا األصل يتخرج كثير من األعمال الثقال التي وردت عن كبار الصوفية بل وعن‬
‫كبار الصالحين من الصحابة والتابعين"‪]13[.‬‬

‫وما تميز به الصوفية عن غيرهم كذلك‪ ،‬أخذهم بالعزائم المكية التي في غالبها مطلق‪nn‬ة‬
‫غير مقيدة "وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول فعملوا بمك‪nn‬ارم‬
‫األخالق على وجه اإلطالق دون التعبدات التي شأنها التوقف عند المنصوص عليه أم‪nn‬ا‬
‫غير ذلك مما كان موكوال إلى أنظار المكلفين ومصروفا إلى اجتهاداتهم فقد أخذوا فيه‬
‫بعزائم المكيات دون ترخص المدنيات وأخ‪nn‬ذ ك‪nn‬ل منهم بم‪nn‬ا الق ب‪nn‬ه وم‪nn‬ا ق‪nn‬در علي‪nn‬ه من‬
‫المحاسن الكليات "‪]14[.‬‬

‫ومثال ما أخذ فيه الصوفية بالعزائم المكية‪ ،‬قصة اإلمام الشبلي لما سأله أحدهم‪" :‬كم‬
‫في خمس من اإلبل؟‪ ،‬قال‪ :‬شاة في الواجب‪ ،‬فأما عندنا فكلها لله"‪]15[.‬‬

‫يقول اإلمام الشاطبي معلقا على هذه القصة‪" :‬وما أش‪nn‬به ذل‪nn‬ك علمت أن ه‪nn‬ذا يس‪nn‬تمد‬
‫مما تقدم فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه‬
‫الواجب من غيره بل وكل إلى اجتهاد المنفق وال ش‪nn‬ك أن من‪nn‬ه م‪nn‬ا ه‪nn‬و واجب ومن‪nn‬ه م‪nn‬ا‬
‫ليس بواجب واالحتي‪n‬اط في مث‪n‬ل ه‪n‬ذه المبالغ‪n‬ة في اإلنف‪n‬اق في س‪n‬د الخالت وض‪n‬روب‬
‫الحاجات إلى غاية تسكن نفس المنفق فأخذ هذا المسئول في خاصة نفس‪nn‬ه بم‪nn‬ا أف‪nn‬تى‬
‫به وإلتزمه مذهبا في تعبده وفاء بحق الخدمة وشكر النعم‪nn‬ة وإس‪nn‬قاط لحظ‪nn‬وظ نفس‪nn‬ه‬
‫وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع"‪]16[.‬‬

‫والناظر إلى أحوال النبي صلى الله عليه وس‪n‬لم وص‪n‬حابته من بع‪n‬ده ي‪n‬رى أنهم اتص‪n‬فوا‬
‫بالعزائم المكية لم‪nn‬ا فيه‪nn‬ا من القي‪nn‬ام بحق‪n‬وق العبودي‪nn‬ة واألخ‪nn‬ذ باالحتي‪nn‬اط في العب‪nn‬ادات‬
‫والمعامالت وفي هذا يق‪nn‬ول اإلم‪nn‬ام الش‪nn‬اطبي‪" :‬وإذا نظ‪nn‬رت إلى أوص‪nn‬اف رس‪nn‬ول الل‪nn‬ه‬
‫صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القس‪nn‬مين وب‪nn‬ون م‪nn‬ا بين المنزل‪nn‬تين‬
‫وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك األصول‪.‬‬

‫وعلى هذا القسم األول عول من شهر من أهل التصوف وبذلك سادوا غ‪nn‬يرهم ممن لم‬
‫يبلغ مبالغهم في االتصاف بأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه"‪]17[.‬‬

