التصوف ومقاصد الشريعة الإسلامية
التصوف ومقاصد الشريعة الإسلامية
ألمرين:
مؤمن ومحسن ،أي أنه في طلب دائم للترقي في تلك المقامات ألنها
من الدين ،ال أنه منعكف على مقام دون مقام وال على تحقيق اإلسالم
فقد وجب حصول التكامل بين العلوم الخادمة لها ،بحيث إن علوم
على اآلخر ،أو أنك تجد روح علم منها تسري في اآلخر .وهذا حاصل
عند أخذ العلم من منبعه “من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية
هنا فإن عدم التحقق بعلم من العلوم اإلسالمية ،يجر صاحبه إلى نقص
في فقه ذلك العلم ،وإلى عدم وضوح العالقة التكاملية بين العلوم
عنده ،بل إن ذلك يجره إلى نكران علم من العلوم اإلسالمية الثابتة
من الدين بالضرورة وفي مثل هذا يقرر الشاطبي“ :أن كثيرا ممن لم
يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير
ذلك بما يحكى عن بعضهم :أنه سئل عما يجب في زكاة كذا فقال:
على مذهبنا أو على مذهبكم؟ ثم قال :أما على مذهبنا فالكل لله ،وأما
على مذهبكم فكذا وكذا .وعند ذلك افترق الناس فيهم ،فمن مصدق
لتكون موصولة بالله سبحانه ،فهو يدرأ عن الفرد آفة الهوى ،ونقمة
واإلتباعُ“ :أوَلِئَك اَّلِذيَن َه َدى الَّلُه َف ِبُه َداُه ُم اْق َتِدِه ” [اَالنعام.]90 ،
كما يستشعر نعمة الوصل واألنس بالله“ :اَّلِذيَن ءاَم ُنوا َو َتْطَم ِئُّن
ُق ُلوُبُهْم ِبِذْكِر الَّلِه َأاَل ِبِذْكِر الَّلِه َتْطَم ِئُّن اْلُق ُلوُب ” [الرعد.]28 ،
——————————————-
قوله تعالىَ“ :ر َّبَنا َو اْبَع ْث ِف يِه ْم َر ُس واًل ِمْنُهْم َيْتُلوْا َعَلْيِه ْم
َأ
ءاَياِتَك َو ُيَعِّلُمُهُم اْلِكَتاَب َو اْلِح ْكَم َة َو ُيَز ِّكيِه ْم ِإَّنَك ْنَت اْلَعِز يُز
َو اْلِح ْكَم َة َيْتُلو َعَلْيُكْم ءاَياِتَنا َو ُيَز ِّكيُكْم َو ُيَعِّلُم ُكُم اْلِكَتاَب
َو ُيَع ِّلُم ُكْم َم ا َلْم َتُكوُنْو ا َتْعَلُم وَن ” [البقرة.]151 ،
وقوله جل وعزَ“ :لَق ْد َمَّن الَّلُه َعَلى اْلُم ْؤ ِمِنيَن ِإْذ َبَع َث
ِم ْن َاْنُف ِس ِه ْم َيْتُلو َعَلْيِه ْم ءاَياِتِه َو ُيَز ِّكيِه ْم ِف ي ْم َر ُس واًل
ِه
َو ُيَع ِّلُمُهُم اْلِكَتاَب َو اْلِح ْكَم َة َو ِإْن َكاُنوا ِم ْن َق ْبُل َلِف ي َض اَل ٍل
ُمِبيٍن ” [َال عمران.]164 ،
َيْتُلو َعَلْيِه ْم ءاَياِتِه َو ُيَز ِّكيِه ْم َو ُيَع ِّلُمُهُم اْلِكَتاَب َو اْلِح ْكَم َة َو ِإْن
الله عليه وسلم …“ :أال وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح
الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد أال وهي القلب” [رواه
البخاري ،كتاب اإليمان ،باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه ،رقم:
.]50
إن بل
السبق في تفصيل القول فيها يرجع إلى الصوفية ولنذكر منها أمورا:
وتحديد المحال التي يثاب فيها والتي ال يثاب فيها .وتبين ضروب
بالخلوص؛
الشيء فيكون فيه وكيال على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر،
وال يدخر لنفسه من ذلك شيئا ،بل ال يجعل من ذلك حظا لنفسه من
الحظوظ… وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة ،فال يأخذ إال من
الملك؛ ألنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ،وال
اعتراض على هذا المقام بما تقدم؛ فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا
من تدبيره لنفسه ،فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها،
