استشراق روسي
استشراق روسي
على االســتشــــــــراق
الروسي
الحقوق كافة
مـحــــفــــوظـة
التـحــاد الـكـتّـاب
الــعـرب
البريد االلكتروني:
: [email protected] E-mail
[email protected]
موقع اتحاد الكّتاب العرب على شبكة اإلنترنت
http://www.awu-dam.com
-2-
الدكتورة :فاطمة عبد الفتاح
إضــــاءات على
االسـتشـراق
الروسي
* دراســـــة *
-3-
من منشورات اتحاد الكّتاب العرب
2000
-4-
-5-
المقدمة
-7-
الحضارة وهذه اآلداب ،وكيف تكونت الشخصية
العربية اإلسالمية في وعي اإلنسان الروسي عبر
استعراب العلماء الروس ،آملًة أن أكون قد فتحت
طريقًا يستطيع الباحثون سد الثغرات التي لم
أستطع تداركها.
-8-
-9-
مفهوم االستشراق:
- 10 -
يرى إدوارد سعيد االستشراق أنه (أسلوب من
الفكر قائم على تمييز وجودي (أنطولوجي)
ومعرفي (أبستمولوجي) بين الشرق ((وفي
معظم األحيان)) و((الغرب)) وبإيجاز،
االستشراق ،كأسلوب غربي للسيطرة على
الشرق واستبنائه وامتالك السيادة عليه)(.)1
ويعزو أنور عبد الملك ازدهار الدراسات
الشرقية إلى ارتباطها باالستعمار األوروبي
وسيطرته على بلدان الشرق األقصى والعالم
العربي فيقول( :إن االزدهار الحقيقي للدراسات
الشرقية في القطاعين الرئيسيين اللذين هما
الشرق األقصى والعالم العربي يعود تاريخه
بالدرجة االولى إلى عصر التمركز االستعماري،
وبشكل خاص إلى السيطرة األوروبية على
"القارات المنسية" في أواسط القرن التاسع
عشر ،ثم في ثلثه األخير)(.)2
أما المستشرقون أنفسهم ،فيرون أن
االستشراق تم بدافع الفضول المعرفي للشعوب
األخرى ،فيرى مكسيم رودنسون أن االستشراق
كان يعبرعن الرغبة (في توسيع الفلسفة اإلنسية
(هيومانيزم) لعصر النهضة ،ففي نهاية القرن
الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ،أرادوا أن
يضيفوا إلى الحضارات النموذجية الكالسيكية التي
تستلهمها أوروبا حضارات أخرى)( .)3وهكذا أضافوا
نماذج من الحضارات الشرقية ،ولما أرادوا
التوصل إلى معرفة تلك الحضارات معرفة علمية،
نما االستشراق وازدهر ،ولكن إرادة المعرفة
العلمية هذه بالحضارات الشرقية تمت عندما
استطاع الغرب أن يغدو أقوى من الشرق،
- 12 -
كراتشكوفسكي
( 1883ـ ،)1951مؤسس االستعراب الروسي
الجديد فيتخلى عن مصطلح االستشراق منذ
البداية ،ويسمى (االستشراق الروسي)،
بـ(االستعراب الروسي).
فيقول (العصر الجديد في تاريخ االستعراب
الروسي ،يبدأ من المرسوم الجامعي سنة 1804
ألن هذا المرسوم أدخل تدريس اللغات الشرقية
في برنامج المدارس العليا وأسس األقسام
الخاصة لهذه اللغات ،وأما اللغات الشرقية في
أوروبا الغربية في ذلك الزمان ،فقد كانت المكانة
األولى بين اللغات السامية اللغة العبرية ،أما عندنا
في روسيا ،فاللغات الشرقية في مفهوم الروس،
كانت لغات الشرق اإلسالمي ،وشغلت اللغة
العربية المكانة األولى وقد ُأنشأ قسم اللغة
العربية في جامعة خاركوف بعد صدور المرسوم
في عام 1804م مباشرة)(.)7
هذا في حين أن أتش .أي .أر .جب .العالم
بالدراسات العربية اإلسالمية المعروف كان يفضل
أن يسمي نفسه (مستشرقًا) على أن يسمي
نفسه مستعربًا.
وجغرافيًا كان الشرق يمتد ليشمل ،الهند،
وجزر الهند الشرقية ،والصين واليابان ،وكل مايقع
شرق الخط الذي يقسم العالم جغرافيًا إلى
قسمين شرق وغرب ،ولكن في النهاية ،كان يتم
الحديث دائمًا في االستشراق عن الشرق العربي
المسلم ،الذي كان موضوع دراسة المستشرقين،
وهذا هو الشرق الذي يعنينا في هذه الدراسة،
وبالتالي ،فإنه يصح لدينا استخدام مصطلح
(االستعراب) ،لهذا الحقل من الدراسات التي
تناولت الشرق العربي اإلسالمي وتصح تسمية
(?) تاريخ االستعراب الروسي ـ كراتشكوفسكي 7
فرالوفا.
- 13 -
(المستعربين) للذين درسوا الشرق العربي ـ
اإلسالمي من النواحي الثقافية واالجتماعية
والسياسية ،ألن (المستشرقين) كافة في نهاية
المطاف ،قد اختزلوا الشرق ،بالعرب ـ
المسلمين ،الذين شكلت حضارتهم تحديًا وتهديدًا
للغرب األوروبي الذي ُيؤرخ لبدء االستعراب
الرسمي فيه بصدور قرار مجمع فيينا الكنسي عام
(1312م) والقاضي بتأسيس عدد من كراسي
األستاذية للغات (العربية واليونانية والعبرية
والسريانية) في جامعات (باريس وأوكسفورد
وبولونيا وأفنيون وسالمنكا) أي أن االستعراب كان
رسميًا بقرار كنسي ،ومن أعلى سلطة دينية
مسيحية في الغرب ،وقد كان ذلك بعد الحروب
الصليبية .كما نرى أن اللغات التي تقرر تدريسها،
هي لغات الكتب السماوية الثالث ،إضافة إلى لغة
الحضارة اليونانية التي تعتبر أوروبا نفسها الوارث
الشرعي لها.
ولكن تنفيذ هذا القرار عمليًا ،لم يتم إال بعد
قرن من الزمان تقريبًا (إذ لم تتوفر العناصر
البشرية المنفذة ،كما لم يتوفر المال الالزم
لتحقيق الحلم)( .)8فحتى عام (1453م) لم يكن
هناك مسيحي أوروبي واحد يعرف اللغة العربية.
إن دراسة الشرق العربي ـ المسلم ،جاءت
بقرار كنسي ،ونتيجة من نتائج الحروب الصليبية،
التي كانت أيضًا بقرار ديني ولئن كانت دوافع
الدراسات العربية اإلسالمية ،في حقيقتها دوافع
استعمارية ،فإن هذه الدوافع انبثقت من رحم
الحروب الصليبية ،التي كانت أول تجربة
استعمارية خاضتها أوروبا خارج حدودها ،حيث
أسقط الغرب األوروبي ضعفه على الشرق
العربي اإلسالمي ،وحاول إيجاد حل لمشاكله
المتفاقمة دينيًا واجتماعيًا واقتصاديًا في هذه
ص 119سوذرون ـ صورة اإلسالم في أوروبا . (?) 8
- 14 -
الحروب التي اجتاحت جيوشها الشرق العربي
المسلم ،فبعد أن تفشى الفساد في الكنيسة
والمجتمع ،رأى البابا أربان الثاني ( 1088ـ
1099م) ،أن من الضروري القيام بمغامرة مثيرة
تضع العالم المسيحي بأجمعه أمام عمل وهدف
مشترك ،وكان خطابه في المجمع الكنسي في
كليرمونت والذي دعاه لجلسة استثنائية في
تشرين الثاني (1095م) ،تعبيرًا صريحًا عن الواقع
المتصدع الذي يعيشه الغرب المسيحي ،والرغبة
الواضحة في وضع هذا الغرب أمام هدف عام
واحد ،فقد قال في خطابه أمام المجمع المذكور
(انهضوا وأديروا أسلحتكم التي كنتم تستعملونها
ضد إخوانكم ،ووجهوها ضد أعدائكم ،أعداء
المسيحية ،إنكم تظلمون اليتامى واألرامل ،وأنتم
تتورطون في القتل واالغتصاب ،وتنهبون الشعب
في الطرق العامة ،وتقبلون الرشاوى لقتل
إخوانكم المسيحيين ،وتريقون دماءهم ،دونما
خوف أو وجل أوخجل ،فأنتم كالطيور الجوارح
آكلة الجيف ،التي تنجذب لرائحة الجيف اإلنسانية
النتنة ،ضحايا جشعكم ،انهضوا إذن ،وال تقاتلوا
إخوانكم المسيحيين بل قاتلوا أعداءكم الذين
استولوا على مدينة القدس ،حاربوا تحت راية
المسيح ،قائدكم الوحيد ،افتدوا أنفسكم ،أنتم
المذنبون المقترفون أحط أنواع اآلثام وهذه
((مشيئة الله))( .)9وأربان الثاني هو خليفة البابا
غريغوريوس السابع اليهودي األصل ،والذي هو
صاحب فكرة الحملة الصليبية لتحرير القدس،
والتي حدد فيما بعد البابا أربان الثاني موعدها
يوم( 15آب ،)1096والنص السابق يعكس لنا
مدى التفسخ الذي أصاب المجتمع األوروبي والذي
جعل من المسيح محاربًا.
لقد كانت الحروب الصليبية حًال للمشاكل التي
ص 244بابوات من الحي اليهودي. (?) 9
- 15 -
عانت منها الكنيسة الغربية ،في صراع البابا
غريغوريوس السادس ،والبابا غريغوريوس السابع
مع اإلمبراطورين هنري الثالث وهنري الرابع في
ألمانيا وما تبع ذلك من نزاع وقتال عانت منهما
الكنيسة والمجتمع معًا إضافة للدافع األساسي
اآلخر لهذه الحروب وهو (رغبة البابوية في إخضاع
الكنيسة الشرقية األرثوذكسية لزعامتها)(.)10
وذلك بعد االنشقاق الديني سنة
(1054م) ،بين الكنيسة الالتينية والكنيسة
اليونانية ،واستحكام النزاع بين األباطرة
البيزنطيين والبابوية في روما ،يقول أرنست باركر
((وكان من الطبيعي أن يضحي االستيالء على بيت
المقدس هدفًا لتحقيق أطماع المسيحية الغربية،
ومن الطبيعي أن تتعلق به الكنيسة وتحاول أن
تسير به قدمًا ،وذلك لحرصها على تحقيق حلمها
()11
بقيام كنيسة عالمية تخضع لسلطانها)
إذن ،تسيير الحمالت الصليبية باتجاه الشرق
العربي ـ اإلسالمي ،تحت ستار ديني ،كانت غايته
عملّيًا ،البحث عن حل لمشاكل المجتمع الغربي
المسيحي ،وكذلك ،إقامة كنيسة عالمية ،بإخضاع
الكنيسة الشرقية لسلطة روما ،من خالل إيجاد
هدف عام مشترك هو قتال المسلمين وتحرير
بيت المقدس ،وبالتالي فإن الحروب الصليبية في
دوافعها وكذلك في أدواتها كانت أوروبية غربية ،إذ
تشكلت معظم جيوش تلك الحروب من فرنسا
وإيطاليا واسكتلندا وألمانيا ،بينما نرى أن أوروبا
الشرقية قد عانت من هذه الحمالت وهي تجتاح
أراضيها متجهة إلى الشرق اإلسالمي ،فعندما
زحفت فرقها خالل سهول هنغاريا ،كانت تعمل
السلب والنهب واالغتصاب ،غير مبالية بديانة
عاشور.
(?) ص 16الحروب الصليبية ـ أرنست باركر. 11
- 16 -
أصحاب البالد ،لقد كانت هذه الحروب هي التجربة
االستعمارية األولى ،التي خاضها الغرب لتحقيق
المكاسب اآلنفة الذكر ،ومن هذه التجربة وهذه
الحروب االستعمارية انبثق االستشراق األوروبي
الغربي ،في الوقت الذي كانت فيه روسيا بعيدة
عن هذه الحروب ،وعن هذا السعي االستعماري
في الشرق العربي اإلسالمي .لقد فوجئت
الكنيسة الشرقية نفسها بهذا الزحف الغربي ،إذ
أن إمبراطور القسطنطينية (الكسي كومينين)،
كان قد طلب إمدادات لمواجهة السالجقة ،ولكنه
فوجئ بهذه الجيوش الجرارة ،إذ أنه في األساس
لم تكن هناك مشكلة بين الكنيسة الشرقية
واإلسالم وكان اإلسالم راعيًا وحاميًا للمسيحيين
في دولة اإلسالم ،ولكن النزعة األوروبية المركزية
في السيطرة على الشرق العربي اإلسالمي قد
بدأت بالتشكل منذ ذلك الحين ،إن المركزية
األوروبية التي نما في حضنها االستشراق األوروبي
الغربي بنيت على الفكرة األساسية الصليبية ،إذ
سعت المسيحية الغربية إلى جعل نفسها مركز
العالم ،بإخضاع المسيحية الشرقية ،وتوحيد
الكنيستين ولو بالقوة ،وبالتالي تحقيق عالمية
الكنيسة ،بإخضاع العالم كله لسلطة روما ،يقول
ريتشارد سوذرن (نحن في الواقع جزء صغير من
المسيحية في العالم ،لكننا نزعم أن العالم كله
مرغم على اتباع آرائنا ،ونزعم أيضًا ،أن هذا العالم
يرتعد تحت وطأة توجيهاتنا)( .)12لم تكن هناك
مشكلة بين المسيحيين والمسلمين في دولة
اإلسالم ،إذ كان (المسيحيون في بالد الشرق
يرون أن حكم المسلمين أخف وطأة من حكم
()13
بيزنطة وكنيستها).
ولم تكن هناك مشكلة بين المسلمين
- 17 -
والكنيسة الشرقية (البيزنطيين) في نفس الوقت،
ولكن بعد الحروب الصليبية األولى ميز العرب
المسلمون بين المسيحية الشرقية التي كانوا
يتعاملون معها ،ولم تكن لهم معها مشكلة ،وبين
المسيحية الغربية التي جاءت غازية بجيوش
جرارة ،وبعد أن أدركوا غاياتها ،وأن المسيحية
الشرقية ليست سوى تبرير للحمالت الصليبية
الغربية أصبحوا يطلقون اسم (االفرنج) على
المسيحية الغربية ،تمييزًا لها عن (الروم) ،هذه
التسمية التي كانت تطلق على المسيحية
الشرقية المجاورة جغرافيًا ،لتعم جميع المسيحية.
إال أن الوضع اختلف بعد الحمالت الصليبية ،وأدرك
العرب المسلمون ،أن المشكلة ليست مع
(الروم) المسيحية الشرقية ،وإنما مع (اإلفرنج)
المسيحية الغربية ،وسوف نرى أن المستعرب
كراتشكوفسكي فيما بعد ،قد استخدم هذه
المصطلح (اإلفرنج) في حديثه عن أوروبا الغربية.
إن معرفة الغرب للشرق العربي اإلسالمي
تمت بأوسع صورها من خالل الحمالت الصليبية،
وبالتالي فإن االستعراب األوروبي الغربي ،كان
نتيجة من نتائج هذه الحروب ،ولذلك نرى أنه من
الضروري التمييز بين استعراب نشأ هذه النشأة
االستعمارية وبين استعراب لم يكن كذلك بالنسبة
لروسيا وغيرها ،حيث تختلف الدوافع والغايات،
وألن هذا التمييز هو الذي يحدد موقفنا من
االستعراب بجانبيه الشرقي والغربي خاصة وأن
بعض المؤرخين يعتقدون بأن النزاع الذي كان
موجودًا بين القوتين األعظم الكتلة الشرقية
والكتلة الغربية له جذوره العميقة في النزاع بين
الكنيستين في القرن الحادي عشر ،ففي هذا
القرن بدأ نشوء العالمين الشرقي والغربي (فلو
نجحت الكنيسة الالتينية في اإلبقاء على كنيسة
موحدة كاثوليكية حقيقية ومقبولة لدى الجميع،
- 18 -
لكانت بلدان البلقان وروسيا اآلن جزءًا من العالم
الغربي فإن االنفصال بين روما والقسطنطينية لم
يكن حدثًا محليًا ،أو مجرد تاريخ من تواريخ
الكنيسة ،ولكنه كان حدثًا عالميًا هَّز أركان العالم)
(.)14
ونستطيع القول أن هدف الكنيسة الغربية،
كان تحقيق عالمية العالم ،ولو بالقوة من خالل
الحروب الصليبية ،ولعل العولمة اآلن هي وجه آخر
من وجوه هذا المشروع الموغل في القدم. .
إن إنشاء الشرق في ذهن الغرب ،كان من
خالل النتاج الفكري (األدبي والتاريخي) الذي
أعقب هذه الحروب ،والذي امتزج فيه الواقعي
بالوصف التاريخي األسطوري لهذه الحروب،
وبالتالي من الطبيعي ،أن االستشراق األوروبي
الغربي الذي ضربت جذوره في هذا النتاج
الفكري ،أن يكون محشوًا بالمغالطات التي
كرست فكرة التمايز بين الشرق والغرب فيما
بعد.
لقد حث المبشر ريموند raymondas lulus
(مجمع فيينا سنة 1311على أن يتخذ قرارًا كنسيًا
بإنشاء ست مدارس للغات الشرقية في أوروبة)
(.)15
وكانت روسيا خارج هذا القرار الكنسي ،ألن
الحلفاء الممكنين للكنيسة الغربية (المغول
واألرثوذكسية الشرقية) ،أصبحوا أعداء قائمين من
خالل إقبال المغول على اإلسالم الذين ظن الغرب
في البداية أنهم مسيحيون اجتاحوا الشرق العربي
اإلسالمي للقضاء على اإلسالم فاستبشروا بهم
خيرًا ،ومن خالل تعميق العداء بين الكنيسة
األرثوذكسية الشرقية والكنيسة الغربية.
- 19 -
وبالتالي ،فإننا عندما نتحدث عن االستعراب
الروسي فلن نتحدث عنه بوصفه نتيجة من نتائج
الحروب الصليبية وال كونه ممثًال (للمركزية
األوروبية) وعقدة التفوق والهيمنة وال من باب
رؤية غابريللي ،أن هذا االستشراق (يرفع رسميًا
الرايات المضادة لالستعمار من أجل إرضاء أبناء
العالم الثالث)(.)16
وإنما ألن االستعراب الروسي نما في ظروف
مختلفة عن تلك التي ترعرع فيها االستشراق
الغربي ،وكذلك الختالف دوافعه وغاياته في
مرحلتي روسيا القيصرية ومابعد ثورة أكتوبر.