‫لذلك استدل الشبلي رحمه الله على ما ذهب إليه بعمل أبي بكر رضي الله عنه فقال‪:‬‬
‫"من خرج عن ماله كله‪ ،‬فإمامه أب‪nn‬و بك‪nn‬ر‪ ،‬ومن خ‪nn‬رج عن بعض‪nn‬ه وت‪nn‬رك بعض‪nn‬ه فإمام‪nn‬ه‬
‫عمر‪ ،‬ومن أخذ لله‪ ،‬وأعطى لله‪ ،‬وجمع لله‪ ،‬ومنع لله‪ ،‬فإمامه عثمان‪ ،‬ومن ت‪nn‬رك ال‪nn‬دنيا‬
‫ألهلها فإمامه علي‪ .‬وكل علم ال يؤدي إلى ترك الدنيا‪ ،‬فليس بعلم"‪]18[.‬‬

‫من خالل م‪nn‬ا س‪nn‬بق يت‪nn‬بين أن الص‪nn‬وفية ق‪nn‬دموا نظ‪nn‬رات جدي‪nn‬دة وفوائ‪nn‬د نافع‪nn‬ة لعلم‪nn‬اء‬
‫المقاصد‪ ،‬خاصة اإلمام الشاطبي ال‪nn‬ذي ب‪nn‬نى ص‪nn‬رح علم المقاص‪nn‬د باالعتم‪nn‬اد عليهم في‬
‫بعض مباحث‪nn‬ه‪ ،‬م‪nn‬ع العلم أن الب‪nn‬وادر األولى لنش‪nn‬وء علم المقاص‪nn‬د ب‪nn‬دأت م‪nn‬ع الحكيم‬
‫الترمذي الصوفي المشهور‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫[‪ -]1‬ص‪nn‬حيح البخ‪nn‬اري‪ ،‬كت‪nn‬اب الح‪nn‬دود‪ ،‬ب‪nn‬اب اعن الس‪nn‬ارق إذا لم ُيس ‪ّn‬م ‪ ،‬دار الح‪nn‬ديث‪،‬‬
‫القاهرة‪2004 ،‬م‪ ،4/280 ،‬ح‪.6783‬‬

‫[‪ - ]2‬الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪،‬كتاب األحكام‪ ،‬المحق‪n‬ق‪ :‬عب‪n‬د الل‪n‬ه دراز ومحم‪n‬د عب‪n‬د الل‪n‬ه‬
‫وعبد السالم محمد‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.3/239 ،2005 ،7‬‬

‫[‪ - ]3‬الثابت والمتغير في فكر اإلم‪nn‬ام أبي إس‪nn‬حاق الش‪nn‬اطبي‪ ،‬دار البح‪nn‬وث للدراس‪nn‬ات‬
‫اإلسالمية وإحياء التراث‪ ،‬دبي‪ ،‬ط‪2002 ،2‬م‪ ،‬ص‪.456‬‬

‫[‪ - ]4‬الموافقات‪.343 - 340/3 ،‬‬

‫[‪ - ]5‬الثابت والمتغير في فكر اإلمام أبي إسحاق الشاطبي‪ ،‬ص‪.464‬‬

‫[‪ -]6‬الموافقات‪ 338/1،‬و ‪.130/2‬‬

‫[‪ -]7‬األن‪nn‬وار القدس‪nn‬ية في معرف‪nn‬ة قواع‪nn‬د الص‪nn‬وفية‪ ،‬عب‪nn‬د الوه‪nn‬اب الش‪nn‬عراوي‪ ،‬تحقي‪nn‬ق‬
‫وتقديم‪ :‬طه عبد الباقي سرور والسيد محمد عيد الشافعي‪ ،‬مكتب‪nn‬ة المع‪nn‬ارف‪ ،‬ب‪nn‬يروت‪،‬‬
‫ط‪2003 ،1‬م‪.48/1 ،‬‬

‫[‪ -]8‬قواعد التص‪nn‬وف‪ ،‬للش‪nn‬يخ زروق‪ ،‬تق‪nn‬ديم وتحقي‪nn‬ق‪ :‬عب‪nn‬د المجي‪nn‬د خي‪nn‬الي‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪2007 ،3‬م‪( ،‬ق‪ ،)55‬ص‪.43‬‬

