الدروس التطبيقية في البلاغة العربية للفوجين1.2
الدروس التطبيقية في البلاغة العربية للفوجين1.2
-تطـــــبيـق.
-فـــــوج)1،2(:
-1مفهوم البالغة.
-2مفهوم الفصاحة.
-3قضية اللفظ عند المعتزلة
وعالقتها بالبالغة والفصاحة.
-4مفاهيم علوم البالغة الثالثة وقضاياها.
-5التقديم والتأخير.
-7مفهوم الحقيقة والمجاز.
-1مفــــــــهوم البـــــالغة.
-تمهيد :إشكالية المفهوم.
لكلمة البالغة في المفهوم االصطالحي كثير من المعاني وال تدل هذه الكثرة في
تعدد المفهوم على الثراء في االستخدام على نحو ما يرى بعض الدارسين،وإنما
يدل على االضطراب والتخبط في التعامل مع المصطلح .هذه هي الحقيقة العلمية
الثابتة التي يقرها علم المصطلح وال يعترف بغيرها ؛ألن من طبيعة المصطلح
الواحد أن يكون له مفهوم واحد كاالسم للمسمى تماما وإذا تعدد هذا المفهوم
فمعنى ذلك أنه خضع لقدر من االجتهادات واالختالفات في تفسيره وهو ما ال
ينبغي أن يكون؛ ألن هذا يعيق عملية التواصل بين الذين يستعملونه.
والدارس للتراث البالغي القديم يتأكد له ما سبقت اإلشارة إليه من أن مصطلح
البالغة قد عرف قدرا غير قليل من االجتهادات والتفسيرات وتعدد وجهات النظر
إليه عبر مراحل ت اريخية طويلة من استخدامه .ونظرا لصعوبة تقصي مجمل ما
قيل فيه فإننا نكتفي بعرض بعض هذه االجتهادات والتفسيرات في محاولة لتحديد
مفهومه .وسيبدأ الحديث بمفهومه اللغوي ثم يعقبه الحديث عن مفهومه
االصطالحي وتلك هي البداية الطبيعية للتعريف بالمصطلح كما تقتضيه المنهجية
العلمية في البحث.
-1المفهوم اللغوي:
عند الرجوع إلى المعاجم اللغوية للتعرف على المعنى اللغوي للكلمة الثالثية(بلغ)
بما تشتمل عليه من صيغ اشتقاقية مثل(البلوغ) و(المبالغة) فإن ما تفيدنا به هو
الداللة على معنى االنتهاء إلى الشيء والوصول إلى غايته بشكل عام ،من ذلك
القول:
"بلغت الغاية إذا انتهيت إليها وبلغتها غيري،ومبلغ الشيء منتهاه ،والمبالغة في
الشيء االنتهاء إلى غايته".
-2المفهوم االصطالحي:
حرص التراث البالغي القديم على أن يدون حصيلة كبيرة من المفاهيم لمصطلح
البالغة كما سبق القول ،وما أمكن استخالصه من هذه المفاهيم ينحصر في
مفهومين واسعين:
األول قصد به (فن الكالم) أي طريقة الكالم أو طريقة األداء حين يكون الكالم
ارتجاال أو دون إعداد مسبق أو حين يتم إعداده من قبل .ومن المالحظ أن هذا
المفهوم قد ارتبط في األغلب األعم بالمرحلة الشفوية التي سبقت مرحلة التدوين.
ومن هذه المفاهيم قولهم البالغة هي:
-1الفهم واإلفهام.
-2لمحة دالة.
-3شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا.
-4اإليجاز.
-5اإليجاز في غير عجز واإلطناب في غير خطل.
-6اإليجاز:واإليجاز هو أن تجيب فال تبطئ وتقول فال تخطئ.
-7مطابقة الكالم لمقتضى الحال مع فصاحته.
