0% found this document useful (0 votes)
31 views53 pages

النهرج1 ضــاد PDF

رواية "إله النهر" لويلبر سميث تأخذ القارئ في رحلة عبر مصر القديمة، حيث تبرز مكائد الحياة وشغفها وعنفها من خلال شخصية تايتا. تتناول الرواية تفاصيل الحياة اليومية على ضفاف النيل، وتستعرض العلاقات الإنسانية المعقدة بين الشخصيات، مما يجعلها تجربة غنية ومليئة بالدراما والتاريخ. الكتاب يُعتبر من الأعمال الأكثر مبيعًا في قائمة نيويورك تايمز.

Uploaded by

dunk86002
Copyright
© © All Rights Reserved
We take content rights seriously. If you suspect this is your content, claim it here.
Available Formats
Download as TXT, PDF, TXT or read online on Scribd
0% found this document useful (0 votes)
31 views53 pages

النهرج1 ضــاد PDF

رواية "إله النهر" لويلبر سميث تأخذ القارئ في رحلة عبر مصر القديمة، حيث تبرز مكائد الحياة وشغفها وعنفها من خلال شخصية تايتا. تتناول الرواية تفاصيل الحياة اليومية على ضفاف النيل، وتستعرض العلاقات الإنسانية المعقدة بين الشخصيات، مما يجعلها تجربة غنية ومليئة بالدراما والتاريخ. الكتاب يُعتبر من الأعمال الأكثر مبيعًا في قائمة نيويورك تايمز.

Uploaded by

dunk86002
Copyright
© © All Rights Reserved
We take content rights seriously. If you suspect this is your content, claim it here.
Available Formats
Download as TXT, PDF, TXT or read online on Scribd
You are on page 1/ 53

‫ويلبر سميث‬

‫‪RIVER GOD‬‬
‫من الكتب الأكثر مبيًعا في قائمة نيويورك تايمز‬
‫ارليامي‬
‫النهر‬
‫ضاد‬
‫‪t.me/twinkling4‬‬
‫رواية من مصر القديمة‪ :‬ترجمة سليمان ع يوسف‬
‫عصير الكتب‬

‫اله النهر « وحشية الحياة في العصور القديمة جلية في جميع جوانب حكاية تايتا ‪ ،‬التي‬
‫تضم مكيدة قاتلة في كل ركن من أركانها‪ .‬من الواضح أن سميث عليٌم بموضوع روايته ‪،‬‬
‫فتصويره الحي للشهوة وإراقة الدماء والسياسة ‪ ،‬وفي حالة تايتا الشرف ‪ ،‬قائم على‬
‫‪ ».-‬تفاصيل متقنة تبعث الحياة في تلك الفترة‬
‫‪Booklist‬‬
‫عودة آسرة غنّية إلى زمان امتزج فيه «‬
‫‪ ».-‬التاريخ بالأسطورة‬
‫‪San Francisco post‬‬
‫هائلة وشجاعة وناجحة نجاًحا باهًرا‪ ....‬وصف مفصل ذكي للحياة على نهر‬
‫‪ ».‬النيل‬
‫‪Mail on sunday‬‬
‫ملحمة‪ ...‬انضم سميث إلى صفوف أساتذة الرواية العظماء في القرن العشرين »‪ -.‬تولسا «‬
‫وورلد‬
‫حية وساحرة‪ ...‬زاخرة بالشغف والحرب والخديعة واالنتقام‪ ....‬تفاصيلها حميمية وملهمة «‬
‫‪ ».‬يحملك الكاتب على رؤيتها ‪ ،‬وسماعها ‪ ،‬وحتى شمها‬
‫‪ ».- Orlando Sentinel‬ملحمة أصيلة «‬
‫‪The Times‬‬

‫االالليه‬
‫‪I‬‬
‫الكتب‬

‫عصير الكتب‬
‫إدارة التوزيع‬
‫‪00201150636428‬‬
‫‪:‬لمراسلة الدار‬
‫‪email: [email protected]‬‬
‫‪Web- site: www.aseeralkotb.com‬‬
‫‪: River God‬العنوان الأصلي‬
‫العنوان العربي‪ :‬إله النهر‬
‫‪: Macmillan‬طيع بواسطة‬
‫‪:‬حقوق النشر‬
‫‪.‬الكتاب الأول‬
‫‪Copyright © Orion Mintaka ( UK) Ltd‬‬
‫‪1993, 2018‬‬
‫‪Author image hendre Louw‬‬
‫ترجمة‪ :‬سليمان ع‪ .‬يوسف‬
‫تدقيق لغوي‪ :‬شيماء شحاتة‬
‫تنسيق داخلي‪ :‬معتز حسنين علي‬
‫الطبعة الأولى‪ :‬يناير‪ 2024 /‬م‬
‫رقم الإيداع‪ 26677 /2023 :‬م‬
‫حقوق الترجمة محفوظة لدار عصير‬
‫الكتب‬
‫الترقيم الدولي‪978-977-992-4-23 :‬‬
‫واردة في هذا الكتاب ُتعبر عن وجهة نظر الكاتب وال تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الدار‬
‫جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة © لدار « عصير الكتب » يحظر طبع أو نشر أو تصوير أو‬
‫تخزين أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصوير أو خالف‬
‫‪.‬ذلك إال بإذن كتابي من الناشر فقط‬
‫ويلبر سميث‬
‫‪RIVER GOD‬‬
‫ال االشهر‬
‫‪:‬رواية من مصر القديم ترجمة سليمان‬
‫من الكتب الأكثر مبيًعا في قائمة نيويورك تايمز‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬


‫ضائ‬
‫‪t.me/twinkling4‬‬
‫أمسح الكود وانضم لأسرة ضاد‬
‫‪https://t.me/twinkling4‬‬

‫‪.‬هذا الكتاب إهداء إلى زوجتي ‪ « ،‬موخينيسو » ‪ ،‬أجمل ما حدث لي على الإطالق‬
‫‪5‬‬

‫‪MEDITERRANEAN‬‬
‫ــط‬
‫‪ ( ( MEMPhIS CAIRO‬القاهرة (‬
‫ابنوج‬
‫‪LOWER KINGDOM‬‬
‫المملكة السفلى‬
‫‪EGYPT‬‬
‫‪ABNUB‬‬
‫‪SAFAGA‬‬
‫فاجا‬
‫طيبة) الكرنك‬
‫‪ThEBES ( KARNAK‬‬
‫أسوان ‪) ( LUХОR& ASSOUN‬والأقص‬
‫‪First cataract‬‬
‫‪UPPER‬‬
‫‪KINGDOM‬‬
‫المملكة العليا الجندل الأو‬
‫‪Second cataract‬‬
‫الجندل الثاني‬
‫‪Third cataract‬‬
‫الجندل الثالث‬
‫الجندل‬
‫الجندل‬
‫الخام‬
‫الرابع‬
‫الجندل السادس‬
‫‪Fifth‬‬
‫‪Fourth‬‬
‫‪cataract‬‬
‫‪cataract ATBARA‬‬
‫‪Sixth‬‬
‫‪le‬‬
‫البص‬
‫الأحمر‬
‫‪RED SEA‬‬
‫‪il y‬‬
‫‪Atbara‬‬
‫‪River‬‬
‫‪cataract..‬‬
‫‪QEBUI‬‬
‫‪ali‬‬
‫)‪( KhaRTOUM‬‬
‫‪CUSh‬‬
‫‪W‬‬
‫کوش‬
‫قیبی‬
‫الله الله الله‬
‫)مقبر) الخرطوم‬
‫‪ Pharaoh's‬الفرعين‬
‫‪Tomb‬‬
‫‪M‬‬
‫‪M‬‬
‫‪M‬‬
‫‪ADBAR SEGED‬‬
‫‪M‬‬
‫‪M M‬‬
‫‪M Mi‬‬
‫‪M M‬‬

‫كان النهر يمتد ثقيال من فوق الصحراء ‪ ،‬ساطعا كمعدن منصهر اندلق من فرن ‪ ،‬وبخار‬
‫الحرارة يملأ السماء والشمس تنهال على كل ذلك ضرًبا كمطرقة نحاس‪ .‬وفي السراب بدت التالل‬
‫الهزيلة المالصقة للنيل ترتعش تحت ضرباتها‪ .‬أسرع قاربنا متاخما أحواض البردي ‪ ،‬قريًبا‬
‫بالحد الكافي ليبلغنا صرير دالء الماء المعلقة على أذرع الشواديف ( ‪ )1‬الطويلة‬
‫المتوازنة عكسيا من الحقول على الجانب الآخر للمياه ‪ ،‬ويتناغم صوتها مع غناء الفتاة‬
‫في الجؤجؤ ( ‪ )2‬كانت لوستريس في الرابعة عشرة من عمرها ‪ ،‬وكان النيل قد بدأ فيضانه‬
‫الأخير في اليوم نفسه الذي أزهر فيه قمرها الأحمر ( ‪ )3‬للمرة الأولى ‪ ،‬في مصادفة رآها‬
‫كهنة حابي ( ‪ )4‬مبشرة بكثير من الخير‪ .‬ولوستريس اسم المرأة الذي اختاروه الحًقا ليستبدل‬
‫اسمها الطفولُّي الُمهمل‪ -‬يعني « ابنة المياه »‪ .‬أذكرها ببالغ الوضوح في ذلك اليوم كان‬
‫مقدًرا لها أن تزداد جماال مع مرور السنين ‪ ،‬وأن تكبر اتزاًنا وجالال ‪ ،‬لكن وهج العذرية‬
‫النسوية ذاك لن يشع منها بهذا السطوع القاهر ثانية أبًدا‪ .‬أدركه كل الرجال على متن‬
‫القارب ‪ ،‬وحتى المحاربين في مقاعد التجديف ‪ ،‬وعجزُت كما عجز أي منهم عن إزاحة نظره‬
‫عنها‪ .‬ملأتني بشعور عجزي الشخصي ‪ ،‬وباشتهاء عميق الذع ‪ ،‬ذلك أنني ‪ ،‬ورغم كوني َخصًّيا ‪،‬‬
‫لم ُتسَّل خصيتي إال بعد أن عرفُت متعة نادتني‪ « :‬تايتا ‪ ،‬غِّن معي » ‪ ،‬وابتسمت عندما‬
‫أطعُتها‪ .‬كان صوتي بحبور أحد الأسباب العديدة التي جعلتها تبقيني بجوارها متى‬
‫استطاعت ‪ ،‬فصوتي‬
‫جسد‬
‫‪.‬المرأة‬
‫الشادوف أو المنَزَفة ‪ ،‬آلة لرفع المياه للري ابتكرت في مصر القديمة في عهد )‪( 1‬‬
‫‪.‬الفراعنة‬
‫‪).‬المترجم (‬
‫جؤجؤ السفينة صدرها‪ ( .‬المترجم)‪ )3 ( .‬قمرها الأحمر‪ :‬كناية عن البلوغ الجنسي )‪( 2‬‬
‫‪ (.‬المترجم)‪ )4 ( .‬حابي‪ :‬إلهة نهر النيل والفيضان في الميثولوجيا المصرية ( المترجم)‬
‫‪7‬‬