‫[‪ -]9‬الموافقات‪.639/4 ،‬‬

‫[‪ -]10‬البقرة‪ ،‬اآلية‪.45:‬‬

‫[‪ - ]11‬ش‪nn‬رح س‪nn‬نن أبي داود للعالم‪nn‬ة آب‪nn‬ادي‪ ،‬دار الح‪nn‬ديث‪ ،‬الق‪nn‬اهرة‪ ،‬طبع‪nn‬ة ‪2001‬م‪،‬‬
‫‪.309/8‬‬

‫[‪ -]12‬الموافقات‪.135/2 ،‬‬

‫[‪ -]13‬الموافقات‪.315/1 ،‬‬

‫[‪ -]14‬الثابت والمتغير في فكر اإلمام أبي إسحاق الشاطبي‪ ،‬ص‪.470‬‬

‫[‪ -]15‬قواعد التصوف‪( ،‬ق‪.28 ،)33‬‬

‫[‪ -]16‬الموافقات‪.240/4 ،‬‬

‫[‪ -]17‬الموافقات‪.238/4 ،‬‬

‫[‪ -]18‬قواعد التصوف‪( ،‬ق‪.29 ،)33‬‬

‫بين (مقاصد الشريعة) و(مقاصد النفوس)!‬


‫فهد بن صالح العجالن‬
‫مق‪nnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnn‬االت متعلق‪nnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnnn‬ة‬

‫ت‪nnnnnnnnnnnnn‬اريخ اإلض‪nnnnnnnnnnnnn‬افة‪ 20/9/2010 :‬ميالدي ‪ 11/10/1431 -‬هج‪nnnnnnnnnnnnn‬ري‬


‫زيارة‪10166 :‬‬

‫(نحن بحاج‪nn‬ة إلى إع‪nn‬ادة النظ‪nn‬ر في ه‪nn‬ذا الحكم حس‪nn‬ب المقاص‪nn‬د‬


‫الشرعية) و (ال بد من مراعاة المقاصد الش‪nn‬رعية عن‪nn‬دما نتح‪nn‬دث‬
‫عن هذه القضية)‪.‬‬
‫وعب‪nn‬ارات أخ‪nn‬رى مختلف‪nn‬ة‪ ،‬ستس‪nn‬معها – وال ب‪nn‬د – عن‪nn‬د أي رؤي‪nn‬ة‬
‫منحرفة تتعامل مع النصوص واألحكام الشرعية؛ فعامة االنح‪nn‬راف‬
‫المعاصر حين يتعامل م‪nn‬ع النص‪nn‬وص واألحك‪nn‬ام الش‪nn‬رعية الجزئي‪nn‬ة‬
‫فإن‪n‬ه ال ب‪n‬د ‪ -‬في س‪nn‬ياق تج‪nn‬اوزه ألي حكم وإنك‪nn‬اره ل‪n‬ه ‪ -‬أن يرف‪nn‬ع‬
‫الفت‪nn‬ة (المقاص‪nn‬د الش‪nn‬رعية) كتص‪nn‬ريح ش‪nn‬رعي للمارس‪nn‬ات غ‪nn‬ير‬
‫الشرعية‪.‬‬

‫المقاصد الشرعية التي كتب فيها فقهاء اإلسالم بدءًا من الجويني‬


‫والغزالي والعز بن عبد السالم والقرافي وشيخ اإلسالم ابن تيمية‬
‫والشاطبي تختلف اختالفًا تامًا عن هذه المقاصد التي ُيِش يع كث‪nn‬ير‬
‫من الناس الحديث فيها؛ فالمقاصد عند فقهاء اإلسالم قواعد كلية‬
‫مستخَر جة من استقراء كلي لكاف‪nn‬ة النص‪n‬وص واألحك‪nn‬ام الجزئي‪nn‬ة‪،‬‬
‫وال يصح أن ُيرَّد بها أُّي حكم أو نص جزئي‪ ،‬بخالف ه‪nn‬ذه المقاص‪nn‬د‬
‫ال‪nn‬تي ت‪nn‬تِرجم المقاص‪َnn‬د ال‪nn‬تي تري‪nn‬دها (نفوس‪nn‬هم) وتمي‪nn‬ل إليه‪nn‬ا‬
‫(اختياراتهم) ويسعون من خاللها لرد جملة من النصوص واألحكام‬
‫غير المرغوب فيها‪.‬‬