ومنهم :من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم ،إن استغنى
إذ للقصد أثر ظاهر ،وهو أن يؤثر اإلنسان نفسه على غيره ولم يفعل
هنا ذلك ،بل آثر غيره على نفسه ،أو سوى نفسه مع غيره .وإذا ثبت
ذلك كان هؤالء برآء من الحظوظ كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم
يجعل له حظ”[.]3
على التكليف ،ومسألة األخذ بمراتب أهل السلوك والسير إلى الله
فيها ،لم تتمحض عبوديته ،ولَّم ا يسلم من الركون إلى األغيار ،بل إن
الشركة تخالط توحيده .فهو مطلوب مثال أال يلتفت إلى المسبب وأن:
“يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن االلتفات إلى األسباب من حيث هي
المعبود بالعبادة أال يشرك معه في قصده سواه ،واعتمادا على أن
ذلك كله بقاء مع المحدثات وركون إلى األغيار ،وهو تدقيق في نفي
الشركة”[.]1
وهذا مبني على االقتداء بمن تقدم من أهل السلوك وذلك “أن
العباد من هذه األمة -ممن يعتبر مثله ههنا -أخذوا أنفسهم بتخليص
فيه ،أو ما ثقل عليها حتى ال يكون لهم عمل إال على مخالفة ميل
النفس ،وهم الحجة فيما انتحلوا ألن إجماعهم إجماع .وذلك دليل على
إذ سأله جبريل عن اإلحسان“ :أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم
تكن تراه فإنه يراك”[ ،]2وكل تصرف للعبد تحت قانون الشرع فهو
عبادة ،والذي يعبد الله تعالى على المراقبة يعزب عنه كل ما سواها.
في األوقات ،وأمروا بالمحافظة عليها بإطالق؛ لكنهم قاموا بأمور ال
يقوم بها غيرهم ،فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب ،فمن
حقه أن ال ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله
نفسه؛
ألن
وزان واحد.
وعقد اإليمان من غير زائد .والثاني :حالهم حال من يعمل بحكم غلبة
السالكين ومراتبهم.
حدود الصلوات وما أشبهها ،فكان أكثر ذلك موكوال إلى أنظار
به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات ،وما استطاع من تلك
الملة الجامعة بين األقارب واألجانب ،وإصالح ذات البين بالنسبة إلى
المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد وكذلك األمر فيما نهي عنه
الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ،وبعد وفاته وفي زمان
التابعين.
إال أن خطة اإلسالم لما اتسعت ،ودخل الناس في دين الله أفواجا
التي كان لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها وقد شابها
مفاسد مثلها أو أكثر هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين
قووا على عدوهم وطلبوا بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية ،وإلى
األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل
ما احتاجوا إليها بغاية البيان :تارة بالقرآن ،وتارة بالسنة فتفصلت تلك
قانونا مطردا ،وأصال مستنا إلى أن يرث األرض ومن عليها ،وليكون
ذلك تماما لتلك الكليات المقدمة ،وبناء على تلك األصول المحكمة
فضال من الله ونعمة ،فاألصول األول باقية لم تتبدل ولم تنسخ؛ ألنها
في عامة األمر كليات ضروريات وما لحق بها ،وإنما وقع النسخ أو
.]6
——————————————–
فمنهم من كان على الفتوح ال يركن إلى معلوم وال يتسبب بكسب وال
.475
إن األصول األولى أصول مكية ال توسع في الحظوظ فيها ،بل هي
مبنية على األخذ بمكارم األخالق فعال وتركا ،إقداما وإحجاما ،أما
الطوارئ العارضة.