‫الصادح يتمم صوتها النِدُّي ( ‪ )1‬الفاتن إلى حد الكمال‪ .‬غنينا إحدى أغنيات الحب القروية‬
‫‪:‬القديمة التي علمتها إياها فيما مضى ‪ ،‬والتي ال تزال إحدى مفضالتها‬
‫قلبي يرفرف كالسمان إن ُجرحا حبيبي الغر قد لمحا‬
‫‪...‬لما لوجه حبيبي خداي يعروهما ورد السما سحًرا لبسمة من شفاه تمنح الُّصبحا‬
‫انضم لصوتينا ثالث من الكوثل ( ‪ .)2‬كان صوت رجل ‪ ،‬عميق وقوي ‪ ،‬لكنه يفتقر إلى نقاوة‬
‫‪.‬صوتي ووضوحه ‪ ،‬وإن كان لي صوت شحرور يؤدي الفجر ‪ ،‬فله إذن صوُت أسد شاب‬
‫تحية‬
‫أدارت لوستريس رأسها وقد صارت ابتسامتها تتلألأ كأشعة الشمس على صفحة النيل‪ .‬ورغم أن‬
‫الرجل الذي عابئته بتلك االبتسامة صديقي ‪ ،‬وربما صديقي الحقيقي الوحيد ‪ ،‬شعرُت بصفراء‬
‫الحسِد الالذعة تحرق مؤخر حلقي لكنني أجبرُت نفسي على االبتسام لتانوس بحب ‪ ،‬مثلها‪ .‬كان‬
‫أبو تانوس ‪ ،‬بيانكي سيد حاراب ‪ ،‬أحد أعظم النبالء المصريين ‪ ،‬لكَّن أمه ابنة عبد ُمعَتٍق من‬
‫شعب التحنو ( ‪ ، )3‬ومثل العديد من بني شعبها ‪ ،‬كانت شقراء الشعر زرقاء العينين ‪،‬‬
‫وماتت جراء حّمى المستنقعات في طفولة تانوس ‪ ،‬لذا فذكرياتي عنها منقوصة ‪ ،‬بيد أن‬
‫النساء العجائز ُقلن إن جماال كجمالها قلما شوهد في كلتا المملكتين‪ .‬من الناحية‬
‫الأخرى ‪ ،‬فقد عرفُت أبا تانوس وأجللته ‪ ،‬قبل أن يفقد ثروته الفاحشة وكل أمالكه التي‬
‫كادت ذات مرة تضاهي أمالك الفرعون نفسه‪ .‬كانت له بشرة سمراء وعينان مصريتان بلون السبج‬
‫( ‪ )4‬المصقول ‪ ،‬وكان رجًال ( ‪ )1‬الصادح أو تينور ‪ ،‬نوع من الأصوات الغنائية ويعد أعلى‬
‫الأصوات الرجولية ‪ ،‬والندي‪ :‬أو سوبرانو ‪ ،‬نوع من الأصوات الغنائية ويعد أعلى الأصوات‬
‫النسائية‪ ( .‬المترجم)‪ )2 ( .‬كوثل السفينة مؤخرها ‪ ،‬وفيه يكون المالحون ومتاعهم‪.‬‬
‫( المترجم)‪ )3 ( .‬التحنو‪ :‬إثنية قليلة العدد وبائدة سكنت في منطقة صغيرة جًّدا إلى‬
‫‪.‬الغرب من وادي النيل‬
‫‪).‬المترجم (‬
‫‪.‬الَّسَبج حجر كريم بركاني يأتي من حجارة الحمم السوداء‪ ( .‬المترجم) )‪( 4‬‬
‫‪8‬‬

‫ذا قوة بدنية تزيد على جماله ‪ ،‬وقلب معطاء نبيل ‪ ،‬وقد يقول البعض إن قلبه كان معطاء‬
‫ووثوقا أكثر مما ينبغي ‪ ،‬ذلك أنه توفي عائًزا ‪ ،‬وقلبه مكسور بأيدي أولئك الذين ظنهم‬
‫أصدقاءه ‪ ،‬وحيًدا في الظالم ‪ ،‬محروما من إشراقة حظوة‬
‫‪.‬الفرعون عليه‬
‫لذا بدا أن تانوس قد ورث أفضل ما في والديه ‪ ،‬في ما عدا ثروة بسيطة ‪ ،‬فكان في طبعه‬
‫وقوته كأبيه ‪ ،‬وشابة في جماله أمه‪ .‬إذن ِلَم أمتعتُض من ُحب موالتي إياه ؟ لقد أحببته كذلك‬
‫‪ ،‬ولكوني هذا الشيء التعس الخصُّي ‪ ،‬أدرك عجزي عن نيلها لنفسي أبًدا ‪ ،‬وال حتى لو رفعت‬
‫الآلهة منزلتي فوق منزلة العبيد‪ .‬لكن مع ضالل الطبيعة البشرية‪ :‬أتعّطش لما ال يمكنني‬
‫تذوقه أبًدا ‪ ،‬وأحلم بالمحال‪ .‬جلست لوستريس على ُنمرقها ( ‪ )1‬في المقدمة وجاريتاها‬
‫متمددتان عند قدميها كانتا بنتين صغيرتين سوداوين من مملكة « كوش ( ‪ ، » )2‬رشيقتين‬
‫كالنمور ‪ ،‬وعاريتين تماًما إال من طوقين ذهبيين حول عنقيهما‪ .‬لوستريس نفسها لم تكن‬
‫ترتدي إال تنورة من الكتان الُمبَّيض ‪ ،‬أنيقة وناصعة كجناحي ابن الماء ( ‪ .)3‬كانت بشرة‬
‫نصفها العلوي الذي قبلته الشمس بلون خشب الأرز الُمزَّيت القادم من الجبال وراء جبيل ‪،‬‬
‫ونهداها بحجم وصورة تينتين ناضجتين جاهزتين للقطاف ‪ ،‬وعلى قمتيهما عقيق وردي‪ .‬كانت قد‬
‫طرحت جانًبا باروكتها الرسمية ‪ ،‬وأرخت شعرها الطبيعي في جديلة جانبية تتدلى حبال سميكا‬
‫داكنا فوق أحد نهديها ‪ ،‬وحسنت ميل عينيها بخط فضي مخضر من مسحوق الدهنج ( ‪ )4‬المس بمكر‬
‫جفنيها العلويين‪ .‬وكان لون عينيها أخضر كذلك ‪ ،‬لكنه الأخضر الأدكن الأصفى للنيل وقتما‬
‫تنحسر مياهه وتضع أحمالها من الُّطمي الثمين‪ .‬وبين ثدييها ‪ ،‬حملت تمثاال لحابي ‪ ،‬إله‬
‫النيل ‪ ،‬مصوًفا من الذهب والالزورد الثمين ومعلًقا على سلسلة ذهبية‪ .‬كان قطعة بديعة بال‬
‫شك ‪ ،‬فقد صغته لها بيدي هاتين‪ )1 ( .‬الُّنمُرق وسادة صغيرة يتكأ عليها‪ ( .‬المترجم)‪)2 ( .‬‬
‫كوش‪ :‬اسم أطلق في قديم الزمان على جزء من النوبة ‪ ،‬يشمل المنطقة جنوب الجندل الثاني ‪،‬‬
‫والتي تمثل بالد النوبة العليا حيث قامت حضارة وادي النيل النوبية الكوشية‪.‬‬
‫( المترجم)‪ )3 ( .‬ابن الماء‪ :‬جنس من طيور مالك الحزين يتبع فصيلة البلشونيات‬
‫‪.‬المتوسطة‪ ( .‬المترجم)‪ )4 ( .‬الدهنج جوهر كالزمرد ( المترجم)‬
‫‪9‬‬

‫فجأة ‪ ،‬رفع تانوس يمناه بقبضة مضمومة ‪ ،‬وكرجل واحد ‪ ،‬لجم المجدفون ضرباتهم ورفعوا‬
‫راحات مجاديفهم عالًيا ‪ ،‬فأخذت تتلألأ تحت أشعة الشمس وتقطر ماًء ‪ .‬ثم زّج مجداف التوجيه‬
‫بشدة ‪ ،‬وأقحم الرجال على دكة الميسرة مجاديفهم الخلفية عميقا ‪ ،‬محدثين سلسلة من‬
‫الدوامات الضئيلة على صفحة المياه الخضراء‪ .‬تدخلت الميمنة بعدئذ بقوة ‪ ،‬فدار القارب‬
‫دوراًنا عنيًفا حد أن متنه جنح بزاوية مفزعة ‪ ،‬ثم نسق الجانبان جهودهما وانطلقنا إلى‬
‫الأمام‪ .‬نحى الجؤجؤ المدبب ‪ ،‬وعين حورس ( ‪ )1‬الزرقاء مزركشة عليه ‪ ،‬أجمات البردي‬
‫الكثيفة جانبا ‪ ،‬وشق طريقه خروًجا من مجرى النهر إلى المياه الراكدة للبحيرة الشاطئة‬
‫خلفه‪ .‬قطعت لوستريس الأغنية وظللت عينيها لترنو إلى الأمام ‪ ،‬ثم صاحت‪ :‬ها هم! » ‪،‬‬
‫وأشارت بيد دقيقة بهَّية‪ .‬كانت بقية قوارب سرب تانوس موّزعة مثل شبكة على الروافد‬
‫الجنوبية للبحيرة ‪ ،‬حاجبة المدخل الرئيس إلى النهر العظيم ‪ ،‬وقاطعة أي مهرب في ذلك‬
‫االتجاه‪ .‬بطبيعة الحال ‪ ،‬كان تانوس قد اختار لنفسه المركز الشمالي ‪ ،‬لمعرفته أنه حيث‬
‫ستبلغ المطاردة أشَّد ضراوتها ‪ ،‬وتمنيت لو لم يكن الأمر كذلك ‪ ،‬ال لأنني رعديد ‪ ،‬لكن علي‬
‫أخذ سالمة موالتي في الحسبان دائما‪ .‬كانت قد أوصلت نفسها إلى متن أنفاس حورس بالمخالبة‬
‫بعد الكثير من المخادعة التي‪ -‬كالعادة‪ -‬ورطتني فيها توريطًا عميًقا ‪ ،‬وعندما يعرف أبوها‬
‫–وسيعرف حتما‪ -‬بوجودها في لجة الصيد ‪ ،‬سأنال من سوء العاقبة ما يكفي ‪ ،‬لكن إن عرف‬
‫أيًضا أنني كنُت المسؤول عن السماح لها بمرافقة تانوس ليوم كامل ‪ ،‬فلن يحميني حتى منصبي‬
‫الممتاز من غضبته ‪ ،‬إذ إن تعليماته التي أمالها علّي بخصوص هذا الشاب قاطعة‪ .‬على أي حال‬
‫‪ ،‬بدا أنني النفس المضطربة الوحيدة على متن أنفاس حورس ‪ ،‬والبقية كلهم يجيشون حماسة‬
‫زجر تانوس المجدفين بإشارة حاسمة من يده ‪ ،‬وانزلق القارب حتى توقف ثم جعل يتأرجح برفق‬
‫فوق المياه الخضراء الراكدة إلى درجة أنني عندما ألقيت نظرة إليها رأيُت انعكاسي يرُّد‬
‫لي نظرتي ‪ ،‬وأدهشني‪ -‬كالعادة‪ -‬حسن احتمال جمالي للسنين‪ .‬في عيني ‪ ،‬وجهي أجمل من زهور‬
‫اللوتس الزرقاء السماوية التي أطرته ‪ ،‬لكن لم‬
‫رأيُت‬
‫يكن أمامي إال وقت وجيز لأبدعه ‪ ،‬فالطاقم من خلفي يتخبط نشاطا‪ )1 ( .‬حورس‪ :‬إله الشمس‬
‫‪.‬عند قدماء المصريين ‪ ،‬وعينه شعار قديم ذو خصائص تميمية‪ ( .‬المترجم)‬
‫‪10‬‬
‫رفع أحد ضباط أركان تانوس لواءه الخاص أعلى الصاري ‪ ،‬وكان صورة تمساح أزرق ‪ ،‬ذيله‬
‫المختال ‪ ،‬منتصب ‪ ،‬وفگاه مفترقان‪ .‬لم ُيخَّول إال ضابط من رتبة الأفضل في عشر الف بامتالك‬
‫لواء خاص ‪ ،‬وقد ظفر تانوس بهذه الرتبة ‪ ،‬إلى جانب قيادة فرقة التمساح الأزرق من نخبة‬
‫حرس الفرعون الشخصي ‪ ،‬قبل عيد ميالده العشرين‪ .‬وكان رفع اللواء على الصاري إشارة لبدء‬
‫الصيد‪ .‬بدت بقية السرب في أفق البحيرة ضئيلة بفعل المسافة ‪ ،‬لكن مجاديفها أخذت تضرب‬
‫ضربا موزونا فتعلو وتهبط كأجنحة وّز بري طائر تأتلق تحت أشعة الشمس‪ .‬ومن كواثلها ‪،‬‬
‫امتدت المويجات الُمرَّكبة خلفها فوق المياه الرائقة واصطفت مدة طويلة على‬
‫السطح كأنها ُقَّدت من صلصال صلب‪ .‬أنزل تانوس الصنج من فوق الكوثل ‪ ،‬وهو أنبوب برونزي‬
‫طويل ‪ ،‬وُسمح لطرفه باالنغماس تحت سطح الماء حتى إذا ما طرق بمطرقة من المعدن نفسه ‪،‬‬
‫تفيض منه النغمات الصارة الرنانة إلى الماء مالئة طرائدنا ذعرا‪ .‬ولسوء حظ رصانتي ‪،‬‬
‫عرفُت أن هذا قد يتحول عاجاًل إلى ثائرة دموية‪ .‬ثم ضحك علَّي ‪ ،‬مدرًكا هواجسي حتى في ذروة‬
‫إثارته ‪ ،‬فقد كان ذا فطنة استثنائية بالنسبة إلى جندي جلف ‪ ،‬وأمرني قائال‪ « :‬تعال إلى‬
‫برج الكوثل يا تايتا يمكنك ضرب الصنج لنا سيلهيك ذلك عن سالمة جلدتك الجميلة لبعض‬
‫الوقت‪ .‬جرحني هزله ‪ ،‬لكن أراحتني دعوته ‪ ،‬ذلك أن برج الكوثل يرتفع عالًيا فوق الماء ‪،‬‬
‫وتحركُت لتنفيذ أمره من دون لعثمة مخجلة ‪ ،‬وبينما أعبره ‪ ،‬توقفُت لحظة لأعظه بصرامة‪« :‬‬
‫انتبه لسالمة موالتي ‪ ،‬أتسمعني أيها الفتى ؟ ال تحثنها على الرعونة ‪ ،‬فجموحها ال ينقُص‬
‫شيًئا عن جموحك »‪ .‬كان بمقدوري التكلم بهذه الصيغة إلى قائد عشرة آالف أغَّر ‪ ،‬ذلك أنه‬
‫كان ذات مرة تلميذي ‪ ،‬وقد ذاقت عصاي في أكثر من مناسبة ذينك الردفين العسكريين‪ .‬منحني‬
‫ابتسامة عريضة كما كان يفعل في ذاك الزمان بالغرور والوقاحة المعهودين نفسيهما ‪،‬‬
‫وأجاب‪ « :‬أستحلفك أن تترك السيدة بين يدي يا صديقي القديم ‪ ،‬فليس ثمة ما ألتذ به أكثر‬
‫صدقني! »‪ .‬لم ألمه على هذه اللهجة قليلة الأدب ‪ ،‬فقد كنت في شيء من العجلة لآخذ مجلسي‬
‫في البرج ‪ ،‬ومن هناك راقبته يستل‬
‫‪.‬قوسه‬
‫‪11‬‬