"-8هي كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه كما تمكنه في
نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن ،وإنما جعلنا حسن المعرض وقبول
الصورة شرطا في البالغة؛ ألن الكالم إذا كانت عبارته رثة ومعرضه خلقا
لم يسم بليغا ،وإن كان مفهوم المعنى ،مكشوف المغزى .ومن قال إن
البالغة إنما هي إفهام المعنى فقط جعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب
واإلغالق واإلبانة سواء".
-2الثاني بمعنى (العلم) والمقصود به قواعد الكالم وأصوله وأسسه التي ينبغي
مراعاتها فيه أوفي الكتابة ولذلك قسمت البالغة إلى ثالثة علوم فرعية هي:
-علم المعاني.
-علم البيان.
-علم البديع.
كما هي عند كبار البالغيين مثل أبي يعقوب السكاكي(ت 626هـ)في كتابه(مفتاح
العلوم) والقزويني(ت739هـ) في كتابه (اإليضاح) وغيرهما من علماء البالغة.
الخالصة أن مصطلح البالغة استخدم في التراث بمعنى(الفن)أي فن الكالم،
وبمعنى(العلم) بأصول فن الكالم وقواعده.
وعادة ما يقصد اليوم باصطالح البالغة هو العلم الذي يلم بمباحث فن الكالم أو
القول وبطرق التعبير فيه.
والرسم التالي يوضح مجمل ما سبق:
المفهوم اللغوي.
الفن -مفهوم البالغة:
المفهوم االصطالحي.
العلم
ال يكتمل الحديث عن مفهوم البالغة إال بالحديث كذلك عن مفهوم الفصاحة ألنهما
مرتبطان ببعضهما ارتباطا وثيقا ولهذا حرص رجال البالغة من القدماء على عدم
الفصل بينهما والدليل على أن مفهوم البالغة عندهم ال ينفصل عن مفهوم
الفصاحة هو قولهم في أشهر تعريف للبالغة:
فالفصاحة في هذا التعريف جزء من البالغة وهو ليس جزءا ثانويا يمكن
االستغناء عنه بل هو جزء أساسي فيها ولذلك ختم التعريف بالقول(مع فصاحته)؛
ألنه يجوز أن يتطابق الكالم مع ما يتطلبه المقام وال يكون فصيحا وبذلك تنتفي فيه
صفة المطابقة .ومن هذا يتضح لنا أن مفهوم البالغة عندهم أوسع وأشمل من
الفصاحة.
توجد عالقة بين المفهوم اللغوي واالصطالحي للفصاحة ،وهي تبدو في
المشابهة.فإذا كانت الفصاحة في اللغة تعني الظهور والبيان بشكل عام،فإن
الفصاحة في االصطالح تعني أن تكون األلفاظ خالية من أي عيب أو نقص سواء
من حيث تركيب الحروف أم من حيث غرابة المعنى أم من حيث عدم مراعاة
قواعد اللغة؛ألن عدم خلوها من هذه العيوب يجعلها أشبه ما تكون بالرغوة التي
تعلو اللبن .و أشهر هذه العيوب هي:
-1تنافر الحروف:
وهي أن تكون الكلمة ثقيلة في النطق مثال على ذلك " :أن أعربيا سئل عن
بقرته فقال :تركتها ترعى (ال ُه ْع ُخع)وهو اسم نبات يأكله البقر".
-2الغرابة:
وهي آال تكون الكلمة غريبة أو وحشية حتى ال تدعو الحاجة إلى البحث عنها
في المعاجم اللغوية ،كما روي عن عيسى بن عمر أنه سقط عن حماره فأجتمع
عليه الناس فقال":مالكم َت َكأ ْ َكأ ْتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني؟".
ففي هذا المثال توجد كلمتان غريبتان هما(تكأكأتم)و(افرنقعوا) وكانتا سببا في
تعجب الناس واندهاشهم لعدم فهمهم ما قاله.