البدايات والدوافع:
لم تعرف روسيا الدين المسيحي قبل القرن
العاشر الميالدي ،عندما أرسل القيصر فالديمير
المقدس رسله إلى البالد مستفسرًا عن األديان
ليكون أحدها دينًا للدولة ،وحسب المستعربة
فرالوفا (إن سبب عدم اختيار اإلسالم دينًا للدولة
كان بسبب تحريم الخمر) ،وقد ابتدأت معرفة
روسيا بالشرق العربي المسلم ،من خالل رحالت
الحجاج المسيحيين إلى الديار المقدسة ومن خالل
الرحالة والتجار ،وكانت هذه المعرفة وصفية ،ولم
تختلف عن وصف الرحالة والتجار الغربيين
األوائل للشرق اإلسالمي ،ولعل من أوائل التجار
الذين زاروا بالد الشرق ومكثوا فيها فترة ،التاجر
الروسي أفاناس نيكتين ،الذي امتدت رحلته إلى
الشرق مابين (1474-1466م) ،وزار فيها البالد
العربية ومكث فترة في بالد فارس والهند ،كما زار
مسقط والصومال وتركيا ،وألف كتابًا عن هذه
الرحلة سماه (الرحلة إلى األراضي الواقعة وراء
ثالثة بحور) كما شكلت الشعوب المسلمة
- 20 -
المجاورة لروسيا مصدرًا هامًا من مصادر معرفة
الروس بالعالم اإلسالمي والثقافة العربية
اإلسالمية ،هذا وإن صالت روسيا مع بلدان الجوار
اإلسالمي ،ولدت فضوًال لمعرفة اإلسالم وتجليات
الثقافة اإلسالمية وفيما بعد ،عندما أصبحت بعض
هذه الشعوب اإلسالمية ضمن الدولة الروسية فإن
هذه المعرفة أصبحت ضرورية .وعلى الرغم من
الحروب التي كانت بين روسيا وتركيا ،فإن العداء
لم يكن موجهًا ضد اإلسالم كدين وإنما تجاه الدولة
التركية ،وتجاه التتار ،وقد تم استغالل المسيحية
من قبل الدولة الروسية واإلسالم من قبل األتراك
الستخدامهما كغطاء أيديولوجي لسياسة كل من
الطرفين تجاه اآلخر ،وتعبئة شعب كل منهما ضد
اآلخر لتبرير الحروب القائمة بين الطرفين .وقد
كان للجهل المسيطر في روسيا تسهيًال لمهمة
السلطة في تسخير العامل الديني في الحرب مع
األتراك ،إذ لم تتجاوز نسبة المثقفين والفئة
المسيطرة في روسيا آنذاك ،%3من سكان
البالد ،وأن أغلبية الروس حتى عام ( )1860كانوا
عبيدًا ال يقرأون وال يفهمون سوى تعاليم الكنيسة
()17
وكالم القساوسة.
وحقيقة األمر أن الصراع بين روسيا وتركيا
كان صراعًا سياسيًا حول شبه جزيرة القرم
وتوسيع النفوذ السياسي على البحر األسود ولكن
هذا الصراع لم يكن يومًا بدافع ديني أي من
منطلق العداء بين المسيحية الشرقية واإلسالم
ولطالما اعتبر الروس أنفسهم شرقيين .وفي هذا
نرى أن العالم العربي ،اإلسالمي ،كان خارج دائرة
هذا الصراع وبالتالي لم يكن هناك صدام بين
روسيا والعرب المسلمين ،ولم تتواجد الجيوش
الروسية في أي زمان على أراضي العالم العربي
اإلسالمي ،وإذا تواجدت فكان ذلك بدافع تقديم
فرالوفا. (?) 17
- 21 -
المعونة لبعض الحكومات القائمة (ففي أيام
محمد علي ،عندما أرادت إنكلترا أن تحتل
الشواطئ المصرية ،أرسلت الحكومة القيصرية
األسطول البحري الروسي ،الذي اعترض محاولة
إنزال مشاة البحرية اإلنكليزية في اإلسكندرية).
()18
- 22 -
وإلى جانب الدوافع المعرفية لالستعراب
الروسي ،كان هناك اتجاه سياسي للدراسات
العربية ـ اإلسالمية ،ارتبط بوزارة الخارجية
والكنيسة وقد برز في وقت من األوقات في بعض
المناطق ،مثل قازان ،تعصب ديني من قبل
الكنيسة وحمالت التبشير الغربية ،ترافق أحيانًا
بحمالت التنصير بالقوة ،والتي جاءت القيصرة
ايكاترينا الثانية ،لتترك للمسلمين التتار حرية
اعتناق المسيحية أو اإلبقاء على دينهم اإلسالمي،
وقد رافق هذا التعصب الذي عبرت عنه مجلة
(التبشير المناهض لإلسالم) مواقف مضادة من
علماء مستعربين مثل بارتولد وروزن اللذين وقفا
ضد الحركات العصبوية الدينية ،وهذا الموقف من
المستعربين الروس ضد التيار المتعصب لم نلمح
له مثيًال في استعراب الغرب األوروبي ،وهذا
الموقف يعني أيضًا ،أن الموقف والموقف المضاد
ماكان ليسمح ببقاء صورة العربي المسلم في
ذهن الروسي صورة أحادية الجانب ،فتكون هي
الطاغية والفاعلة ،وبالتالي من الممكن القول أن
التعصب الديني والعداء الديني لم يحكما نظرة
وفعل االستعراب الروسي ،وبالتالي فإن دور
الكنيسة األرثوذكسية كان أقل بكثير من دور
الكنيسة الكاثوليكية في االستعراب وفي إنشاء
صورة الشرقي المسلم بشكل مشوه ألنه بوجه
عام (لم يكن اإلسالم بالنسبة للكنيسة الروسية
عدوًا ،وإنما كانت الدعاية ضد اإلسالم ضرورية
للكنيسة من أجل إقناع الناس بالمسيحية ،وهذا
غير مرتبط بتعصب شديد أو بأغراض سياسية
واضحة ،وبالتالي نستطيع القول عن هذا الصراع
ًا ()21
أنه كان مباراة ولم يكن كفاح ).
إذن ،إذا كانت معرفة العالم العربي اإلسالمي
قد تمت بدافع كنسي في أوروبة الغربية وأحدثت
بتروفسكي. (?) 21
- 23 -
معاهد االستشراق بناء على قرار كنسي ،باعتبار
أن اإلسالم يمثل خطرًا أو تحديًا لآلخر ،المسيحي
الغربي ،بحيث بات (ضروريًا التعرف على اإلسالم
بشكل واقعي ،وماكان ذلك سهًال ،هكذا نشأت
مسألة تاريخية ماكانت معالجتها ممكنة بغير
معرفة لغوية وثقافية واسعة لم تكن متاحة بادئ
ذي بدء)( .)22فإنه لم تكن هناك مواجهة حقيقية
تحمل هذا الطابع ،طابع العداء والتحدي بين
الكنيسة الشرقية في روسيا وبين اإلسالم ،لم يكن
هناك إحساس بالخطر من اإلسالم ،فقد كانت بالد
وسط آسيا المسلمة تقع ضمن روسيا القيصرية،
وبالتالي فقد درس االستعراب الروسي الثقافة
اإلسالمية على أنها جزء من تراثهم وتعامل مع
الواقع اإلسالمي ككيان اجتماعي وواقع إنساني
قائم ،وبالتالي لم يتم الحديث عن عالم شرقي
إسالمي غرائبي ،لقد كان هذا الشرق اإلسالمي
مجاورًا وتم التعايش واالحتكاك معه واإلفادة منه.
وبالتالي فإن اإلسالم مثل عنصرًا تنافسيًا وليس
عدائيًا للمسيحية األرثوذكسية في روسيا ،وهذا
مختلف تمامًا عن الموقف الذي صدر عن الكنيسة
األوروبية الغربية تجاه اإلسالم والذي جاء
بالحمالت الصليبية ،لقد تعايش اإلسالم
والمسيحية جنبًا إلى جنب في روسيا ،وبالتالي فإن
نشأة االستعراب الروسي لم تتم في حضن العداء
الديني وال من ضرورة دراسة اإلسالم كعدو قائم
يمثل خطرًا واجتياحًا ،ومن ثم لم يكن ضروريًا
إنشاء صورة الشرق العربي اإلسالمي كعدو كما
هو الحال في االستشراق األوروبي ،وإن كانت
بعض المعلومات التي كانت ترد من خالل الرحالة
والتجار ال تخلو من بعض األسطرة للشرق العربي
المسلم.
لقد شجعت الحكومات الروسية في العهود
ص 37صورة اإلسالم في أوروبة وسوذرن. (?) 22
- 24 -
المختلفة دراسة التراث العربي اإلسالمي وخاصة
ذلك الذي يتعلق باألقاليم اإلسالمية الواقعة ضمن
الدولة الروسية ،وذلك لتوسيع المعرفة بالشعوب
اإلسالمية ،وكانت المصادر الثقافية العربية تشكل
ركنًا أساسيًا من مصادر معرفة شعوب القوقاز
وآسيا الوسطى وحتى الروس ،هذه المعرفة التي
انعكست بشكل إيجابي لمصلحة روسيا كما
يعترف بذلك المستعربون أنفسهم (كنا نعيش جنبًا
إلى جنب مع شعوب آسيا الوسطى لمدة طويلة
وكانت معارفنا تزداد بهذا التعايش… كنا نتطور
تحت تأثير الشعوب اإلسالمية وأظن الشعوب
اإلسالمية في بالدنا كانت تتطور تحت تأثيرنا).
لقد كان لالستعراب الروسي منذ البداية
مدرستان متمايزتان ،ارتبطت إحداهما بوزارة
الخارجية الروسية ،وقد ساهمت هذه المدرسة
في خدمة القرار السياسي والمصالح الروسية
الخارجية (كان هناك أيضًا في روسيا اتجاه
للدراسات الشرقية ألغراض سياسية ،مع تعصب
ديني ،ولكن في نفس الوقت .كان هناك من هو
ضد هذه التيارات المتعصبة وضد الدراسات
الشرقية الكنيسية غير الممتدة إلى وقائع تاريخية
ثابتة ،ونحن ال نرى هذا في أي دراسات شرقية
خارج روسيا)( )23والمدرسة األخرى حملت الطابع
المعرفي العلمي البحت ،وحرص المستعربون
فيها على استقاللية عملها وقد نشأت هذه
المدرسة وما زالت في بطرسبورغ ،حيث (بذلت
جهود كبيرة من قبل العلماء في بطرسبورغ
لتحقيق درجة من االستقالل المهني ونشر
()24
الدراسات بعيدًا عن التوجه السياسي).
وفي بداية االستعراب الروسي ،تمت االستعانة
بعلماء من الغرب ،كما كان الشأن بالنسبة
بتروفسكي (?) 23
- 25 -
للمجاالت الأخرى المختلفة ،فعندما بدأ القيصر
بطرس الأول الإصالحات في السياسة والعلوم
والجيش ومختلف أوجه الحياة في روسيا ،استعان
بالخبرات الأوروبية من فرنسا وألمانيا وإنكلترا،
ولكن االستعراب الروسي مالبث أن أخذ بتكوين
نفسه معتمدًا على المصادر الشرقية الإسالمية
مباشرة ،بداية من خالل التبادل الثقافي الذي جرى
والمعايشة المباشرة للموظفين والعسكريين
الروس في مناطق الفولغا والبحر الأسود والقوقاز
وآسيا الوسطى ،ووصف هؤالء هذه البالد في
الكتب والصحف شعرًا ونثراً ،إضافة إلى توافد
أبناء هذه المناطق إلى بطرسبورغ وموسكو
وتعلمهم في جامعاتها ومعاهدها ،وقد كان هؤالء
الوافدين يعكسون قوة تأثير الثقافة العربية
اإلسالمية (فإن قوة تيار التراث العربي القديم في
القوقاز استطاعت أن تحمل حتى أيامنا ،اللغة
العربية الفصحى التي ال تستخدم في التخاطب
العام في موطنها في البالد العربية ،أما في شمال
القوقاز فقد عاشت اللغة العربية حياة كاملة ال في
الكتابة فحسب ،بل وفي الحديث أيضًا)( .)25لقد
كان للشعوب اإلسالمية في وسط آسيا واحتكاكها
المباشر مع الروس دورًا كبيرًا في االستعراب
الروسي ،إذ ساهمت في نقل الثقافة العربية
اإلسالمية مباشرة إلى االستعراب الروسي دون
المرور بالمصفاة األوروبية الغربية ،لقد صب
التراث العربي اإلسالمي مباشرة في مجرى
االستعراب الروسي دون تشويه أو إنشاء أو
أسطرة صور وهمية عن الشرق العربي المسلم،
وقد ساهم وجود المستعربين من العسكريين في
القوقاز في ترجمة العديد من اآلثار األدبية العربية
اإلسالمية ،إذ قام الجنرال بوغوسالفسكي بترجمة
القرآن الكريم من العربية إلى الروسية مباشرة.
(?) ص 196مع المحفوظات العربية ـ 25
كراتشكوفسكي.
- 26 -
مصادر االستعراب الروسي:
لقد استقى االستعراب الروسي معرفته من
خالل مصادر عديدة ،تفاوتت في أهميتها وزمنها،
بالنسبة لهذا االستعراب ويمكن القول بأن هذه
المصادر كانت:
أ ـ التجار والرحالة والحجاج المسيحيين
الوافدين إلى بيت المقدس.
ب ـ المعرفة المباشرة للشعوب اإلسالمية
الواقعة ضمن الدولة الروسية.
ج ـ العلماء الباحثين من الروس والعرب
على حد سواء ،الذين رحلوا إلى البالد
العربية أو العرب الذين قدموا إلى
روسيا ألسباب مختلفة منها السياسة
ومنها العلمية.
د ـ المخطوطات التي انتقلت إلى خزائن
المكتبات في روسيا ،والتي كانت تمثل
التاريخ الحضاري للثقافة العربية
اإلسالمية.
هـ -العالقات بين الكنيسة الروسية
األرثوذكسية مع الكنائس األرثوذكسية في
الشرق العربي ،فلسطين ،لبنان ،وغيرها،
ووجود بعض المدارس الروسية المرتبطة
مع هذه الكنائس ،وإن كان ذلك بنسبة
قليلة قياسًا للحضور األوروبي الغربي
التبشيري في البالد العربية اإلسالمية.
إن بدء العمل الرسمي والمنظم في
الدراسات العربية ـ اإلسالمية ،كان قد بدأ مع عهد
القيصر بطرس األكبر عندما تمت أول ترجمة
للقرآن الكريم عام ( )1716إلى اللغة الروسية،
وقد قام بها الدكتور بيوتر بوستينكوف عن
الترجمة الفرنسية للمستشرق الفرنسي ديوري
عام (1643م) ،تال ذلك ترجمة أخرى عام (
- 27 -
1776م) ،ولكن أول ترجمة للقرآن من اللغة
العربية مباشرة إلى اللغة الروسية كانت في عام
(1878م) ،والتي قام بها المستعرب سابلوكوف (
1854ـ 1880م) ،والذي كان يتقن العربية إتقانًا
جيدًا ،وقد تكررت طباعة هذه الترجمة في أعوام (
،)1898-1879كما قام الجنرال المستعرب
بوغوسالفسكي ،المراقب المالزم للزعيم األواري
شامل ،والذي عمل فيما بعد في السفارة
الروسية في تركيا ،قام بترجمة للقرآن من العربية
إلى الروسية مباشرة في نهاية العقد العاشر من
القرن التاسع عشر ،وهي الترجمة الثانية للقرآن
من العربية إلى الروسية مباشرة خالل القرن
التاسع عشر ،كما قام المستعرب أغناطيوس
كراتشكوفسكي بترجمة أخرى للقرآن من العربية
مباشرة إلى الروسية عام (1963م).
وقام المستعرب موخلينسكي ( 1808ـ
1877م)( )26بترجمة وتفسير القرآن إلى اللغة
البيالروسية والبولندية من أجل التتار المسلمين
الذين كانوا على حدود بيال روسيا وبولندا وليتوانيا.
تمت أول طباعة للقرآن باللغة العربية ،في
عهد القيصرة ايكاترينا الثانية في القرن الثامن
عشر عام (1787م) ،إذ برز في هذه الفترة اتجاه
لتنصير المسلمين بالقوة من قبل المبشرين من
إنكلترا واسكوتلندا ،فتركت ايكاترينا أمر التنصير
إراديًا لمن يشاء من المسلمين ،وقامت بطباعة
القرآن لتقديمه للشعوب اإلسالمية الواقعة ضمن
اإلمبراطورية الروسية وتمت إعادة هذه الطبعة
في أعوام (1790 ،1793م) .وكان المستشرق
كانتمير (1673ـ1723م) ،قد أدخل أول مطبعة
ذات حروف عربية إلى روسيا ،تم بواسطتها
طباعة أول بيان رسمي للقيصر في عام (
1722م) .ومن الجدير ذكره ،أن القيصرة ايكاترينا
فرالوفا. (?) 26
- 28 -
الثانية ،كانت تحظى باحترام الشعوب المسلمة
ضمن اإلمبراطورية الروسية وقد اتصلت هذه
اإلمبراطورة بعلماء من دول مختلفة ،كان منهم
جمال الدين األفغاني (1897 ، 1838م) ،الذي
قضى عدة سنوات في بطرسبورغ ،قبل أن يذهب
إلى إنكلترا وقد كان يعرف اللغة الروسية .وفي
عهد القيصرة ُبدئ بتدريس اللغة العربية في
المدارس المختصة بتعليم اللغات الشرقية ،إلى
جانب البخارية والتترية والفارسية ،وذلك بعد
قرارها الصادر عام
(1772م) القاضي بتدريس اللغة العربية ،وهنا
نالحظ أن قرار تدريس اللغة العربية في المدارس
المختصة ،كان قرارًا حكوميًا ولم يكن قرارًا
كنسيًا ،كالذي حدث في مجمع فيينا.
ومفهوم اللغات الشرقية في االستعراب
الروسي يختلف عنه في االستعراب األوروبي
الغربي فاللغات الشرقية في أوروبا ،كانت اللغات
السامية والمكانة األولى بين هذه اللغات كانت
للغة العبرية كونها لغة الكتاب المقدس ،أما في
روسيا ،فاللغات الشرقية تعني لغات الشرق
المسلم الواقع ضمن االمبراطورية الروسية أو
المتاخمة لها ،وشغلت اللغة العربية المكانة األولى
بين هذه اللغات .أما (العصر الجديد لالستعراب
الروسي فيبتدأ من المرسوم الجامعي سنة (
1804م) ،ألن هذا المرسوم أدخل تدريس اللغات
الشرقية في برامج المدارس العليا وأسس
األقسام الخاصة لهذه اللغات)( ،)27وأنشئ أول
قسم للغة العربية في جامعة خاركوف بعد صدور
المرسوم مباشرة ،وكان أول أستاذ يدرس اللغة
العربية في هذا القسم سنة (1805م) .هو األستاذ
(بيرندت)( ،وكان يمثل التقاليد السامية األوروبية
ترجمة فرالونا.
- 29 -
الغربية ،وهو من رجال الدين المسيحي) )28(.وتبع
ذلك إنشاء قسم اللغة العربية في جامعة قازان
في تتارستان ،وقد قام بتدريس اللغة العربية فيما
بعد في هذه الجامعة عدد من األساتذة العرب،
فقد دّر س فيها ،أحمد ابن حسين المكي ،منذ (
1852ـ 1854م) ،ثم جاء بعد ذلك العربي
الفلسطيني بندلي بن صليبا جوزي منذ ( 1871ـ
1942م) ،وهو من القدس ،ولد وتعلم بها وكان
هذا األستاذ قد تعلم في مدينة قازان وحصل على
دبلوم الدراسات العليا منها وحصل على رسالة
الدكتوراة سنة (1899م) في (فكر المعتزلة)،
وكتب مقالة (القرآن الكريم) ،لموسوعة دينية
أرثوذكسية ،كما ألف كتابًا مدرسيًا لتعليم اللغة
الروسية للعرب ،وألف كذلك قاموس (روسي ـ
عربي) ،كما كتب (أبحاثًا قيمة في مصادر عربية
مهمة لتاريخ القوقاز ،ومنها حركة بابك الخرَّمي،
وحلل أخبارًا في غزو الروس لمدينة (بردعة) في
جنوب أذربيجان وترجم إلى اللغة الروسية
((مقتطفات من تاريخ أذربيجان)) من كتب
()29
اليعقوبي والبالذري).
