درس الفتح الاسلامي لبلاد المغرب وابعاده الحضاريّة
درس الفتح الاسلامي لبلاد المغرب وابعاده الحضاريّة
مقدمة:
امتدت الدولة اإلسالمية في عهد الخليفة عثمان بن عفان (35-23هـ) على مجال شاسع من
خراسان واذربيجان شرقا الى طرابلس غربا .وكانت الحمالت االستطالعية الولى التي قامت بها
الجيوش اإلسالمية باتجاه بالد المغرب منذ سنة 27هـ تهدف إلى اختبار الجيش البيزنطي الذي تراجع
نحو المناطق الشمالية اإلفريقية ،غير أن فتح بالد المغرب استغرق فترة زمنية طويلة نسبيا تعددت
خاللها الحمالت الى حين وصولها إلى المغرب القصى والندلس .ومهد هذا الفتح إلى تالقح الثقافتين
اإلسالمية واإلفريقية مما أفرز تحوالت حضارية جذرية شملت جميع المجاالت الثقافية والعلمية
واالجتماعية والعمرانية أدخلت بالد المغرب كطرف فاعل في الحضارة االنسانية.
يهدف هذا الدرس إلى تحديد أهم مراحل فتح المغرب وانعكاساته الحضارية.
لم تكن عملية فتح بالد المغرب يسيرة حيث تعددت الحمالت العسكرية وتخللتها عدة صعوبات
أفضت في النهاية إلى انتشار اإلسالم في كامل شمال إفريقيا والندلس.
منذ عهد الخليفة عمر ابن الخطاب فكر عمر ابن العاص في فتح افريقية سنة 22هـ وذلك بعد أن
فتح طرابلس ،ولكن الخليفة عمر ابن الخطاب لم يوافق على ذلك وقد يكون سبب هذا الرفض أن الحدود
الشرقية الفريقية كانت منيعة حيث كتب عمر ابن الخطاب " ال إنها ليست بإفريقية ولكنها الفرقة غادرة
مغدور بها ال يغزوها أحد ما بقيت "(ابن عبد الحكم ،فتوح افريقية والندلس ،ص .)33
1
-حملة عبد هللا بن سعد بن أبي سرح :
لما عينه الخليفة عثمان بن عفان عامال على مصر قام عبد ّللا بن سعد بأول حملة عسكرية باتجاه
افريقية سنة 27هـ 647/م فتمكن من التقدم والتقى بالجيش البيزنطي عند مشارف سبيطلة وانتصر
الجيش اإلسالمي وقتل القائد البيزنطي جرجير .واكتفت هذه الحملة بتحقيق أول انتصار على البيزنطيين
في بالد المغرب وجمعت الغنائم وحصل اتفاق بين عبد هللا بن سعد وزعماء القبائل على ان يأخذ منهم
ماال ويخرج من بالدهم فلم يول عليهم أحدا .وكانت هذه الحملة الولى مجرد اختبار لمدى قوة دفاعات
البيزنطيين والتعرف على طبيعة المنطقة واستكشافها تمهيدا للحمالت الموالية.
قام بثالث حمالت لفتح بالد المغرب كانت الولى مع جيش عبد الملك بن مروان سنة 34هـ حيث
اتجه من الفسفاط إلى بالد قمونية (موضع مدينة القيروان) ثم قاد حملة ثانية سنة 40هـ وثالثة سنة 46
هـ واستقر في جبل القرن شمال القيروان وأرسل الجيوش لفتح المناطق القريبة ففتح عبد هللا ابن الزبير
سوسة وعبد الملك بن مروان جلوالء.
اتجه الى افريقية سنة 50هـ 670م قادما اليها من الصحراء ومعه 10آالف فارس فاتخذ القيروان
معسكرا واختار موضعها على سهل فيضي تتوفر فيه المراعي وغابات الزياتين وهي بعيدة عن البحر
لتفادي الغزوات البيزنطية وجعلها قاعدة للجيش االسالمي وعاصمة لكامل بالد المغرب .وواصل عقبة
تقدمه باتجاه الغرب متفاديا الصدام مع البيزنطيين المتواجدين على السواحل الشمالية الشرقية الفريقية.