-3مخالفة القياس:
وهي أن تكون الكلمة جارية على غير ما هو معروف في قواعد اللغة كما هو في
قول أحدهم " :الحمد هلل األجلل".
(األج َل ِل) فُك إدغا ُمها وكان يجب أن تكون (األّجلِّ) بعدم فك اإلدغام.
ْ فكلمة
أما الفرق بين الفصاحة والبالغة فقد أوضحه ابن سنان الخفاجي(ت466هـ) في
كتابه(سر الفصاحة)بقوله:
-الفصاحة
المفهوم االصطالحي.
تنافر الحروف
غرابة المعنى.
مخالفة القياس.
كل بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغا. -البالغة لوصف األلفاظ مع المعاني
-3قضية اللفظ عند المعتزلة في عالقتها بالبالغة والفصاحة.
-قضية اللفظ عند المعتزلة في عالقتها بالبالغة والفصاحة:
قال عبد القاهر الجرجاني(ت471هـ):
"في تحقيق القول على البالغة والفصاحة والبيان والبراعة ،وكل ما شاكل ذلك،
مما يعبر به عن فضل بعض القائلين على بعض ،من حيث نطقوا وتكلموا،
وأخبروا السامعين عن األغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم،
ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم.
ومن العلوم أن ال معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها ،مما يفرد فيه
اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية دون المعنى ،غير وصف الكالم
بحسن الداللة وتمامها فيما له كانت داللة ثم تبرحها في صورة هي أبهى وأزين
وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس ،وتنال الحظ األوفر من ميل القلوب،
وأولى بأن تطلق لسان الحامد ،وتطيل رغم الحاسد وال جهة الستعمال هذه
الخصال غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ،وتختار له اللفظ
الذي هو أخص به وأكشف وأتم له ،وأحرى بأن يكسبه نبال فيه مزية.
وإذا كان هذا كذلك ،فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف ،وقيل أن
تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ومنها واستخبارا وتعجبا،
وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي ال سبيل إلى إفادتها إال بضم كلمة إلى
كلمة وبناء لفظة على لفظة .هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الداللة
حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة له.
ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينها تثقل
عليك وتوحشك في موضع آخر ،فلفظ " األخدع" في بيت الحماسة:
فإن لها في هذين المكانين ما ال يخفى من الحسن -ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام:
فتجد لها من الثقل على النفس ،ومن التنغيص والتكدير ،أضعاف ما وجدت هناك
من الروح والخفة ومن اإليناس والبهجة".ص44،46،47
دالئل اإلعجاز.
-األفكار الواردة في النص:
-1ال جدوى من وصف الكالم أو وصف اللغة قبل استخدامه.
-2االستخدام أو السياق هو الذي يجعل الكلمة فضيحة أم غير فصحة.
-3البالغة والفصاحة تكون للمعنى ال للفظ ألن اللفظ تابع للمعنى.
-4المعاني أسبق من األلفاظ طبقا لقوله:
" ترتيب المعاني في النفس ثم النطق باأللفاظ على حذوها".
-5وعليه ال تفاضل بين األلفاظ قبل استخدامها مثل كلمة " األخدع" فهي عند
بعضهم تبدو وحسنة وعند آخرين رديئة.
-تحليل موجز للنص:
حاول عبد القاهر الجرجاني في هذا النص أن يحدد موقفه مما وجده عند الدارسين
السابقين عليه في حكمهم على الكالم بالبالغة والفصاحة وما شاكل ذلك من
األوصاف ،وبخاصة عند المعتزلة ،وأهم ما ورد فيه يتخلص في اآلتي:
-1رفضه الحكم على الكالم بالبالغة أو الفصاحة طبقا للمعايير السابقة وهي:
-أن البالغة تأتي وصفا للفظ والمعنى.
-أن الفصاحة تأتي وصفا للفظ فقط.
-أن الفصاحة جزء من البالغة.