وفي هذين القسمين يقول الشاطبي“ :وإذا نظرت إلى أوصاف
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين
واتصافهم بمقتضى تلك األصول ،وعلى هذا القمم عول من شهر من
فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في
ربهم في الجميع وال يقدر على ذلك إال الموفق الفذ ،وهو كان شأن
عن أهله”[.]1
بالنبي صلى الله عليه وسلم ،والسير على منهج الصحابة ،ومسلك
السلف المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين .من حيث السير الروحي
سبحانه .أما األخذ باألصل الثاني فهو جار على األخذ بالحظوظ ،وهو
بالثمرات الحاصلة باألصل األول .لكن “من أخذ باألصل األول واستقام
فيه كما استقاموا فطوبى له ،ومن أخذ باألصل الثاني فبها ونعمت،
وعلى األول جرى الصوفية األول ،وعلى الثاني جرى من عداهم ممن
لم يلتزم ما التزموه ،ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما
أنهم التزموا أمورا ال توجد عند العامة ،وال هي مما يلزمهم شرعا،
على غير مدخل أهل الشريعة ،وحاشا لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد
بنوا نحلهم على اتباع السنة ،وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من
لك أن تلك الطريق سلك هؤالء ،وباتباعها عنوا على وجه ال يضاد
المدني المفسر”[.]2
ومن هنا فاألصول األولى واألصول الثانية ليست على وزان واحد،
المستوى الكلي ،لما كانت مقاصد األصول األولى أعظم وأكمل؛ ألنها
جارية على االقتداء التام والكامل بالنبي صلى الله عليه وسلم .وهذا
على األصول األولى ال الثانية .كما ينبني على التمييز بين األصلين
أرباب الحظوظ ،ومن ليس بأرباب األحوال .وينجر بنا الحديث عن
وإما اقتضاء الترك .فال يوجد فرق في مقتضى الطلب بين واجب
ومندوب ،وال بين مكروه ومحرم “وهذا االعتبار جرى عليه أرباب
بين واجب ومندوب في العمل بهما ،وال بين مكروه ومحرم في ترك
العمل بهما ،بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على
نظرهم “راجع إلى مجرد اصطالح ،ال إلى معنى يختلف فيه؛ إذ ال ينكر
بحسب التصور النظري ،وإنما أخذوا في نمط آخر وهو أنه ال يليق
بمن يقال لهَ“ :و َم ا َخ َلْق ُت اْلِج َّن َو اِالْنَس ِإاَّل ِلَيْعُبُدوِن ” [الذاريات،
.]56أن يقوم بغير التعبد وبدل المجهود ،في التوجه إلى الواحد
مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه ،وهذا غير الئق بمن ال يملك
من حيث هو عبد ،بل عليه بدل المجهود ،والرب يفعل ما يريد”[.]5
بغاياتها ومقاصدها .يقول اإلمام مالك“ :إن الحكمة مسحة ملك على
قلب العبد .وقال :الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد .وقال أيضا:
يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله ،وأمر يدخله الله القلوب من
رحمته وفضله ،وقد كره مالك كتابة العلم -يريد ما كان نحو الفتاوي-
فسئل :ما الذي نصنع؟ فقال :تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم
ويستكمل تدينه ،بحيث ال يقف عند مقام دون مقام ،وال تصده فهوم
األصول عموما ،فال يبدأ التجديد دون تحقق المجدد بمقامات الدين،
——————————————————
.3نفسه ،ج ،4ص .198 :انظر عوارف المعارف ،ص 163 :و
.459
هذه القاعدة جليلة القnnدر ،عظيمnnة النفnnع ،ومعناهnnا :أن المكلnnف إذا تجnnرأ على اإلخالل
بالمكمالت ،فغnnدا أو بعnnد غnnد سnnيتجرأ على اإلخالل بالضnnروريات ،من بnnاب النظnnر إلى
مnnآالت األفعnnال ،وذلnnك أن النفس البشnnرية من طبعهnnا الخلnnود إلى البطالnnة والكسnnل،
واستصعاب كل سهل ،والتهاون في األمور البسnnيطة ،وبالتnnالي تnnركن إلى الnرخص ،وال
ترى فيها أي بأس ،بل ُتزين له ترك العمل الصالح ،واإلقدام على المكروهnnات ،وتتnnدرج
معه حتى تسقط هيبnnة الشnnريعة من قلبnnه ،حينهnnا ال يجnnد غضاضnnة في تnnرك الواجبnnات
والفرائض واإلخالل بالضروريات ،وارتكاب المحظورات ،وعلى هذا المعnnنى حمnnل بعض
العلماء قول النnnبي صnnلى اللnnه عليnnه وسnnلم{ :لعن الله السارق يسرق البيضbbة
فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يbbده} ]1[،ألن ثمن البيضnnة أقnnل من نصnnاب
السرقة ،ولكن بالنظر إلى ما سيؤول إليه عمل السارق في المستقبل من التجرؤ على
سرقة ما هو أعظم من البيضة.
من أجل ذلك جاءت هذه القاعدة لتضبط لنا سلوك المكلف من التهاون والتفريnnط في
األحكام الشرعية مهما تكن درجتها إال في حاالت استثنائية (الضرورة.)...