‫‪( 1),‬‬
‫كانت تلك القوس شهيرة بالفعل في جميع قطع الجيش ‪ ،‬وبالطبع على امتداد النهر العظيم من‬
‫الجنادل ( ‪ )1‬إلى البحر‪ .‬صممته له وقتما غدا مستاًء من الأسلحة التافهة التي حتى ذلك‬
‫الحين لم ُيتح له غيرها ‪ ،‬فاقترحت أن نجرب صنع قوس ببعض المواد الجديدة غير الخشب‬
‫الواهن الذي ينمو في وادينا النهري الضيق ؛ ربما ببعض الأخشاب الغريبة كخشب قلب‬
‫الزيتون من أرض الحيثيين ( ‪ )2‬أو أبنوس كوش ‪ ،‬أو حتى من مواد أغرب كقرن خرتيت أو ناب‬
‫فيل عاجي‪ .‬وما إن شرعنا في المحاولة حتى تعثرنا في مشكالت ال حصر لها ‪ ،‬كانت أوالها‬
‫سهولة انكسار هذه المواد الغريبة ‪ ،‬ففي حالتها الطبيعية ‪ ،‬ال يوجد بينها ما ينحني من‬
‫دون تصُّدع ‪ ،‬ولن يسمح لنا إال أضخم أنياب الفيلة ‪ ،‬ومن َثَّم أثمنها ‪ ،‬بنحت جذع قوس كامل‬
‫منه‪ .‬حللت كلتا المشكلتين بفلق عاج ناب أصغر إلى شظايا وإلصاقها مًعا بمقاس وحجم‬
‫كافيين لتشكيل قوس كاملة ‪ ،‬غير أنها كانت أقسى من أن يشدها أي رجل للأسف‪ .‬لكن من تلك‬
‫المرحلة ‪ ،‬باتت خطوة سهلة وفطرَّية أن نصفح معا موادنا المختارة الأربعة خشب الزيتون‬
‫والأبنوس والقرن والعاج‪ .‬بالطبع ‪ ،‬مرت عدة أشهر من االختبار في تركيب هذه المواد ‪،‬‬
‫وبشتى صنوف الغراء لجمعها ‪ ،‬ولم ننجح في صناعة غراء قوي بالحد الكافي‪ .‬فحللت هذه‬
‫المشكلة الأخيرة في النهاية بربط كامل جذع القوس بسلك من الإلكتروم ( ‪ )3‬لمنعها من‬
‫التشظي ‪ ،‬إذ جئُت برجلين ضخمين ليعينا تانوس في لّف السلك من حولها بمجموع قوتيهما‬
‫بينما ال يزال الغراء ساخنا ‪ ،‬وعندما برد استقر على تركيبة تكاد تكون مثالية من القوة‬
‫والليونة‪ .‬قصصت بعدئٍذ خيوطا من أحشاء أسد عظيم أسود اللبدة كان تانوس قد صاده وقتله‬
‫برمحه الحربي ذي النصل البرونزي ‪ ،‬فدبغتها وجدلتها معا لأشكل الوتر‪ .‬وكانت النتيجة‬
‫هذه القوس البراقة ذات القوة االستثنائية التي لم يستطع إال رجل واحد من بين مئات‬
‫المحاولين شدها إلى مداها الكامل‪ .‬هي التي كونها النيل ويوجد ( ‪ )1‬جنادل النيل أو‬
‫الشالالت النيلية ‪ ،‬أو الشالالت الستة ‪ ،‬الشالالت منها خمسة في السودان وواحد في مصر‪.‬‬
‫( المترجم)‪ )2 ( .‬الحيثيون‪ :‬شعب أناضولي أدى دوًرا مهما في تأسيس إمبراطورية كان‬
‫مركزها خاتوشا في شمال وسط الأناضول عام ‪ 1600‬ق‪.‬م تقريبًا‪ ( .‬المترجم)‪)3 ( .‬‬
‫الإلكتروم‪ :‬سبيكة طبيعية المنشأ‪ .‬من الذهب والفضة مع كميات قليلة من الرصاص ومعادن‬
‫‪.‬أخرى‪ ( .‬المترجم)‬
‫‪12‬‬

‫كان الأسلوب النظامي للرماية كما يعلمه مدّربو الجيش يقتضي مواجهة الهدف ‪ ،‬وشَّد السهم‬
‫الموتور إلى قص الصدر ‪ ،‬والمحافظة على التصويب مهلة متروية ‪ ،‬ثم إرخاءه عند الإيعاز ‪،‬‬
‫لكن حتى تانوس لم يملك القوة الكافية ليشد هذه القوس ويحافظ على تصويبه ثابًتا ‪ ،‬فاضطر‬
‫إلى تطوير أسلوب جديد كلًّيا ‪ ،‬حيث صار يقف جانبًيا أمام الهدف ‪ ،‬مواجها إياه من فوق‬
‫كتفه اليسرى ‪ ،‬ثم يقذف ذراعه اليسرى باسًطا إياها ويشُّد السهم بجهد متشنج‪ -‬حتى تمس‬
‫ريشات ذيله شفتيه وتبرز عضالت ذراعيه وصدره مزهوة بمجهودها‪ .‬وفي لحظة التمدد الكامل‬
‫نفسها ‪ ،‬فيما يبدو ظاهريا بال تصويب ‪ُ ،‬يرخيه‪ .‬في البداية ‪ ،‬كانت سهامه تطير خبط عشواء‬
‫كنحل بري يغادر خليته لكنه تدرب يوًما بعد يوم وشهًرا بعد شهر حتى ُسحجت أصابع ُيمناه‬
‫وجعلت تنزُف إثر احتكاكها بالوتر ‪ ،‬لكنها ُشفيت وخُشنت ‪ ،‬وتكدم باطن ساعده الأيسر وسلخ‬
‫حيث كان الوتر يجلده عقب إرخاء السهم ‪ ،‬لكنني صنعت له واقية جلدية تحميه‪ .‬وظل تانوس‬
‫واقًفا أمام الأهداف يتدرب ويتدرب‪ .‬حتى أنا فقدُت الثقة في قدرته على إخضاع السالح ‪،‬‬
‫لكنه لم يستسلم قُّط‪ .‬وببطء ‪ ،‬ببطء ُممّض ‪ ،‬سيطر عليه حتى صار أخيًرا قادًرا على إطالق ثالثة‬
‫أسهم بسرعة تجعلها في الهواء في الوقت نفسه‪ .‬كان اثنان منها يصيبان الهدف على الأقل ‪،‬‬
‫وهو قرص نحاسي بحجم رأس رجل منصوب على مسافة خمسين خطوة من موقف تانوس وكانت هذه‬
‫السهام تبلغ من القوة ما يجعلها تخترق بال عناء المعدن الذي يحاكي ثخانة خنصري‪ .‬سمى‬
‫تانوس هذا السالح الجَّبار الناتا ‪ ،‬والذي كان‪ -‬بالمصادفة المحضة‪ -‬االسم الطفلي المنبوذ‬
‫لموالتي ‪ ،‬وها هو الآن واقف في الجؤجؤ ‪ ،‬المرأة بجانبه ‪ ،‬وسميها في يسراه‪ .‬كانا يشكالن‬
‫ثنائيا بديعا ‪ ،‬لكنه بديع بوضوح ال تحتمله راحة بالي‪ .‬صحت بحدة‪ « :‬موالتي ارجعي إلى هنا‬
‫حاال موقفك غير آمن » ‪ ،‬ولم تتنازل وتلقي نظرة من فوق كتفها حتى ‪ ،‬بل أشارت إلَّي من خلف‬
‫ظهرها ‪ ،‬فرأى كل طاقم السفينة ذلك ‪ ،‬وقهقه أجسُرهم ‪.‬ال بَّد أن إحدى جاريتيها المشاكستين‬
‫السوداوين قد علمتها تلك الإشارة ‪ ،‬التي تناسب سيدات حانات جانب النهر أكثر ما تناسب‬
‫ابنة شريفة النسب من أسرة إنتف‪ .‬فكرُت في أن أحتج ‪ ،‬لكنني هجرُت هذا الطريق الأهوج من‬
‫فوري ‪ ،‬فموالتي ال تذعن للقيود إال في بعض‬
‫‪13‬‬

‫حاالتها المزاجية‪ .‬وبدال من ذلك ‪ ،‬شغلُت نفسي بضرب الصنج النحاسي بعزم كاف لستر ضيقي‪.‬‬
‫فاضت النغمة الصارة المجلجلة عبر مياه البحيرة الشفيفة ‪ ،‬وامتلأت السماء توا بوشوشة‬
‫الأجنحة وظُّل ُألقي فوق الشمس كأنما ارتفعت غيمة فسيحة من طيور الماء من أحواض البردي‬
‫والبرك المخفية والمياه المفتوحة إلى السماء‪ .‬كانت من مئة صنف وصنف‪ :‬أبو منجل الأسود‬
‫والأبيض ذي الرأس النسري ‪ ،‬المقَّدس كرمى لإلهة النهر ‪ ،‬وأسراب من الإوز الصياح في ريشه‬
‫الخمري ‪ ،‬كل منها تحمل نقطة ياقوتية اللون في مركز صدرها ‪ ،‬وطيور مالك حزين بلون أزرق‬
‫مخضر أو أسود فاحم لها مناقير كالسيوف وخفق أجنحة ثقيل ‪ ،‬وبط وفير حد أن أعداده تتحدى‬
‫الأعين ومصداقية الرائي‪ .‬صيد طيور الماء من أكثر الهوايات حماسة بين النبالء‬
‫المصريين ‪ ،‬لكننا يومها كنا نالحق طريدة أخرى ‪ ،‬وفي تلك اللحظة ‪ ،‬رأيت على مسافة بعيدة‬
‫أمامنا اضطراًبا فوق سطح الماء الشفيف كان ثقيال وهائال ‪ ،‬وخانتني معنوياتي ‪ ،‬ذلك أنني‬
‫أعرف أي وحش ُمرّوع قد تحرك هناك‪ .‬راه تانوس كذلك ‪ ،‬لكن ردة فعله كانت مختلفة كل االختالف‬
‫عن ردة فعلي ‪ ،‬إذ نبح ككلب صيد استروح الطريدة ‪ ،‬وصاح رجاله معه منكبين على‬
‫مجاديفهم ‪ ،‬فانطلقت أنفاس حورس إلى الأمام كأنها أحد تلك الطيور التي عثمت قبة السماء‬
‫من فوقنا ‪ ،‬وزعقت موالتي حماسة ثم ضربت بقبضتها الصغيرة كتف تانوس‬
‫‪.‬مفتول العضالت‬
‫تعكرت المياه مرة أخرى وبينما أشار تانوس إلى قائد دفته أن يتبع الحركة طرقت الصنج‬
‫لأدعم شجاعتي وأحافظ عليها‪ .‬وصلنا إلى النقطة حيث رأينا الحركة آخر مرة ‪ ،‬وانسل‬
‫المركب حتى جمد في حين أخذ كل رجل على متنه يحدق من حوله متشوقا‪ .‬ووحدي نظرُت من فوق‬
‫الكوثل مباشرة‪ .‬كان الماء من تحتنا قليل العمق ويكاد يكون بصفاء الهواء من فوقنا‪ .‬ثم‬
‫زعقت زعقًة بشدة وحدة زعقة موالتي ووثبت متراجعا عن سور الكوثل ‪ ،‬إذ كان الوحش من تحتنا‬
‫تماما‪ .‬فرس النهر رفيق ‪ ،‬حابي ‪ ،‬إلهة النيل ‪ ،‬وال يمكننا صيده إال بإعفاء خاص منها‪.‬‬
‫ولهذه الغاية ‪ ،‬كان تانوس قد صلى وقدم الأضاحي في معبد الإلهة ذاك الصباح ‪ ،‬وموالتي‬
‫مالصقة له‪ .‬حابي الهتها الراعية بالطبع ‪ ،‬لكنني أشك في أن هذا هو السبب الوحيد‬
‫‪.‬لمشاركتها التواقة في المراسم‬
‫‪14‬‬