وفي سنة 55هـ تم تعيين أبي المهاجر دينار واليا على القيروان فسلك سياسة مرنة مع البربر ادت الى
تراجع الغنائم والجباية فقرر المويون إعادة تنصيب عقبة ابن نافع واليا على افريقية والمغرب سنة 62
هـ فواصل حملته على القبائل البربرية مثل لواته وهوارة وزناتة ومكناسة ووصل الى طنجة ووليلي
وبالد السوس وبلغ المحيط الطلسي .وكانت القبائل البربرية قد أعدت نفسها لالنتقام والثأر من عقبة
واستغلت بقاءه في عدد قليل من الجنود لتباغته في بسكرة جنوب جبال اوراس بجيش يضم 50000
جندي يقودهم كسيلة البربري فقتل عقبة سنة 64هـ 684م ومثلت هذه المعركة نهاية لمرحلة
االنتصارات االسالمية االولى ببالد المغرب وبداية لفترة صعوبات واجهت االنتشار االسالمي.
2
صعوبات ومواصلة الفتح باتّجاه الغرب:
-2مرحلة ال ّ
كان لمقتل عقبة ابن نافع الثر االيجابي القوي على القبائل البربرية الرافضة النتشار االسالم
وللبيزنطيين الذين يحكمون سواحل افريقية .فتبنت هذه االطراف حركة مسلحة تهدف الى صد الحمالت
القادمة من الشرق.
استقر القائد البربري كسيلة بالقيروان بعد ان هجرها عدد كبير من المسلمين باتجاه مصر بعد مقتل
عقبة ابن نافع ،وهكذا اصبحت السلطة في افريقية مقسمة بين كسيلة بالقيروان والبيزنطيين بقرطاج.
وانتهت هذه المرحلة سنة 69هـ عندما ارسل الخليفة عبد الملك بن مروان زهير ابن قيس البلوي في
جيش الستعادة افريقية .ووقعت المعركة في ممس غرب القيروان قتل فيها كسيلة واستعاد فيها المسلمون
سيطرتهم على كامل بالد المغرب الى حدود نهر ملوية .واضطر زهير إلى الرجوع إلى المشرق على
اثر اندالع حركة عبد هللا ابن الزبير ،وفي طريق العودة هاجمه اسطول بيزنطي في برقة بليبيا وقتل سنة
71هـ .وتواصل تأثير الحداث السياسية بالمشرق اإلسالمي في فتح بالد المغرب حيث تعطلت الحمالت
الى حين القضاء على الحركة الزبيرية فأرسل الخليفة الموي حسان بن النعمان على رأس جيش يعد
40000مقاتل سنة 76هـ وتمكن حسان من اخضاع القيروان وانتصر على البيزنطيين والبربر ودخل
قرطاج وطرد الروم البيزنطيين منها.
برزت حركة مقاومة بربرية أخرى قادتها القبائل الزناتية البدوية بجبال أوراس بالمغرب االوسط
(الجزائر) وتزعمتها امرأة وهي داهيا بنت ماتية بن تيفان ،أطلق عليها لقب الكاهنة وجهزت جيشا لمنع
تقدم المسلمين فآتجه إليها حسان ودارت بينهما معركة في جبال اوراس انتهت بانتصار الكاهنة وتراجع
الجيش االسالمي الى الجريد ثم الى قابس وفي النهاية استقر في برقة .وهكذا تمكنت الكاهنة من بسط
نفوذها على كامل بالد المغرب من جديد واعادت بناء مملكة كسيلة في حين انحسر الوجود العربي في
منطقة برقة.
واعتمدت الكاهنة سياسة االرض المحروقة فخربت العمران واحرقت الزرع واقتلعت االشجار
وخربت البالد حتى ال يطمع فيها المسلمون .إال أن هذه السياسة تسببت في نقمة عدد كبير من البربر
والفارقة والروم على الكاهنة ففروا بآتجاه الجيوش اإلسالمية .وفي سنة 82هـ دارت معركة بوسط
3
افريقية انتهت بانتصار حسان ابن النعمان ومقتل الكاهنة واسترجع المسلمون نفوذهم على كامل بالد
المغرب من جديد وساهم هذا االنتصار في نشر االسالم واللغة العربية في صفوف القبائل البربرية .