ولـه من الكتب أيضًا (من الحركات الفكرية
في اإلسالم) و(تاج العروس في معرفة لغة
الروس) و(أصل الكتابة عند العرب) و(جبل لبنان،
تاريخه وحالته الحاضرة) .وقد عاش جوزي طوال
حياته في روسيا ،وأهميته تنبع من كونه ألف عددًا
كبيرًا من المقاالت وترجم مقتطفات من مصادر
عربية مهمة لتاريخ القوقاز.
في عام (1819م) ،تأسست جامعة
بطرسبورغ ،والتي ابتدأ تدريس اللغة العربية فيها
منذ ذلك الوقت ،وكان الشيخ المصري محمد عياد
الطنطاوي ،أول عربي يشغل كرسي اللغة العربية
نفس المصدر. (?) 28
- 30 -
في هذه الجامعة بين أعوام ( 1847ـ
1861م) ،وقد شغله قبله الفرنسي ديمانج (
1819ـ 1822م) ،والبولندي سنكوفسكي (
1822ـ 1847م) ،لقد تفتحت شخصية الطنطاوي
العلمية في القاهرة في األزهر ،إذ يقول في
رسالة بعث بها إلى المستعرب فرين (فكان مكثي
في مصر من سعادتي فحينئٍذ حضرت في النحو
والفقه وغيرها والشك أن تعلم الثالث سنين في
طنطا أكسب لي بعض فهم ،فكنت أفهم خصوصًا
النحو وغيره أكثر من الفقه ،فحضرت األجرومية
وشرح الشيخ خالد ،وشرح القطر وشرح األلفية
البن عقيل وشرحها لألشموني ،وشرح مختصر
السعد في علم المعاني والبيان والبديع وشرح
مطوله كذلك ،وشرح جمع الجوامع في علم أصول
الفقه وشرح السنوسية في علم التوحيد وشرح
الجوهرة فيه الخ ،وغالب حضوري على الشيخ
إبراهيم الباجوري وهو اعلم أهل األزهر اآلن بال
نزاع))..
ثم عبرت هذه الشخصية إلى بطرسبورغ
عاصمة روسيا القيصرية ،لتقدم عصارة العلم
والجهد في تعليم اآلداب العربية اإلسالمية وليتم
على يدي الشيخ محمد عياد الطنطاوي تخريج عدد
من المستعربين الروس ،كانوا األساس في تكوين
مدرسة االستعراب الكالسيكية ،فقد تتلمذ على
الطنطاوي المستعرب (نقوال موخن) وغيره ،وقد
احتفل األعالم الروسي بالطنطاوي عندما قدم إلى
بطرسبورغ وكتبت عنه مقالة عرََّفت به في
صحيفة (أخبار سانت بطرسبورغ) في 22آب عام
1840مَ ،وَرَد فيها (تسألني عن هذا الرجل الوسيم
في حلته الشرقية وعمامته البيضاء ولحيته
السوداء كالقطران ،وعيونه الحية المتقدة شررًا
ووجهه المعبر الذكي المحترق ال بشمسنا
الشمالية الباهتة… اآلن تستطيعون تمامًا أن
- 31 -
تتعلموا التحدث بالعربية دون أن تسافروا من
بطرسبورغ)( ،)30وبَّين كاتب المقال أن هذا الرجل
هو الشيخ محمد عياد طنطاوي الذي رحل من
(شاطئ النيل) ليشغل الكرسي الخالي للغة
العربية في معهد اللغات الشرقية التابع لوزارة
الخارجية وقد وصفه كراتشكوفسكي بقوله( :فيا
لها من زهرة نادرة تلك الشخصية التي تألألت في
روسيا القديمة)( .)31وقد جمع الطنطاوي خالل
فترة عمله مجموعة من المخطوطات تقارب
المائة وخمسين مخطوطة آلت إلى مكتبة جامعة
بطرسبورغ ،وحَّل جزء منها في نطاق االستخدام
العلمي ،كما اهتمت األوساط االستعرابية الغربية
بالطنطاوي ،ففي عام 1944كتب محرر الطبعة
العالمية المشهورة لدائرة المعارف اإلسالمية
التي تجدد صدورها بعد الحرب العالمية األولى
طالبًا من كراتشكوفسكي أن يكتب له مقاًال عن
()32
الطنطاوي.
وللطنطاوي العديد من المؤلفات المحفوظة
في مكتبة المخطوطات في جامعة بطرسبورغ،
بعضها كتبه لغايات تعليمية مثل (نظم تصريف
الزنجاني) ،و(تقييدات على شرح األزهرية)،
و(حاشية الكافي في العروض والقوافي) ،و(نبذة
عن تاريخ العرب) ،و(حال في األعياد والمواسم
في مصر) و(فهرس الخلفاء والسالطين)
و(القاموس التتري العربي) ،وكان البعض اآلخر
من مؤلفاته تأريخًا ألحداث مختلفة عايشها خالل
فترة وجوده في روسيا مثل (تاريخ خمس
وعشرين سنة من تتويج أبهة قيصر الروسيا نيقوال
األول) ،و(تاريخ جلوس أبهة القيصر اسكندر الثاني
على تخت روسيا) ،وغير ذلك ،ولعلنا نستطيع
- 32 -
القول بأن أول دراسة في االستغراب قام بها عالم
عربي نستطيع أن نردها للطنطاوي ،وذلك من
خالل مؤلفه الذي كتبه في وصف روسيا وأهداه
إلى السلطان عبد المجيد ،وأسماه (تحفة أولي
األلباب في أخبار بالد روسيا) ،وقد كتبه في عام (
1850مـ 1266هـ) ،ويتناول في الكتاب وصفًا
تفصيليًا لرحلته من القاهرة إلى بطرسبورغ،
ومتحدثًا عن انطباعاته خالل العشرة أعوام األولى
التي قضاها في روسيا ،علمًا بأنه سبق مؤلف
الطنطاوي هذا مؤلف أقدم منه في وصف روسيا،
هو كتاب (وصف الروسيا) للبطريرك مكاريوس
اإلنطاكي ،يصف رحلته من سوريا إلى روسيا،
والعودة منها واإلقامة فيها ،وكتبه ابنه بولصي
الحلبي عام (1700م) ،الذي كان مرافقًا له في
هذه الرحلة.
وتعود أهمية كتاب الطنطاوي إلى طول إقامته
في روسيا ومعايشته اليومية للروس واهتمامه
بالتفاصيل والحوادث المختلفة التي استمرت
عشرة أعوام كاملة ،مكنته من دراسة الحياة في
روسيا دراسة دقيقة ،إضافة ،إلى أن هذا الكتاب
يصدر عن عالم شغل مناصب هامة في البيئة
العلمية الروسية فإذا نظرنا إلى بعض عناوين
مؤلفاته عن روسيا.
غير ذلك الكتاب لوجدناه يصف ويؤرخ حوادث
مثل (تاريخ قدوم سعادة ولي عهد روسيا األمير
اسكندر مع خطيبته األميرة ماريا وتزوجها)،
و(تاريخ رجوع الدوق مكسميليان لهستنبرغ من
مصر إلى بتربورغ) مما يعطينا فكرة عن االهتمام
الدقيق بتفاصيل ماكان يجري في روسيا آنذاك.
إن أهمية الطنطاوي تنبع من أنه كان معلمًا
ومتعلمًا ،فاعًال ومتأثرًا ،ولعله أهم شخصية علمية
عربية تواجدت في روسيا في القرن التاسع عشر
وأثرت تأثيرًا فعاًال في االستعراب الروسي،
- 33 -
وبنفس الوقت درست ووصفت الحياة في روسيا
من خالل مؤلفاته المختلفة ،وقد منحته الحكومة
القيصرية وسام القديسة (حنة) تقديرًا لجهوده
العلمية في االستعراب الروسي وقد علق
الطنطاوي بعد تقليده الوسام ،الذي يبدو على
صدره في صورة رسمها لـه الفنان (مارتينوف)
علق قائًال:
- 34 -
((المحادثة الروسية ـ العربية طبع عام 1868م)
( .)34وإضافة إلى هؤالء األساتذة العرب المدرسين
في الجامعة ،تواجدت أحيانًا بعض الشخصيات
العربية اإلسالمية التي لعبت دورًا في وسط
االستعراب الروسي فألسباب سياسية تواجد مثًال
جمال الدين األفغاني ( 1838ـ 1897م) ،والذي
اتصل بالقيصرة ايكاترينا ،ومكث في روسيا مدة
أربعة أعوام ثم غادرها إلى إنكلترا ،ثم ولنفس
األسباب قدم األديب والصحفي والسياسي العربي
رزق الله حسون ( 1825ـ 1880م) ،هربًا من
االضطهاد التركي واصًال روسيا عام (1868م)،
أمًال في مساعدة قيصر روسيا السكندر نيقوال
ييفتش في إقامة دولة عربية ،وقد مكث حسون
في روسيا عدة سنوات ،وعندما يئس من مساعدة
القيصر الروسي غادر إلى إنكلترا ،وفي فترة
وجوده في بطرسبورغ ،نظم حسون العديد من
األشعار التي حفظت في ديوان كما قام بنسخ
بعض المخطوطات العربية الموجودة في مكتبات
بطرسبورغ فقد نسخ لنفسه في عام
(1867م) ،نسخة من مخطوط ديوان األخطل
األموي ،وتمت االستفادة فيما بعد من هذه
النسخة في تحقيق ديوان األخطل وطباعته في
بيروت ،في إطار التعاون بين العلماء الروس
والعرب ،كما ترجم حسون أشعار (كريلوف) في
الحكمة إلى اللغة العربية ،وقد تحدث
كراتشكوفسكي عن حسون()35وقد تحدث
كراتشكوفسكي عن حسون قائًال:
(كان خطاطًا وسياسيًا وشاعرًا ومغامرًا ،وقد
كان قوميًا عربيًا ،فخاف على حياته وهرب من
تركيا إلى روسيا عبر بالد القوقاز ،ولم يكن ذلك
على ما يبدو بدون مساعدة ديبلوماسي روسي
- 35 -
في القسطنطينية هو الجنرال يوغوسالفسكي،
وكان حسون قد قضى عدة أعوام في بطرسبورغ
حاول أثناءها في بساطة أو سذاجة أن يحصل على
مساعدة القيصر الكسندر الثاني في تأسيس دولة
عربية مستقلة ،وعندما دّب إليه اليأس والقنوط
في محاولته تلك ،رحل حسون إلى إنكلترا ،وهناك
استخدم الهجاء الالذع وكلماته الملتهبة في الكفاح
ضد السلطان التركي وحزب تركيا الفتاة ،وتوني
حسون في انكلترا في ظروف غامضة ،ويقال أنه
مات مسمومًا عن طريق جاسوس للسلطان
التركي .وقد كان حسون محبًا لألدب وعالمًا به،
وقد زينت الكتب التي كتبها بخطه الجميل خزائن
المحفوظات المختلفة ،وكذلك قام حسون بترجمة
أصيلة جدًا لبعض أشعار الحكمة التي تظمها
كريلوف الشاعر الروسي ونقلها من الروسية إلى
العربية)(.)36
وفي بداية القرن العشرين حرر المصري
محمد طلعت ،جريدة عربية باسم (التلميذ) ،في
بطرسبورغ ،ونشر كتابًا صغيرًا يصف فيه
انطباعاته عن روسيا.
وفي عام (1818م) ،تأسس في بطرسبورغ
المتحف األسيوي التابع ألكاديمية العلوم ،ولم يكن
متحفًا بالمعنى المعروف ،فقد كان ال يخزن إال
الكتب والمخطوطات الشرقية ،وقد أصبح هذا
المتحف اعتبارًا من سنة (1938م) ،يعرف باسم
معهداالستشراق ،وكان أول أمين لهذا المتحف
المستشرق خ.د.فرين .الذي يدين له االستعراب
الروسي بإرساء أسسه األولى.
وقد تم في المتحف اآلسيوي طبع أول فهرس
للمخطوطات العربية ،للمستعرب األلماني برنارد
دورن
( 1805ـ 1881م) ،الذي كان يتقن اللغة العربية
ص 144مع المخطوطات. (?) 36
- 36 -
ولغات شرقية أخرى ولد وتعلم في ألمانيا
واستقدمته الحكومة القيصرية للتدريس في
خاركوف عام (1829م) ،ثم انتقل إلى بطرسبورغ
وتولى اإلشراف على مكتبة المتحف اآلسيوي
والمكتبة القيصرية .وفهرس دورن ،أسبق من
فهارس بروكلمان ،ولم يكن حاجي خليفة قد أكمل
فهارسه بعد عن المخطوطات العربية عندما ظهر
فهرس دورن وكان الفهرس بعنوان (فهرس
المخطوطات الشرقية في المكتبة القيصرية
العامة في سانت بطرسبورغ)( ،)37وصدر عام (18
65م) ،وله (فهرس الكتب العربية والفارسية
والتركية المطبوعة في األستانة وفي مصر وفي
العجم الموجودة في دار اآلثار األسيوية) )38(.عام
1825م.
كما أعد المستعربان ف.ر .روزن وسالمان،
فهرسًا للمخطوطات العربية والفارسية والتركية
في جامعة بطرسبورغ عام 1879م وقد بلغ عدد
المخطوطات المفهرسة وقتئٍذ 300مخطوطة.
أما في مدرسة استعراب موسكو ،فإن اتجاه
الدراسات العربية في منتصف القرن التاسع
عشر ،لم يكن بنفس المستوى الذي كان عليه في
بطرسبورغ ،وفي تلك الفترة ،انتقل تعليم اللغة
العربية إلى الصفوف الخاصة مثل معهد الزاريف،
األرمني الذي قام بتأسيس المعهد عام (1872م)
،وتم فيه تدريس اللغة العربية واللغة األرمنية
وكان الغرض من تدريس اللغة العربية ،تأهيل
األشخاص الذين سيوفدون إلى الشرق لمهمات
مختلفة والغاية إتقان المحادثة العادية ،ولكن هذا
المعهد وغيره ،لعب دورًا هامًا فيما بعد بالنسبة
مدرس للغة ِّ لالستعراب العلمي .وكان أول
(?) ص 114المجلد الخامس ـ مقتطفات من المؤلفات 37
الكاملة لكراتشكوفسكي.
(?) ص 65تاريخ التراث العربي فؤاد سزكين. 38
- 37 -
العربية في معهد الزرايف األستاذ العربي مرقص
الدمشقي (1846ـ1911م) ،الذي تعلم في
المدرسة اليونانية الدينية بالقرب من
القسطنطينية ،وأتم دراسته العليا في كلية اللغات
الشرقية في بطرسبورغ (وعندما كان في السنة
الرابعة في جامعة بطرسبورغ سنة (-1867
1868م) حصل على الميدالية الفضية من أجل
البحث الذي قدمه عن الخليفة علي بن أبي
طالب)( )39وعندما تخرج من الجامعة كان مشروع
معهد الزارييف قد خرج إلى الوجود ،فكان مدرسًا
في المعهد ،ثم رئيسًا لقسم اللغة العربية في
نفس المعهد ،وهو أول عربي يصبح رئيسًا لقسم
اللغة العربية في موسكو ،والثاني بعد الشيخ
الطنطاوي على مستوى –روسيا .وقد بقي رقص
في معهد الزاريف منذ ( ،)1900 -1872إذ غادر
بعدها إلى سورية بسبب اعتالل صحته وتوفي
هناك.
إن أهم عمل قام به مرقص الدمشقي هو
ترجمته لمخطوطة (رحلة مكاريوس األنطاكي إلى
روسيا) ،من اللغة العربية إلى الروسية وقد طبعت
هذه الترجمة عام (1900م) ،وكانت المخطوطة
تحوي أكثر من ( )555صفحة ،وهذه أول ترجمة
للمخطوطة تتم من اللغة العربية مباشرة إلى
اللغة الروسية ،إذ سبقها ترجمة من العربية إلى
اإلنكليزية ،وبالتالي فإن الروس لم يتعرفوا إلىهذا
الكتاب باللغة الروسية إال بعد الترجمة التي قام
بها مرقص الدمشقي ،وكان بدأ العمل في هذه
الترجمة سنة (1881م) (وقدم جزءًا منها للتقييم
إلى كلية اللغات الشرقية وقام بهذا التقييم
المستعرب كركاس)( .)40وقد ُبدئ بنشر ترجمة
(?) ص 162مقتطفات من المؤلفات الكاملة- 39
كسراتشكوفسكي.
(?) ص 114المجلد الخامس ـ مقتطفات من المؤلفات 40
الكاملة لكراتشكوفسكي.
- 38 -
مرقص منذ عام (1896م) ،وانتهى نشر المجلد
الخامس سنة (1900م)( ،وقد ساعده في هذا
العمل أنه كان يعرف جيدًا اللغة العربية الفصحى
واللهجة السورية التي كانت المخطوطة مكتوبة
بها) ،)41(.وأهمية هذا العمل بالنسبة للروس ،أنه
يقدم لهم صورة عن التاريخ الداخلي لروسيا في
تلك الفترة التي قدم بها مكاريوس الحلبي إلى
روسيا عام
(1700م).
وبعد مرقص الدمشقي تولى التدريس في
معهد الزارييف م .عطايا ( 1852ـ 1924م)،
الدمشقي األصل ،والذي كان مساعدًا لمرقص في
تدريس اللغة العربية منذ عام (1873م) ،واستمر
بالتدريس في المعهد المذكور أكثر من خمسين
عامًا وله كتاب مدرسي لتعليم اللغة العربية أعيد
طبعه ثالث مرات ،في قازان عام (1884م) ،وفي
موسكو عامي ( 1910ـ 1900م) ،و لـه كتاب
دراسي باللهجة السورية طبع عام
(1923م) ،وكذلك قاموس (عربي ـ روسي) ،وقد
كان عطايا مشهورًا جدًا في بيئة االستعراب في
موسكو.
وهكذا مارس األساتذة والعلماء العرب دورًا
مهمًا في االستعراب الروسي ،من خالل تواجدهم
لتدريس اللغة العربية وآدابها في الجامعات
والمعاهد الروسية المختلفة ،ومن خالل المؤلفات
التعليمية وغير التعليمية التي قاموا بنشرها في
بيئة االستعراب الروسي وكذلك من خالل
الترجمات التي قاموا بها من العربية إلى الروسية
وبالعكس وكذلك مارس بعض هؤالء العلماء
االستعراب ،ألول مرة كعرب ومسلمين ودارسين
لآلخر وواصفين لـه ،وذلك عندما قاموا بتأليف
الكتب عن البالد التي عاشوا فيها ،ليس وصفًا
ص 114نفس المصدر. (?) 41
- 39 -
جغرافيًا ،وإنما وصفًا حياتيًا يوميًا ،فكان العربي
ذاتًا دارسة ومحللة لما حولها في البيئة األجنبية،
وبالتالي تركوا بصمات هامة فكان لمساهماتهم
في االستعراب الروسي دورًا كبيرًا في تكريس
صورة الشرقي المسلم في وعي الروسي ،بأقل
ما يمكن من األخطاء والتشويهات والصور
المغلوطة التي تمت في االستعراب الغربي،
عندما مارس هذا االستعراب دوره بصورة أحادية
في إنشاء صورة الشرقي المسلم في ذهن
األوروبي الغربي.