-2وتأسيسا على هذه المعايير فإنه يصبح للفظ األهمية على المعنى وهذا غير
صحيح ألن المعنى هو األهم ،ولذلك أصر على أسبقيته على اللفظ بقوله:
"ترتيب المعاني في النفس ثم النطق باأللفاظ على حذوها".
-3ركز ابن سنان الخفاجي وغيره على أن فصاحة اللفظ تكون بخلوه من
الصفات التالية:
-أال يكون متنافر الحروف مثل(الهعخع)
-أال يكون مخالفا للقياس مثل (األج َل ِل).
-أال يكون غريبا مثل (افرنقع).
ولكن عبد القاهر يخالفه فيما ذهب إليه في هذه الشروط للفظ ويرى أنه ال يجوز
وصف اللفظ بالبالغة أو الفصاحة قبل االستخدام ألن االستخدام هو الذي يحدد
له تلك الصفة ولذلك ضرب مثاال بكلمة(األخدع) فهي -في نظره -يمكن أن
تكون فصيحة في موضع ،وغير فصيحة في موضع آخر والشاهد في هذا قوله:
"ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها تثقل
عليك توحشك في موضع آخر".
-4وبناء على هذا فإنه ذهب يصحح أراء السابقين عليه في قولهم إن المعاني
متناهية وأن األلفاظ غير متناهية في حين أن العكس هو الصحيح أي أن
المعاني غير متناهية واأللفاظ متناهية ،ولهذا قال:
" ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم:
إن المعاني ال تتزايد وإنما تتزايد األلفاظ" .وهذا الكالم إذا تأملته لم تجد له
معنى يصح عليه".
والخالصة:
-1ال مفاضلة بين األلفاظ في البالغة والفصاحة قبل االستخدام أو قبل
الصياغة.
-2ال أسبقية للفظ على المعنى طبقا لما جاء عند المعتزلة.
-3أن المعاني هي التي تتكاثر وتتزايد ،وليس األلفاظ كما ذهب إلى ذلك فريق
من البالغيين.
-4مفاهيم علــــــوم البالغة الثــــالثة.
-توطئة:
انتظرت البالغة بالمفهوم العلمي الذي عرضناه سابقا قرونا عديدة لكي تكتشف
بحوثها ،وتنتظم قضاياها وتظهر في النهاية في صورة ثالثة علوم فرعية هي:
-علم المعاني.
-علم البيان.
-علم البديع.
وقد جاء الحديث عن هذه العلوم الثالثة في كتاب (مفتاح العلوم) ألبي يعقوب
السكاكي(ت 626هـ)في القرن السابع للهجرة ،ويهمنا في هذا المقام التطبيقي أن
نعرض لمفهوم كل علم من هذه العلوم الثالثة مع األمثلة عليها:
" أعلم أن المعاني هو تتبع خواص تركيب الكالم في اإلفادة وما يتصل بها من
االستحسان وغيره ليتحرز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكالم على ما
يقتضي الحال ذكره".
" وأعني بتراكيب الكالم التراكيب الصادرة عمن له فضل تمييز ومعرفة وهي
تراكيب البلغاء ال الصادرة عمن سواهم لنزولها في صناعة البالغة منزلة أصوات
حيوانات تصدر عن مجالها بحسب ما يتفق".
-2خاصية التراكيب:
"وأعني بخاصية التراكيب ما يسبق منه إلى الفهم عند سماع ذلك التركيب جاريا
مجرى الالزم له لكونه صادرا عن البليغ ال لنفس ذلك التركيب من حيث هوهو أو
الزما له لما هوهو حينا".
-3وأغني بالفهم:
وأغني بالفهم فهم ذي الفطرة السليمة مثل ما يسبق إلى فهمك من تركيب األتي:
"وقيل يا أرض أبلعي ماءك،ويا سماء اقلعي وغيض الماء" .سورة هود
-2مفهوم علم البيان:
" هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الداللة عليه".