‫كان الوحش الذي رأيته تحتنا للتو ذكًرا عمالقا عجوزا ‪ ،‬وفي عيني ‪ ،‬بدا بضخامة سفينتنا ‪،‬‬
‫جسًما جَّباًرا يتثاقل الخطى في قاع البحيرة ‪ ،‬وقد بطأت مقاومة المياه حركاته فصار يتحرك‬
‫كمخلوق من كابوس يثير من بين حوافره الطين كما تثير المها الغبار في إسراعها فوق رمال‬
‫الصحراء‪ .‬أدار تانوس القارب بمجداف التوجيه وانطلقنا خلفه ‪ ،‬لكنه ابتعد عنا بسرعة رغم‬
‫عدوه البطيء المتكّلف ذاك ‪ ،‬وتالشى شبحه الداكن في أعماق البحيرة الخضراء أمامنا‪ .‬فصاح‬
‫برجاله‪ُ « :‬شُّدوا بحق أنفاس ست ( ‪ )1‬الكريهة شدوا! » ‪ ،‬لكن عندما حل أحد ضباطه عقدة‬
‫كرباج السوط ‪ ،‬عبس تانوس وهز رأسه‪ .‬لم أره يستخدم الكرباج قُّط إن لم يكن استخدامه‬
‫مبرًرا‪ .‬وفجأًة شّق الوحش صفحة الماء أمامنا ونفخ سحابة عظيمة من البخار الَّنِتن من رئتيه‪.‬‬
‫غمرتنا نتانتها رغم أنه بعيد وخارج مرمى السهام ‪ ،‬وللحظة خلق ظهره جزيرة جرانيتية‬
‫براقة في البحيرة ‪ ،‬ثم جَّر نفًسا صافًرا وغاب في‬
‫دوامة من جديد‪ .‬جار تانوس‪ « :‬انطلقوا خلفه! »‪ .‬وصحت مشيًرا من فوق الجانب‪ « :‬ها هو‬
‫ذا ‪ ،‬إنه يلتف عائًدا »‪ .‬فضحك تانوس علي قائاًل ‪ « :‬أحسنَت صنًعا يا صديقي القديم ‪ ،‬سنجعل‬
‫منك محارًبا أيًضا »‪ .‬كانت الفكرة ساخرة ‪ ،‬فأنا نساخ وحكيم وفنان ‪ ،‬وبطوالتي بطوالت عقل ‪،‬‬
‫ورغم ذلك ‪ ،‬شعرُت برعشة بهجة كما أشعر دائما إزاء مديح تانوس ‪ ،‬وضاع هلعي‪ -‬في الوقت‬
‫الراهن في حماسة المطاردة‪ .‬ثم انضمت بقية سفن السرب من الجنوب إلى الصيد‪ .‬كان كهنة‬
‫حابي قد حافظوا على إحصاء دقيق لعدد هذه الوحوش العظيمة في البحيرة ‪ ،‬ومنحوا مباركتهم‬
‫لذبح خمسين منها في مهرجان أوزيريس ( ‪ )2‬القادم ‪ ،‬ما يترك ثالثمئة تقريًبا من قطيع‬
‫الإلهة في بحيرة المعبد ‪ ،‬وهو العدد الذي الكهنة مثاليا لإبقاء الممرات المائية خالية‬
‫من الأعشاب الخانقة ‪ ،‬ومنع أحواض البردي من التعدي على الأراضي الزراعية ‪ ،‬وتزويد‬
‫المعبد بمؤونة منتظمة من ( ‪ )1‬ست‪ :‬إله الحرب والفوضى والعواصف في مصر القديمة‪.‬‬
‫( المترجم)‪ )2 ( .‬أوزيريس إله البعث والحساب ورئيس محكمة الموتى عند قدماء المصريين ‪،‬‬
‫‪.‬وهو من آلهة التاسوع المقدس الرئيس‪ ( .‬المترجم)‬
‫‪15‬‬

‫اللحم‪ .‬لم يكن أكل لحم أفراس النهر في غير أيام مهرجان أوزيريس العشر مسموحا إال‬
‫للكهنة أنفسهم‪ .‬ثم دار الصيد فوق المياه مثل رقصة معقدة ‪ ،‬وبينما أخذت سفن السرب تغزل‬
‫وتبرم كانت الوحوش المسعورة تفُّر من أمامها ‪ ،‬فتغوص وتنفخ وتنخُر عندما تطفو لتعود إلى‬
‫الغوص ثانية‪ .‬لكن مع ذلك ‪ ،‬أخذت كل غطسة تقصر عن سابقتها ‪ ،‬وصارت االختراقات الملتفة‬
‫لسطح الماء أكثر تكررا ‪ ،‬فقد فرغت رئاتها وما عاد بمقدورها ملؤها بالكامل قبل أن تنقض‬
‫السفن المطاردة عليها وتجبرها على الغوص من جديد‪ .‬وطيلة ذلك الوقت ‪ ،‬ظلت الصنوج‬
‫البرونزية في بروج كوائل السفن تدّوي لتمتزج مع صيحات المجدفين وتنبيهات قادة الدفات‪.‬‬
‫ذاب كل شيء في جعجعة وبلبلة جنونيتين ‪ ،‬ووجدُت نفسي أصرخ وأهلل جنبا إلى جنب مع أشد‬
‫الرجال تعطًشا للدماء‪ .‬كان تانوس قد رَّكز اهتمامه كله على أول الفحول وأضخمها ‪ ،‬فتجاهل‬
‫الإناث والحيوانات الأصغر التي أخذت تظهر ضمن مرمى السهام ‪ ،‬ولحق بالوحش العظيم في كل‬
‫التواءاته ‪ ،‬مقتربا منه بعناد كلما طفا على السطح‪ .‬وحتى في فيض حماستي لم يسعني إال‬
‫استبداع المهارة التي أدار بها تانوس أنفاس حورس ‪ ،‬واستجابة أفراد طاقمه لإشاراته‪.‬‬
‫لكنه من ناحية أخرى ‪ ،‬لطالما تمتع بملكة استخراج أفضل ما في جنوده ‪ ،‬وإال فكيف‬
‫استطاع ‪ ،‬بال ثروة وال ولّي عظيم يسنده ‪ ،‬االرتقاء بهذه السرعة إلى هذه الرتبة الرفيعة ؟‬
‫لقد حقق ما حققه بكفاءته الخاصة ‪ ،‬وهذا على الرغم من الأثر الخبيث لأعدائه المتخّفين‬
‫الذين زرعوا طريقه بكل ضروب العقبات‪ .‬شق الفحل فجأة سطح الماء على بعد أقل من ثالثين‬
‫خطوة من الجؤجؤ ‪ ،‬وخرج يتلألأ في شعاع الشمس هائال وأسوَد ومروًعا ‪ ،‬وسحب من بخار فاجر‬
‫تتفجر من منخريه كمخلوق العالم السفلي ذاك الذي يلتهم قلوب من تراهم الآلهة غير أكفاء‬
‫‪)1 (..‬‬
‫اللحظة‬
‫كان تانوس قد أوتر سهًما ثم رفع القوس العظيم وأطلقه في الخاطفة نفسها ‪ ،‬فعزف الناتا‬
‫موسيقاه المهيبة البّراقة ‪ ،‬وهجم السهم في غشاوة تخدع الأبصار‪ .‬وبينما كان يهس في‬
‫طيرانه لم يزل ‪ ،‬تبعه آخر ثم ثالث ( ‪ )1‬إشارة إلى أمت أو أمت المعروفة باسم آكلة‬
‫الموتى ‪ ،‬وهي كائن خرافي يظهر في الأساطير المصرية القديمة مزيجا بين رأس تمساح وجسد‬
‫‪.‬أسد وفرس نهر‪ ( .‬المترجم)‬
‫‪16‬‬

‫وهمهم وتر القوس كوتر العود أصابت السهام هدفها الواحد تلو الآخر ‪ ،‬فجأر الثور عندما‬
‫دفنت نفسها بكامل طولها في ظهره الرحب ‪ ،‬وغاص ثانية‪ .‬كانت تلك السهام خوازق ( ‪)1‬‬
‫ابتكرُتها خصوًصا لهذه المناسبة ‪ ،‬فاستبدلت بالذيول المريشة عوامات دقيقة من خشب‬
‫التبلدي كالتي يستخدمها الصيادون لتعويم شباكهم ‪ ،‬وركبتها لتنسل عن عقب السهم بطريقة‬
‫تجعلها ثابتة في أثناء الطيران لكنها تتخلخل حالما يغوص الوحش ويجرها عبر الماء‪ .‬وكنُت‬
‫ربطتها بالسنان البرونزي بخيط كتان رفيع لففته حول العقب ‪ ،‬لكنه يتكشف حالما تنفصل‬
‫العوامات ‪ ،‬لذا في تلك اللحظة ‪ ،‬وبينما ينطلق الوحش مبتعدًا تحت الماء ‪ ،‬ظهرت العوامات‬
‫الدقيقة الثالث فوق السطح وأخذت تتذبذب خلفه وكنُت قد طليتها بلون أصفر فاقع لتجذب‬
‫الأنظار إليها وينكشف موقع الفحل مباشرة ولو كان في عمق البحيرة‪ .‬وهكذا تمكن تانوس من‬
‫ترقب كل انقضاضات الفحل الجامحة ‪ ،‬ومن إرسال أنفاس حورس مسرعة لتسبقه وتزرع مجموعة‬
‫أخرى من السهام عميقا في الظهر الأسود الالمع كلما خرج من المياه بحلول هذا الوقت ‪،‬‬
‫صار الفحل يجُّر مجموعة من العوامات الصفراء الجميلة خلفه ‪ ،‬وصارت المياه تتخَّطط وتدوم‬
‫بأحمر دمائه‪ .‬وعلى الرغم من مشاعر اللحظة العنيفة ‪ ،‬لم يسعني إال الإشفاق على المخلوق‬
‫المنكوب كلما بزغ إلى السطح يجأر تالقيه زخة أخرى من السهام الهاسة الفّتاكة‪ .‬لكن موالتي‬
‫الصغيرة لم تشاركني تعاطفي ‪ ،‬بل كانت عالقة في لجة االشتباك تزعق جراء الرعب اللذيذ‬
‫وحماسة‬
‫‪.‬الأمر كله‬
‫مرة ثانية ‪ ،‬خرج الفحل أمامنا مباشرة ‪ ،‬لكن بمواجهة أنفاس حورس المنقضة عليه هذه‬
‫المرة ‪ ،‬وانفرج فكاه انفراًجا واسًعا حتى إنني تمكنُت من رؤية قعر حلقه‪ .‬كان قناة من‬
‫اللحم الأحمر الفاقع يمكنها ابتالع رجل كامل بسهولة ‪ ،‬وكان فكاه مبطنين بصف أنياب جمد‬
‫أنفاسي ودَّب في جلدي القشعريرة برزت أنياب فكه السفلي مناجل عاجية هائلة مصممة لحصاد‬
‫القصبات المتينة والقوية من البردي المنتصب ونتأت أنياب العلوي رماًحا بيضاء المعة‬
‫بثخانة معصمي يمكنها قضم أخشاب هيكل أنفاس بسهولة قضمي كعكة من دقيق الذرة‪ .‬كنُت حظيت‬
‫مؤخرا بفرصة معاينة جثة فالحة أزعجت‪ -‬في أثناء قصها البردي على ضفة النهر‪ -‬أنثى فرس‬
‫نهر َوَلَدْت‬
‫‪.‬الخازق‪ :‬السنان النافذ‪ ( .‬المترجم) )‪( 1‬‬
‫‪17‬‬