ًا
وقد ساهم أبض في تكريس هذه الصورة
اإليجابية للشرقي المسلم في االستعراب
الروسي وبالتالي الثقافة الروسية ،ارتحال العديد
من المستعربين الروس إلى البلدان العربية في
أزمنة مختلفة طالبين للعلم ودارسين للحضارة
والمجتمعات العربية اإلسالمية ،من خالل
المعايشة المباشرة ،ثم عادوا إلى جامعات بالدهم
لتدريس األوجه المختلفة لآلداب العربية
اإلسالمية ،والحضارة اإلسالمية .وكثيرًا ما عقد
هؤالء صالت وصداقات استمرت أمدًا طويًال مع
العلماء والمثقفين العرب ،الذين تتلمذوا على
أيديهم أو تعرفوا عليهم ،وتم إنجاز العديد من
أشكال التعاون العلمي بين هؤالء وأولئك.
فقد ارتحل إلى مصر سنة (،)1835
المستعرب انطوني موخلينسكي(-1808
1877م) ،وتتلمذ على يد العالم والشاعر عبد
الرحمن الصفتي ،وأهدى هذا األخير ديوانه
الشعري لموخلينسكي والمحفوظ في خزانة
محفوظات مكتبة جامعة بطرسبورغ ،وكتب
موخلينسكي عن هذا الديوان" ،هذا أثر مدرسي
في اللغة العربية في القاهرة المصرية األستاذ عبد
الرحمن الصفتي ،وهو األستاذ في األزهر ،وكذلك
محرر في مطبعة يوالق الموجودة بالقرب من
- 40 -
القاهرة -وهذا األثر مقدم هدية لتلميذه انطوني
مورخلينسكي سنة 1835في شهر يناير".
لـ كما عقد موخلينسكي ،أثناء وجوده في
مصر صداقة مع الشيخ محمد عياد طنطاوي
ولعلها كانت سببًا في استقدام الطنطاوي إلى
روسيا واستمرت هذه الصداقة أثناء وجود
الطنطاوي وتدريسه في بطرسبورغ.
-كما ارتحل في بداية العقد السابع من القرن
التاسع عشر إلى سوريا ومصر ولبنان ،المستعرب
فالديمير كركاس ،وهو من بيالروسيا (-1835
1887م) ،وقد أبدى اهتمامًا باللهجة العامية،
وجمع في فترة وجوده في سوريا ولبنان أكثر من
( )500مثل شعبي ،وكان سباقًا بين المستشرقين
الروس والغربيين على حد سواء إلى االهتمام بلغة
التخاطب اليومي .كما أنه بدأ بطباعة مخطوط
(تاريخ أبي حنيفة الدينوري) ،وكان المخطوط قد
وصل إلى مجموعة القسم التعليمي في وزارة
الخارجية ،ومن ثم إلى مكتبة معهد االستشراق،
من خالل السفير الروسي (ايتالينسكي) في
استانبول ،والذي تعلم اللغة العربية في تركيا،
وأصبح مولعًا بجميع المخطوطات .وقد تمت
مقابلة هذا المخطوط قبل طباعته مع صورة
أخرى له موجودة في مكتبة ليدن بخط المؤرخ
ابن العديم الحلبي.
وقدم أقام كركاس في البالد العربية ثالث
سنوات .كذلك ارتحل المستعرب كراتشكوفسكي
وغيرهم كثير...
إن هذا التفاعل بين البيئة العلمية الروسية
والبيئة العلمية العربية ،انعكس بشكل إيجابي على
االستعراب الروسي ،وجعل تعلم اللغة العربية
وآدابها والثقافة العربية اإلسالمية من قبل دارسيها
الروس أقل صعوبة عندما أخذوا كل ذلك مباشرة
من أبناء الثقافة اإلسالمية وكذلك فقد عايش
- 41 -
المستعرب الروسي شخصية العربي المسلم
عالمًا ومثقفًا وإنسانًا عاديًا مباشرة وكان هذا من
أسباب عدم تشويه صورة الشرق العربي
اإلسالمي ،فانتفت األساطير والصور الوهمية،
وكان فكان أن تجلى االستعراب في أطره
المعرفية اإلنسانية.
لقد اعتبر المستعرب الروسي الكبير
كراتشكوفسكي أن أهم شخصيتين أثرتا في
االستعراب الروسي هما الشيخ محمد عياد
الطنطاوي ومرقص الدمشقي ،يقول( :وإلى
جانب عمالقة عملنا االستعرابي أمثال فرين
وروزن ،وإلى جانب الروس ،يقف عربيان عمًال
في روسيا ،أولهما الشيخ الطنطاوي المصري،
وثانيهما مرقص الدمشقي)(.)42
وكما أثمر التعاون العلمي بين العلماء الروس
والعرب في تقديم الصورة الحقيقية الموضوعية
عن الشرق العربي اإلسالمي ،فقد ساهم أبناء
العربية أنفسهم في إخراج تراثهم المخطوط إلى
حيز النور ،فكانت المراسالت ورحالت التحقيق
العلمي قائمة باستمرار بين المستعربين الروس
والعلماء العرب ،فمن خالل التعاون بين العلماء
والروس في بطرسبورغ والعلماء في العرب في
بيروت خرج مخطوط ديوان األخطل األموي إلى
النور في القرن التاسع عشر ،يقول
كراتشوفسكي عن هذا العمل (على أن الصعوبات
لم تكن بالقليلة ،والسيما الصعوبات الفنية ،فقد
كان من غير الممكن في ذلك الوقت أن يرسل
مخطوطنا إلى بيروت ،والصور الشمسية لم تكن
شائعة آنذاك .وهنا أقترح روزن حًال للخروج من
هذه المسألة ،وبناء على هذا أعّد الصالحاني ،
()43
- 43 -
العربية ،وبما يوظف هذه االنتقائية لخدمة أهداف
استعمارية ،كتلك التي كانت لالستعراب األوروبي
الغربي في تعامله مع التراث العربي اإلسالمي،
والعالم العربي اإلسالمي في نفس الفترة ،يقول
كراتشكوفسكي (وأخذنا عامًا كامًال ندرس باجتهاد
القصائد البدوية األصيلة ..التي تعكس بوضوح
حياة الخالفة في القرن السابع والثامن وتعِّر ف
جيدًا بتقاليد الجاهلية برمتها)(.)46
ونستطيع القول أن االستعراب الروسي قد
اختط لنفس نهجًا مغايرًا ،لما كان يحدث في
االستعراب األوروبي الغربي ،وأن التواصل بين
العلماء العرب والمستعربين الروس بقي مستمرًا
وفعاًال وكان أحد تجلياته اإلفادة من المكتبات
العربية العامة والخاصة ،التي كانت تفتح ذراعيها
للباحثين والعلماء والمستعربين الروس لإلفادة
منها ،وإظهار التراث العربي اإلسالمي والتجليات
المختلفة للحضارة العربية اإلسالمية وكان أمناء
هذه المكتبات وأصحابها يقدمون خدماتهم عن
طيب خاطر.
وقد أظهر هذه الصورة اإليجابية عن العربي
المسلم وطريقة تعامله مع العلماء والدارسين
األجانب ،المستعرب كراتشكوفسكي فيتحدث
إبان رحلته إلى الشرق عن هذه المكتبات قائًال:
((وكل مكتبة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة ،غنية
أم متواضعة ،كان لها طابعها الخاص ،إال أنها
جميعها كانت تقابل بترحيب زوارها الجدد،
()47
وتكشف لهم كنوزها بسعادة وطيب خاطر)
وإلى جانب هذا العمل اإليجابي في
االستعراب الروسي ،المنفتح بوعي وفهم إنساني
للحضارة والتراث اإلسالمي والعربي ،فقد برز بين
الحين واآلخر في بيئة هذا االستعراب من كانت
ص 216نفس المصدر. (?) 46
- 44 -
لهم مواقف معادية لإلسالم ،سواء بين العلماء
الروس أو األساتذة العرب ،فمن العرب الذين كان
لهم موقف سلبي من اإلسالم وكانوا في
الجامعات الروسية سليم نوفل (الذي سمح مرارًا
لنفسه في كتبه بالنيل من الرسول محمد ومن
اإلسالم ،وقد احتج السفير التركي على ذلك
وطلب مصادرة كتبه)( )48وكراتشكوفسكي نفسه
ال يخفي امتعاضه من سليم نوفل ،الذي يراه
موظفًا في الخارجية الروسية أكثر منه عالمًا،
على الرغم من دوره التعليمي في تدريس اللغة
العربية فيقول عنه (وقد حقق لنفسه في وزارة
الخارجية الروسية درجة كبيرة من الوظيفة
وتسلم كثيرًا من الرتب واألوسمة ..وصار روسيًا
لدرجة أن أوالده نسوا اللغة العربية ،وهو نفسه
انصرف عن االشتغال باألدب ،ولكنه نشر بعض
الكتب في الفقه اإلسالمي باللغة الفرنسية ،لكنها
لم تكن كتبًا علمية ،بل اقرب إلى الكتب السياسية
()49
التي تحمل ظله)
وقد مثلت المواقف المتعصبة المناوئة
لإلسالم مجلة (التبشير المناهض لإلسالم) ،وقد
تصدى للرد على هذه المواقف المتعصبة التي
برزت في هذه المجلة ،المستعرب بارتولد (
1869ـ 1930م) ،فيقول( :إن الحضارة
اإلسالمية هي ظاهرة تاريخية ليس من البساطة
بمكان ،لكي يتناولها المرء بمقالة أو بحث صغير)
( ،)50هذا على الرغم من أن هناك فئة وجهت
االتهام لبارتولد نفسه ،في زعمه أن الرسول صلى
الله عليه وسلم قد ألف القرآن مع مسليمة
الكذاب ،وأن المستعرب بياليف ،قد ردد هذه
المزاعم ،وينفي هذه التهمة عن بارتولد عدد من
(?) ص 187مع المخطوطات. 48
ترجمة فرالوفا.
- 46 -
العربي اإلسالمي كان ذا طابع موضوعي ،فنظر
إلى ثقافات الشعوب األخرى نظرة مساواة ،ومن
منطلق المعرفة اإلنسانية ،ومن ميزاته أنه لم
يعامل بازدراء ثقافات الشعوب الشرقية
المسلمة ،ولم يمارس عليها الوصاية أو الهيمنة.
وكان من الطبيعي أن ينعكس االنفتاح على
ثقافات الشعوب اإلسالمية ،العربية وغير العربية
والتي عبرت عنها الحضارة اإلسالمية في التراث
والنتاج األدبي والفكري للمثقفين واألدباء الروس
عبر المراحل الزمنية المختلفة ،وبدءًا من معرفة
الروس للقرآن الكريم من خالل الترجمات
األوروبية بادئ األمر ،وشكل تأثر المثقفين الروس
بالتراث اإلسالمي الشرقي ونظرتهم الموضوعية
في التعامل مع شعوب الشرق المسلم ،دورًا هامًا
في رؤية اإلنسان الروسي للشرق اإلسالمي
وتعامله معه كما شكل ذلك األسس الراسخة
للتقاليد االستعرابية الروسية ،التي يعتبر
االستعراب القائم حاليًا في جامعات ومعاهد
روسيا امتدادًا لها السيما أن عددًا من المفكرين
واألدباء الذين تأثروا بالحضارة اإلسالمية كانوا
أعالمًا ورموزًا قومية بالنسبة لروسيا مثل الشاعر
بوشكين والمستعرب أغناطيوس
كراتشكوفسكي.
- 47 -
بوشكين
واألثر الشرقي ـ اإلسالمي:
تجلت تأثيرات الثقافة الشرقية اإلسالمية لدى
الكسندر بوشكين ( 1799ـ 1837م) ،شاعر
روسيا العظيم والذي يحلو للروس تسميته بـ
(شمس الشعر الروسي) ،تجلت هذه التأثيرات
في أدبه وخاصة مجموعته الشعرية (قصائد
شرقية) ،وذلك من خالل قراءته لترجمة القرآن
باللغة الروسية وكان أعد هذه الترجمة األديب فير
يوفكين وصدرت في أواخر القرن الثامن عشر،
وكذلك من خالل معايشته لشعوب القوقاز
المسلم طيلة أربع سنوات هي مدة نفيه إلى
الجنوب بعد صدور أمر القيصر بذلك وبوشكين
شاعر وجداني (تنصاع له جميع عناصر الوجود….
بوشكين الثائر وسع كثيرًا حدود النشر الروسي
والعالمي)( ،)53يقول بوشكين عن تأثير العرب
المسلمين في الثقافة األوروبية (أن العرب في
إسبانيا وهبوا للشعراء األوروبيين الوجدان
والعفوية في الحب)( .)54ويقول(هناك أمران
أساسيان أثرا تأثيرًا حتميًا على روح الحياة في
أوروبا وهما غزو العرب لألندلس والحروب
()55
الصليبية)
إن بوشكين نفسه تأثر بالثقافة اإلسالمية،
وقد ظهر تأثره وإعجابه بالقرآن الكريم بوضوح
- 48 -
في القصائد التي اقتبسها من اآليات القرآنية
وضمنها مجموعته الشعرية (قصائد شرقية)،
وبوشكين بما لـه من مكانة عظيمة لدى الشعب
الروسي وتأثيره القوي في األجيال المتعاقبة،
وبما له من مكانة هامة في األدب العالمي،
ساهم في نشر المعاني السامية للمثل اإلسالمية
والقيم الرفيعة التي تضمنها أدبه وكذلك في
تصويره للشرقي المسلم كشخصية إنسانية
إيجابية فاعلة في الحياة ،يقول بوشكين في
إحدى قصائده التي عنوانها (قبسات من القرآن).
()56
- 49 -
الطمأنينة
أدخلت محبًا شخصه
وحميت من العسف
المبين
ألست أنا يوم السغب
من سقاك مياهًا صحراوية
ألست من أعطى لسانك
العقولًا عظيمًا على
سلطان
- 50 -
المقطع التالي: أما
النبي
()59 يا نساء
الطاهرات
عن كل النساء أنتن
مميزات
فيكاد يكون ترجمة لقوله تعالى في سورة
النساء اآلية
(( :)31يا نساء النبي لستن كأحد من النساء)،
وقوله:
الظل الجميل في
للسكينة
بتواضع .فرض
عشن ()60
عليكن
أيتها العذارى الحجاب
فهو مقتبس من قوله تعالى في سورة النساء
أيضًا اآلية
(( :)32وقرن في بيوتكن وال تبرجن تبرج الجاهلية
األولى)
وقوله:
)61قلوبكن
احفظن
(
اآلمنة
كي ال تالمس وجوهكن
نظرات األرذال الماكرة
مقتبس من قوله تعالى في سورة األحزاب
اآلية (( :)28يا أيها النبي قل ألزواجك وبناتك
ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جالبيبهن ،ذلك
ص 28نفس المصدر. (?) 59
- 51 -
أدنى أن يعرفن فال يؤذين وكان الله غفورًا رحيما).
وفي المقطع الثاني من قصيدة (قبسات من القرآن)،
يقول بوشكين:
وأنتم يا ضيوف محمد
متقاطرين إلى أماسيه
احترسوا أن ال تكدر
بهارج الدنيا نبيي
في الشباب أفكار تقى
هو ال يحب المتبهرجين
المتكبرين وال كالم
والفارغين
شرفوا مأدبته بخضوع
وبعطف عفيف
جواريه الفتيات
لقد اقتبس هذا المقطع كامًال من سورة
األحزاب اآلية
(( :)52يا أيها الذين آمنوا ال تدخلوا بيوت النبي إال
أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين انيه ولكن إذا
دعيتم فادخلوا ،فإذا طعمتم فانتشروا وال
مستأنسين لحديث ،إن ذلكم كان يؤذي النبي
فيستحي منكم والله ال يستحي من الحق ،وإذا
سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ،ذلكم
أطهر لقلوبكم وقلوبهن ،وماكان لكم أن تؤذوا
رسول الله وال أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا ،إن
ذلكم كان عند الله عظيما).
وفي القصيدة ( )6يقول بوشكين:
- 52 -
ليًا أنكم ظهرتم في
الحلمعبث
ليس
- 53 -
()63
حتى الصباح.
إن القصيدة السابقة مقتبسة من قوله تعالى
في سورة المزمل( :يا أيها المزمل قم الليل إال
قليًال نصفه أو انقص منه قليًال ،أو زد عليه ورتل
القرآن ترتيال).
وهكذا نرى عمق تأثر بوشكين وإعجابه
بالقرآن الكريم إلى درجة االقتباس الكامل لمعاني
اآليات الكريمة في بعض مقاطع قصائده .وفي
()64
قصيدة (النبي)
يكرر الشاعر كلمة (الصحراء) مقترنة
بتراكيب مثل (الظمأ الروحي) و(ارتجاج السماء)
و(طيران المالئكة العلوي) مما يوحي لنا بالظمأ
الروحي لمجتمع ماقبل اإلسالم الذي كان يتيه في
ظالم الوثنية ،ثم جاء اإلسالم ليحدث الهزة الكبرى
(ارتجاج السماء) في تاريخ المجتمع العربي هذا
الدين الذي كان رسالة سماوية (طيران المالئكة
العلوي) وكان جبريل (المالك) يتلو الوحي على
الرسول الكريم.
وأعتقد أن هناك مفارقة واضحة بين موقف
بوشكين من القرآن الكريم وإعجابه واقتباسه من
آياته وبين موقف مستشرقي أدوار سعيد ومنهم
شاتوبريان الذي يقوِل ( :لقد كان القرآن "كتاب
محمد" وهو لم يحتو على أي مبدأ للحضارة ،أي
تعليم يسمو بالشخصية)( )65أو قول وليم روبرتسن
سميث (أن هذه الديانة قد حملت تحت جناحيها
كثيرًا من األفكار البربرية والباطلة التي البد أن
محمدًا نفسه أدرك أنها غير ذات قيمة دينية ،والتي
(?) ص 35قصائد مشرقية 63
االستشراق.
- 54 -
أدخلها رغم ذلك في نظامه من أجل أن يسهل
انتشار معتقداته المذهبية المعّدلة المصلحة)(.)66
أما تأثر بوشكين بالحياة الشرقية اإلسالمية فقد برز في
قصائده التي كتبها عندما كان في القوفاز في فترة نفيه ففي
قصيدة (طلسم) المؤرخة عام ( ،)1826يقول:
هناك حيث البحر دومًا
ينطوي
فوق صخور الصحراء
ًا()67
حيث يشع البدر دفئ
فمن خالل استخدامه لألضداد (البحر،
الصحراء)( ،صخور الصحراء)( ،البدر ،الدفء)،
كأن بوشكين يطالبنا بفك طالسم غايتها فيوحي لنا
بالماء (البحر) الذي يتراءى (سرابًا) في الصحراء
والبدر يشع (دفئًا) والمألوف أن (البدر) يوحي
(بالبرودة) والشمس هي التي توحي بالدفء.
ومن أجواء المسلمين في القوقاز تظهر مفردات مثل
(الحريم ،الطلسم ،الحنان ،المنعم) لتعكس األجواء األسرية
اآلمنة التي يعيشها المسلم الشرقي يقول:
أجمل وقت من عتمة في
المساء
أيامه يمضي المسلم
حيث
- 55 -
يعانيها الشاعر في منفاه وغربته عن وطنه في
الوقت الذي ينعم فيه رب األسرة المسلم بالدفء
في بيته ،وطلسم الساحرة الحنون ،لم يرتبط
بالشعوذة واجتراح المعجزات ،فهو لن يدفع
المرض وال الموت ،ولن يحمل المنفي إلى األهل
والوطن ،ولكنه ذو تأثير معنوي يحمي من ألم
جراح الخيانة والهجر.