-مهزول الفصيل.
-جبان الكلب.
-كثير الرماد.
وبطريق التشبيه:
أما المعنوي فمنه المطابقة وتسمى الطباق والتضاد أيضا وهي الجمع بين
المتضادين أي معنيين متقابلين في الجملة ويكون ذلك إما بلفظين من نوع واحد
اسمين كقوله تعالي:
"تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من شاء".
وقول النبي عليه السالم لألنصار" :إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع".
-5التـــــــقديم والتــــــأخير
-تمهيد عن الجملة العربية.
من المعروف أن الجملة العربية تقوم على نسق معين .فالجملة االسمية يتصدرها
المبتدأ ،ويليه الخبر ،ثم ما تعلق به ،والجملة الفعلية تبدأ بالفعل ،ثم يأتي الفاعل
الخ ولكن أحيانا يحدث أن يطرأ تغيير في بعض مكونات هذه الجملة أو في النسق
الذي تقوم عليه ،وحين ندرس هذا النسق الجديد للجملة فإننا ال نريد أن ندرسها
من الناحية النحوية ،وإنما نركز على ما في هذا النسق الجديد من داللة أو دالالت
.والدراسة هنا فنية أو بالغية تسعى إلى معرفة أسرار ما يحمله التركيب الجديد
من معان أو دالالت معينة.
لقد درس القدماء النسق الجديد الذي يطرأ على هذا التركيب وأطلقوا عليه
مصطلح ( التقديم) ومصطلح ( التأخير) فماذا نعنى بهذين المصطلحين؟.
-1األهمية:
إن المتكلم أو المبدع حين يقدم كلمة من الكلمات فإنه يفعل ذلك لغاية تتعلق بأهمية
المعنى الذي يستأثر باهتمامه .واألمثلة على هذا عديدة ،و لضيق المجال نكتفي
هنا بمثالين أحدهما من القرآن الكريم والثاني من الشعر .ففي القرآن الكريم نجد
قوله تعالى :فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ،وإن تصبهم سيئة َيطيروا بموسى
ومن معه " سورة األعراف.131
فاآلية هنا ترتبط بموقف معين هو تصوير الوضع الذي كان عليه قوم موسى (آل
فرعون) .ويتجلى هذا في حالتين متناقضتين:
األولى هي الرضا بما َمنّ هللا عليهم من الخيرات والنعم ولذلك كانوا يبدون
مطمئنين مرتاحين ،وهم يقبلون على التمتع بهذه النعم والخيرات بشيء من
اللهفة والرغبة في التمسك بها واالستحواذ عليها .و قد كان التعبير مناسبا لهذا
في قوله تعالى " :لنا هذه" ولو كان التعبير على هذا النحو "هذه لنا" لما برز
المعنى األول.
الثانية هي التذمر والسخط مما يحل بهم من قحط وجدب .و في هذه الحالة تراهم
ينسبون كل ما يحل بهم إلى موسى وأتباعه ،ويعبرون عن ذلك بالتطير والنكران
له وألتباعه.
إن الموقف الطبيعي المنتظر منهم هو الرضا بكلتا الحالتين :حالة النعم والخيرات،
وحالة القحط والجدب غير أنه لما كان هؤالء القوم جاحدين وأنانيين فقد حرصت
اآلية على تصوير هذه المفارقة التي يعيشونها في حياتهم .وكان التقديم والتأخير
مجسدا لهذه المفارقة .أما في الشعر فنجد ابن الرومي يقول:
للفــــناء
ِ ش ُم َ
ش ِّمــــر ِع لِع َي ْ
ـــ ِ الج ْم ضلة المرئ ُي َ
ش ِّم ُر في َ
انقضاء
ِ ِر ِ
ث وال ُع ْم ُر دائب في القناطـــير للوا
َ دائـــبا َي ُ
كنز
فالموقف الذي أراد ابن الرومي أن يعبر عنه هو حرص اإلنسان على جمع المال،
وحرصه عليه ناتج -في الحقيقية -عن غفلته وقلة حيلته ،وقصور نظرته ،إذ
لو لم تكن لديه غفلة وسذاجة وقلة حيلة لعرف أن حياته قصيرة ومحدودة ،وأن
المال الذي يجمعه ويحرص عليه ال يستطيع أن يمد في عمره ولذلك كان ابن
الرومي يسخر منه ويستنكر فعله معتبرا أن المال ليس هو الغاية األساسية في
الحياة.