وبشكل عام فإن عملية فتح بالد المغرب كانت صعبة وبطيئة استغرقت حوالي نصف قرن متأثرة
بأزمات الخالفة اإلسالمية بالمشرق وكذلك بمحاوالت التصدي التي تزعمها بعض القادة من البربر
ودعمها الروم البيزنطيون.
عينت السلطة الموية موسى ابن نصير واليا جديدا لبالد المغرب سنة 85هـ فاتخذ القيروان عاصمة
لواليته وواصل حمالته العسكرية باتجاه المغرب القصى فأخضع المناطق الغربية لوادي ملوية وصوال
إلى المحيط الطلسي وجعل من مدينة طنجة قاعدة بحرية لتجهيز الجيش والسطول لدخول الندلس
مستغال انتشار اإلسالم في صفوف البربر الذين اندمجوا في الجيش اإلسالمي وكذلك االنقسامات
السياسية التي كانت تشهدها الندلس.
بدأت الغارات الولى على السواحل الجنوبية لألندلس منذ سنة 91هـ ثم عين موسى بن نصير
طارق بن زياد ،وهو من أصل بربري ،على جيش من 7000مقاتل اغلبهم من القبائل البربرية مثل
مكناسة وزناتة وهوارة ...وانطلق السطول من طنجة سنة 92هـ 711/م وحقق انتصارا حاسما على
جيش لذريق ،والتحق موسى ابن نصير بالندلس ليدخل طليطلة وسرقسطة وإشبيلية سنة 94هـ ولم
تتوقف عملية اإلنتشار بل تواصلت على كامل الندلس ثم واصل عبد الرحمان الغافقي الى مدينة بواتيي
الفرنسية سنة 114هـ 732/م وانهزم امام شارل مارتال.
ساهمت هذه المعارك والحمالت التي قادها المسلمون في افريقية وبالد المغرب وصوال إلى الندلس
. الرض مغارب في المسلمون حمله الذي الحضاري المشروع إرساء في
وتشهد الحضارة اإلسالمية لبالد المغرب على اندماج العنصر االصلي البربري في المجتمع االسالمي
الجديد من خالل المعالم العمرانية و اإلنتاجات الثقافية و العلمية لبالد المغرب التي قام فيها البربر بدور
فعال وبناء.
4
- IIاألبعاد الحضاريّة النتشار اإلسالم في بالد المغرب:
تعددت مظاهر االزدهار الحضاري لبالد المغرب بعد الفتح اإلسالمي ومن بينها اندماج البربر في
الحضارة العربية اإلسالمية وإثراء الحضارة اإلنسانية بعدد هام من العلماء والمفكرين والمبدعين فضال
عن تطور الفنون كالعمارة والزخرف ...
واجهت الجيوش اإلسالمية في بالد المغرب قبائل بربرية تجيد فن القتال ومتمرسة في الحروب إلى
جانب الجيش النظامي البيزنطي .وكانت تلك القبائل متحررة في اغلب الحاالت من والءات او احالف
تجمع بينها وبقي ة القبائل في ما عدا المصالح المشتركة بحيث لم تكن توجد مظاهر وحدة تجمع بينها
وتجعلها تتضامن وتتحالف للوقوف بقوة أمام التحديات الخارجية .ولهذا السبب كانت منطقة شمال افريقيا
منذ فجر التاريخ معرضة للغزوات المتتالية من الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والوندال ...فغياب
المصير المشترك أمر جعل من القبائل البربرية تبحث عن هويتها المشتتة بين والء بعضها للبيزنطيين
واستقالل البعض اآلخر على أرضه طالما انه قادر على الدفاع عنها.