إن هذه المفردات التي استعملها بوشكين
في قصيدته لم تحمل لنا معنى الشرق المسلم
األسطوري ،وال الحريم المشبع بالجنس ونزوات
الرجال ،ولكنه استعمل هذا للتعبير عن (الحريم)
بمعنى (األسرة) ومنعمًا بمعنى (آمنًا مطمئنًا).
نفس المفردات كانت تعبر لدى أغلب
المستشرقين الغربيين عن نزوات الشرق
المسلم بحريمه (الجنس) ،ومنعمًا (عابثًا الهيًا)،
إن شرق بوشكين المسلم هنا هو شرق القوقاز،
وفصيح هذا ،وهنا نرى أن الشرق المسلم كان
شرقًا قريبًا ،عايشه الشاعر وأعجب بشخصياته،
فعندما يتحدث عن الحريم فهو ال يحِّمل المعاني
االيهامات الجنسية ،والقمع للمرأة ،بحيث ال تعني
إال المتعة فقط .بل هي المرآة الفاعلة في أسرتها شأنها شأن
النساء األخريات ،التي تمنح الطمأنينة والحنان إن شرق
بوشكين ليس شرقًا متخيًال وهميًا بل شرق يمور بالحركة ويبدع
الشعراء.
أحب القرم أبناُء سعدي
حيث أبدع هنا يومًا
فصيح الشرق دفاتره
()69
وأدهش بقجه سراي
وفي قصيدة (الفارس الفقير) ،نستذكر
الحروب الصليبية ونستذكر شخصية (بطرس
المصدر قصائد شرقية .ص.51 (?) 69
- 56 -
الناسك) الذي لعب دورًا في تلك الحروب الصليبية
األولى فقام بقيادة الحملة الشعبية إذ أن هذا
الناسك كان قد سار إلى األراضي المقدسة في
فلسطين للحج ،ولكنه قفل عائدًا إلى أوروبا دون
أن يتمكن من الوصول إلى بيت المقدس بسبب
مضايقات السالجقة) ( )70وهناك روايات تقول بأنه
تمكن من الوصول إلى بيت المقدس ،وشاهد
مضايقات السالجقة للحجاج األوروبيين ،وعندما
عاد إلى بالده ،قام بتضخيم تلك اإلساءات التي
كانت تلحق بالحجاج وقام بالتحريض إلشعال
الحماس الديني في أوروبا لتخليص قبر المسيح ثم
قاد الحملة الشعبية الصليبية في إطار الحملة
األولى ،وكانت حملته تتكون من المعدمين وأرقاء
األرض ،وكان هؤالء يعتقدون أنه قديس وأن إرادة
الله قد حلت فيه.
فيقول بوشكين في قصيدة (الفارس الفقير):
عاش في الدنيا فارس
فقير
صموت بسيط
مظهره عابس وشاحب
لكنه بروحه شجاع ومخلص
كان قد رأى رؤيا
ال يصدقها العقل
انحفرت في قلبه
بانطباع عميق
ويتابع بوشكين قائًال:
.154
- 57 -
مسافرًا إلى جنيف
على الطريق عند الصليب
رأى العذراء مريم
أم السيد المسيح
من حينها محترقًا بروحه
لم ينظر إلى النساء
وحتى اللحد لم يشأ
أن يكلم واحدة
ال يني أبدًا يصلي
لألب واالبن وروح القدس
لم يحدث هذا الفارس
كان إنسانا عجيبا
هاهم الفرسان
للقاء األعداء المرتعدين
في سهول فلسطين
اندفعوا داعين السيدة
هتف بانفعال
السماء ،يا روز (يانور
القديسة).
ولكن حشود المسلمين
- 58 -
جرفته من كل الجوانب
()71
- 59 -
بجد كل يوم النحل والقطيع
والكرم المنـزلي
()72
لم يعرف ماهو الكسل
مجد
إن الشرقي المسلم إنسان إيجابيِّ ،
مفعم بالعمل والحركة وليس الرجل الكسول
الخامل المستسلم لرغباته الذي قال عنه سميث
(مجهد ،االنتقال من مكان إلى مكان بالنسبة إليه
إزعاج صرف ،وهو ال يشعر بمتعة في بذل الجهد
كما نشعر نحن ،ويتذمر من الجوع والتعب بكل
قواه كما ال نفعل نحن وليس في وسعك أن تقنع
الشرقي أبدًا أنك حين تترجل عن راحلتك قد تكون
لديك رغبة أخرى سوى أن تجلس القرفصاء على
بساط فورًا وتستريح تدخن وتشرب)(.)73
والشرقي المسلم عند بوشكين ،كريم ومحارب شجاع
متفاعل مع الحياة ومتطلباتها ،فهو اليبخل على ضيوفه ويوفر
لهم اإلقامة والطعام ،وعندما ال يكون في معركة أو عمل فهو
ينعم بالهدوء مع أسرته التي يرعاها آمنًا مطمئنًا .إن قصيدة
بوشكين (أسير القوقاز) تعكس هذه المعاني السابقة:
مع عائلته آمنًا
في أوقات المطر
يدخل عليه طارق متعب
يجلس على النار من وجل
عندها ينهض رب البيت
روبرتس سميث.
- 60 -
مالطفًا إياه بود وتحية
ويقدم للضيف كأسًا شذية
من نبيذ لذيذ
وتحت عباءة لباد ندية ،في
منزل
يتذوق المسافر مدخن
آمنًا نومًا
ويغادر في الصباح
الليلي
()74 المأوى
المضياف
إن األسير الروسي يتحدث بإعجاب وحب عن هؤالء
الشرقيين المسلمين:
الحظ األسير بين الجبليين
وعاداتهم إيمانهم
وأخالقهم
أحب بساطة حياتهم
كرمهم وتعطشهم للقتال
سرعة حركتهم الحرة
أرجلهم وقوة
()75 وخفة
سواعدهم
هذه هي الصورة التي يبثها األدباء الروس في
الوعي العام الروسي عن الشرقيين المسلمين،
وأعتقد أنها مختلفة تمامًا عن صورة الشرقي
ص 109قصائد شرقية. (?) 74
- 61 -
المسلم التي يقدمها المستشرقون األوروبيون
الغربيون (والشرقيون وخصوصًا المسلمين
كسالى وحياتهم السياسية نزوية مشبوبة وال
مستقبل لها)(.)76
يقول شاتوبريان عن المسلمين الشرقيين:
(عن الحرية ال يعرفون شيئًا ،من االحتشام ليس
()77
لديهم شيء ،القوة :هي ربهم).
لقد ارتبطت صورة الشرقي المسلم في
اآلداب الغربية بشخصية الشاذ والمنحرف
والكسول الهروب الماكر الذي اليني يخدعك
ويفتك بك عند اللزوم .هذه الشخصية هي التي
يجب أن ينوب الغرب األوروبي عنها في اتخاذ
قراراتها وتحديد مصيرها ورسم مستقبلها.
إننا عند بوشكين نرى صورة مختلفة ،فالشرقي المسلم
إنسان إيجابي ،حركته دائمة ،ال يعرف الكسل ،يحُّل به ضيفه
مساًء ،فيلقى الحفاوة والترحيب ،فينام مطمئنًا آمنًا ويغادر
صباحًا متابعًا طريقه .وعندما ينظر بوشكين إلى العادات
والتقاليد المختلفة ال ينكرها ،فال يصورها بالعجائبية والشاذة
وإنما يحترمها ،ألن االختالف هنا ناجم عن اختالف الشعوب ،إنه
االختالف والتمايز المباح واألساسي في الحياة اإلنسانية ،الذي
يفرض احترام كل شعب لعادات وتقاليد الشعوب األخرى بغض
النظر عن اللون والديانة واالنتماء .إن الشرقي المسلم في
قصائد بوشكين لم يمارس الطغيان تجاه اآلخر حتى وإن كان
هذا اآلخر سبية من سبايا الخان التترية فنرى أنه ترك لها حرية
العقيدة ،في نفس الوقت الذي اعتنقت اإلسالم سبية أخرى،
ولكن ليس بدافع القسر وإنما بدافع الحب .يقول بوشكين على
لسان (زريمة) الجورجية الحسناء في قصيدة (األغنية التترية).
لم أولد هنا ،بل بعيدا
بعيدا ،ولكن األيام الغابرة
حاضرة بعمق أشياؤها
في مخيلتي حتى اآلن
- 62 -
أذكر الجبال في السماوات
السيوف العنيفة في الجبال
غابات البلوط الكثيفة
قانون آخر عادات أخرى ...
القرآن) … (ولو أنني ألجل
أقسمي
- 63 -
الحريم
الكل هادئ ،الكل كئيب
الكل تغير
ويبتهج نظري النهم
ثانية أمواج القرم
بلد ساحر! متعة العين!
()80
كل شيء حي هناك
إن الشعوب عند بوشكين تتغير وتتقدم،
تتحرك إلى األمام ،فالتقدم خصيصة من خصائص
اإلنسانية .فال يثبت بوشكين الشرقي المسلم عند
لحظة تاريخية معينة ،فهو ال يتحدث عن شرق
سكوني ،بل عن شرق حيوي حيث قانون التطور
والتغير يحكم جميع الشعوب ،وهذا ما لم يقله
المستشرق الغربي عن الشرق المسلم.
إن بوشكين بعد أن عايش الشرق المسلم من خالل
القوقاز ،يرى أن شرق الخانات والحريم والقصور قد تغير ،ألن
الشعوب تعيش متغيراتها وفق األزمنة المختلفة .وينهي بوشكين
القصيدة بإمكانية التعايش بين العالم اإلسالمي والعالم
المسيحي ،وليست إمكانية السيطرة والهيمنة هي التي تحكم
تفكير األديب الروسي ،بل إن الشعوب على اختالفها يمكن
تتالقى يقول:
ولذكرى ماريا البائسة
أمام نافورة مرمرية
زاوية القصر في
المنعزل
وفوقها صليب يظلل
ص 185ـ 187قصائد شرقية. (?) 80
- 64 -
()81
الهالل المحمدي
هذه هي رؤية أعظم شاعر روسي للشرق
المسلم ،وهذه رؤيته لإلسالم وللقرآن ،هذه هي
الصور عن الشرق اإلسالمي التي كرسها من خالل
شعره في وجدان الروسي المثقف ،والمواطن
العادي ،وأورثها لألجيال المتعاقبة.
وبعد الحديث عن نموذج من األدباء الروس
في القرن التاسع عشر نرى كيف أن موقف
االستعراب الروسي الكالسيكي من الشرق
المسلم.
- 65 -
كراتشكوفسكي والشرق اإلسالمي.
إذا كان بوشكين شاعر روسيا العظيم ،فإن
كراتشكوفسكي ( )1959-1833يعد بحق ،شيخ
المستعربين الروس .ولد اغناطيوس
كراتشكوفسكي في (فيلينوس)…
( 1833ـ ،)1959يعد بحق شيخ المستعربين
الروس أغناطيوس كراتشكوفسكي (1833ـ
،)1959ولد في (فيلينوس) عاصمة (ليتوانيا)،
وعاش في طشقند مع أبيه حتى عام (،)1888
وتعلم فيها ،ثم أنهى تعليمه الجامعي في جامعة
بطرسبورغ عام ( ،)1905في قسم اللغة العربية
في كلية الدراسات الشرقية ،وكانت رسالته
للماجستير عام ( ،)1906عن الشاعر (الوأواء
الدمشقي) ،وخالل تحضيره لرسالة للماجستير
في شهر تموز من عام ( ،)1908وصل إلى بيروت
في رحلة إلى الشرق كان قد اقترح عليه القيام
بها أستاذه المستعرب روزن ( )1908-1849وفي
الشرق العربي التقى كراتشكوفسكي بالعديد من
العلماء واألدباء والمفكرين العرب ،والمستعربين
من أوروبا الغربية .ففي جامعة القديس يوسف
في بيروت ،التقى بالمؤرخ البلجيكي المنس،
والفرنسي رونزفال واإليطالي نللينو ،ومن العلماء
العرب ،التقى باألب لويس شيخو ،وجورجي
زيدان ،ومحمد كرد علي ،وأمين الريحاني،
وإسعاف النشاشيبي وغيرهم ،واستمرت صالته
مع بعضهم بغرض التعاون العلمي .عمل
كراتشكوفسكي أمينًا لمكتبة اللغات الشرقية في
جامعة بطرسبورغ ،وأستاذًا اللغة العربية في
نفس الجامعة وفي عام 1921انتخب عضوًا في
أكاديمية العلوم السوفيتية وانتخبه المجتمع
- 66 -
العلمي بدمشق عام ( )1923عضوًا فيه .كما كان
عضوًا في العديد من األكاديميات والجمعيات
العلمية.
لقد وقف كراتشكوفسكي معظم آثاره
العلمية إن لم تقل كلها لآلداب العربية وخدمتها
وقد اهتم كراتشكوفسكي بالدرجة األولى
بالمخطوطات العربية والكشف عنها وتحقيقها
فكان له الفضل في اكتشاف مخطوط (المنازل
والديار) لألمير السوري أسامة بن منقذ وكذلك
مخطوط (رسالة المالئكة) ألبي العالء المعري
وقام بنشر كتاب (البديع) ،البن المعتز.
وتجلى موقف كراتشكوفسكي من الحضارة
العربية اإلسالمية في كل ما كتب ،وكتابه (مع
المخطوطات العربية) يعتبر سيرة ذاتية له ،إال أننا
نستطيع أن نعتبره األثر الفني الذي قدم فيه بتنوع
وغزارة مواقفه المختلفة تجاه العديد من القضايا
المتعلقة بالشرق العربي اإلسالمي ،وأنه من خالل
هذا الكتاب قدم موقفًا شامًال من الشخصية
العربية اإلسالمية ومن الحضارة والتراث العربي
اإلسالمي.
إن كراتشكوفسكي من خالل المخطوطات ال
يستعيد الماضي فقط ،وال يتعامل معه كحقبه ميته
منقطعة عن الحاضر ،وإنما يجعل الحياة تنبعث
من ثنايا المخطوطات ،كما تنبعث من شخصياتها،
ضمن ظروفها التاريخية وفي تعامله مع هذه
المخطوطات ،ينبثق إحساس العاِلم العميق
بالمسؤولية العلمية التاريخية التي تحتم عليه
الموضوعية في التعامل مع التراث اإلنساني بغض
النظر عن جنس ودين مبدعي هذا التراث .يقول:
(فما إن تتذكر هذه المخطوطات أو تهم بالحديث
عنها ،حتى تهب على الفور سلسلة من األشخاص
من القرون البعيدة الماضية ،ومن األعوام القريبة
- 67 -
من حياتك الخاصة)(.)82
(المخطوطات تهمس وأنا أدقق النظر ويقول
فيها باهتمام)(.)83
إن كراتشكوفسكي يقوم بعملية إحياء
واستحضار للماضي ،وربط بين الحاضر والماضي
ولكنه ليس اإلحياء بغرض استمرارية هذا الماضي
في الزمن الحالي ،وإنما إحياء غايته وضع كل
حادثة في ظروفها التاريخية .إن العاِلم يربط حياته
بعمله العلمي ويجعله المتحكم الوحيد في حياته،
ولكن المخطوطات تكون أحيانًا عنيدة وتجد
نفسك عاجزًا عندما تسألك بقوة وتحكم (ومن ذا
الذي سيتحدث بعدك عن هذا؟ أترى أعطيناك
الحق في أن تطوي هذا بانطوائك ،إنها أوامر العلم
الخالد على مدى القرون أوامر جدية ولسوف
تنحني لها إرادتك في آخر األمر)(.)84
إن المستعرب هنا ال يستطيع تجنب مسؤولية
علمية ملقاة على عاتقه في الكشف عن التراث
الحضاري اإلنساني ،أيًا كان هذا التراث شرقيًا ،أو
غربيًا ،إسالميًا أو مسيحيًا ،إن منطلق
كراتشكوفسكي في التعامل مع الدراسات العربية
اإلسالمية هو منطلق علمي ،وال أوامر توجهه أو
تتحكم به إال أوامر العلم الخالد وهنا ينفي
كراتشكوفسكي إمكانية ربط هذه الدراسات وهذا
االستعراب بأوامر من أي نوع ،سياسية أو دينية إنه
استعراب علمي ،ذو بعد إنساني ،ولعل هذه ميزة
من ميزات االستعراب الروسي ،أنه غير مسخر
()85
إلى حد كبير ألهداف سياسية أو دينية.
يقول كراتشكوفسكي (وهنا تسمع في هدوء
حفيف أوراق الكتب والمخطوطات على المناضد
مع المخطوطات. (?) 82
- 68 -
وهنا أيضًا رويدًا رويدًا ،وخطوة خطوة ،وسطرًا
سطرًا ،يخلق العمل العلمي ،الذي تخرج نتائجه
من بين هذه الجدران العالية إلى تلك الشوارع
المضطربة خارج جدران هذه المكتبة لتنشرها
صفحات الجرائد والمجالت في كل البقاع،
ولتستقر هذه النتائج أيضًا في بطون الكتب على
رفوف هذه المكتبة العامة)( ،)86إن المستعرب
كراتشكوفسكي يدرك أهمية دوره في تكوين
الوعي العام الروسي عن الشعوب األخرى ،وعن
الشرق العربي اإلسالمي ،فنتائج أبحاث
المستعربين لن تأخذ طابعها األكاديمي فقط ،وإنما
سيكون لها دورًا تاريخيًا فعاًال في تكوين الفكرة
عن اآلخر والتعامل معه ،ألن نتائج بحوث
المستعربين سوف تخرج إلى الشارع الروسي
وتكون في متناول جميع القراء من خالل الصحف
والمجالت .وهنا يبرز الدور اإلنساني للبحث
االستعرابي وضرورة موضوعيته في تقديم اآلخر
ألبناء بلده ولإلنسانية ،وبالتالي سيكون لالستعراب
دورًا مهمًا في التعامل اإلنساني بين الشعوب،
ومن جهة ثانية فإن هذه النتائج للبحوث
االستعرابية ليست آنية التأثير ،وإنما سوف تورث
لألجيال وسوف تكون جزءًا من األدب الفكري
اإلنساني يتداولونها جيًال بعد جيل .يتم تداولها ،إن
هذه األبحاث سوف تستقر في بطون الكتب ،على
رفوف المكتبات ،وسوف تكون من العوامل
المؤسسة لثقافة المستعرب أو الباحث أو القارئ
وُرث الصورة العادي القادم .فالمستعرب إما أن ُي َ
السلبية المشوهة ،وإما أن يقدم الصورة الحقيقية
من خالل موضوعية أبحاثه ،وبالتالي سوف تمنح
هذه األبحاث العلمية عالقات الشعوب طابعها
اإلنساني الحقيقي البعيد عن التشويه والتزييف
المتعمد ،بهدف إظهار التفوق لشعب على آخر
- 69 -
وبالتالي تبرير السيطرة عليه كما فعل االستشراق
الغربي إلى حد كبير.