إن األمر هنا يبدو -في نظر ابن الرومي -في شكل مفارقة عجيبة ،فمن ناحية
نجد هذا اإلنسان يحرص كل الحرص على جمع المال ،ومن ناحية أخرى نجده
يسير إلى الفناء دون أن يتمتع به نظرا لقصر عمره .وقد حرص ابن الرومي على
تجسيد هذه المفارقة بتقديم " الحال" (دائبا) على الفعل (يكنز) .وكان األصل أن
يقول (:يكنز القن اطير دائبا) ولكن هذا التركيب ال يبرز المكانة التي يحتلها المال
عند هذا اإلنسان كما هو في التركيب السابق.
-2االختصاص:
يحدث أحيانا أن نجد تعبيرا أو كالما يعبر فيه المتكلم أو المبدع عن شئ يخصه وال
يشاطره فيه أحد وهو يلجأ في هذا التعبير أو الكالم إلى تقديم كلمة معينة لتجسيد
ذلك المعنى .ويمكننا التمثيل هنا بما جاء في القرآن الكريم وفي اإلبداع الشعري.
ففي القرآن الكريم نجد قوله تعالى " :له الملك وله الحمد وهو على كل شئ
قدير"سورة التغابن .1
فاآلية هنا جاءت لتعبر عن القدرة اإللهية المطلقة ،فاهلل جلت قدرته هو الذي يملك
كل شيء ،وال تشاطره فيه قدرة أخرى .وهو لهذه القدرة المطلقة يستحق كل
الحمد وكل الثناء .ولكي يجعل هذه القدرة تخصه هو فقط دون سواه فقد قدم شبه
الجملة الممثلة في الجار و المجرور (له) وكان حقها التأخير كما هو مألوف في
التعبير على هذا النحو ( :الملك له) ولكن هذا النمط من التعبير ال يبرز معنى
االختصاص الذي أشرنا إليه ،وال يعبر عنه بالكيفية التي جاء عليها في التعبير
األول .واألمثلة المعبرة عن هذا المعنى كثيرة في القرآن الكريم منها :قوله تعالى:
"يؤمنون بالغيب ويقيمون الصالة ،ومما رزقناهم ينفقون"سورة البقرة. 4 /3
هذا في القرآن الكريم أما في اإلبداع الشعري فاألمثلة كثيرة منها قول الشاعر
سليمان العيسى:
-3التشديد في الوعيد:
يأتي التقديم والتأخير في بعض النصوص األدبية لغاية تتعلق بالتشديد في الوعيد.
ولدينا أمثلة كثيرة تؤكد هذا االستخدام في القرآن الكريم وفي اإلبداع الشعري.
ومما جاء عنه في القرآن الكريم قوله تعالى ":إن إلينا إيابهم ثم إن علينا
حسابهم" .الغاشية .26/25
فالموقف الذي أراد تعالى أن يعبر عنه في هذه اآلية هو التهديد والتشديد في
الوعيد ،إذ يقول:إن إيابهم ال يكون إال إليه هو الواحد األحد وكذلك فإن حسابهم
ي عود إليه وحده وليس هناك من يستطيع أن يحاسب عباده إال هو القادر المقتدر.
