"لم اسمع قط عن أي نظرية كبرى طرحت على أساس من التجربة فحسب ،فالنظرية هي التي تأتي أوال".
انطالقا من القولة ،بين(ي) هل األولوية في بناء المعرفة العلمية تكون ،بالضرورة ،للنظرية.
يتميز االنسان عن الكائنات األخرى بكونه ال يكتفي بأن يعيش ويكون موجودا فقط بل يسعى أكثر من ذلك الى محاولة فهم هذا الوجود في
كل أبعاده ،ذلك لكونه كائنا ممتلكا لملكة المعرفة ،والمعرفة من حيث التعريف هي ذلك النشاط او تلك الفعالية العقلية التي تمارسها الذات
الع ارفة بطريقة منظمة من أجل الوصول الى موضوع المعرفة وفهمه وادراكه .ويتميز موضوع المعرفة باعتباره مبحثا فلسفيا قضايا
كثيرة للنقاش من بينها تلك المتعلقة بالنظرية .فالعالم حينما ينجز معرفة بظاهرة ما او واقعة ما فهو يستطيع بعد حصول الفهم واالدراك
بناء نظرية علمي ة ،ان النظرية العلمية هي ذلك البناء او النسق من األفكار المترابطة والمنظمة حول ظاهرة ما والتي تمكن من وصف
هذه الظاهرة أو تفسيرها او التنبؤ بها .ومن بين أهم القضايا التي يثيرها مفهوم النظرية ذلك المتعلق بكيفية بناءها ،خصوصا ان
النظريات العلمية التي يكون موضوعها الطبيعة تتأرجح بين عنصرين اثنين وهما العقل والواقع مما يدفعنا للتساؤل.
فما النظرية؟ وما التجربة؟ فكيف تبنى النظريات العلمية اذن؟ هل باالعتماد على المنهج التجريبي؟ ام على العقل الرياضي الخالص؟ أم
انها تبنى بتكاملها؟
يتضح من االشكال أعاله ان منطوق القولة يذهب الى تبني أطروحة جوهرية مفادها أن كل النظريات العلمية تبنى من خالل اِعمال العقل
وليس التجربة ،مما يعني ان تفسير الظواهر العلمية يكون بالتماسك المنطقي والخلو من التناقض ،فهل مشكالت الفيزياء النظرية يتجه
اتجاه كلي نح و اعطاء القيمة واألسبقية للعقل على حساب التجربة ،حيث ينبغي اعداد صيغة النظرية باالعتماد على العقل الرياضي
الخالص وليس التجربة ،ومن هنا يتضح أنه لبناء النظرية يمكن ا ِالعتماد على العقل الرياضي الخالص.
ولشرح هذه األطروحة المتضمنة في القولة يمكن االعتماد على بنية مفاهيمية متماسكة أبرزها مفهوم النظرية وهي ذلك البناء او الشق
من األفكار والمترابطة والمنظمة حول ظاهرة ما من أجل تفسير هذه الظاهرة او شرحها او التنبؤ بها ،أما مفهوم التجربة فهي ناتجة عن
الممارسة االنسانية تلك الممارسة التي تتحدد من خاللها عالقة االنسان بواقعه ومحيطه ،فالعالقة الموجودة بين هذان المفهومان هي
عالقة ترابط كون أن التجربة رغم أنها مهملة أمام العقل في بناء النظرية العلمية فهي تظل مرجع لها.
ولتأكيد األطروحة المتضمنة في القولة يمكن االعتماد على مجموعة من الحجج الواقعية أهمها بعض الظواهر العلمية التي تطرأ في هذا
الكون مثل حركات الكواكب والمجرات فهذه االخيرة ال يمكن بتاتا وال بأي شكل من األشكال اخضاع للتجربة والمختبر ،وايضا الظواهر
الميكروسكوبية المتناهية في الصغر كالذرات والدقائق التي من المستحيل مالحظتها ،ونفس الشيء بالنسبة لمجموعة من القضايا
والمستجدات العلمية كسرعة الضوء مثال ،فمع هذه الظواهر ،تبقى التجربة عاجزة على التعامل معها وتفسيرها.
تكمن قيمة وأهمية هذه األطروحة كون أن العقل هو أساس بناء العديد من النظريات التي تستدعي االستدالل والبرهنة ،هذه النظريات هي
نفسها التي بدأ معها المنهج التجريبي قاصرا على تفسيرها ،وبالفعل فاذا استحضرنا مثال تلك الظواهر الماكروسكوبية المتناهية في الكبر
كالمجر ات وأيضا الظواهر الميكروسكوبية المتناهية في الصغر فهي ال يمكن اخضاعها للتجريب العلمي داخل المختبر بأي شكل من
األشكال ،وهناك أيضا مجموعة من المستجدات العلمية كسرعة الضوء فهذه الظاهرة ال تتطلب منهج تجريبي وانما تستدعي برهان عقلي
منطقي خالص وذلك من خالل اِعمال العقل الرياضي الخالص .غير انه ورغم ذلك ال يمكن ان ننكر أهمية التجربة في بناء المعرفة العلمية
باعتبارها تمثل الى حد يومنا هذا مرجعا أساسيا لها خصوصا في العلوم التجريبية ألن هناك حقائق ال يمكن اِثباتها نظريا واال ستظل
معرفة ميتافيزيقية.