‫من أهم قواعد المقاصد الشرعية‪ :‬أن ال ُيرَّد به‪nn‬ا أي حكم ج‪nn‬زئي‪،‬‬
‫فإذا ثبت نص ش‪nn‬رعي أو حكم فقهي فال يج‪nn‬وز أن ُينَقض وُيتج‪nn‬اَوز‬
‫بدعوى أنه مخالف لقاعدة مقاصدية؛ فهذا باطل ال عالقة ل‪n‬ه بعلم‬
‫المقاصد (فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بح‪n‬ق‬
‫في نفسه)[‪.]1‬‬

‫وإذا كانت المقاصد الشرعية تقوم على ضرورة اعتبار (الكلي‪nn‬ات)‬


‫فإنها تقوم على اعتبار الجزئيات كذلك (كما أن من أخذ ب‪nn‬الجزئي‬
‫ُمعِرَضًا عن كلِّيه فهو مخطئ‪ ،‬كذلك من أخ‪n‬ذ ب‪n‬الكلي ُمعِرَض ًا عن‬
‫جزئِّيه)[‪.]2‬‬

‫فالمقاصد الشرعية تعتمد على تفاص‪nn‬يل األحك‪nn‬ام الجزئي‪nn‬ة‪ ،‬تق‪nn‬وم‬


‫عليها‪ ،‬وال تنكرها‪ ،‬بل حتى ولو ُوِج د تعارض بين قاع‪nn‬دة مقاص‪nn‬دية‬
‫وحكم جزئي تفص‪nn‬يلي ف‪nn‬إن المنهج الص‪nn‬حيح في ذل‪nn‬ك ليس إنك‪nn‬ار‬
‫الج‪nn‬زئي ب‪nn‬ل (إذا ثبت باالس‪nn‬تقراء قاع‪nn‬دة كلي‪nn‬ة ثم أتى النص على‬
‫جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فال بد من الجم‪nn‬ع‬
‫في النظر بينهما)[‪.]3‬‬

‫فإذا وص‪nn‬ل األم‪nn‬ر إلى حص‪nn‬ول تع‪nn‬ارض بين (الكلي‪nn‬ات) و(الف‪nn‬روع)‬


‫فه‪nn‬ذا يس‪nn‬تدعي الجم‪nn‬ع بينهم‪nn‬ا ألهمي‪nn‬ة ك‪ٍّn‬ل من الكلي‪nn‬ات والف‪nn‬روع‬
‫التفصيلية‪ ،‬وهو شيء ال يفهمه (مقاصديو النفوس)؛ حيث ينكرون‬
‫النص‪n‬وص واألحك‪n‬ام الش‪n‬رعية ثم يبحث‪n‬ون بع‪n‬د ه‪n‬ذا عن الطريق‪n‬ة‬
‫المقاصدية المناسبة لرفض مثل هذه األحكام!‬

‫لقد كان الشاطبي مدركًا غاية اإلدراك خطورة استعمال المقاصد‬


‫من غير المؤهلين‪ ،‬وألجله منعهم من موافقات‪nn‬ه وجعلهم في ح‪nn‬رج‬
‫من قراءته أو االستفادة منه‪( :‬ال ُيسَمح للناظر في هذا الكتاب أن‬
‫ينظ‪nn‬ر في‪nn‬ه نظ‪َnn‬ر مفي‪ٍnn‬د أو مس‪nn‬تفيٍد ح‪nn‬تى يك‪nn‬ون رَّي ان من علم‬
‫الشريعة؛ أصولها وفروعها‪ ،‬معقولها ومنقولها)[‪.]4‬‬