‫من توها عجال ‪ ،‬وُشِطَرْت نصفين بدقة شديدة جعلتها تبدو كأنما قد ُضِرَبْت بأشد النصول‬
‫البرونزية بترا‪ .‬صار هذا الهولة الهائج بشدقيه العامرين بتلك الأسنان البراقة منقًضا‬
‫علينا ‪ ،‬وعلى الرغم من أنني في برج الكوثل المرتفع وبعيد عنه أقصى بعد ممكن ‪ ،‬وجدُت‬
‫نفسي عاجزا عن التصويت أو الحركة عجز تماثيل المعبد‪ .‬تخشبت فزًعا‪ .‬أطلق تانوس سهما آخر‬
‫حلق مباشرة إلى مؤخر الحلق الفاغر ‪ ،‬لكن عذاب المخلوق كان فظيعا إلى درجة بدا معها‬
‫كأنه لم يلحظ هذه الإصابة الإضافية ‪ ،‬وإن ثبت في آخر الأمر أنها قاتلة‪ .‬انقض بال تمهل‬
‫أو تردد مستقيما على جؤجؤ أنفاس حورس ‪ ،‬وفاض من الحلق الُملّوع جوار حنق وألم قاتل مخيف‬
‫‪ ،‬ذلك أن شريانا تمزق في عمقه ‪ ،‬وأرسل قطرات دم تترشش من شدقيه المنفرجين‪ .‬استحال‬
‫الدم المتفجر سحًبا من غشاوة حمراء تحت أشعة الشمس ‪ ،‬جميلة ومروعة في الآن نفسه ‪ ،‬ثم‬
‫اصطدم الفحل رأسيا بجؤجؤ سفينتنا‪ .‬كانت أنفاس حورس تمخر الماء بسرعة غزال يعدو ‪ ،‬لكن‬
‫الوحش فاقها سرعة في غضبته ‪ ،‬وبدا جسمه متينا متانة أشعرتنا أننا جنحنا فوق شاطئ‬
‫صخري‪ .‬طار المجدفون ناشرين أطرافهم من مقاعدهم ‪ ،‬في حين ُقِذْفُت إلى سور برج الكوثل بعزم‬
‫بلغ من الشدة أنه أفرغ رئتي من الهواء وأبدل به صخرة صماء من الألم في صدري‪ .‬وحتى في‬
‫خضم ضائقتي الشخصية ‪ ،‬كان قلقي كله منصبا على موالتي ‪ ،‬إذ رأيتها من بين دموع الألم‬
‫تَطَّوح بفعل التصادم ‪ ،‬ومد تانوس ذراعه محاوال إنقاذها ‪ ،‬لكنه كان مختل التوازن كذلك ‪،‬‬
‫وأعاقه القوس في يسراه‪ .‬لم يتمكن إال من كبح اندفاعها للحظة ‪ ،‬ثم أخذت بعد ذلك تتأرجح‬
‫على السور ويداها ترفرفان بيأس ‪ ،‬وظهرها متقوس جراء السقطة‪ .‬صرخت‪ « :‬تانوس! » ‪ ،‬ومدت‬
‫يدا ‪ ،‬ناحيته فاستعاد توازنه وحاول بخفة بهلوان إمساك يدها تالمست أصابعهما للحظة ثم‬
‫بدا أنها ُسحبت بعيًدا وسقطت عن الجانب‪ .‬تمكنت من موقعي المرتفع في الكوثل من رؤية‬
‫سقطتها ‪ ،‬إذ انقلبت في الجو مثل قطة ‪ ،‬وماجت تنورتها البيضاء وارتفعت لتكشف عن الطول‬
‫الفاتن لفخذيها بدا لي أنها سقطت سقطة نهائية ‪ ،‬وامتزجت صيحتي المكروبة بعويلي‬
‫‪.‬اليائس‬
‫‪18‬‬

‫صرخت‪ « :‬طفلتي! صغيرتي ذلك أنني كنُت واثقا أنها هلكت‪ .‬شعرُت أن حياتها بأكملها ‪ ،‬كما‬
‫عرفُتها ‪ ،‬تعيد نفسها أمام عيني ‪ ،‬فرأيتها ثانية طفلة دارجة ‪ ،‬وسمعت التوددات الطفولية‬
‫التي كانت تسبغها علي ‪ ،‬مربيها المحب‪ .‬رأيتها تكبر لتصير امرأة ‪ ،‬وتذكرت كل ما أنزلته‬
‫بي من اغتباطات وآالم في القلب ‪ ،‬وأحببتها آنذاك لحظة فقدها أكثر حتى من حبي لها في‬
‫في‬
‫‪.‬السنوات الأربع عشرة الطويلة‬
‫تلك‬
‫سقطْت على ظهر الفحل الثائر العريض الملطخ بالدم ‪ ،‬وللحظة تمددت فوقه ناشرًة أطرافها‬
‫كأضحية بشرية على مذبح ديانة ما سافلة‪ .‬دار الوحش في مكانه ‪ ،‬وارتفع عالًيا في الماء ‪،‬‬
‫ثم لوى رأسه الضخم البشع إلى الخلف محاوال بلوغها ‪ ،‬فتأججت عيناه النهمتين المضَّرجتين‬
‫بجنون ثائرته ‪ ،‬وبينما تالطم فكاه العظيمين كان يهم بنهشها‪ .‬بطريقة ما تدبرت لوستريس‬
‫جمع شتات نفسها والتشبث بزوج من جذوع الأسهم الناتئة من ظهره الواسع كالمقابض ‪،‬‬
‫وتمددت ناشرة ذراعيها وساقيها‪ .‬لم تعد تصرخ ‪ ،‬وصارت كل حيلتها وقوتها مسخرة للبقاء‬
‫على قيد الحياة‪ .‬بينما رنت تلك الأنياب العاجية العقفاء فوق بعضها كنصال محاربين‬
‫متبارزين كانت تنهش الهواء ‪ ،‬وعند كل عضة ‪ ،‬بدا أنها تخفق في القبض عليها بما ال يجاوز‬
‫عرض إصبع ‪ ،‬وتوقعُت في أي لحظة أن ُيقَصم أحد أطرافها المليحة مثل غصن دالية هش ‪ ،‬وأن‬
‫أرى دمها الحلو الشاب يمتزج بتلك السيول البهيمية المتدفقة من جروح فرس النهر‪ .‬استعاد‬
‫تانوس توازنه في الجؤجؤ بسرعة ‪ ،‬واللحظة ‪ ،‬رأيت وجهه وكان ُمفزعا ثم ألقى القوس التي‬
‫لم تعد نافعة إياه جانًبا ‪ ،‬وقبض بدال منها على نصاب سيفه هارا نصله حتى حرره من غمده‬
‫المصنوع من جلد التمساح ‪ ،‬وبرزت قطعة براقة من البرونز بطول ذراعه ُشِحَذْت حوافها حتى‬
‫صار بوسعها حالقة شعر ظهر يده‪ .‬وثب على شفير المركب وتوازن فوقه للحظة يراقب التفافات‬
‫الفحل المصاب بجروح قاتلة في الماء من تخته ‪ ،‬ثم قذف نفسه وهبط كبازي منقّض حامال سيفه‬
‫بكلتا يديه وسنه موجها للأسفل‪ .‬نزل على رقبة فرس النهر الغليظة ‪ ،‬وحط بساقين منفرجتين‬
‫حولها كأنه موشك أن يمتطيه إلى العالم السفلي‪ .‬كان وزن جسمه بأكمله ‪ ،‬وزخم القفزة‬
‫الجامحة ‪ ،‬يدفعان السيف عندما طعن به فغاص نصف النصل في عنق فرس‬
‫‪19‬‬

‫ومع‬
‫النهر عند قاعدة جمجمته ‪ ،‬ومن مجلسه فوقه مثل خَّيال ‪ ،‬كافح تانوس وأعمل البرونز الحاد‬
‫أكثر مستخدًما كلتا ذراعيه وقوة تلكم الكتفين العريضتين‪ .‬ثم نخسة النصل صار الفحل‬
‫مسعوًرا ‪ ،‬فبدت مقاومته حتى تلك اللحظة واهية بالمقارنة بهذه الفورة الجديدة ‪ ،‬إذ رفع‬
‫معظم جسده الهائل خارج البحيرة ‪ ،‬مؤرجًحا رأسه يمنة ويسرة ‪ ،‬وملقًيا صفائح متماسكة من‬
‫الماء عاليا في الجو حتى إنها تكسرت على متن السفينة وحجبت‪-‬مثل ستارة‪ -‬المشهد تقريبا‬
‫عن بصري المذعور‪ .‬راقبُت في خضم كل ذلك الثنائي يتخبط على ظهر الوحش بال رحمة ‪ ،‬ثم‬
‫انقصم جذع أحد السهام التي كانت لوستريس متشبثة بها ‪ ،‬وكادت تقذف بعيدا ‪ ،‬ولو حدث ذلك‬
‫‪ ،‬لمزقها الوحش بال ريب وقطعها إلى ِمَزٍة دامية بتلك الأنياب العاجية ‪ ،‬بينما مد تانوس‬
‫جسده للخلف وقبض عليها مثبتا إياها بيسراه ‪ ،‬لم تتوقف يمناه عن إعمال النصل البرونزي‬
‫أكثر في قفا عنق الفحل‪ .‬لعجز فرس النهر عن بلوغهما ‪ ،‬شّق خاصرتيه بنفسه ‪ ،‬منزاًل بجنبيه‬
‫جراحا فاغرة فظيعة إلى درجة أن الماء في محيط خمسين خطوة من السفينة اصطبغ بلون‬
‫الدم ‪ ،‬وطلت الدماء المتفِّجرة كاَّل من لوستريس وتانوس بالقرمزي من رأسيهما إلى أخامص‬
‫أقدامهما ‪ ،‬فاستحال وجهاهما إلى قناعين مشوهين تلمُع من داخلهما عيناهما البيضاوان‬
‫كانت سكرات الموت العنيفة للوحش قد حملتهما بعيًدا عن جانب السفينة وكنُت أول من استعاد‬
‫سالمة عقله على متنها ‪ ،‬فصحت بالمجدفين‪ « :‬اتبعوهما !ال تسمحوا لهما باالبتعاد » ‪،‬‬
‫ووثبوا إلى مواقعهم مرسلين أنفاس حورس إلى‬
‫‪.‬المطاردة‬
‫في تلك اللحظة ‪ ،‬بدا أن سنان نصل تانوس ال بد قد عثر على مفصل فقرات عنق الوحش وانسّل‬
‫عبرها ‪ ،‬ذلك أن الجثة الهائلة تخشبت وتجمدت ‪ ،‬وانقلب فرس النهر على ظهره وأطرافه‬
‫الأربعة ممدودة ومتيبسة ‪ ،‬ثم غطس تحت مياه البحيرة حامال لوستريس وتانوس معه إلى‬
‫الأعماق‪ .‬كبحث نحيب اليأس الذي ارتفع في حلقي وزمجرُت أمًرا للطاقم من تحتي‪ « :‬جدفوا‬
‫بالعكس ال تسحقوهم وليتوجه السباحون إلى الجؤجؤ! » ‪ ،‬وحتى أنا أجفلت من قوة صوتي‬
‫‪.‬وسلطانه‬
‫‪20‬‬

‫توقف تقدم السفينة إلى الأمام ‪ ،‬وقبل أن أتمكن من التفُّكر في حصافة ما أفعله ‪ ،‬وجدت‬
‫نفسي أتقدم حملة من المحاربين الجسام عبر المتن‪ .‬ربما كانوا ليهللوا لمشاهدة أي ضابط‬
‫آخر يغرق ‪ ،‬لكن ليس عزيزهم تانوس عن نفسي ‪ ،‬كنُت قد نزعت عني تنورتي وتعريت ‪ ،‬ولم يكن‬
‫التهديد بمئة جلدة ليحملني على فعل ذلك في أي ظروف أخرى ‪ ،‬ذلك أنني لم أسمح إال لشخص‬
‫واحد بأن يرى الجراح التي أنزلها جالد الدولة بي منذ عهد بعيد ‪ ،‬وقد كان الشخص نفسه‬
‫الذي أمر بإعمال سكين الخصي بي في المقام الأول‪ .‬لكن الآن ‪ ،‬وللمرة الأولى ‪ ،‬سهوُت‬
‫تماما عن تشوه رجولتي الفظيع أنا سباح قوي ‪ ،‬ورغم أن هذه المجازفة ترجفني كلما‬
‫تذكرتها ‪ ،‬أعتقد حقا أنني ربما كنت لأغوص من فوق الجانب وأسبح عبر تلك المياه‬
‫المصبوغة بالدم محاوال إنقاذ موالتي‪ .‬لكن ما إن هيأت نفسي عند سور السفينة ‪ ،‬حتى انفتحت‬
‫المياه تحتي تماًما وبزغ رأسان يقطران ماء ويتالصقان كزوج قنادس في طور التزاوج‪ .‬كان‬
‫أحدهما أسمر والآخر أشقر ‪ ،‬لكَّن كليهما يطلق أكثر صوت مستبعد سمعته في حياتي ‪ ،‬إذ كانا‬
‫يضحكان ‪ ،‬بينما يعويان ويصرخان ويبقبقان ضحكا ‪ ،‬كانا يتخبطان ناحية جانب السفينة ‪،‬‬
‫وكالهما قابض بإحكام على ذراعي الآخر إلى درجة تيقنت معها أنهما في خطر حقيقي أن ُيغرق‬
‫أحدهما الآخر‪ .‬استحال قلقي كله من فوره إلى غضب إزاء هذه الرعونة ‪ ،‬وإزاء فكرة‬
‫الحماقة الرهيبة التي كنت موشكا أن أقترفها‪ .‬ومثل أم أملت عليها غريزتها الأولى بعد‬
‫إيجاد ابنها المفقود أن تجلده بالسوط ‪ ،‬سمعت صوتي يفقد كل سلطانه العميق السابق ويصير‬
‫حاًّدا متذمًرا‪ .‬كنُت ال أزال أوبخ موالتي بكل فصاحتي الشهيرة وقتما سَحَبتها هي وتانوس دزينة‬
‫من الأيادي المستعدة من الماء إلى متن السفينة ‪ ،‬وأقذعها قائال‪ « :‬أيتها الهمجية‬
‫الصغيرة الجامحة الرعناء أيتها الطائشة الضئيلة الأنانية معدومة االنضباط والتفكير!‬
‫لقد وعدتني! لقد حلفت يميًنا على بتولة الإلهة‪ ......‬فركضت إلَّي وألقت بذراعيها حول‬
‫عنقي ‪ ،‬ثم هتفت وهي ال تزال تبقيق ضحًكا‪ « :‬أوه يا تايتا! أرأيته ؟ أريت تانوس يثب‬
‫لنجدتي ؟ ألم تكن تلك أنبل فعلة سمعت بها على الإطالق ؟ مثل بطل واحدة من أحسن قصصك‬
‫تماما »‪ُ .‬أهملت تماما حقيقة أنني كنُت قاب قوسين من القيام ببادرة بطولية مماثلة ‪ ،‬ولم‬
‫يفعل ذلك إال زيادة انزعاجي‪ .‬وأضاف إليه إدراكي المفاجئ أن‬
‫‪21‬‬