لقد عقد كراتشكوفسكي صداقات أبدية مع
شخصيات مخطوطاته ،مع العلماء واألدباء العرب
الذين أبدعوا تلك اآلثار الفكرية الحضارية (أولئك
األصدقاء الذين ال يستطيع أحد أن ينتزعهم منك،
حتى الموت نفسه ال يملك سلطانًا عليهم ،إن
فصوًال بأكملها من التاريخ كانت مجهولة ثم
انفتحت لك ،وإن كثيرًا من الشخصيات قد خرجت
من صفحاتها وكأنها حية وتجسدت أمامك فرأيتها
رؤية العين)(.)87
إن المستعرب الروسي ال يقوم بإحياء
الماضي ليجعله بديًال للحاضر أو ليجعل الحاضر
استمرارًا لهذا الماضي أو إطالة له .الماضي ،الذي
مارس العرب المسلمون فيه دورهم الحضاري
في اإلرث البشري ،والذي يحكم المستشرقون
األوروبيين ،بأن الشخصية العربية اإلسالمية قد
أبدعت فعلها التاريخي وانتهت ،وماتت بانتهاء
الفعل التاريخي الماضي للشخصية العربية
اإلسالمية ،وبالتالي فإن هذه الشخصية غير قادرة
على ممارسة الفعل الحضاري مرة أخرى،
وبالتالي فإن إحياء المستشرق الغربي للماضي
العربي اإلسالمي هو إحياء من باب استمرار
الماضي في الزمن الحالي ،وأن العرب
المسلمون مازالوا يعيشون في تلك الفترة من
الفعل الحضاري الذي مضى عليه قرون .أقول أن
إحياء المستعرب الروسي لشخصيات مخطوطاته
ليست من باب الفعل األوروبي الغربي ذاته :وإنما
من باب ربط الماضي بالحاضر ،إذ عاش في
الماضي الزاهي شخصياته العلمية المبدعة ،وفي
الحاضر اآلن تنبعث الشخصية العربية اإلسالمية
لتمارس دورها في التاريخ الحالي ،فهي ليست
مع المخطوطات. (?) 87
- 70 -
شخصية محكومة فقط بالماضي ،وإنما هي
شخصية حية تقوم بفعلها التاريخي وضمن
شروطها التاريخية ،فيقدم كراتشكوفسكي
شخصيتين عربيتين إسالميتين ،واحدة منذ قرون
من الماضي البعيد ،واألخرى عايشها وتعامل معها:
يقول :كراتشكوفسكي:
(وقد تذكرت بابتسامة حياة التبريزي التي
قضاها في بغداد كأستاذ في المدرسة النظامية
المجيدة ،وكيف أنه بعد موته ،كان الناس يشيرون
إلى معجم كبير قد حمله أيام شبابه على ظهره
من تبريز إلى بالد الشام ،لكي يدرس عند شاعر
وعالم مشهور أعمى هو أبو العالء في المعرة
بالقرب من حلب ،ويبدو ظهر المعجم كأنه أصابه
البلل بالماء ،والسبب في هذا يرجع إلى طول
الفترة التي قضاها المعجم محموًال على ظهر
التبريزي فأصابه العرق الذي نتحه ظهره)( )88إن
كراتشكوفسكي يقدم لنا الشخصية اإلسالمية
شخصية إنسان ساع للعلم ال يتوانى في سبيله من
تجشم عناء السفر ،حامًال كتبه من تبريز إلى
الشام ليتتلمذ على يدي أبي العالء فالمسلم طالب
للعلم متابع له هذا عن عالم من الماضي ،وعن
الحاضر ،يحدثنا عن العلماء المعاصرين أحفاد
أولئك العلماء الدؤوبين ضمن الشروط التاريخية،
فهو يصف المكتبات العربية خالل رحلته إلى
الشرق العربي المسلم فيتحدث عن مكتبة األزهر
وعن المكتبة الخديوية وعن إتاحة فرص االنتفاع
بالمخطوطات للباحثين دون تعقيدات كثيرة في
مكتبة األزهر قياسًا إلى تعليمات المكتبة الخديوية
الصارمة (وها أنا أسرع إلى مكتبة األزهر واألزهر
هذا هو أكبر مدرسة إسالمية أسست في القرن
العاشر للميالد .وفي المساء ذهبت إلى الشيخ
وأخذت منه بال صعوبات كثيرة بعض المخطوطات
ص 23المصدر السابق. (?) 88
- 71 -
()89
إلى منزلي.
هذا عن بعض مكتبات مصر وفي بيروت
يتحدث عن المكتبة الشرقية في جامعة القديس
يوسف فيقول(وكان يحزنني أن أقرأ بعد وصف
بعض المخطوطات القيمة التي أعرفها عبارة
مختصرة( .Disparu durant laguerre .فقدت في
زمن الحرب) ،إن البربرية الحديثة لم ترحم هذه
المجموعة أيضًا ،التي كانت في سوريا أحسن
ماوجد منها من حيث ترتيبها ..والعادات المتبعة
في المكتبة أنظمة وعادات بطريركية حقًا فلو
أنني أردت أن أستعير منها أي كتاب إلى منزلي
فإن كل مايلزمني هو أن أسجله بنفسي في دفتر
كبير ملقى مفتوحًا على المنضدة) )90(.هذا جانب
آخر من جوانب الشرق العربي الحديث يصوره
كراتشكوفسكي إنها االهتمامات الفكرية وإحدى
صورها المكتبات العامة ،كما يصور اهتمام األديان،
إسالم ومسيحية ،بهذه الصروح الحضارية
والحفاظ على الكنوز القديمة المحفوظة فيها،
فهذه مكتبة األزهر وتلك مكتبة جامعة القدس
يوسف ،والمكتبة الخديوية ،ومكتبة اإلسكندرية،
إضافة إلى المكتبات الخاصة مثل مكتبة أحمد
تيمور في مصر ،والمكتبة الخالدية في القدس،
وفي حلب المكتبة المتربولية المارونية( .وكل
مكتبة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة ،غنية أم
متواضعة ،كان لها طابعها الخاص ،إال أنها جميعًا
كانت تقابل بترحيب زوارها الجدد وتكشف لهم
كنوزها بسعادة وطيب خاطر)(.)91
إن كراتشكوفسكي يعكس صورة الشرق
المعاصر المهتم بالفكر واألدب والثقافة ،اهتمامًا
رسميًا ودينيًا وشخصيًا ،وصورة الشرقي المنفتح
ص 37نفس المصدر. (?) 89
- 72 -
على اآلخر ،ذو االهتمامات العلمية .إن النهضة
الحديثة للشرق العربي المسلم تظهر بوادرها في
كل مكان( ،وفي الصيف عندما غادرت بيروت
ورحلت إلى أماكن أخرى فهناك كان معلمو القرى
وصحفيو المدن الصغيرة ومراسلو الجرائد وأطباء
القرى كل هؤالء قابلوني هناك بود وترحاب وكان
الحوار بيننا يستغرق عدة ساعات بعد أول لقاء
بهم وكانوا جميعًا يتأججون والثورة تتقد في
()92
نفوسهم وفي خيالهم حلم بالتحرر الوطني)
إن كراتشكوفسكي في حديثه عن الشرق
المعاصر ،الشرق العربي المسلم ،يقدم صورة
تختلف اختالفًا كبيرًا مما قدمه ورسمه األوروبي
الغربي ،ففي نفس الوقت الذي تواجد فيه
كراتشكوفسكي في مصر وسوريا ولبنان ،كان
هناك علماء غربيين مثل البلجيكي المنس،
والفرنسي رونزفال وغوتهيل ،واإليطالي فيللينو،
ومارك ليدزبارسكي ،إال أن الحديث عن شخصية
الشرقي المسلم ،وتقديمها إلى العالم اختلفت
اختالفًا بينًا ،بين هذا وأولئك ،إذ غالبًا كان
المستشرقون األوربيون الغربيون ينظرون إلى
الشرق المسلم على أنه مكان للمغامرة الجنسية
والمتعة (فقد كان الشرق مكانًا يذهب إليه المرء
بحثًا عن تجربة جنسية ال تنال في أوروبا .وليس
ثمة من كاتب أوروبي ،أو كاتبة أوروبية ،كتب عن
الشرق أو سافر إليه في مرحلة ما بعد 1800م،
()93
استثنى نفسه من هذا البحث)
إن شرق كراتشكوفسكي هو الشرق الناهض
الذي يمور بالحركة والحياة ،الشرق المتنور حيث
الصحف والكتب والمكتبات والمعلمون واألطباء،
إن الشرق لم يمت بانتهاء حقبة حضارية ،إنه
ينهض ليمارس دورًا في الحياة البشرية إنه شرق
ص 32نفس المصدر. (?) 92
- 73 -
من نمط آخر مختلف عن شرق األوروبي الغربي
الذي مازال غارقًا في سباته ،الشاذ ،الكسول،
المنغلق ،الذي ال يوحي بالحياة فيه إال (النقوش
وزريق الطيور هما الشيئان الوحيدان في مصر
اللذان يدالن أي داللة على الحياة)( ،)94إن الشرق
المسلم عند كراتشكوفسكي ليس الشرق الذي
يقصده األوربيون الغربيون للبحث عن متع جنسية
لم يتذوقوها في بالدهم (وبمرور الوقت أصبح
"الجنس الشرقي" سلطة تعادل في سوائيتها أي
سلعة أخرى في المتناول ضمن الثقافة
الجماهيرية ،بحيث أن القراء والكتاب كانوا
يستطيعون الحصول عليها إذا رغبوا في ذلك،
دونما حاجة إلى الذهاب إلى الشرق)(.)95
هكذا صور المستشرقون األوروبيون الغربيون
الشرق المسلم ،وتمت تقديم هذه الصورة للقراء
ولألجيال المتعاقبة .وإذا كانت هذه صورة الشرق
المسلم التي ورثتها األجيال األوروبية عن
مستشرقيها ،فإن ما أورثه المستعربون الروس
لخلفائهم كان أمرًا مختلفًا ،يقول كراتشكوفسكي
في حديثه عن أبي العالء المعري:
(وكنت قد ورثت هذا االهتمام الشديد بأبي
العالء المعري من معلمي روزن الذي كان في آخر
أيامه شغوفًا بهذا الفيلسوف المتشائم الالذع
السخرية والحقيقة أن أبا العالء المعري ينفذ إلى
أعماق النفس البشرية بتحليله الدقيق المتشائم،
بابتسامة ساخرة لينة يحاول أن يكتم مرارة اليأس
وسواد أفكاره)( )96إن هذا االهتمام بالمفكرين
العرب المسلمين ،وبالشخصيات العلمية العربية،
كان يتقاسمه المستعرب الروسي مع الباحثين
العرب ،حيث كان يتم النقاش وتبادل اآلراء حول
أوردها سعيد -االستشراق -ص.197 (?) 94
- 74 -
الموضوعات المختلفة مثار النقاش ،أو
المخطوطات مدار الجدل ،وفي هذا لم يكن
المستعرب الروسي يصدر في حكمه وآرائه على
التراث الثقافي للعرب المسلمين من نظرة
أحادية ،وإنما من خالل الحوار مع أبناء هذا التراث
أنفسهم ،وهذا كما قلت مدعاة ألقل مايمكن من
الخطأ من جهة ،ومن جهة أخرى يدل هذا التعاون
بين الروس والعرب ،أن المستعرب الروسي نظر
إلى رجل العلم العربي من موقع الندية والتكافؤ
وليس من منطلق التفوق ،ونظرة الوصاية التي
انطلق منها المستشرق األوروبي ،الذي اعتبر أن
هذا الشرق المتخلف ،ال يملك أن يدير شؤون
نفسه ،فهو يحتاج لمن يفكر عنه وينظمه ،ألنه غير
قادر على التفكير العلمي واإلبداع ،ويفتقر إلى
الدقة ،الشرقي الفوضوي الذي عبر عنه
شاتوبريان بقوله( :عن الحرية ال يعرفون شيئًا عن
االحتشام ليس لديهم شيء ،القوة هي ربهم،
وحين تمر بهم فترات طويلة ال يرون فيها فاتحين،
يطبقون عدالة السماء ،فإنهم يبدون مثل جنود
دون قائد ،مثل مواطنين دون مشرعين ،مثل
عائلة دون أب)( )97ويقول كرومر (قال لي سير
الفرد اليل مرة إن الدقة كريهة بالنسبة للعقل
الشرقي ،وعلى كل إنسان انجلو .هندي أن يتذكر
هذا المبدأ األساسي .واالفتقار إلى الدقة .الذي
يتحلل بسهولة ليصبح انعدامًا للحقيقة هو في
الواقع الخصيصة الرئيسية للعقل الشرقي.
األوروبي ذو محاكمة عقلية دقيقة ،وتقريره
للحقائق خال من أي التباس ،وهو منطقي مطبوع،
رغم أنه قد ال يكون درس المنطق ،وهو بطبعه
شاك ويتطلب البرهان قبل أن يستطيع قبول
حقيقة أي مقولة .ويعمل ذكاؤه المدرب مثل آلة
ميكانيكية .أما عقل الشرقي ،فهو على النقيض
- 75 -
مثل شوارع مدنه الجميلة صوريًا ،يفتقر بشكل
بارز إلى التناظر ومحاكمته العقلية من طبيعة
مهلهلة إلى أقصى درجة ورغم أن العرب القدماء
قد اكتسبوا بدرجة أعلى نسبيًا علم الجدلية
(الديالكتيك) فإن أحفادهم يعانون بشكل ال مثيل
له من ضعف ملكة المنطق ،وغالبًا ما يعجزون عن
استخراج أكثر االستنتاجات وضوحًا من أبسط
المقدمات التي قد يعترفون بصحتها بدءًا)(.)98
إذًا هذا هو العقل العربي ،المحدود ،الفوضوي،
غير المنطقي ،الذي رآه المستشرق الغربي يقابله
العقل األوروبي الذكي ،المنظم الدقيق ،الذي
يجب أن يقوم بعبء نهضة الشرق من خالل
الوصاية عليه واستعماره أما المستعرب
كراتشكوفسكي فيقدم لنا شخصية إسالمية تعامل
معها عن قرب هي شخصية الشيخ المحمصاني،
أحد خزنة مكتبة األزهر ،في معرض حديثه عن
مخطوط رسالة المالئكة ألبي العالء (لكن الشيء
الذي لم أستطع فهمه من أمر هذه الرسالة ،هو
السبب في أنها ال تذكر إال نادرًا ،ولماذا كانت نسخ
مخطوطاتها األخرى مجهولة تمامًا؟ ولم أكن أنا
وحدي الذي عجبت لهذا األمر ،بل قد شاركني في
هذا العجب أيضًا الشيخ المحمصاني ،أحد خزنة
المكتبة الذي كان يقوم دائمًا بإعطاء المخطوطات
وكنا نتحاور مرارًا عن مختلف الموضوعات األدبية،
بل وعن مدى صعوبة تعلم اللغة الفرنسية)( .)99إن
كراتشكوفسكي قدم الشخصية العربية المسلمة
هنا ،شخصية إنسان ذو عقل منفتح ،يتحاور
ويناقش ويتفاعل ايجابيًا مع اآلخر ويطور نفسه
وينفتح على ثقافات اآلخرين من خالل تعلم لغاتهم
ومحاولة التغلب على صعوباتها التي كانت
مشتركة بين الروسي والعربي المسلم ويقدم
- 76 -
كراتشكوفسكي شخصيةعلمية عربية لبيئة
االستعراب الروسي تمثل دقة وتنظيم العقل
العربي ،فيتحدث عن المراسالت التي كانت تتم
بينه وبين العالم األديب أحمد تيمور باشا بشأن
مخطوط أبي العالء المعري (رسالة المالئكة)،
فيقول( :وعندما تجددت الروابط العلمية الدولية
بصعوبة وإصرار ،وجدت على غير انتظار زميًال في
العمل متحمسًا ومحبًا ألبي العالء تحمس روزن
وتلميذه األصغر .هذا الزميل هو أحمد تيمور باشا،
المصري صاحب أحسن مجموعة خاصة من
المخطوطات في القاهرة ،كان قد جمعها بحب
كبير وسعة معرفة كان هذا العالم كريمًا لدرجة
عجيبة فقد كشف كنوزه لمختلف العلماء من
مختلف البالد ،وكان متواضعًا نادر الوجود فقد كان
يجعل من نفسه زميًال في العمل لمن يراسله من
العلماء إذا أحس بأن لدى هذا المراسل تذوقًا
لألدب العربي ،وكانت مجموعة هذا العالم تحتوي
مخطوطًا آخر عن (رسالة المالئكة) فبدأت بين
القاهرة ولينغراد مراسالت حية .ومن جديد ثارت
مناقشة حول مختلف األشكال وتبيان اإلشارات
واالفتراضات المتعلقة بها .وعلى تلك القصاصات
النظيفة المستطيلة التي كتبت بخط شيخ عجوز
لكن بحروف جميلة واضحة كان أحمد تيمور باشا
من أسبوع ألسبوع يرسل إلي بأفكاره واقتباساته
في رده على أسئلتي ،أو يرسل إلي مايخطر
بفكره هو نفسه ،وفي كل مرة بنشوة مضطرمة
كنت أفتح خطاب تيمور باشا الذي كنُت أجد فيه
مرارًا الجديد من االكتشافات ،بل كنت أجد أحيانًا
وبدون توقع شعرًا وأمثاًال وأقواًال ،كنت في ذلك
الوقت أشد ما أكون حاجة إليها لتوضح تلميحات
أبي العالء التي تعبنا أعوامًا عديدة في محاولة
كشفها وتبينها)( )100إن الفرق واضح جلي بين
- 77 -
تقديم االستشراق األوروبي الغربي للشخصية
العربية المسلمة ،وبين تقديم االستعراب الروسي
لنفس الشخصية .إن األول يورث الرغبة في
التملك والسيطرة واالستعمار ،لعدم كفاية العقل
العربي على إدارة شؤونه وتنظيمها ،يورث الثاني
التكافؤ في التعامل واالحترام لعقول اآلخرين
وشخصياتهم ،وإنصافهم من خالل التعامل من
موقع التكافؤ اإلنساني ،الذي سمح بالتعاون
العلمي بين المستعرب الروسي والعاِلم العربي.