‫كما أطال الحديث عن ضرورة العناية بالجزئيات‪ ،‬وأن المقاصد ال‬


‫تقوم إال عليها‪ ،‬وهذا كله إلدراكه أن طبيعة المقاصد وما فيه‪nn‬ا من‬
‫كلي‪nn‬ات عام‪nn‬ة يس‪nn‬تدعي دخ‪nn‬وَل غ‪nn‬ير الم‪nn‬ؤهلين واس‪nn‬تغالَل بعض‬
‫المنحرفين‪ ،‬وهو ما يؤدي إلى تعطيل الشريعة‪ ،‬وهذا ما دعا بعض‬
‫المنحرفين الذين ال يفهمون حقيقة المقاصد الشرعية أن يس‪nn‬مي‬
‫المقاص‪nn‬د بأنه‪nn‬ا (ت‪nn‬برير) لألحك‪nn‬ام الش‪nn‬رعية ليس إال‪ ،‬وق‪nn‬د ص‪nn‬دق؛‬
‫فالمقاصد ليست إال بحث‪ًَn‬ا عن (فلس‪nn‬فة) لقواع‪nn‬د وعل‪nn‬ل للش‪nn‬ريعة‬
‫من خالل األحكام والنصوص‪ ،‬فإذا ُوِج د نص مخالف فإن المقاص‪nn‬د‬
‫تعَّدل في (الفلسفة) حتى تدخل هذا الحكم ال أن تلغي‪nn‬ه لمخالفت‪nn‬ه‬
‫للمقاصد‪.‬‬

‫إن دعوتهم لألخذ بالمقاصد إلسقاط بعض األحكام الشرعية يؤدي‬


‫إلى نس‪n‬ف الش‪n‬ريعة بكامله‪n‬ا‪ ،‬وتعطي‪n‬ل كاف‪n‬ة أحكامه‪n‬ا‪ ،‬وإس‪n‬قاط‬
‫قطعياته‪nn‬ا وض‪nn‬رورياتها‪ ،‬وليس عس‪nn‬يرًا على أي أح‪nn‬د أن ينفي أي‬
‫حكم شرعي ويربط ذلك بمقاصد ُعلَيا‪ ،‬وق‪nn‬د م‪nn‬ارس المعاص‪nn‬رون‬
‫في ذلك من ألوان العدوان على األحكام الشرعية ما ال يحصيه إال‬
‫الله؛ فـ (الحدود الشرعية) منافي‪nn‬ة لمقص‪nn‬د الش‪nn‬ريعة في الرحم‪nn‬ة‬
‫وإشاعة األمن و(حد الردة) مناٍف لمقصد الشريعة في التسـامح‬
‫والحرية و (الحجاب) مناٍف لتكريم المرأة و (كل فتوى بتحريم أي‬
‫حكم) تنافي مقصد الشريعة في التيس‪nn‬ير ورف‪nn‬ع الح‪nn‬رج و (الحكم‬
‫بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم) يتع‪nn‬ارض‬
‫م‪nn‬ع مقص‪nn‬د إرس‪nn‬اله رحم‪nn‬ة للع‪nn‬المين و(حرم‪nn‬ة الرب‪nn‬ا) أو (من‪nn‬ع‬
‫المحرم‪nn‬ات) ي‪nn‬ؤدي إلى حص‪nn‬ول ح‪nn‬رج ومش‪nn‬قة تن‪nn‬افي مقص‪nn‬د‬
‫الشريعة‬

‫وألجل ذلك كان ش‪nn‬يخ اإلس‪nn‬الم ابن تيمي‪nn‬ة بص‪nn‬يرًا ب‪nn‬أمر عمومي‪nn‬ات‬
‫المقاصد حين قال‪( :‬فمن اس‪n‬تحل أن يحكم بين الن‪n‬اس بم‪n‬ا ي‪n‬راه‬
‫هو عدًال من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر)[‪ .]5‬فهذه المقاصد‬
‫الكلية تتسم بالعمومية المطلقة التي يشترك فيه‪nn‬ا عام‪nn‬ة الن‪nn‬اس‪،‬‬
‫فاختصاص الشريعة إنما يك‪nn‬ون بتفص‪nn‬يل ه‪nn‬ذه المقاص‪nn‬د وش‪nn‬رحها‬
‫وتقيي‪nn‬دها ف‪nn‬إذا ألغى اإلنس‪nn‬ان االعتب‪nn‬ار به‪nn‬ا لم يكن ق‪nn‬د أخ‪nn‬ذ من‬
‫الشريعة بشيء‪.‬‬