وقد عمل السادة الصوفية بهذه القاعدة وخّر جوا على ضوئها مسائل هامة اسnnتند إليهnnا
الشاطبي كثيرا في كتابه الموافقات ،وأثنى على الصوفية بعملهم هذا ،وفيمnnا يلي هnnذه
المسائل:
فال فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب وال بين مكروه ومحرم.
"وهذا االعتبار جرى عليه أربnnاب األحnnوال من الصnnوفية ومن حnnذا حnnذوهم ممن اطnnرح
مطالب الدنيا جملة وأخذ بالحزم والعnnزم في سnnلوك طريnnق اآلخnnرة إذ لم يفرقnnوا بين
واجب ومندوب في العمل بهما وال بين مكروه ومحرم في تnnرك العمnnل بهمnnا بnnل ربمnnا
أطلق بعضهم على المندوب انه واجب على السالك وعلى المكروه انnnه محnnرم وهnnؤالء
هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص"]2[.
أحدهما :أنهم ينظرون إلى اآلمر ،أي الجهة التي صدر منها األمnnر ال األمnnر في حnnد
ذاته ،فهم يعملون على إرضاء حبيبهم والتودد إليه وذلك ال يكnnون إال باالمتثnnال لكnnل مnnا
يوجبه واالنتهاء عما منعه.
"-1النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها فإن امتثال األوامر واجتناب النnnواهي من
حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك.
فطالب القرب ال فرق عنده بين ما هو واجب وبين ما هnو منnدوب ألن الجميnع يقتضnيه
حسبما دلت عليه الشريعة كمnnا انnnه ال فnnرق بين المكnnروه والمحnnرم عنnnده ألن الجميnnع
يقتضي نقيض القرب وهو إما البعد وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب
هو المطلوب"]3[.
" -2النظر إلى ما تضمنته األوامر والنواهي من جلب المصnnالح ودرء المفاسnnد
عند االمتثال وضد ذلك عند المخالفة .فإذا كان التفnnاوت في مnnراتب األوامnnر والنnnواهي
راجعا إلى مكمل خادم ومكمnnل مخnnدوم ومnnا هnnو كالصnnفة والموصnوف فمnnتى حصnnلت
المندوبات كملت الواجبات وبالضد فاألمر راجع إلى كnون الضnروريات آتيnة على أكمnل
وجوههnnا فكnnان االفتقnnار إلى المنnnدوبات كالمضnnطر إليnnه في أداء الواجبnnات فnnزاحمت
المندوبات الواجبات في هذا الوجه من االفتقار فحكم عليها بحكم واحد.
وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كان رائnnدا لهnnا وأنسnnا
بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة األنس بما فوقها"]4[.
فالصوفية يتحملون المشاق في سبيل إرضاء حبيبهم وإبقاء حبnnل الوصnnال معnnه ،وذلnnك
لن يتأتى إال بمحاربة الكسل والخمول والبطالة وكذا مخالفة الهوى والنفس.
من أجل ذلك مدح الشاطبي طريقتهم واعتبرها مسلكا سليما ألن العمل بالرخص فيnnه
إتباع للشهوات النفس وأهوائهnnا كمnnا ال يnnؤمن فيnnه من السnnقوط في حبائnnل الشnnيطان
ومكره "وألجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تالمذتهم بترك إتبnnاع الnnرخص جملnnة وجعلnnوا
من أصnnولهم األخnnذ بعnnزائم العلم وهnnو أصnnل صnnحيح مليح ممnnا أظهnnروا من فوائnnدهم
رحمهم الله"]6[.
ولذلك قالوا" :إذا انحط الفقير عن درج الحقيقة إلى رخص الشريعة فقnnد فسnnخ عهnnده
مع الله تعالى ونقضه"]7[.
وبهnnذا يتمnnيز نظnnر الصnnوفية عن نظnnر الفقهnnاء فهم ينظnnرون إلى مnnآالت األفعnnال من
تحصيل الكمال والتقرب إلى موالهم بأحسن الهيئnnة وأتم صnnورة ،يقnnول الشnnيخ زروق:
"نظر الصوفي للمعامالت أخص من نظر الفقيه ،إذ الفقيه يعتبر ما يسقط بnnه الحnnرج،
والصوفي ينظر ما يحصل به الكمال"]8[.