ولما جاء اإلسالم فإنه مثل عامل وحدة ثقافية واجتماعية وعقائدية وسياسية اجتمعت حوله مختلف
القبائل في تدعيم المكاسب كنشر اإلسالم في الندلس ودعم الحضارة اإلسالمية بمعالم وشخصيات علمية
ال يزال اثرها قائما .ويتشابه دور الدين اإلسالمي في هذا المجال مع الدور الذي لعبه في الجزيرة
العربية لما حث الرسول محمد على تأسيس نظام سياسي يتجاوز اإلطار القبلي وأدى إلى نشأة الدولة
اإلسالمية.
ولئن كانت بداية عملية اندماج البربر بطيئة فإنها توسعت وفق السياسة التي اتبعها الوالة حيث شجع
ابو المهاجر دينار –وهو غير عربي -البربر على اعتناق االسالم وكان مرنا معهم واسلم على يده الكثير
منهم مثل القائد كسيلة.
وفي سنة 65هـ كان ثلث جيش زهير بن قيس البلوي من البربر ،كما ان كسيلة لما دخل القيروان لم
يدمرها وأمن أهلها وكذلك فعلت الكاهنة .ومن جهة اخرى ساهمت سياسة القائد حسان ابن النعمان في
اندماج البربر في الحضارة االسالمية لما اشترط على القبائل المنهزمة نحو 12000رهينة لينشر في
صفوفهم الدين اإلسالمي ويدعم بهم الجيش لتحقيق االنتصارات ،كما ساهم هؤالء الرهائن في نشر
اإلسالم بين ذويهم فيما بعد وشاركوا في الفتوحات ونالوا نصيبهم من الغنائم ومن االراضي وارتقى
العديد منهم في الرتب العسكرية.
5
ومن أهم المثلة ببالد المغرب أن يعين الوالي موسى ابن نصير -وهو عربي -رجال من البربر وهو
طارق ابن زياد ليتولى قيادة الجيش اإلسالمي لفتح الندلس ،وان يتكون جند موسى بن نصير من
17000من العرب و 12000من البربر وبذلك نجح المسلمون في نقل مجال الصراع من داخل بالد
المغرب إلى الخارج وأصبح كل من العرب والبربر في خط واحد لمواجهة القوط الغربيين لنشر اإلسالم
في الندلس.
وقد جاء ذلك ليؤسس لحضارة جديدة لدى السكان الصليين ،فأمر موسى بن نصير بتعليم القرآن
للبربر وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز عشرة علماء الى بالد المغرب لترسيخ القرآن والسنة النبوية
وتعاليم اإلسالم في صفوف البربر.كما ساهم استيطان العرب ببالد المغرب واختالطهم بالسكان
الصليين في بناء المجتمع االسالمي الجديد .فمنذ التوسعات الولى وفد إلى بالد المغرب اكثر من
180000رجل من المقاتلة العرب استقر أغلبهم فيما بعد بالقيروان ،وقد كتب اليعقوبي "في مدينة
القيروان أخالط من الناس من قريش ومن سائر بطون العرب من مضر وربيعة وقحطان وبها أصناف
من العجم من أهل خراسان ومن كان وردها مع عمال بني هاشم من الجند وبها عجم من عجم البلد
البربر والروم واشباه ذلك" (اليعقوبي ،البلدان ،ص .)348
ولم تقف مظاهر الحضارة االسالمية ببالد المغرب عند هذا الحد بل شملت ميادين كانت مجهولة من
قبل مثل العلوم والفنون والعمارة.
شهد المغرب اإلسالمي نهضة علمية تبرز معالمها من خالل تعدد مراكز العلم كجامع عقبة
بالقيروان وجامع الزيتونة بتونس وجامع القرويين بفاس وجامع قرطبة بالندلس ...وقد اشتهر الوالة
والمراء بحذقهم للعلوم واللغات والفنون واآلداب مثل إبراهيم بن الغلب الذي أجاد الشعر والبالغة
والمعز لدين هللا الفاطمي الذي تكلم عدة لغات كالبربرية والرومية والسودانية .وبرز في افريقية العديد
من العلماء المتخرجين من جامعة القيروان فاشتهر في اللغة والدب ابن الطرماح وأحمد اللؤلئي ومحمد
بن جعفر القزاز ،وفي الفلسفة ابو بكر القمودي وسعيد بن الحداد .كما تأسست بالقيروان مدرسة للطب
واشتهر فيها عدد من االطباء مثل اسحاق بن عمران ومحمد بن الجزار وخاصة أحمد بن الجزار
صاحب كتاب "زاد المسافر".