‫وهكذا تغيب أحكام الش‪nn‬ريعة الجزئي‪nn‬ة‪ ،‬بس‪nn‬بب مخالفته‪nn‬ا لمقاص‪nn‬د‬


‫(النفوس) ‪ -‬كما يسميها بعض الفضالء ‪ -‬فهي مقاص‪nn‬د لم‪nn‬ا تري‪nn‬ده‬
‫نفوسهم وأهواؤهم وما يتوافق مع شهواتهم جعلوه‪nn‬ا قواع‪nn‬د كلي‪nn‬ة‬
‫تحاَكم إليه‪nn‬ا النص‪nn‬وص واألحك‪nn‬ام الفقهي‪nn‬ة‪ ،‬وتل‪nn‬ك (النف‪nn‬وس) تك‪nn‬اد‬
‫ُتحَص ر مقاص‪nn‬دها في الج‪nn‬انب ال‪nn‬دنيوي المحض‪ ،‬وه‪nn‬و م‪nn‬ا يختل‪nn‬ف‬
‫تمام‪ًnn‬ا عن المقاص‪nn‬د الش‪nn‬رعية المس‪nn‬تفادة من نص‪nn‬وص الكت‪nn‬اب‬
‫والُّس نة ال‪nn‬تي ت‪nn‬دلك على أن (الش‪nn‬ارع ق‪nn‬د قص‪nn‬د بالتش‪nn‬ريع إقام‪nn‬ة‬
‫المصالح األخروية والدنيوية)[‪.]6‬‬

‫بل إن المص‪n‬الح الدنيوي‪n‬ة تابع‪n‬ة للمص‪n‬الح األخروي‪n‬ة؛ فـ (المص‪n‬الح‬


‫المجتَلبة شرعًا والمفاسد المس‪nn‬تدَفعة إنم‪nn‬ا تعت‪nn‬بر من حيث تق‪nn‬ام‬
‫الحياة الدنيا للحياة األخرى‪ ،‬ال من حيث أه‪nn‬واء النف‪nn‬وس في جلب‬
‫مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية)[‪.]7‬‬

‫وإذا كانت إشاعة علم المقاصد الشرعية ضروريًة في مرحل ‪ٍn‬ة م‪nn‬ا‬
‫لشيوع التعصب والجهل والتضييق على الناس‪ ،‬فإن المبالغ‪nn‬ة في‬
‫تقرير المقاصد الشرعية وإشاعتها وتعظيم قدرها وضرورتها عن‪nn‬د‬
‫عامة الناس ‪ -‬وقد اختل‪nn‬ف الح‪nn‬ال ‪ -‬س‪nn‬يكون على حس‪nn‬اب تعظيم‬
‫النص الش‪nn‬رعي واالنقي‪nn‬اد ل‪nn‬ه‪ ،‬وس‪nn‬يكون س‪nn‬ببًا لظه‪nn‬ور مقاص‪nn‬د‬
‫النفوس لُتِش يع عبَثها وانحراَفها بدعوى (مقاصد الشريعة)‪.‬‬

‫الموافقات للشاطبي‪.2/556 :‬‬ ‫[‪]1‬‬


‫الموافقات‪.3/8 :‬‬ ‫[‪]2‬‬
‫الموافقات‪.3/9 :‬‬ ‫[‪]3‬‬
‫الموافقات‪.1/78 :‬‬ ‫[‪]4‬‬
‫منهاج السنة النبوية‪.5/130 :‬‬ ‫[‪]5‬‬
‫الموافقات‪.2/350 :‬‬ ‫[‪]6‬‬
‫الموافقات‪.2/351 :‬‬ ‫[‪]7‬‬

‫رابط الموضوع‪http://www.alukah.net/sharia/0/25372/#ixzz4JVEBIm9q :‬‬

You might also like