إن هذا المنهج الذي سلكه الصnnوفية جعلهم ال يخرجnnون عن الوسnطية واالعتnnدال الnتي
هي من خصائص هذه األمة ،بل هم واقفون عند حدود الشرع في حركاتهم وسكناتهم،
ويحاسبون أنفسهم على النقير والقطمير أكثر من غيرهم ممن لم ينتظم في سلوكهم،
ويدافع الشnاطبي عن أحnوالهم هتnه بقولnه" :فيظن الظnان أنهم شnددوا على أنفسnهم
وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعلnnوا
ذلك وقد بنوا نحلتهم على إتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقnnة".
[]9
وحجتهم في ذلك أن الرخصة تختلف من شخص إلى آخر وكذلك فإنهnnا تتnnأثر بnnاألحوال
وكذا الزمان ،والمكلف فقيه نفسه في األخذ بها أو تركها.
فإذا كان كذلك فمن خص بورثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية"]12[.
والسبب الثاني الذي يجعل الشاق سهال والصعب ميسnnورا هnnو :الوصnnال من محبnnوبهم،
والطمع في رضاه والخوف من الُبعد ،ولسان حالهم يقول:
ويبين الشاطبي هذا السبب بقوله" :فإننا ندرك ونشاهد أنه قد يكnnون للعامnnل المكلnnف
حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس وحسبنا من ذلك أخبار
المحبين الذين صابروا الشدائد وحملnnوا أعبnnاء المشnnقات من تلقnnاء أنفسnnهم من إتالف
مهجهم إلى مnnا دون ذلnnك وطnnالت عليهم اآلمnnاد وهم على أول أعمnnالهم حرصnnا عليهnnا
واغتناما لها طمعا في رضا المحبوبين واعترفوا بأن الشدائد والمشاق سهلة عليهم بnnل
لذة لهم ونعيم وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم اليم.
وعلى هذا األصل يتخرج كثير من األعمال الثقال التي وردت عن كبار الصوفية بل وعن
كبار الصالحين من الصحابة والتابعين"]13[.
وما تميز به الصوفية عن غيرهم كذلك ،أخذهم بالعزائم المكية التي في غالبها مطلقnnة
غير مقيدة "وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول فعملوا بمكnnارم
األخالق على وجه اإلطالق دون التعبدات التي شأنها التوقف عند المنصوص عليه أمnnا
غير ذلك مما كان موكوال إلى أنظار المكلفين ومصروفا إلى اجتهاداتهم فقد أخذوا فيه
بعزائم المكيات دون ترخص المدنيات وأخnnذ كnnل منهم بمnnا الق بnnه ومnnا قnnدر عليnnه من
المحاسن الكليات "]14[.
ومثال ما أخذ فيه الصوفية بالعزائم المكية ،قصة اإلمام الشبلي لما سأله أحدهم" :كم
في خمس من اإلبل؟ ،قال :شاة في الواجب ،فأما عندنا فكلها لله"]15[.
يقول اإلمام الشاطبي معلقا على هذه القصة" :وما أشnnبه ذلnnك علمت أن هnnذا يسnnتمد
مما تقدم فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه
الواجب من غيره بل وكل إلى اجتهاد المنفق وال شnnك أن منnnه مnnا هnnو واجب ومنnnه مnnا
ليس بواجب واالحتيnاط في مثnل هnذه المبالغnة في اإلنفnاق في سnد الخالت وضnروب
الحاجات إلى غاية تسكن نفس المنفق فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسnnه بمnnا أفnnتى
به وإلتزمه مذهبا في تعبده وفاء بحق الخدمة وشكر النعمnnة وإسnnقاط لحظnnوظ نفسnnه
وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع"]16[.
والناظر إلى أحوال النبي صلى الله عليه وسnلم وصnحابته من بعnده يnرى أنهم اتصnفوا
بالعزائم المكية لمnnا فيهnnا من القيnnام بحقnوق العبوديnnة واألخnnذ باالحتيnnاط في العبnnادات
والمعامالت وفي هذا يقnnول اإلمnnام الشnnاطبي" :وإذا نظnnرت إلى أوصnnاف رسnnول اللnnه
صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسnnمين وبnnون مnnا بين المنزلnnتين
وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك األصول.
وعلى هذا القسم األول عول من شهر من أهل التصوف وبذلك سادوا غnnيرهم ممن لم
يبلغ مبالغهم في االتصاف بأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه"]17[.