6
كما تطور علم الجغرافيا واستغل في أغراض تطبيقية كالتجارة ،و تطور كذلك علم التاريخ
والنساب وقد اشتهر فيه ابن حيان وابن حزم القرطبي والقاضي النعمان.
وقد ساهم الغرب اإلسالمي مساهمة فعالة في إثراء الحضارة العربية اإلسالمية خاصة في المجال
الفكري فبرز العديد من المفكرين ومن أبرزهم ابن رشد الفقيه والقاضي والفيلسوف والطبيب الذي ولد
سنة 530هـ 1126/م بقرطبة وعاصر الفيلسوف ابن طفيل والطبيب ابن الزهر ،وعاش ابن رشد بين
الندلس والمغرب القصى وألف العديد من الكتب أهمها "تهافت التهافت" و"فصل المقال فيما بين
الشريعة والحكمة من االتصال" و "الكشف عن مناهج االدلة في عقائد الملة" و" الكليات في الطب" و قد
صنف فيه ابن رشد الدوية حسب فعاليتها وآثارها .كما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو ونقلها إلى الغرب
ولخص مؤلفات جالينوس في الطب فأقبل الغرب المسيحي على مؤلفاته باعتباره أبرز مفكري التيار
العقالني داخل الفكر العربي االسالمي ومرجعا هاما في الفكر الوروبي فشكل بذلك نقطة تواصل
وتفاعل بين الثقافتين العربية-اإلسالمية والمسيحية.
كما أفرزت الحضارة اإلسالمية ببالد المغرب عالما اشتهر بمؤلفاته الجغرافية رغم انه كتب في علم
النبات والدوية وهو اإلدريسي ال ذي ولد في مدينة سبتة بالمغرب االقصى في اواخر القرن الخامس
هجريا وتنسب عائلته إلى الشراف الدارسة العلويين ،درس في قرطبة ثم تنقل في عدة بلدان والف
عدة كتب من أهمها "نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق" و"الدوية المفردة" .وأسس اإلدريسي جغرافيته
على مفاهيم علمية صحيحة أهمها كروية الرض ووجود خط االستواء والقاليم المناخية وتأثير الجبال
في تكييف المناخ وتوجيه الرياح ونزول المطار ،كما أنجز اإلدريسي خريطة العالم المعروف في ذلك
الوقت على شكل كروي وذلك قبل ان يثبت العلم الحديث صحة هذا الشكل.
وتجاوز اإلشعاع العلمي لبالد المغرب حدود المنطقة اإلفريقية حيث انتقل اإلدريسي إلى جزيرة
صقلية وعاش في قصر ملكها روجار الثاني الذي كلفه بتأليف كتاب شامل في وصف مملكته والبلدان
المعروفة في ذلك العهد .وقد أشار ابن خلدون إلى تلك العالقة حينما كتب "ونحاذي بذلك ما وقع في
كتاب نزهة المشتاق الذي ألفه العلوي اإلدريسي الحمودي لملك صقلية من اإلفرنج وهو روجار بن
روجار عندما كان نازال عليه بصقلية ...وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة وجمع له كتبا
جمة للمسعودي وابن خرداذبة والحوقلي وابن اسحاق المنجم وبطليموس والعذري وغيرهم ( "...ابن
خلدون ،المقدمة ،ص .)86
7
ولم يقتصر دور الحضارة العربية اإلسالمية ببالد المغرب على العلوم والثقافة بل تجاوز ذلك الى
الفنون والعمران بما جعله قادرا على اإلسهام في تطوير التراث اإلنساني وإثرائه بإضافات بناءة كانت
منطلقا للنهضة الوروبية الحديثة.
شهد الغرب اإلسالمي نهضة عمرانية لم يسبق لها مثيل تميزت بتعدد المدن الى حد بروز شبكة
حضرية متكونة من مدن كبرى ووسطى وصغرى ،واشتهرت المدن الهامة بتنوع خصوصياتها
المعمارية كالجوامع والقصور المتميزة بأشكالها الفنية المزخرفة.