فإلى اي حد يعتبر المنهج العقلي أساسا لبناء النظرية؟ اال يمكن اعتبار التكامل بين العقل والواقع أساسا لبناء المعرفة العلمية؟ او اال
يمكن اعتبار خطوات المنهج التجريبي كفيلة بهذا البناء ؟
فالتطورات التي عرفها العلم مطلع القرن 19م اجبرت العلماء على مراجعة التصور الكالسيكي سواء التجريبي او العقالنية .واتجه بعض
منهم نحو تأسيس عقالنية علمية جديدة ترتكز على الجمع بين المنهج التجريبي والمنهج العقالني في بناء النظريات العلمية دون
االقتصار على أحده ما في غياب االخر ،ومن بين هؤالء العلماء نجد الفيلسوف غاستون باشالر الذي ينتقد النزعة الوثوقية في الفلسفة
العقالنية الكالسيكية التي تتق في العقل وتعتبره منبع كل النظريات العلمية ،ويؤكد باشالر خالفا لذلك أن النظريات العلمية المعاصرة
تتأسس على حوار وتكامل ضرو ري بين العقل والتجربة العلمية ألن التجربة العلمية هي تجربة معقلنة ال يمكنها االستغناء عن العقل
الرياضي الخالص ،وهو نفس االتجاه الذي ذهب اليه الفيلسوف روني طوم الذي يعتقد أن أساس النظرية العلمية هو أساس عقلي ،وبذلك
فهو يتجاوز التجربة في صيغتها الكالسيكية ،وبالمقابل يعطي األهمية للخيال باعتباره مرتبط بايداع العقل ويتعزز موقف روني طوم بكونه
عالم رياضيات من جهة ،ومعاصر لمجموعة من المستجدات من جهة أخرى .وهذه المستجدات يقصد بها بالخصوص العلوم الدقيقة حيث
أصبح العالم يتعامل مع ظواهر يبدو من المستحيل مالحظتها ،فهذه الظواهر بدا معها المنهجان الكالسيكيان عاجزان عن التعامل معها،
وبالتالي أصبح العالم مطالب بمنهج اخر عصري مرتبط بأدوات العقل دون التقيد بمعطيات الواقع ،اذن فلبناء النظريات العلمية يجب
االعتماد على تجربة ذهنية متخلدة.
وفي مقابل ذلك يعتقد الفيلسوف كلود برنار أن بناء النظرية العلمية يتطلب تفاعال بين العقل والواقع التجريبي ،غير أن هذا األخير هو
الذي يلعب الدور الحاسم في عملية البناء ،فباالستناد الى خطوات المنهج التجريبي يبدو التكامل بين السلوك العقلي والمعطيات الحسية
واضحا ،ما دامت هناك خطوتان واقعيتان (المالحظة والتجربة) وخطوتان عقليتان (الفرضية واالستنتاج) ،ويؤكد برنار على أن العالقة
بين المعطيات الحسية واالنشطة العقلية متداخلة الى حد أنها تشكل خليطا غامضا يصعب الفصل بين مكوناته ،كما يميز كلود برنار بين
األفكار العلمية ال تي يمكن من خاللها بناء النظرية العلمية واألفكار الغير علمية التي تظل مجرد تصورات ،وتتمثل األولى في تلك األفكار
التي تثبتها وتصادق عليها التجارب العلمية ،اذن يستنتج كلود برنار ان النظرية ليست شيئا عدا الفكرة العلمية المراقبة من طرف
التجربة ،فمن خالل هذا القول يتضح أن كلود برنار ينتصر للموقف التجريبي بتأكيد أهميته وأولويته في بناء النسق النظري المعرفي.
يتضح من خالل ما سبق أن التجريب له أهمية في بناء المعرفة العلمية ،اال أن الفيزياء المعاصرة تجاوزت المنهج الكالسيكي للواقع
التجريبي الذي لم يعد ذلك الواقع المعطى المباشر الخاضع للتجريب ،وانما اصبح واقعا عقليا تلعب فيه الذات العاقلة بمعناها
االبستمولوجي دورا اساسيا ،فالتجربة اذن لم تعد هي معيار الصدق أو الكذب للنظريات المعاصرة ،ألن النظريات المعاصرة هي انشاءات
عقلية حرة ،ورغم ذلك فالمنهج التجريبي يمثل مرجعا للنظريات العلمية وهو ما يعني استمرار التكامل بين الفكر والواقع لبناء النظرية،
فالنظرية تستدعي التجريب والتجريب يطور النظرية باعتباره منهجا لمسألة الظواهر الطبيعية ويهدف الى التحقق من االفتراضات التي
يبنيها العالم والخضوع الى قوانينها.
ومن وجهة نظري فأنا أقر بأن بناء النظريات العلمية يتطلب المزاوجة بين ما هو عقلي منطقي وأيضا ما هو اختباري تجريبي ألن عالمنا
هذا يخضع باستمرار لعدة تغيرات ،فالعلم محكوم بالتطور والتقدم لذلك ال بد من المزج بين الفكر والواقع وذلك من أجل تفسير كل الظواهر
والمستجدات المتجددة بتجدد العلم وتقدمه.