وإلبراز هذا المعنى قدم الجار والمجرور شبه الجملة (إلينا) مرتين وكان حقه
التأخير في محل رفع خبر(إن) .ولو أبقى التركيب األول وهو" :إن إيابهم إلينا ثم
إن حسابهم علينا" لما برز معنى التهديد والتشديد في الوعيد كما هو واضح في
التركيب السابق.
إن التعديل في التركيب يشير إلى أن لكل تركيب معنى يتطلبه مقتضى الحال
ويستدعيه الموقف ،وبقدر ما يتعدد التقديم والتأخير تتعدد المعاني .وقد رأينا في
األمثلة السابقة كيف أن التقديم والتأخير كان فيها ألهداف تتعلق إما باألهمية أو
باالختصاص أما هنا فقد جاء بغرض التهديد والتشديد في الوعيد .ومن األمثلة
التي يمكن االستدالل بها في الشعر قول أحدهم:
الجياع
ْ سنمضى ونحن األسو ُد إلى ُكلِّ طاغ يمس الحدودَ
فالشاعر هنا يوجه تهديده إلى كل طاغ تسول له نفسه باالعتداء على حرمة وطنه،
ونراه قد استخدم أسلوب التقديم والتأخير إلبراز هذا المعنى ،حيث كان يجب أن
يقول في التركيب العادي المألوف( :سنمضي إلى كل طاغ.)...ولكنه عدل عن هذا
التعبير ألنه أ راد التهديد والتشديد في الوعيد باالنتقام إن أقدم المعتدي على
المساس بكرامة وطنه ،فقدم شبه الجملة( إلى كل طاغ) لتكون ملفتة أكثر وأخر
في اآلن نفسه كلمة (سنمضي) التي كان حقها التقديم .و من الواضح أن التعبير
بالتقديم والتأخير أبلغ وأقوى في إبراز المعنى من التعبير المألوف .واألمثلة عليه
كثيرة وال ضرورة إليرادها هنا ألنها من قبيل التكرار.
-1مفهوم الحقيقة:
الحقيقة مشتقة من حق،يحق ،والحق هو الشيء الثابت بمعنى فاعل وهي أيضا فعيلة
بمعنى مفعولة ،ألن صيغة فعيل في اللغة تصلح أن تكون اسم فاعل أو اسم مفعول.
-2مفهوم المجاز:
أما المجاز فهو مصدر ميمي من جاز الشيء جوازا إذا تعداه ويمكن أن يكون
بمعنى اسم المكان من قولهم " :جاز الطريق مجازا" أي سلكه.
ومن المعنى اللغوي جاء المعنى االصطالحي لكل منهما .فالحقيقة هي اللفظ
المستعمل فيما وضع له ،والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعالقة
مع قرينة تمنع إيراد المعنى الحقيقي ،ومن األمثلة على ذلك قول:الحطيئة يستعطف أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب(رضي هللا عنه) ،وكان قد ألقاه في السجن لهجائه المقذع:
ش َج ُرصل ال ماء وال َ الح َوا ِ
ب َ ُز ْغ ِ ماذا تقول ألفراخ بذي مـــرخ
فاغ َف ْر عليك سال ُم ِ
هللا يا ُعـــــ َم ُر؟ ألقيت كاسِ َبهم في َق ْعر ُم ْظلِ َمة
َ
وقال أبو نواس يصف فتاة تبكي:
وتــلــــــط ُم الـــــوردَ بعنــــا ِ
ب تبكي فتدري الـــــدر من نرجــس
وقول آخر يصف فتاة باكية حزينة:
وردا وعض ْت على ال ُعنا ِ
ب بال َب َردِ. وس َق ْت
فامطرت لؤلؤا من نرجس َ
-شرح الكلمات:
-األفراخ:صغار أطفاله.
-اللؤلؤ :الدمع.
-العناب :األصابع المخضوبة.
-البرد :حبيبات الثلج.
-النرجس :العين.
-الورد :الخد.
نهاية.