لذلك استدل الشبلي رحمه الله على ما ذهب إليه بعمل أبي بكر رضي الله عنه فقال:
"من خرج عن ماله كله ،فإمامه أبnnو بكnnر ،ومن خnnرج عن بعضnnه وتnnرك بعضnnه فإمامnnه
عمر ،ومن أخذ لله ،وأعطى لله ،وجمع لله ،ومنع لله ،فإمامه عثمان ،ومن تnnرك الnnدنيا
ألهلها فإمامه علي .وكل علم ال يؤدي إلى ترك الدنيا ،فليس بعلم"]18[.
من خالل مnnا سnnبق يتnnبين أن الصnnوفية قnnدموا نظnnرات جديnnدة وفوائnnد نافعnnة لعلمnnاء
المقاصد ،خاصة اإلمام الشاطبي الnnذي بnnنى صnnرح علم المقاصnnد باالعتمnnاد عليهم في
بعض مباحثnnه ،مnnع العلم أن البnnوادر األولى لنشnnوء علم المقاصnnد بnnدأت مnnع الحكيم
الترمذي الصوفي المشهور.
الهوامش:
[ -]1صnnحيح البخnnاري ،كتnnاب الحnnدود ،بnnاب اعن السnnارق إذا لم ُيس ّnم ،دار الحnnديث،
القاهرة2004 ،م ،4/280 ،ح.6783
[ - ]2الشاطبي ،الموافقات،كتاب األحكام ،المحقnق :عبnد اللnه دراز ومحمnد عبnد اللnه
وعبد السالم محمد ،دار الكتب العلمية ،لبنان ،ط.3/239 ،2005 ،7
[ - ]3الثابت والمتغير في فكر اإلمnnام أبي إسnnحاق الشnnاطبي ،دار البحnnوث للدراسnnات
اإلسالمية وإحياء التراث ،دبي ،ط2002 ،2م ،ص.456
[ -]7األنnnوار القدسnnية في معرفnnة قواعnnد الصnnوفية ،عبnnد الوهnnاب الشnnعراوي ،تحقيnnق
وتقديم :طه عبد الباقي سرور والسيد محمد عيد الشافعي ،مكتبnnة المعnnارف ،بnnيروت،
ط2003 ،1م.48/1 ،
[ -]8قواعد التصnnوف ،للشnnيخ زروق ،تقnnديم وتحقيnnق :عبnnد المجيnnد خيnnالي ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،ط2007 ،3م( ،ق ،)55ص.43
[ - ]11شnnرح سnnنن أبي داود للعالمnnة آبnnادي ،دار الحnnديث ،القnnاهرة ،طبعnnة 2001م،
.309/8
من أهم قواعد المقاصد الشرعية :أن ال ُيرَّد بهnnا أي حكم جnnزئي،
فإذا ثبت نص شnnرعي أو حكم فقهي فال يجnnوز أن ُينَقض وُيتجnnاَوز
بدعوى أنه مخالف لقاعدة مقاصدية؛ فهذا باطل ال عالقة لnه بعلم
المقاصد (فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بحnق
في نفسه)[.]1
وألجل ذلك كان شnnيخ اإلسnnالم ابن تيميnnة بصnnيرًا بnnأمر عموميnnات
المقاصد حين قال( :فمن اسnتحل أن يحكم بين النnاس بمnا يnراه
هو عدًال من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر)[ .]5فهذه المقاصد
الكلية تتسم بالعمومية المطلقة التي يشترك فيهnnا عامnnة النnnاس،
فاختصاص الشريعة إنما يكnnون بتفصnnيل هnnذه المقاصnnد وشnnرحها
وتقييnnدها فnnإذا ألغى اإلنسnnان االعتبnnار بهnnا لم يكن قnnد أخnnذ من
الشريعة بشيء.
وإذا كانت إشاعة علم المقاصد الشرعية ضروريًة في مرحل ٍnة مnnا
لشيوع التعصب والجهل والتضييق على الناس ،فإن المبالغnnة في
تقرير المقاصد الشرعية وإشاعتها وتعظيم قدرها وضرورتها عنnnد
عامة الناس -وقد اختلnnف الحnnال -سnnيكون على حسnnاب تعظيم
النص الشnnرعي واالنقيnnاد لnnه ،وسnnيكون سnnببًا لظهnnور مقاصnnد
النفوس لُتِش يع عبَثها وانحراَفها بدعوى (مقاصد الشريعة).