تأسست بالغرب االسالمي شبكة حضرية متمحورة حول المدن الكبرى التي أسسها االمراء واتخذوها
عواصم لدولهم وقواعد لجيوشهم مثل القيروان وفاس وسجلماسة وتاهرت وقرطبة بالندلس .ونشأت
المدن المتوسطة والصغرى على طول المسالك والطرقات التي اتجهت نحو المشرق وباتجاه بالد
السودان جنوبا.
-مدينة القيروان:
تم اختيار موضع القيروان على سهل فسيح حيث شيدت على انقاض حصن بيزنطي من طرف
عقبة ابن نافع .وكانت القيروان في موقع حصين بعيدة عن البحر لتفادي غزوات البيزنطيين وهي في
سهل خصب تتوفر به المراعي وعلى طريق المسالك التجارية الرابطة بين الشرق والغرب وبين الشمال
والجنوب .وفي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك تم تجهيز المدينة بفسقيات وهي مواجل كبيرة الحجم تقع
شمال المدينة وجنوبها تجمع بها المياه لحاجة السكان كما توسعت أسواقها وأحيطت بسور يبلغ عرضه
خمسة أمتار ،وامتدت المدينة خاصة في العهد ألغلبي فشيدت القصور خاصة في العباسية ورقادة
وصبرة المنصورية وازدهرت صناعاتها وقصدها الناس من كل مكان للتعلم والتجارة واإلقامة حتى
أصبحت من اهم الحواضر االسالمية.
-مدينة المهديّة:
تقع المهدية على الساحل الشرقي إلفريقية ،أسسها عبيد هللا المهدي سنة 302هـ على موقع روماني
قديم يسمى ُجمة واختارها عاصمة للدولة الفاطمية عوضا عن القيروان .وقسم المهدي عاصمته إلى
قسمين أحدهما مقر الدولة ،إضافة إلى الجامع والسواق ودار الصناعة والميناء المنقور في الصخر
8
ويدعى هذا القسم الثاني المهدية وأحاطها بسور ،والثاني لعامة الناس ويدعى زويلة ،ويفصل بين
المدينتين باب الفتوح .وال تزال معالم المهدية الفاطمية قائمة إلى يومنا هذا شاهدة على شموخ الحضارة
اإلسالمية بالغرب اإلسالمي رغم الحروب والحمالت التدميرية التي تعرضت لها .ذكر البكري حول
المهدية " ولمدينتها بابا حديد ال خشب فيهما زنة كل باب الف قنطار وطوله ثالثون شبرا في كل مسمار
من مساميرها ستة أرطال...وفي المهدية من المواجل العظام ... 360ومرساها منقور من حجر صلد
يسع ثالثين مركبا وعلى طرف المرسى برجان بينهما سلسلة من حديد ...وكان لها أرباض كثيرة آهلة
عامرة أقربها اليها ربض زويلة فيه السواق والحمامات ( "...البكري ،المسالك ،ص .)31-29
-مدينة سجلماسة:
هي مدينة صحراوية تقع في تافياللت تنطلق منها القوافل التجارية إلى بالد السودان جنوبا والى
فاس شماال .تأسست سجلماسة سنة 140هـ لتكون عاصمة لبني مدرار الصفريين ومركزا تجاريا
صحراويا هاما .شيدت بها القصور والمصانع والمساجد ولها سور يفتح بواسطة 12بابا ولها أرباض
كثيرة .وكان ازدهار سجلماسة مرتبطا بنشاط التجارة الصحراوية حيث تراكمت ايرادات الذهب من بالد
السودان ومرت بها القوافل قادمة من فاس وأغمات والسوس والسودان وحققت تجارتها أرباحا طائلة.
-مدينة فاس:
أنشأها الدارسة سنة 172هـ وتقع أسفل جبال الطلس الوسط في سهل فسيح واشتهرت بجامع
القرويين الذي يعتبر من أهم معالم المدينة إلى يومنا هذا.