‫لوستريس قد فقدت تنورتها ‪ ،‬وأن الجسد البارد المبلل الذي حشرته بجسدي عار بالكامل ‪،‬‬
‫وأن زوج الأرداف الأنعم والأكثر اكتنازا في مصر مكشوف أمام‬
‫‪.‬نظرات الضباط والرجال الوقحة‬
‫بينما امتشقُت أقرب درع واستخدمتها لأغطي كال جسدينا كنت أصرخ بجاريتيها أن يجدا تنورة‬
‫أخرى لها ‪ ،‬وزادت قهقهتهما من حنقي ‪ ،‬وحالما عدُت أنا ولوستريس محتشمي ‪ ،‬الملبس ‪،‬‬
‫‪ ،‬انقضضُت على تانوس‪ -.‬أما عنك ‪ ،‬أيها البربري المستهتر ‪ ،‬فسأخبر موالي إنتف بفعلتك‬
‫وسيسلخ جلد ظهرك‬
‫فضحك‬
‫مني‬
‫قائال‪ « :‬لن تفعل شيًئا كهذا وألقى ذراعا مبللة مفتولة العضالت فوق كتفي وضَّمني بشدة‬
‫رفعتني في الجو) ‪ ،‬ذلك أنه سيسلخك بالسعادة نفسها تماما‪ .‬ورغم ذلك ‪ ،‬أشكر قلقك يا‬
‫صديقي القديم »‪ .‬نظر حوله بسرعة وذراعه ال تزال مطوقة كتفي ‪ ،‬وقطب حاجبيه ‪ ،‬ذلك أن‬
‫أنفاس حورس كانت قد انفصلت عن بقية سفن السرب ‪ ،‬لكَّن الصيد انتهى ‪ ،‬وأخذت كل السفن‬
‫إالنا‪ -‬حصتها الكاملة من الغنائم التي أباحها الكهنة‪ .‬هز تانوس رأسه‪ « :‬لقد ضيعنا معظم‬
‫فرصنا ‪ ،‬أليس كذلك ؟ » ونخر ‪ ،‬ثم طلب من أحد ضباطه أن يرفع إشارة استدعاء السرب‪ .‬أجبر‬
‫بعد ذلك وجهه على االبتسام‪ « :‬فلنفتتح إبريق جعة معا ‪ ،‬ذلك أن أمامنا الآن بعض االنتظار‬
‫‪ ،‬وقد كان ما فعلنا عمال يدب بالعطش في العروق » ‪ ،‬وذهب إلى الجؤجؤ حيث تثير الجاريتان‬
‫الجلبة حول لوستريس‪ .‬في البداية ‪ ،‬كنُت غاضًبا إلى درجة رفضي االنضمام إلى نزهتهم‬
‫المرتجلة على المتن ‪ ،‬وحافظت بدال من ذلك على وقار متحفظ في الكوثل‪ .‬سمعُت لوستريس‬
‫تهامس تانوس وهي تعيد ملء كوبه بالجعة المرغية‪ « :‬أوه ‪ ،‬دعه يحرد قليال‪ .‬لقد أصاب‬
‫العجوز العزيز نفسه بفزع رهيب ‪ ،‬لكنه سيتجاوزه حالما يداهمه الجوع ‪ ،‬فهو يحب الطعام‬
‫أيما حب »‪ .‬إن موالتي الخالصة الإجحاف ‪ ،‬فأنا ال أحرد ‪ ،‬ولسُت َنهما ‪ ،‬وفي ذلك الوقت كنُت‬
‫بالكاد قد بلغت الثالثين من عمري ‪ ،‬وإن كان أبناء الرابعة عشرة يرون أي امرئ جاوز‬
‫العشرين عتيقا ‪ ،‬وأعترف أنني عندما يتعلق الأمر بالطعام أتمتع بذوق مهذب لذواق خبير‬
‫بالفعل‪ .‬كانت الإوزة البرية المشوية مع التين التي تعرضها بتباه أحد أطباقي المفضلة ‪،‬‬
‫‪.‬وهي تعرف ذلك حق المعرفة‬
‫‪22‬‬

‫على أي حال ‪ ،‬لم يكن على سجيته المَّتِقَدة المعتادة وسرعان ما غادر الجؤجؤ ومضى ليشرف‬
‫على صيانة بدن أنفاس حورس‪ .‬كان هجوم فرس النهر قد أضَّر بالألواح تحت المائية ‪ ،‬فصرنا‬
‫نتشرب من الماء ما يكفي ليتطلب الأمر تفريعا متواصال لبطن السفينة بالدالء الجلدية ‪،‬‬
‫وهي مهمة من أتفه المهام التي تلهي الرجال عن واجباتهم بصفتهم مجدفين ومحاربين ‪،‬‬
‫وفكرُت في نفسي أنها يمكن تحسينها بال شك‪ .‬لذا ‪ ،‬وبينما ننتظر أن تطفو جثث الوحوش‬
‫الميتة ‪ ،‬أرسلت إحدى الجاريتين لتجلب لي سلة معدات الكتابة الخاصة بي ‪ ،‬ثم بعد تفكير‬
‫إضافي طفيف ‪ ،‬بدأت أخّط فكرة لتفريغ الماء آلًّيا من بطن سفينة مقاتلة في أثناء عملها ‪،‬‬
‫طريقة ال تتطلب جهود نصف الطاقم‪ .‬كانت قائمة على مبدأ دالء الشادوف نفسه ‪ ،‬ورأيُت أن‬
‫رجلين قد يشغالنها بداًل من دزينة يحملون الدالء ‪ ،‬كما‬
‫‪.‬الحال الآن‬
‫هي‬
‫عندما أتممت المخطط ‪ ،‬رحُت أتأمل في التصادم الذي سبب العطب الأصلي‪ .‬تاريخيا ‪ ،‬لطالما‬
‫كانت التكتيكات المستخدمة في المعارك بين أسراب القوادس النهرية هي تكتيكات االشتباكات‬
‫البرية نفسها ‪ ،‬إذ تتراصف السفن جنبا إلى جنب ويتبادل المحاربون رشقات السهام ‪ ،‬ثم‬
‫تتراص فيشتبكون ويركبون وينهون الأمر بالسيوف ودائًما ما كان القباطنة حريصين على تالفي‬
‫التصادم ‪ ،‬إذ ُيعد ذلك إهماال في المالحة‪ .‬فكرُت فجأة‪ « :‬لكن ماذا لو‪ ، » ...‬وبدأت أرسم‬
‫مخططا لقادس بجؤجؤ مسلح ‪ ،‬وحالما ترسخت الفكرة ‪ ،‬أضفت عند مستوى سطح الماء قرنا شبيها‬
‫بقرن الخرتيت ‪ ،‬يمكن نحته من الخشب الصلب ولفه بالبرونز ‪ ،‬وإذا ما كان موجها إلى‬
‫الأمام وقليال إلى الأسفل ‪ ،‬فيمكنه اختراق بدن مركبة مقابلة وتمزيق بطنها‪ .‬كنت مستغرًقا‬
‫إلى درجة أنني لم أسمع تانوس يقترب من خلفي ‪ ،‬ثم اختطف لفيفة البردي مني وراح يدرسها‬
‫بنهم‪ .‬فهم من فوره بالطبع ما كنُت بصدده ‪ ،‬فعندما خسر أبوه ثروته ‪ ،‬حاولت بكل ما في‬
‫وسعي إيجاد سيد ثري يرعاه وُيدخله أحد المعابد بصفة نساخ مبتدئ ‪ ،‬حيث يكمل دراساته‬
‫وتعليمه ‪ ،‬إذ آمنُت بحق أنه وبإرشادي‪ -‬يتمتع بكل الإمكانيات الالزمة ليتطور إلى أحد‬
‫أعظم عقول مصر ‪ ،‬وربما يصير في‬
‫‪24‬‬

‫زمن ما اسًما يصطُف إلى جانب اسم إمحوتب ( ‪ )1‬الذي صمم‪ -‬قبل ألف تلك الأهرامات الأولى‬
‫‪.‬المدهشة في سقارة‬
‫‪-‬عام‬
‫لم أنجح ‪ ،‬وهذا طبيعي ليس إال ‪ ،‬ذلك أن العدو الذي دمر حقده وكيده أبا تانوس اعتزم‬
‫اعتراض طريق تانوس نفسه‪ .‬لم يكن ثمة رجل فوق الأرض يمكنه التغلب على نفوذ مهلك كهذا ‪،‬‬
‫لذا بدال من ذلك ساعدت تانوس على االنضمام إلى الجيش‪ .‬وعلى الرغم من خيبة أملي‬
‫وهواجسي ‪ ،‬فقد كان هذا السلك خياره الشخصي منذ وقف منتصبا للمرة الأولى وحمل سيفا‬
‫خشبيا في وجه الأطفال الآخرين في ساحة اللعب‪ .‬هتف مدهوشا وهو يتفحص رسوماتي‪ :‬بحق‬
‫الدمامل على أليتي ست ( ‪ )2‬أنت وريشة التصميم الخاصة بك تعادالن عشرة أسراب كاملة في‬
‫نظري! »‪ .‬دائما ما يفزعني تجديف تانوس العرضي باسم الإله العظيم ست ‪ ،‬فرغم أن كلينا‬
‫من أتباع حورس ‪ ،‬فما زلت ال أعتقد بالإساءة الصارخة لأي عضو من مجمع الآلهة المصرية ‪،‬‬
‫وعن نفسي ‪ ،‬فال أمُّر بمقام من دون أن أصلي وأقدم أضحية صغيرة ‪ ،‬مهما كان الإله الذي‬
‫يسكن فيه متواضعا أو ثانويا‪ .‬وهذا‪-‬في رأيي‪ -‬تعقل بسيط وضمان جيد ‪ ،‬فللمرء أعداء كافون‬
‫بين بني البشر من دون أن يبحث عمًدا عن غيرهم بين الآلهة وإنني متذلل لست على وجه‬
‫الخصوص ‪ ،‬ذلك أن سمعته الرهيبة ترعبني ‪ ،‬وأشك أن تانوس يعرف كل ذلك ويستمر بتجديفه‬
‫عمًدا ليعابثني على أي حال ‪ ،‬سرعان ما ضاع انزعاجي في وهج ثنائه الحار‪ .‬سألني ُملًكا‪« :‬‬
‫كيف تفعل هذا ؟ أنا الجندي ‪ ،‬ورأيُت اليوم كل ما رأيته ‪ِ ،‬لَم‬
‫‪َ ».‬لْم تمر في بالي هذه الفكرة ؟‬
‫غرقنا من فورنا في نقاش وقاد عن تصاميمي ‪ ،‬وبالطبع ‪ ،‬لم يكن من الممكن إقصاء لوستريس‬
‫طويال ‪ ،‬فجاءت لتنضم إلينا‪ .‬كانت جاريتاها قد جففتا شعرها وأعادتا جدله وهذبتا‬
‫تبرجها ‪ ،‬فصار بهاؤها مشتتا للألباب ‪ ،‬ال سيما أنها وقفت بجواري وأسدلت غير عابئة‬
‫ذراًعا هيفاء فوق كتفي‪ .‬لم تكن لتلمس رجاًل بهذه الصيغة في العلن أبًدا ‪ ،‬فذلك ينتهك حدود‬
‫الأعراف والعفة‪ )1 ( .‬إمحوتب باني هرم زوسر المدرج ‪ ،‬وأول مهندس معماري وطبيب في‬
‫التاريخ ‪ ،‬وأشهر مهندسي مصر القديمة‪ .‬رفع إلى درجة معبود بعد وفاته وصار إله الطب‪.‬‬
‫( المترجم)‪ )2 ( .‬ست إله الصحراء والعواصف والأجانب في الديانة المصرية القديمة ‪،‬‬
‫‪.‬وصار في الأساطير الالحقة إله الظالم والفوضى كذلك‪ ( .‬المترجم)‬
‫‪25‬‬