إن الشخصية اإلسالمية المحبة للعلم الواعية ،لم
تقتصر فقط على عدد محدد من العلماء ،وإنما برز
االهتمام الثقافي حتى لدى أولئك الذين يديرون
أعماًال ومصالح أخرى .يقول كراتشكوفسكي (فقد
أردت أن أتعرف على حبيب الزيات الذي كان
يعمل بتجارة الفاكهة المجففة وتصديرها إلى جميع
أنحاء العالم ولكنه كان ينتهز كل دقيقة من أوقات
فراغه ليبحث في المخطوطات وقد كان عالمًا
دقيقًا ذواقًا ومحبًا للمخطوطات ،وبكل هذه
الموهبة التي أوتيها كان يختلس من المخطوطات
القديمة صورًا منسية تتصل بالثقافة العربية ثم
يعمل على إحيائها في مقاالته المتعددة التي
طبعت في مابعد)(.)101
إذن ،هذه هي نماذج العقل العربي التي
يقدمها االستعراب الروسي لقرائه ،العقل الذي
ساهم في إخراج تراثه المخطوط إلى النور من
خالل تبادل اآلراء والنقاش والتعاون العلمي مع
العلماء اآلخرين وإذا كان هناك ثمة عمل إحيائي
للتراث العربي اإلسالمي فقد قام العلماء العرب
متعاونين في مرات عديدة مع العلماء األجانب،
تعاون األكفاء ال تعاون األوصياء .إن حرية التفكير
وإتاحة حرية التعبير للعقل العربي تمت
ممارستها بأوسع صورها في عصور ازدهار
- 78 -
الحضارة العربية واإلسالمية ،هذا ما أراد
المستعرب الروسي قوله عندما قرأ األبيات
التالية لألخطل األموي:
بآكل لحم ولست
األضاحي بصائمًا ولست
رمضان طوع
الفالح حِّي
كمثل العير ولست بقائم أبدًا
على أنادى
الصباح.عند منبلج
وأسجد شموال سأشربها
ولكني
- 79 -
في هذه الدولة العربية اإلسالمية أتاح الحرية
الكافية لألديان األخرى للتعبير عن الرأي،
ومعروف أن األخطل كان نصرانيًا .وحرية التعبير
التي مارسها األخطل إلى درجة وصفها
كراتشوفسكي بأنها متجاسرة ،أمام الخليفة
المسلم ،الذي يمثل أعلى سلطة دينية وزمنية في
ذلك العصر ،هذا الخليفة الذي ضمن حرية التعبير
ت أبياتُه على
ظ ْ
ف َلألدباء فلم يعاقب األخطل وحُ ِ
مدى العصور ،إن هذا الموقف ال يصدر عن عقل
منغلق متعصب .بل عن عقل حر منفتح وقارن
كراتشوفسكي موقف الخليفة مع موقف الرقابة
التركية على المطبوعات بعد أحد عشر قرنًا
وبالتالي فإن قمع حرية الرأي تهمة ال يلصقها
كراتشوفسكي بالعقل العربي المسلم في القرن
الثامن ،وإنما بالعقلية التركية في القرن التاسع
عشر ،وهذه لفتة عز نظيرها لدى المستشرقين
الغربيين الذين ألصقوا تهمة العقل المنغلق على
ذاته وعلى اآلخرين بالمسلم إطالقًا ،بغض النظر
عن الشروط التاريخية التي عاشها المسلم في
األزمنة المختلفة .إن كراتشكوفسكي ،من خالل
استعرابه ،يقدم حرية تفكير األفراد في الدولة
العربية اإلسالمية على أنها جزء من تفكير الدولة،
وإتاحة التعبير الفكري سواء للمسيحيين (األخطل)
أو للمسلمين ،ففي حديثه عن مخطوط (رسالة
المالئكة) ألبي العالء المعري يقول( :أصبح واضحًا
لي من السطور األولى ،لماذا كانت هذه الرسالة
قليلة الشهرة إلى هذا الحد :فلو كان عند العرب
فهرس للكتب الممنوعة والمحرمة .الحتلت فيه
هذه الرسالة مكانًا مرموقًا .والواقع أنها كما يبدو
من شكلها تتحدث عن موضوعات نحوية ،وتتناول
أيضًا ،نقطة جديرة ،لها اهتمام كبير من الناحية
الدينية ،هي مسألة الصور اإلعرابية المختلفة
ألسماء المالئكة مصحوبة باقتباس من القرآن
والشعر ،وكما هي العادة تذكر أسماء مشهورة
- 80 -
في األدب مع تلميحات أدبية ال تحصى ،إال أن هذا
ليس سوى غطاء الرسالة والشكل الخارجي لها
أما في الحقيقة فإن الرسالة التي تبدو من الخارج
رسالة نحوية :تقليدية ،تخفي وراءها هجاء الذعًا،
وسخرية فكرية شديدة ،من فهم بعض المسلمين
لحقيقة المالئكة ،وهذه الطريقة الساخرة ألبي
العالء هي نفسها طريقته في رسالته المشهورة
"رسالة الغفران" حيث نجده بسخريته الالذعة
نفسها يتهكم بالوصف التقليدي القديم للحياة بعد
الموت)( .)103وكراتشكوفسكي ال يقدم للقارئ
فقط مسألة حرية التفكير والتعبير لدى العرب
المسلمين ،وعدم وجود تحريم أو منع لألفكار
والكتب ،بل ويتبع ذلك بصورة مقارنة لما مارسته
الكنيسة من منع تجاه نفس األفكار المطروحة
تقريبًا لدى أبي العالء .فيتحدث عن مخطوط وقع
له ويعود إلى العام 272هـ (وقرأت بانتباه عظيم
في ذلك الكتاب ،حيث يتحاور الشيطان مع
الموت ،وأدركُت لماذا لم تدرجه الكنيسة في
قانونها ،ففي هذه المخطوطة تنعكس .بوضوح
قوي المشاعر اإلنسانية بطريقة تخالف دستور
الرهبان)( .)104إن كراتشكوفسكي يقدم للقارئ
صورة أخرى من صور حرية التفكير والتعبير
المتاحتين لدى العرب المسلمين فرسالة أبي
العالء المعري لم تحظ بالشهرة ،إال أنها بنفس
الوقت قد تمت المحافظة عليها فلم تحرق ،أو
تمنع ،أو يعاقب صاحبها ،وإنما بقيت حية طيلة
قرون عديدة.
إن الحديث عن حرية الرأي والتفكير لدى
المسلمين والمسيحيين في الخالفة العربية ال
يعكس فقط المناخ اإليجابي لتفتح التفكير العربي،
ولكافة األديان ،فقط ،وإنما يعطي صورة أيضًا بأنه
- 81 -
لم تكن هناك مشكلة بين المسلمين والمسيحيين
الذين يعيشون في كنف الخالفة العربية ،ويعكس
جو التسامح الديني الذي كان سائدًا في المجتمع
والدولة على حد سواء.
إن ديمقراطية التعبير وحرية التفكير في
الحضارة اإلسالمية العربية هي التي أتاحت اإلبداع
للمفكرين والعلماء العرب ،فأثروا الحضارة
اإلنسانية ،وأصبحت هذه الحرية تقليدًا في الدولة
العربية اإلسالمية ،إلى أن دخلت العناصر األجنبية
على التفكير المتسامح ،في عصور الظالم
االستعماري ،فمارست االضطهاد الفكري.
وعن عالقة المستعرب الروسي مع العلماء
العرب ،يتحدث كراتشكوفسكي عن أحمد تيمور
باشا (الذي كان يجعل من نفسه زميًال في العمل
لمن يراسله من العلماء ،إذ أحّس بأن لدى هذا
المراسل تذوقًا لألدباء لعربي) ،وقد اكتشف
كراتشكوفسكي نفسه فيما بعد ،أن هناك
مخطوطًا آخر لـ(رسالة المالئكة) موجودًا في
المكتبة الخاصة ألحمد تيمور باشا ،وتمت
المراسالت بينهما حول هذا المخطوط ،فكان
تيمور يجيب عن األسئلة المختلفة للمستعرب
الروسي ،أو يرسل إليه بأفكاره واقتباساته وآرائه
بطيب خاطر .وهكذا ساهم الشرقيون أنفسهم مع
المستعربين من خالل إبداء آرائهم ومالحظاتهم
وتوضيحاتهم في إخراج تراثهم إلى النور.
لقد طابق االستشراق األوروبي الغربي بين
شخصية المسلم المنفتحة في عصور ازدهار
الحضارة العربية اإلسالمية ،وبين العقلية اإلسالمية
المنغلقة في زمن االستبداد التركي وجعلها شيئًا
واحدًا ،بحيث أضحت هذه الشخصية مرتبطة
بصفات محددة وثابتة منغلقة وغير قابلة للتطور،
وأصبح هذا االنغالق والتخلف خاصتين من خصائص
شخصية المسلم الشرقي غير قابلة للتغير أبدًا.
- 82 -
إن من دوافع االستعراب الروسي ،فهم
الشعوب و الحضارات األخرى ،ليس بدافع غرائبية
هذه الشعوب ،وإنما لقناعة هذا االستعراب بأن
حضارات الشعوب نتاج المجتمعات المختلفة
تصب في النهاية في مجرى التاريخ الحضاري
الواحد للمعرفة البشرية الذي تتعدد روافده بتعدد
الشعوب واختالفها وتمايزها وإن دراسة حضارات
الشعوب وإبداعها ال ينم عن ذوق ذاتي لمعرفة
المجهول من المجتمعات األخرى ،وإنما عن
إحساس بالمسؤولية تجاه ضرورة التوصل
البشري اإلنساني من خالل التعريف بثقافات
الشعوب المختلفة ،وتقريب شخصية اآلخر كي ال
يكون بمنأى عن األحكام الموضوعية ،وبالتالي
يساهم الوهم واألسطورة في تكوين هذه
الشخصية والحكم عليها فيقول كراتشكوفسكي
(وإني لشديد الرغبة في أن أفهم بعمق موضوع
عالقات العرب مع الشعوب المغلوبة في البالد
التي استولوا عليها ،وأريد أن أفهم الروابط بين
المسلمين والمسيحيين)(.)105
فإذا كانت مسألة العالقات بين المسلمين
والمسيحيين لدى االستشراق الغربي قد قيمت
سلفًا ،من خالل الركام الثقافي الذي أفرزته
الحروب الصليبية ،وُقِّدم هذه الركام صورة
مشوهة عن هذه العالقات ،فإن عالقات المسلمين
والمسيحيين لم تكن قد قيمت في االستعراب
الروسي من خالل الحروب الصليبية .وإنما عمل
المستعربون الروس بدأب لفهمها ومعرفتها من
خالل دراسة المصادر األساسية التي شكلت
التاريخ العربي اإلسالمي وثقافته بتجلياتها
المتعددة .وتم تقييم العالقات بين العرب وشعوب
البالد التي فتحوها تقييمًا موضوعيًا فعن وجود
العرب في األندلس ،ودورهم في الثقافة األوروبية
ص 30المصدر السابق. (?) 105
- 83 -
وتأثيرهم الفعال ،يقول كراتشكوفسكي (فعبر
جسر العرب هذا دخل جميع مشاهير اليونان
كأرسطاليس وإقليدس وبطليموس وغالينوس
وأبو قراط إلى أوروبا ،التي ما تعرفت بهم ،إال
بواسطة نقل مؤلفاتهم من العربية إلى الالتينية
حتى جاء عصر النهضة ،أما عدد المؤلفات العربية
األصل العلمية المترجمة إلى الالتينية فكان كذلك
كبيرًا)( )106ويقول( :وبطرد العرب نزفت إسبانيا
دماءها)( )107إن العرب كانوا روح إسبانيا.
وعندما يتحدث عن دخول العرب إلى
األندلس ،ال يصفهم بالغزاة ،وإنما يتحدث عن
الفاتحين والفتح والفتوح العربية يقول( :وسرعان
ما سقطت قرطبة وطليطلة في أيدي العرب،
وسارت حركة الفتح إلى الشمال)( .)108ويصف
خالد بن الوليد بالقائد الفاتح (وكان باعث هذا
اإلحساس ذكريات تاريخ قديم يتصل بالقائد
العربي المشهور خالد بن الوليد فاتح الشام في
القرن السابع الميالدي)( )109كما يتحدث عن
ظاهرة انتشار اللغة العربية في كل البلدان التي
فتحها العرب المسلمون حيث( :أخضعت هذه
اللغة كل العالم الذي دان باإلسالم ،وهي ظاهرة
نادرة نوعًا ما في تاريخ فتوح الشعوب غير
المتحضرة لألقطار المتحضرة)( .)110إذن هكذا
يقدم المستعرب الروسي عملية توسع اإلسالم
في مختلف أنحاء العالم ،وهكذا يصف القادة
العرب المسلمين ،وشتان بين تعابير مثل
(االستيالء) و(الغزو) وبين تعابير (الفتح،
الفاتح……) ،ذلك أن هذا المستعرب ،ال يصدر في
(?) ص 73دراسات في تاريخ األدب العربي منتخبات 106
كراتشكوفسكي
(?) ص 75المصدر السابق. 107
- 84 -
كالمه عن موقف مسبق ،وال عن فكرة عدائية
ثابتة وإنما يضع األمور في نصابها ،وهذا مايجعل
منه باحثًا ومستعربًا منصفًا ،يحمل مسؤولية علمية
وتاريخية ال عالقة لها بدوافع غير دوافع المعرفة
اإلنسانية .يقول( :إنني ال أخفي أنني أردت أن
أقوم بشيء من الدعاية لميدان عملي ،وأن
أتحدث بملء صوتي عن علم اللغات واآلداب
الشرقية لقد أردت أن أبين قدر طاقتي ،كيف أن
ثمة أناسًا يعملون في هذا الميدان ،ال لمجرد أن
لديهم ذوقًا ذاتيًا غريبًا على حد تعبير بعضهم،
يجتذبهم إلى هذا العمل ،وأن هؤالء الناس
يطوفون بهذا الميدان ال بدافع الولع بالغرائب،
وأنهم ليسوا بزهاد وينعزلون عن الحياة)( .)111إن
الدافع الستعراب كراتشكوفسكي وغيره من
المستعربين الروس لم يكن بدافع الولع بغرائبية
الشرق وإنما هو عمل معرفي يتصل بحضارات
الشعوب اإلسالمية وإذا كان الشرق عالمًا عجيبًا
ُيدرُس لعجائبيته هذه ،وللصور الخيالية التي
ارتبطت في ذهن الغرب األوروبي عن هذا الشرق
الذي كان مزدهرًا ،واآلن أصبح أسطورة ميتة ال
حياة فيها ،ألن سنوات االزدهار الحضاري انتهت،
وانتهى معها الشرق العربي المسلم ،وانتهت
معهم لغتهم التي أصبحت لغة ميتة ال تواكب
تطورات الحضارة المعاصرة .إن االستشراق
الغربي يكرس فكرة موت هذا الشرق حضارة
ولغة وأن الغرب هو الذي سيبعث فيه الحياة .إن
الشرق نفسه غير قادر على االنبعاث من جديد.
وهنا يختلف االستعراب الروسي عن
االستشراق األوروبي الغربي إذ (توجد في العائلة
البشرية الكبرى ،أمم يعتقد حسب الرأي السائد
بأنها لم تعد تلعب دورًا نشيطًا في التطور
الحضاري العام ويورد كل باحث في هذا المجال
ص 15مع المخطوطات. (?) 111
- 85 -
تحفظًا يؤكد فيه أن موضوع بحثه يتسم بأهمية
(أكاديمية) ،فقط ،وليس له شأن يذكر بالنسبة
للواقع العصري وعندما يبدي هذا الباحث إعجابه
الشديد بالماضي المجيد ،غالبًا ما يغيب هذا الواقع
العصري عن باله ،فال يرى ،كيف تقوم ،على
أنقاض الماضي ،حياة جديدة تمنح البشرية
مفاجآت ال تتميز أحيانًا بصفة أكاديمية على
اإلطالق ،والعرب هم من بين تلك األمم)( .)112إنه
الشرق المتجدد (الشرق العربي الحي)(.)113
- 86 -
http://mawdoo3.com
المستعربون الروس المعاصرون:
إن االستعراب الروسي المعاصر هو امتداد
لمدرسة االستعراب التي أسسها المستعربون
األوائل ،اعتبارًا من بدايات القرن الثامن عشر
وحتى بدايات القرن العشرين ،ويعتبر كثير من
المستعربين اليوم أنفسهم خريجي مدرسة
االستعراب الروسية الكالسيكية .وقد استمر هؤالء
بالتعريف بالتراث العربي اإلسالمي والحضارة
العربية اإلسالمية ،سواء عن طريق تحقيق
المخطوطات وطباعتها ،أو إعداد الفهارس التي
تعرف بهذه المخطوطات ،أو عن طريق تأليف
الكتب والدراسات المتنوعة أو عن طريق
الترجمات المختلفة التي تعكس وجوه الفكر
العربي اإلسالمي قديمًا وحديثًا .فقد قام
المستعرب ميخائيل بتروفسكي ،بتأليف كتاب
(قصص األنبياء في القرآن) ،وكذلك كتاب (لغة
الفن اإلسالمي) ،فدرس في األول ،ليس فقط
قصص األنبياء في القرآن وإنما أيضًا المعلومات
التاريخية الواردة في القرآن ،لمحاولة فهم
القصص فالقرآن برأي بتروفسكي (يقدم النص
لقوم يعرفون هذه القصص ويعمل على أن يقدم
لهم التفسير لهذه القصص .إن القرآن لـه صالت
واتصاالت بقلب الحضارة العربية اإلسالمية،
واإلنسان الذي ال يعيش في هذه الحضارة ال يقدر
أن يفهم القرآن ،حتى بمساعدة عدة ترجمات
بعدة لغات ،وقد حاولت في هذا الكتاب إعادة بناء
المعلومات التاريخية الموجودة عند العرب في
وقت البعثة المحمدية ،وهذا شيء مهم لتقدمه
للقراء والمثقفين في روسيا) ،إن المستعربين
الروس اآلن يستمرون في ممارسة دورهم في
التعريف بالحضارة العربية اإلسالمية ،أدبًا وفنًا،
- 87 -
فعن كتاب (الفن اإلسالمي) يقول بتروفسكي:
(هو محاولة لترجمة الفن اإلسالمي إلى مفاهيم
اإلنسان الذي يعيش ظروف الحياة األوروبية،
وبرغم أن الحضارة اإلسالمية قريبة جدًا إلى
الحضارة األوروبية ،فإن اإلنسان في روسيا
وفرنسة وأمريكا… ال يفهمون بشكل مباشر قيمة
الفن اإلسالمي ،وموضوعات الفن اإلسالمي ،إن
أي أمريكي يفهم جيدًا الفن الياباني ،وكل مثقف
أوروبي يستطيع أن يفهم جماليات الفن الياباني أو
الهندي أو الصيني ،أما الفن اإلسالمي ،فإن غالبية
الناس خارج العالم اإلسالمي غير قادرين على
استيعاب جماليات هذا الفن ،وهذا شيء مؤسف،
ومن واجبات وأهداف الدراسات العربية في
روسيا كانت دائمًا محاولة عبور الفرق الموجود
بين الحضارات).
إن األهداف المعرفية اإلنسانية لالستعراب
الروسي تستمر من خالل المستعربين الجدد،
فتتوسع آفاق هذا االستعراب ومهماته ،لتشمل
أيضًا إلى جانب الدراسات الفكرية األدبية
والثقافية المتنوعة ،تشمل الفن اإلسالمي
والتعريف به ،ليتمكن األوروبي من استيعاب
جماليات الفن اإلسالمي الذي تشكل في صميم
الحضارة العربية اإلسالمية ،وشكل منعطفًا مهمًا
في التراث العالمي ،وتتجلى مرة أخرى ،القيمة
اإلنسانية لالستعراب الروسي عبر العلماء
المعاصرين ،عندما تستمر مهمة تقليص الفروق
بين الحضارات للشعوب المختلفة من خالل
التعريف بها ،وكشف جوانبها المجهولة.