تعتبر هذه المدن الكبرى أمثلة معبرة عن حركة التعمير والتمدين التي شهدها الغرب اإلسالمي بعد
الفتح ،وال تزال هذه المدن الكبرى أمثلة معبرة عن حركة التعمير والتمدين التي شهدها الغرب اإلسالمي
بعد الفتح وال تزال هذه المدن قائمة الى اليوم لتؤكد تواصل الحضارة االسالمية ببالد المغرب على
عكس المدن التي شيدت زمن الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والتي لم يبق منها سوى بعض اآلثار.
يبرز ازدهار الفن المعماري ببالد المغرب من خالل العمارة الدينية والمتمثلة في المساجد والجوامع
والرباطات ،والعمارة المدنية المتكونة من القصور والمنازل والمنشآت المائية الكبرى.
9
-المساجد والجوامع:
شيدت المساجد والجوامع في جميع مناطق الغرب اإلسالمي بالرياف والمدن وهي تدل على متانة
العالقة القائمة بين السكان والدين الجديد .وكانت خطة بناء الجوامع متشابهة حيث تكون أغلبها من
الصحن وقاعة الصالة والمحراب مع تواجد العمدة الرخامية والشمسيات البلورية والقباب.
ويعتبر جامع القيروان من أهم المنشآت الدينية ببالد المغرب ،شيد على مراحل عديدة وتم توسيعه
عدة مرات .تنقسم قاعة الصالة إلى 17بالطة أعرضها البالطة الوسطى التي تؤدي الى المحراب،
ويقوم الجامع على أعمدة تعلوها تيجان ومسندات خشبية وحوامل عقود وعقود تضمن اإلضاءة والتهوية،
ويضم الجامع قبة المحراب وقبة البهو ومنارة قاعدتها ذات شكل مربع تعلوها قبة .أما المحراب فتغطيه
لوحات رخامية تعلوها الزخارف الجصية والخشب المذهب.
الرباطات:
ّ
الرباط منشأة دينية وتعليمية وعسكرية تبنى على السواحل لمراقبتها من الغزوات البحرية وكانت
الرباطات عبارة عن حصون دفاعية تتكون من عدة غرف ومسجد وتوجد ابراج دائرية في زواياه
ويحتوي كل رباط على منارة مستديرة الشكل .ومن اهم الرباطات ما شيد على ساحل سوسة والمنستير
وكذلك رباطات المدن المغربية.
-القصور:
يعتبر تشييد القصور دليال على أوج الرخاء االقتصادي والرفاهة االجتماعية التي تحققت خاصة
للفئات الثرية المقيمة بالمدن وخاصة بالقيروان مثل قصر الصحن برقادة الذي تكون من 109غرفة
ويحيط به سور ضلعه 104مترا .كما تعددت القصور بفاس وسجلماسة وكذلك بمدن الندلس وخاصة
الزهراء وقرطبة ،وال تزال آثار هذه القصور قائمة إلى اليوم.
وتميزت العمارة المغربية بالزخرفة كالنقوش والعقود والعمدة والتيجان والحنيات وكانت هذه
الشكال الفنية تنحث وتنقش على الرخام والحجارة والجص والخشب إضافة الى الرسوم واللوان التي
زينت المواد الخزفية وتكونت من أشكال طبيعية مثل ورق العنب والبراعم وجريد النخل إضافة إلى
الشكال الهندسية كالضفائر المعقدة والحروف العربية المدونة بالخط الكوفي.
10
خاتمة:
خضعت شمال إفريقيا لقوى أجنبية مختلفة و متتالية كالفينيقيين والرومان والبيزنطيين .وقد كانت
هذه المنطقة ،في كل مرحلة من هذه المراحل ،متفاعلة مع الحضارات الوافدة .ومثل انتشار اإلسالم
ببالد المغرب حلقة إضافية من حلقات تاريخ المنطقة حيث اندمجت العناصر المحلية ،مرة أخرى ،في
المجتمع الجديد ليحصل التالقح الثقافي بين العرب المسلمين والبربر ممهدا لنشأة حضارة وازنة في
تاريخ اإلنسانية ال تزال معالمها قائمة الى يومنا .
11