‫لكنني من ناحية أخرى لسُت رجاًل ‪ ،‬ورغم أنها اتكأت علي ‪ ،‬فلم تفارق عيناها وجه تانوس َقُّط‪.‬‬
‫يرجع استغراقها فيه إلى وقِت تعُّلمها المشي‪ .‬كانت تتعثر بإعجاب خلف تانوس المهيب ذي‬
‫السنوات العشر ‪ ،‬محاولًة بإخالص محاكاة كل إشارة أو إيماءة تصدر عنه‪ .‬إذا ما بَصق بصقت ‪،‬‬
‫وإذا ما تلفظ بشتيمة تلفظت الثغة بها نفسها ‪ ،‬حتى اشتكى إلَّي بمرارة‪ :‬أيمكنك حملها على‬
‫تركي وشأني يا تايتا ؟ إنها محض طفلة » ‪ ،‬لكنه ال يبدي الكثير من التذمر الآن‪ .‬قاطعنا‬
‫أخيًرا هتاف أطلقه الراصد في الجؤجؤ ‪ ،‬فهرعنا إلى الأمام ورحنا نحدق بفارغ الصبر إلى‬
‫أرجاء البحيرة أخذت جثة أول فرس نهر تطفو على السطح ؛ ظهر بطنها أوال ‪ ،‬ذلك أن الغازات‬
‫في أمعائها تمددت ونفخت الأحشاء كنفاخة ( ‪ )1‬طفل مصنوعة من مثانة معزة ‪ ،‬ثم جعلت تهتز‬
‫على سطح الماء وأطرافها كلها ممدودة متخشبة ‪ ،‬وأسرع أحد القوادس إليها ليستردها‪.‬‬
‫اندفع بحار متسلقا الجثة وربط حبال بإحدى أرجلها ‪ ،‬وحالما تم ذلك ‪َ ،‬قَطَرُه القادس إلى‬
‫الشاطئ البعيد‪ .‬بدأت الجثث الضخمة تظهر في كل مكان من حولنا ‪ ،‬وأخذت القوادس تجمعها‬
‫وتنطلق بها بعيًدا ربط تانوس اثنتين منها إلى َمَرَسة ( ‪ )2‬كوثلنا وانكب المجدفون على‬
‫مجاديفهم بكل قوتهم ليجُّروها عبر الماء‪ .‬عندما اقتربنا من الشاطئ ‪ ،‬ظَّلْلُت عيني تحت أشعة‬
‫الشمس المائلة ورحت أحدق أمامنا بدا أن كل رجل وامرأة وطفل في مصر العليا ينتظر على‬
‫الضفة ‪ ،‬إذ حضر جمع غفير ‪ ،‬وأخذوا يرقصون ويغنون ويلوحون بسعف النخيل مرحبين بالأسطول‬
‫المقبل ‪ ،‬كأن الحركة المضطربة لأثوابهم البيضاء موجات نو تتكسر على حافة البحيرة‬
‫الرائقة‪ .‬حالما اصطفت القوادس كلها بمحاذاة ‪ ،‬الضفة خاضت فرق من رجال ال يلبسون إال‬
‫أقصر الوزرات في الماء حتى باطهم ليوثقوا الحبال بالجثث المنتفخة ‪ ،‬وغفلوا في لجة‬
‫حماستهم عن التهديد القائم دائما بوجود تماسيح في المياه الخضراء الكمداء تفترس هذه‬
‫التنانين الكاسرة مئات البشر ( ‪ )1‬الُّنَّفاَخُة‪ :‬لعبة للأطفال َمَّطاطٌة ينفخون فيها فتنتفخ‪( .‬‬
‫‪.‬المترجم)‪ )2 ( .‬الَمَرَسة‪ :‬الحبل ‪ ،‬وأمراس المركب أطنابه أو حباله ( المترجم)‬
‫‪26‬‬

‫كل عام ‪ ،‬وتبلغ بها الجسارة أحيانا أن تهاجم اليابسة وتقبض على طفل يلعب قرب حافة‬
‫المياه أو فالحة تغسل المالبس أو تجلب الماء لعائلتها‪ .‬لكن هؤالء الناس الآن ‪ ،‬وفي خضم‬
‫الجوع العظيم للحم الذي استبد بهم ‪ ،‬لم يكونوا مهتمين إال بشيء واحد ‪ ،‬فقبضوا على‬
‫الحبال وطفقوا يجرون الجثث إلى الشاطئ‪ .‬وعندما انزلقت إلى الضفة الموحلة أبطأت عشرات‬
‫الأسماك الفضية الضئيلة التي كانت تقصُف على الجراح المفتوحة في إرخاء قبضتها وسحبت مع‬
‫الجثث ‪ ،‬فتبعثرت على أوحال الضفة وأخذت تتخبط وترتعش مثل نجوم سقطت على الأرض‪ .‬تزاحم‬
‫رجال ونساء يحملون سكاكين أو فؤوًسا تزاحم النمل على الجثث‪ .‬وفي هذيان طمعهم ‪ ،‬أخذ‬
‫بعضهم يعوي ويزمجر على بعض كالنسور والضباع حول صيدة أسد ‪ ،‬بينما يتنازعون على كل‬
‫قطعة جيدة من اللحم ينهالون على الجثث الهائلة تقطيًعا ‪ ،‬وتتطاير الدماء وشظايا العظام‬
‫في جداول من النصال الُمعَمَلة َفرًما وتقديًدا‪ .‬اصطفت أمام المعبد في ذلك المساء طوابير‬
‫طويلة من الجرحى المنتظرين معالجة الكهنة لأصابعهم المبتورة وجراحهم التي بلغت العظام‬
‫حيث انسلت النصال المستهترة‪ .‬وأنا انشغلت نصف الليلة أيًضا ‪ ،‬ذلك أن لي في بعض الأوساط‬
‫سمعة طبيب معالج تفوق سمعة كهنة أوزيريس حتى ‪ ،‬وال بد لي من االعتراف بكل تواضع أن هذه‬
‫السمعة مستحقة تماًما ‪ ،‬ويعلم حورس أن أجوري معقولة أكثر بكثير من أجور رجال الدين‪.‬‬
‫ولأن موالي إنتف يسمح لي باالحتفاظ بثلث ما أكسبه لنفسي ‪ ،‬صرت رجال يتمتع ببعض الثروة ‪،‬‬
‫بصرف النظر عن مكانتي العبدية‪ .‬وقفت على برج كوثل أنفاس حورس أشاهد مسرحية الهشاشة‬
‫البشرية الصامتة التي تجري تحتي‪ .‬عادة ما ُيسمح للعوام بملء بطونهم من لحوم الصيد على‬
‫صدر الشاطئ ‪ ،‬شريطة أن ال ُيحمل شيء من الغنائم إلى مكان آخر‪ .‬وبمعيشتنا على هذه الأرض‬
‫الوارفة التي يخصبها النهر العظيم ويرويها ‪ ،‬يتغذى شعبنا خير تغذية ‪ ،‬لكن النظام‬
‫الغذائي الثابت للطبقات الفقيرة هو الحبوب ‪ ،‬وقد تمُّر شهور بين آخر قضمة لحم قضموها‬
‫وتاليتها‪ .‬إضافة إلى ذلك ‪ ،‬كان االحتفال وقًتا ُتنَّحى فيه كل الضوابط االعتيادية للحياة‬
‫اليومية جانبا ‪ ،‬وُتمنح رخصة بالتمادي في كل الحاجات الجسمانية ‪ ،‬الأكل والشرب والشغف‬
‫الشهواني‪ .‬سيمتلئ الصباح بالبطون الأليمة‬
‫في‬
‫‪27‬‬

‫والرؤوس المصدوعة واالتهامات الزوجية ‪ ،‬لكنه اليوم الأول من المهرجان وليس ثمة من رادع‬
‫لأي اشتهاء‪ .‬ابتسمُت وأنا أراقب أما عارية حتى خصرها ومكسوة من رأسها إلى أخمص قدميها‬
‫بالدم والشحم ‪ ،‬تخرج من تجويف بطن فرس نهر قابضة على كتلة سيالة من كبده وترميها إلى‬
‫أحد سالتها في جمهرة الأطفال المتدافعين الزاعقين المحيطين بالجثة ‪ ،‬ثم بينما غطست‬
‫عائدة إلى جوف الوحش انطلق الطفل قابًضا على جائزته إلى إحدى مئات نيران الطبخ‬
‫المشتعلة على الشاطئ‪ .‬كان له أخ أكبر انتزع قطعة الكبد منه وألقاها على الجمر ‪ ،‬في‬
‫حين تزاحمت في الأمام زمرة من قنافذ البحر الصغيرة نافدة الصبر تريل كالجراء‪ .‬التقط‬
‫الطفل الأكبر الكبد‪ -‬الذي بالكاد لفحته النار‪ -‬بغصن أخضر ‪ ،‬وانهال عليه إخوته وأخواته‬
‫فالتهموه ‪ ،‬وحالما استهلك راحوا ينبحون طالبين المزيد ‪ ،‬والدهن والعصارة تسيل على‬
‫وجوههم وتقطر من ذقونهم من المرجح أن الصغار لم يتذوقوا لحم أبقار النهر الشهي من‬
‫قبل‪ .‬إنه لذيذ وغض وناعم الملمس ‪ ،‬لكن شحمه أهم ما فيه ‪ ،‬إذ إنه أغزر شحًما من لحم‬
‫الأبقار أو الحمير البرية المخططة ‪ ،‬ولب عظامه له لذٌة حَّقة تليق بالإله العظيم أوزيريس‬
‫نفسه‪ .‬كان شعبنا يتضور جوًعا للشحم الحيواني ‪ ،‬وقد أصابهم مذاقه بالجنون ‪ ،‬فأصابوا‬
‫أنفسهم بالتخمة ‪ ،‬وهذا حقهم في هذا اليوم‪ .‬كنت قانعا باالنعزال عن هذه الغوغاء الخليعة‬
‫‪ ،‬وسعيًدا بمعرفتي أن ُحَّجاب موالي إنتف سيؤمنون أحسن قطع اللحم وألباب العظام لمطابخ‬
‫القصر حيث سيجهز الطباخون طبقي الخاص أحسن تجهيز إن أفضليتي في أسرة الوزير تفوق‬
‫الآخرين جميعهم ‪ ،‬حتى القهرمان ( ‪ )1‬أو قائد حرسه الشخصي ‪ ،‬وكالهما من الأحرار‪ .‬بالطبع‬
‫‪ ،‬ال ُيحكى في الأمر جهاًرا أبدا ‪ ،‬لكن يعترف الجميع ضمنًيا بمنصبي الممتاز والمتفوق ‪،‬‬
‫‪.‬وقلة منهم تجرؤ على تحديه‬
‫رحت‬
‫أشاهد الحجاب ينطلقون الحصاد حصة موالي الحاكم والوزير الأعظم لُكَور ( ‪ )2‬مصر العليا‬
‫االثنتين والعشرين كلها‪ .‬أخذوا يلوحون بهراواتهم ( ‪ .)1‬القهرمان‪ :‬القائم والوكيل‬
‫والحافظ لما تحت يده وهي كلمة فارسية تعني أمين الملك أو القائم بأمور الرجل‪.‬‬
‫( المترجم)‪ )2 ( .‬كورة جمعها ُكَور ‪ ،‬لفظة عربية اسُتخدمت بعد دخول العرب إلى مصر‬
‫للتعبير عن المقاطعة أو الإقليم ( وكانت اللفظة الإغريقية المستخدمة قبال نوم)‬
‫‪ (.‬المترجم)‬
‫‪28‬‬