إن الدراسات االستعرابية الروسية بقيت في
الماضي بمنأى إلى حد كبير ،عن تأثير القرار
السياسي ،وإنها اآلن غير مرتبطة بالسياسة
االستعمارية ويعتبر المستعربون الروس
المعاصرون ،أن الحضارة اإلسالمية في روسيا هي
- 88 -
جزء من التراث الروسي ،على الرغم من أنه في
األوقات المختلفة ،برز أحيانًا االتجاه السياسي في
الدراسات العربية اإلسالمية ،من خالل المعاهد
التعليمية التي ارتبطت بوزارة الخارجية والكنيسة،
والتي كانت تمثلها ،في قسم منها ،مدرسة
االستعراب في موسكو وبالمقابل فإن اتجاه
الدراسات األكاديمية والثقافية غير المرتبط
بالسياسة ،كان موجودًا ومستمرًا في مدرسة
االستعراب في بطرسبورغ ،حتى إبان العهد
السوفييتي .فيقول بتروفسكي( :نحن شرقيون
إلى درجة كبيرة ونفس الشيء مع الكنيسة،
الكنيسة األرثوذكسية الروسية كنيسة شرقية،
وطبعًا الكنيسة الشرقية أقرب لإلسالم وفي فهم
اإلسالم) .رغم أنه في فترة من الفترات ،كان
هناك في بعض المناطق مثل قازان صراع بين
الكنيسة الروسية واإلسالم ،ترافق مع تعصب
ديني ،ولكن كان يوجد دائمًا من يتصدى لمثل هذه
االتجاهات ،وليس فقط في الدراسات األكاديمية،
وإنما أيضًا في الثقافة الموجهة للجماهير ،برز هذا
الاتجاه في القرن التاسع عشر على يدي
مستشرقين مثل روزن ثم بارتولد ،واستمر في
القرن العشرين يقول بتروفسكي (عندما نجد
األساتذة في الجامعات ،يكتبون ضد الناس الذين
يستخدمون الدراسات الشرقية كوسيلة لخدمة
األيدلوجية ،فإن هذا التوجه ،يكون تراثًا لنا من
هؤالء األساتذة من القرن التاسع عشر ،لذلك
ممكن القول أن دور الكنيسة الروسية في الحملة
ضد اإلسالم ،أقل بكثير من دور الكنيسة
الكاثوليكية ،ألن اإلسالم بالنسبة للكنيسة الروسية
لم يكن عدوًا ،وإنما منافسًا ،فقد كانت الدعاية
ضد اإلسالم (مثًال) ضرورية ،من أجل إقناع الناس
بالمسيحية ،وهذا غير مرتبط بتعصب شديد
وأغراض سياسية واضحة ،ولم يكن هذا األمر على
مستوى فكري ،وإنما هو أشبه بالمباراة منه
- 89 -
بالعداء في حرب) .ويرى بتروفسكي ،أنه حتى في
فترة العهد السوفياتي ،كانت هناك دراسات
إسالمية ،تمت في مدرسة استعراب بطرسبورغ،
بالرغم من المعوقات السياسية لمثل هذه
الدراسات في تلك الفترة .إال أن المستعربين في
بطرسبورغ استطاعوا أن يقدموا هذه الدراسات
تحت عناوين أخرى ،مثل األدب أو الفلسفة الخ…
فكان هناك كتب ودراسات ونشر لنصوص إسالمية
مختلفة ،ومن ثم فإن اتجاه هذه الدراسات
اإلسالمية ،أصبح أقوى عندما (أدرك المسؤولون
في موسكو ،أنه من أجل القرارات الصحيحة،
يجب معرفة ماهو اإلسالم بصورة صحيحة ،وليس
من وجهة نظر سياسية ،وأصبح هناك إمكانية لنشر
الكتب والنصوص عن اإلسالم) وقد تم هذا في
الجامعات والمعاهد المختلفة في بطرسبورغ
وموسكو على حد سواء( .هذا في وقت كان فيه
األكاديمي بريماكوف مديرًا لمعهد الدراسات
الشرقية في موسكو ،فقد تم نشر العديد .من
المقاالت والكتب والدراسات عن االسالم وقمنا
بنشر عدة معاجم وكل ذلك استنادًا إلى دراسات
علمية) .وتمت ترجمة هذه المعاجم إلى لغات
الشعوب اإلسالمية الواقعة ضمن روسيا،
فترجمت إلى األذربيجانية وغيرها من لغات
الشعوب المسلمة ويصر المستعربون الروس
المعاصرون على االستمرار في استعمال مصطلح
(االستعراب) الذي يعبر عن الدراسات العربية
اإلسالمية ،وليس مصطلح االستشراق ،ألن
االستشراق من الممكن أن يستنفذ غاياته
وأهدافه .وكما كان هناك استشراق في البلدان
الغربية ،يقول :بتروفسكي (يمكن أن يكون هناك
استغراب في البلدان الشرقية) .وإن االستعراب،
هو (موضوع يمكن أن يستمر لألبد ،ألن دراسة
األدب بصورة عامة ،واألدب العربي جزء من
التاريخ العام) .ويعتبر بتروفسكي أن (التقسيم
- 90 -
شرقي وغربي ،هو تقسيم غير إنساني) ،ألن
االستعراب الروسي ،غير مرتبط بزمان أو مكان
معين وإنما المستعربون الروس (مرتبطين
بالبشرية ،باألبدية ،و المعاني الخالدة).
كما يعتبر المستعرب فالديمير بالوتسين،
الباحث في معهد االستشراق في بطرسبورغ أن
المستعربين في بطرسبورغ يمتلكون مدرسة
استعراب خاصة بهم ،ويعتبرون أنفسهم تالميذ
المستعرب الكبير كراتشكوفسكي يقول فالديمير
بالوتسين (منذ زمن طويل ،نحن لدينا مدرسة
استعراب خاصة بنا ونعتبر تالميذ كراتشكوفسكي،
أما الباحثون الذين يعملون في مجال التاريخ
المعاصر فأغلبهم في موسكو ،أما نحن في
بطرسبورغ فإننا نتبع طريقة كراتشكوفسكي أي
االستعراب الكالسيكي) .على الرغم من بروز
اتجاه لدراسة اآلداب العربية الحديثة في جامعة
بطرسبورغ.
وفي معهد االستشراق في بطرسبورغ ،يعمل
أكثر من مئة باحث ،يدرسون اآلداب الشرقية
بمختلف فروعها .إال أن الهدف الذي يوجه هذه
الدراسات ،هو ،كما يقول بالوتسين (تلبية إرادة
المعرفة) ،وال ينكر المستعربون المعاصرون الدور
الفعال ،الذي لعبته الحضارة اإلسالمية في
الحضارة الروسية ،يقول بالوتسين (لقد أثرت
الحضارة العربية واإلسالمية ككل ،في الحضارة
الروسية ،لدرجة ما كنا نعيش جنبًا إلى جنب مع
شعوب آسيا الوسطى لمدة طويلة وكانت معارفنا
تزداد بهذا التعايش ،وكل زيادة معرفة تساهم في
تطور الشعب كنا نتطور تحت تأثير الشعوب
اإلسالمية وأظن الشعوب اإلسالمية في بالدنا
كانت تتطور تحت تأثيرنا) ،وحتى اللغة الروسية
يوجد بها كثير من الكلمات العربية التي عبرت إلى
التركية ومن اللغة التركية انتقلت إلى اللغة
- 91 -
الروسية والتأثير المتبادل كان يجري دائمًا.
ويرى المستعرب أنس خاليدوف ،رئيس قسم
اللغة العربية في معهد االستشراق في
بطرسبورغ ،الذي وضع فهارس المخطوطات
العربية الموجودة في مكتبة المعهد والمطبوع
بموسكو عام 1968حيث تجاوز عدد
المخطوطات في فهرس خاليدوف 10500
مخطوطة كما يعتبر من أعماله الهامة األخيرة،
تحقيقه لكتاب (األوراق) ألبي بكر محمد بن يحيى
الصولي ،الذي صدرت طبعته األولى عام 1998
يعتبر خاليدوف أن عهد االستعراب الروسي قد
خطا خطوات واسعة مع المستعرب فيكتور روزن،
وأن الدور األكبر في االستعراب الروسي كان
لألكاديمي كراتشكوفسكي الذي أرسى أسسه في
الجامعات ،ويرى خاليدوف أن االستعراب العملي
الذي ارتبط بالقرار السياسي ،فقد كان محدود
الدور ،وأن الدراسات الشرقية في مختلف
مستوياتها كانت تنطلق من منظور إنساني .يقول
(أما االستشراق في الجامعات ،فهذا موضوع
علمي ،أن المقارنة بين الثقافات على نفس
المستوى غربية ،كانت أو شرقية ،صينية أو يابانية،
كلها في مستوى واحد ،ومن منظور إنساني).
كما يرى خاليدوف أن كراتشكوفسكي قد جعل
لالستعراب الروسي خصائص مميزة عن
االستعراب الغربي ،إذ نأى بهذا االستعراب عن
نظرة االحتقار التي كان ينظر بها الغرب إلى
الشرق ،نتيجة إحساسه بالتفوق المادي ،ومن
منطلق التفوق المادي هذا ،استطاع الغربيون أن
يدَّعوا ألنفسهم ،ومن موقع القوة ،حتى التفوق
الروحي والثقافي على الشعوب األخرى.
ولم يكونوا ملزمين لتخفيف عدائهم تجاه
الشرق ألن الشرق كان يعيش ضعفه والغرب
امتلك القوة والتطور أما المستعربة أولغا
- 92 -
باريسوفنا فرالوفا التي شغلت مدة خمسين عامًا،
منصب رئيسة قسم اللغة العربية في جامعة
سانت بطرسبورغ ولها العديد من األبحاث والكتب
والترجمات في مختلف أنواع الدراسات العربية
اإلسالمية .فقامت بترجمة مجموعة من قصائد
الشعراء الجاهليين ومقامات الحريري وأهم كتبها
األدب العربي في سوريا ومصر في عصر النهضة،
وكذلك رسالتها في الدكتوراه عن الكامل في
التاريخ البن األثير كما ترجمت إلى الروسية
مقتطفات من أعاجيب المخلوقات وغرايب
الموجودات للقزويني ،وكذلك معجم لياقوت
الحموي ،كما قامت بإعداد فهرس مخطوطات
مكتبة جامعة سانت بطرسبورغ ،ومن األدب
العربي الحديث ترجمت رواية زينب لمحمد
حسنين هيكل وقصص لمحمد تيمور وجبران خليل
جبران ،وغيرهم وقد برز اتجاهها التدريسي في
تدريس اللغة العربية الفصحى وقد تتلمذت فرالونا
على المستعرب كراتشكوفسكي ،وقامت
بتدريس طالبها في الجامعة الكتب العربية
المتعلقة بالتاريخ في القرون الوسطى مثل (ابن
األثير ،والطبري ،والواقدي…) كما قامت بتدريس
تفسير القرآن الكريم ،معتمدة تفسير (البيضاوي
والسيوطي).
وترى فرالوفا( :أن في أوروبا ،كان هناك
خوف من اإلسالم ،منذ القرون الوسطى ،إذ كانت
هناك شخصيات مسيحية كانت خائفة من تأثير
القرآن ،كما تولد شعور بالحسد لدى األوروبيين
تجاه العرب المسلمين نتيجة المقارنة بين الحياة
المتطورة للحضارة العربية اإلسالمية في األندلس
مع الحياة المتخلفة في أوروبا ،رغم أن أوروبا
أخذت الكثير من الثقافة العربية) ،وتقول( :وأنا
في محاضراتي للطلبة الروس في الجامعة ،أشير
دائمًا إلى كتاب [تأثير اإلسالم على أوروبا في
- 93 -
القرون الوسطى] لالسكتلندي مونتغمري واط
الذي يقول(( :علينا أن ندرك إلى أي درجة نحن
الغربيون مدينون للعرب من ناحية الحضارة ولو
أسررنا هذه الحقيقة ،فهذا بدافع من كبريائنا
الكاذبة)) ،وفي مؤتمر (اتحاد المستعربون
المتخصصين في الدراسات اإلسالمية الذي عقد
في جامعة (أوترخت) في هولندا عام (1990م)،
قدمت فرالوفا موضوع (القصائد الشعبية باللهجة
العربية في مالطا والفلكلور العربي) ،وهي ترى
في هذا البحث أن أساس الكالم المالطي هو اللغة
العربية ،كما ترى أنه ال يمكن أن يكون هناك نهاية
لالستعراب ،طالما الشعوب واآلداب العربية
موجودة (ألن هناك أدباء جدد والشعوب العربية
موجودة وبالتالي فإن دراسة آداب وثقافة هذه
الشعوب موجودة ،إال إذا كانت نهاية العالم عندئٍذ
ينتهي االستعراب).
أما المستعرب بلوندين في جامعة
بطرسبورغ ،فيرى أن أساس أهداف االستعراب
الروسي هو التعريف بالحضارة العربية اإلسالمية
ودراستها من خالل (ترجمة المخطوطات التي
تتعلق بتاريخ وآداب العرب المسلمين) ،وأن هذه
الترجمات كانت تتم من خالل التعاون بين العلماء
العرب والعلماء الروس .كما يعطي ميزة لبيئة
االستعراب الروسي على الغربي ،وهي التسهيالت
التي كانت تقدم للباحثين العرب لدراسة تراثهم
من خالل المخطوطات الموجودة في خزائن
المكتبات في روسيا ،وفي جميع األوقات ،يقول
عن هذه المسألة( :لم يواجه الباحثون أي
صعوبات في دراستهم وأبحاثهم على
المخطوطات العربية ،وإن من أهداف االستعراب
الروسي ،هو إعادة هذه المخطوطات إلى الدول
العربية بتحقيقها وإصدارها في كتب ،إن المكتبات
في أوروبة الغربية ال تعطي للباحثين العرب فرصة
- 94 -
التعامل بسهولة مع تراثهم من خالل معاينتهم
للمخطوطات العربية) وإن صالت العلماء العرب
المسلمين والعلماء الروس لم تنقطع (منذ كان
الشيخ طنطاوي أستاذ في جامعة سانت
بطرسبورغ… .هذا التعاون مازال قائمًا بأوجه
مختلفة ،وإن كان الوهن قد اعترى هذه العالقات
في الفترة األخيرة ،ولكن نحن كمستعربين روس
نظن أن هذه الفترة مؤقتة وقصيرة ،ونبذل كل
الجهود لنعبر هذه الحواجز المصطنعة الموجودة
بيننا).
ًا
وأخير ،نستطيع القول أن االستعراب
الروسي عكس الجوانب اإليجابية والسلبية في
الشرق العربي المسلم ولكن لم يصدر في
مواقفه عن رأي متعصب ولم يتزود سلفًا بفكرة
ثابتة عن هذا الشرق وإنما عايشه واقعيًا فصادف
النماذج المختلفة .وعندما تم التعامل مع التراث
العلمي العربي اإلسالمي وتحقيق المخطوطات
واألدب القديم فإن ذلك كان يتم في أحيان كثيرة
من خالل التعاون بين العلماء الروس والعلماء
العرب وساهم العرب أنفسهم في التعريف
بالثقافة العربية اإلسالمية وتدريس العربية في
جامعات ومعاهد االستعراب الروسي كما تم ربط
الماضي بالحاضر واالهتمام باألدب العربي
المعاصر وأرسى المستعربون األوائل أسس
مدرسة االستعراب الحالية التي يعتبر
المستعربون الروس المعاصرون أنفسهم فيها
امتدادًا ألولئك المستعربين األوائل الذين وقفوا
جهودهم وعلمهم على أن يكون االستعراب
الروسي بعيدًا عن أي دوافع غير الدوافع المعرفية
العلمية فكانت صورة العربي المسلم مبشرة
بالنهضة الحديثة راغبة في تجاوز واقع التخلف إنه
الشرق المسلم الحي الذي يسير بحركته دائمًا
إلى األمام وأخيرًا أقول أنه يحق لنا التمييز بين
- 95 -
استعراب أوروبي غربي ارتبط وكرس نفسه في
معظم األحيان لخدمة القرار السياسي
االستعماري فلم يظهر من الشرق المسلم إال
صورة السلبية ،ولم يكتِف بذلك بل وقام بتضخيم
هذا السلبي ونشره عبر وسائله المختلفة ليعطي
مبررًا إلحساسه بالتفوق والتمايز وليقرر هيمنته
على هذا الشرق وحق الوصاية عليه وبين
استعراب كان يظهر اإليجابي والسلبي وتعامل مع
الشرق المسلم ومن وجهة النظر المعرفية
اإلنسانية ووضع التخلف ضمن ظروفه وأطره
التاريخية ثم أظهر صورة العربي المسلم كإنسان
قادر على تجاوز واقعه في حركته إلى األمام لقد
كان االستعراب الروسي فعل استكشاف ومعرفة
لآلخر في إطار التبادل المعرفي والحضاري وليس
فعل إنشاء كما هو حال االستشراق الغربي وال
أجد أفضل من مقولة األديب العربي المصري
محمود تيمور التي تحدث فيها عن المستعرب
كراتشكوفسكي وأجدها تنطبق على االستعراب
الروسي ،يقول(( :وغمرني شعور لطيف فيه
شيء من الزهو لوجود مثل هذا الصديق لنا معشر
العرب في بالد نائية قد وقف حياته على خدمة
آدابنا وإعالء كلمتنا فإن رجًال قصر حياته على نشر
ثقافتنا العربية في العالم الغربي وأوسع لنا
الطريق لنتبوأ مكانتنا بين آداب األمم العالمية
لجدير بأن يحتل في قلوبنا أكبر مكانة)).
- 96 -
المصادر والمراجع:
1ـ القرآن الكريم.
2ـ مع المحفوظات العربية ـ كراتشكوفسكي ـ تعريب
د.محمد منير مرسي ـ دار النهضة العربية ـ القاهرة ـ
.1969
3ـ تاريخ االستعراب الروسي ـ كراتشكوفسكي.
4ـ صورة اإلسالم في أوروبا في العصور الوسطى ـ
ريتشادر سودريه ـ تعريب د.رضوان السيد ـ معهد
اإلنماء العربي ـ بيروت ـ .1984
5ـ االستشراق ـ إدوارد سعيد ـ تعريب كمال أبو ديب ـ
مؤسسة األبحاث العربية ـ بيروت ـ الطبعة الرابعة ـ
.1995
6ـ االستشراق بين دعائه ومعارضين ـ ترجمة وإعداد
هاشم صالح ـ دار الماضي ـ بيروت.
7ـ الحروب الصليبية ـ ارنست باكير ـ تعريب د .الباز
العريني ـ دار النهضة العربية ـ بيروت ـ الطبعة
الثانية.
8ـ بابا وات من الحي اليهودي ـ يواكيم برنز ـ تعريب خالد
أسعد عيسى ـ دار حسان ـ دمشق ـ .1983
9ـ تاريخ العالقات بين الشرق والغرب في العصور
الوسطى ـ د .سعيد عاشور ـ دار النهضة العربية ـ
بيروت ـ .1976
10ـ قصة الحضارة ـ
11ـ مقتطفات من األعمال الكاملة ـ كراتشكوفسكي ـ
12ـ موسوعة المستشرقين عبد الرحمن بدوي ـ دار العلم
للماليين ـ بيروت طبعة ثالثة .1993
13ـ مجلة الفكر العربي ـ العدد 31ـ بيروت .1983
14ـ جريدة البيان 2أكتوبر .1989
- 97 -
15ـ المؤلفات الكاملة ـ بونشين ـ .1949
16ـ قصائد شرقية ـ بوشكين ـ ترجمة :طارق مردود ـ دار
عالء الدين ـ دمشق .1999
17ـ العرب والروم والالتين في الحرب الصليبية األولى
جوزيف نسيم ،دار النهضة العربية ـ بيروت.
18ـ دراسات في تاريخ األدب العربي ـ منتخبات ـ
كراتشكوفسكي ـ دار النشر (علم) ـ موسكو ـ
.1965
19ـ بحوث سوفيتية في األدب العربي ـ دار التقدم ـ
موسكو .1978
20ـ تاريخ التراث العربي ـ فؤاد شكرين ـ الهيئة العامة
للتأليف والنشر ـ ترجمة درعا .فهمي أبو الفضل ـ
القاهرة .1971
21ـ لقاءات مع عدد من المستعربين الروس ـ بطرسبورغ
ـ .1998
- 98 -
الفهرس
المقدمة 5..........................................
مفهوم االستشراق9..............................:
البدايات والدوافع21.......................... :
مصادر االستعراب الروسي28..............:
بوشكين واألثر الشرقي ـ اإلسالمي53......:
كراتشكوفسكي والشرق اإلسالمي66.......
المستعربون الروس المعاصرون66.........:
المصادر والمراجع66........................... :
الفهرس 66........................................
- 99 -
هذا الكتاب