‫بخبرتهم المولودة من طول الممارسة ضاربين أي ظهر باد أو زوج أرداف عارية تضع نفسها‬
‫موضع الهدف في حين يصيحون بمطالبهم‪ .‬كانت أسنان أفراس النهر العاجية ملًكا للوزير ‪،‬‬
‫وجمعها الحجاب كلها بال استثناء ‪ ،‬فقيمتها تعادل قيمة أنياب الفيلة التي تجلبها‬
‫التجارة من أراضي كوش وراء الجنادل ‪ ،‬ذلك أن آخر فيل في مصرنا ُقِتَل قبل ألف عام تقريًبا‬
‫‪ ،‬في عهد أحد فراعنة الأسرة الرابعة ‪ ،‬أو هذا ما تتبجح به النصوص الهيروغليفية على‬
‫ألواح معبده‪ .‬بطبيعة الحال ‪ ،‬كان ُمنتظًرا من موالي أن يمنح ُعشر جنى الصيد لكهنة حابي ‪،‬‬
‫لأنهم الرعاة االعتباريون لقطيع أبقار النهر الخاص بالإلهة ‪ ،‬غير أن تحديد مقدار هذا‬
‫الُعشر بيد سيدي ‪ ،‬وعرفت ‪ ،‬وأنا المسؤول العام عن حسابات القصر ‪ ،‬أين سينتهي الأمر‬
‫بحصة الأسد من الكنز ‪ ،‬فموالي إنتف ال يتمادى في سخاء غير ضروري ‪ ،‬حتى في سبيل إلهة‪.‬‬
‫أما عن جلود أفراس النهر ‪ ،‬فهي ملك للجيش ُتصنع منها الدروع الحربية لضباط أفواج الحرس‬
‫‪ ،.‬لذا أشرف ضباط إمداد الجيش على سلخها ومعالجتها ‪ ،‬وكانت كل منها بحجم خيمة بدوية‬
‫تانوس‬
‫وعن اللحوم التي لم ُتستهلك على الضفة ‪ ،‬فُتخَّلل في ماء مالح أو ُتدخن أو ُتجفف ‪ ،‬وُيزعم‬
‫أنها ُتخصص لإطعام الجيش ورجال المحاكم والمعابد وغيرهم من الموظفين المدنيين في‬
‫الدولة ‪ ،‬لكن ما يجري عمليا هو أن جزًءا كبيًرا منها ُيباع سًّرا ‪ ،‬وتتسَّرب العائدات بصورة‬
‫طبيعية تماًما إلى خزائن سيدي ‪ ،‬فكما قلت سابقا ‪ ،‬سيدي أثرى الرجال في المملكة العليا‬
‫بعد الفرعون نفسه ‪ ،‬ويزداد ثراء كل يوم‪ .‬اندلعت قلقلة جديدة من خلفي واستدرت بسرعة‬
‫لأرى أن سرب ال يزال قيد العمل ‪ ،‬إذ اصطفت القوادس في تشكيلة المعركة ‪ ،‬كوثال يحاذي‬
‫الكوثل موازية خط الشاطئ لكنها بعيدة عنه خمسين خطوة عند حافة المياه العميقة ‪،‬‬
‫وانتصب على سور كل منها رماة الحرابين ( ‪ )1‬بأسلحة مستعدة وموجهة إلى سطح البحيرة‪.‬‬
‫فقد جذبت رائحة الدم وبقايا الذبائح التماسيح ‪ ،‬وليس من جميع أرجاء البحيرة وحسب ‪ ،‬بل‬
‫من مسافة بعيدة تبلغ المجرى الرئيس للنيل ‪ ،‬وجاءت متزاحمة إلى الوليمة‪ .‬كان رماة‬
‫الحرابين ينتظرونها ‪ ،‬وكل جذع حربون مزود ( ‪ )1‬الحربون‪ :‬سالح يتكون من رمح ُزِّود رأسه‬
‫بخَّطافات أو كالبات لمنعه من االنسالل من الفريسة بعد ضربها ‪ ،‬ويستخدم في الصيد البحري‬
‫‪ (.‬المترجم)‬
‫‪29‬‬
‫برأس برونزي صغير نسبًّيا له أسنان ضارية ‪ ،‬وفي الرأس المعدني حبل كتان قوي معقود في‬
‫عقدة متينة‪ .‬ولرماة الحرابين أوالء مهارة مثيرة للإعجاب حًقا ‪ ،‬فعندما تأتي إحدى تلك‬
‫العظاءات المحرشفة منسلة عبر المياه الخضراء ‪ ،‬ترفرف بذيلها العظيم الُمتّوج ‪ ،‬وتسبح‬
‫كشبح طويل داكن صامت قاتل تحت سطح الماء ‪ ،‬يكون الرامي في انتظارها ‪ ،‬فيتركها تمُّر من‬
‫تحت القادس ‪ ،‬ثم عندما تلوح من الطرف الآخر وبدن السفينة يحجب حركته عنها ‪ ،‬ينحني من‬
‫فوق البدن ويطعنها‪ .‬وال تكون طعنة عنيفة ‪ ،‬بل أقرب إلى وكزة دقيقة بعصا طويلة ‪ ،‬ذلك أن‬
‫الرأس البرونزي حاد كإبرة الجَّراح ‪ ،‬وُيغرس بكامل طوله عميًقا تحت الجلد الثخين المحرشف‬
‫للزاحف‪ .‬كان الرماة يصِّوبون إلى قفا العنق ‪ ،‬وكانت هذه الطعنات تبلغ من المهارة أن‬
‫العديد منها يثقب الحبل الشوكي ويقتل المخلوق‬
‫‪.‬مباشرة‬
‫لكن عندما تخطئ ضربة هدفها ‪ ،‬يتفجر الماء مع تفجر التمساح الجريح في تشنجات عنيفة ‪،‬‬
‫فُتبرم عصا الحربون وينفصل الرأس المعدني عنها ليبقى مغروًسا في عنق الزاحف المدرع‪ .‬ثم‬
‫يشد أربعة رجال حبل الكتان ليسيطروا على تلوياته ‪ ،‬وإذا ما كان التمساح ضخما‪ -‬وبعضهم‬
‫يبلغ أربعة أضعاف طول رجل متمدد على الأرض تنطلق الحبال من البكرات مدخنة إثر‬
‫احتكاكها بحافة المركب ‪ ،‬حارقة راحات الرجال الذين يحاولون إمساكها‪ .‬عندما حدث ذلك ‪،‬‬
‫توقفت حتى الحشود الجائعة على الشاطئ برهة لتهلل وتصيح بعبارات التشجيع ولتشاهد‬
‫الصراع حيث إما يخضع التمساح في آخر الأمر وإما ينفلت الحبل مثل َجلدة سوط ُمسقطا‬
‫البحارة على أعقابهم فوق السفينة‪ .‬كان حبل الكتان المتين يصمد في أغلب الأحيان ‪،‬‬
‫فحالما يتمكن أفراد الطاقم من تدوير رأس الزاحف ناحيتهم ‪ ،‬يصير عاجزا عن السباحة‬
‫باتجاه المياه العميقة‪ .‬ثم يمكنهم جره في معمعة من المياه المزبدة البيضاء إلى جانب‬
‫السفينة حيث تنتظره جماعة أخرى تحمل النبابيت لتحطم جمجمته الصلبة كالصخر‪ .‬وقتما ُسحبت‬
‫جثث التماسيح إلى الضفة ‪ ،‬ذهبت لأعاينها ‪ ،‬وكان دباغو فوج تانوس قد باشروا عملهم‬
‫بالفعل‪ .‬كان جد ملكنا الحالي من منح الفوج لقب « حرس التمساح الأزرق » التعظيمي وأسبغ‬
‫عليه لواء التمساح الأزرق ‪ ،‬وكانت دروع أجساد عناصره‬
‫‪30‬‬

‫‪2‬‬
‫ُتصنع من الجلود المقّرنة لهذه التنانين التي تبلغ من الصالدة بعد أن ُتعالج وُتملح كما‬
‫يجب أن تصَّد سهًما أو ترَّد طعنة سيف عدو‪ .‬ووزنها أخُف ‪ -‬بكثير من المعدن ‪ ،‬ولبسها تحت شمس‬
‫الصحراء أبرد بكثير‪ .‬وكانت رؤية تانوس في خوذته المصنوعة من جلد التمساح والمزينة‬
‫بريش النعام وصدارته المصوغة من الجلد نفسه ‪ ،‬المصقولة والمتألقة بُزهيرات برونزية‬
‫تجعل الرعب يدُّب في قلب أي عدو ‪ ،‬أو التشنج في بطن أي عذراء تنظر إليه‪ .‬وبينما أقيس‬
‫وأدون أطوال الجثث وحجومها ‪ ،‬وأراقب الدباغين يعملون ‪ ،‬لم أشعر بأقل تعاطف خاطف حتى‬
‫ناحية هذه الوحوش القبيحة كما شعرت ناحية أبقار النهر الذبيحة ‪ ،‬ففي رأيي ‪ ،‬ال يوجد‬
‫وحش في الطبيعة أشنع من التمساح ‪ ،‬مع احتمال استثناء الأفعى السامة‪ .‬زاد حقدي مئة ضعف‬
‫عندما شّق دَّباُغ بطن أحد أضخم هذه الحيوانات المشّوهة ‪ ،‬وانزلقت منه إلى الطين بقايا‬
‫مهضومة جزئيا لبنت صغيرة‪ .‬كان التمساح قد ابتلع النصف العلوي من جسدها كامال ‪ ،‬من‬
‫الخصر فأعلى ‪ ،‬ورغم أن اللحم قد ابيض واستحال رخوا ناصل اللون بفعل العصارات‬
‫الهاضمة ‪ ،‬وبدأ باالنسالخ عن جمجمتها كانت قنزعة البنت ال تزال سليمة ومضفورة وملفوفة‬
‫بعناية فوق وجهها الُمخيف الَخِرب ولإضافة لمسة رهيبة أخرى ‪ ،‬كان ثمة قالدة حول حلقها‬
‫وأساور جميلة من الخزر الخزفي الأزرق والأحمر حول معصميها العظميين‪ .‬ولم تكد هذه‬
‫الجثة الُمرِّوعة تنكشف حتى صدحت زعقة مدوية وفاطرة للفؤاد حد أنها اخترقت اصطخاب الجموع‬
‫‪ ،‬وشّقت امرأة طريقها بين الجنود دافعة إياهم في انطالقها لتنهار على ركبتيها بجوار‬
‫الرفات التعسة ‪ ،‬ثم مزقت مالبسها وراحت تندب بولولة التفجع الُمفزعة‪ « .‬ابنتي فتاتي‬
‫الصغيرة »‪ .‬كانت المرأة نفسها التي جاءت إلى القصر في اليوم السابق لتبلغ عن فقدان‬
‫ابنتها ‪ ،‬فأخبرها المسؤولون أن الطفلة على الأرجح قد اختطفت في سوق النخاسة بأيدي‬
‫إحدى عصابات قطاع الطرق التي تروع الريف‪ .‬كانت هذه العصابات قد صارت ذات بأس في البالد‬
‫‪ ،‬تجري أعمال سلبها‬
‫وبيعت‬
‫ونهبها العاصية بوقاحة في وضح النهار وصوال إلى بوابات المدن‪ .‬ونبه مسؤولو القصر‬
‫المرأة إلى أنه ال شيء يمكنهم فعله السترداد ابنتها ‪ ،‬ذلك أن العصابات خارج أي سلطان‬
‫‪.‬تملكه الدولة‬
‫‪31‬‬

‫مع‬
‫تبين هذه المرة أن هذا التكهن الأليم عار عن الصحة ‪ ،‬إذ تعرفت الأم على الُحلي التي ما‬
‫زالت تزين الجثمان الضئيل المحزن‪ .‬ذاب قلبي تعاطفا الأم الثكلى ‪ ،‬وأرسلت جارية لتجلب‬
‫جرة خمر فارغة‪ .‬ورغم أن المرأة وابنتها غريبتان عني ‪ ،‬بينما عجزت عن منع عينَّي أن‬
‫تجودا بالدمع كنت أساعدها على جمع البقايا ووضعها في الجرة لدفنها دفنا الئًقا‪ .‬عندما‬
‫مضت تترنح بعيًدا بين الحشود المعربدة غير المهتمة ‪ ،‬حاملة الجرة مضمومة إلى صدرها ‪،‬‬
‫تفَّكرُت في أنه ‪ ،‬وبصرف النظر عن كل الطقوس والصلوات التي ستبذلها الأم في سبيل‬
‫ابنتها ‪ ،‬وحتى في الحالة بعيدة االحتمال إذ يمكنها تحُّمل الكلفة الصاعقة لأكثر عمليات‬
‫التحنيط بدائية ‪ ،‬لن تتمكن الطفلة من بلوغ الخلود في الحياة الآخرة أبًدا ‪ ،‬فليتحقق‬
‫ذلك ‪ ،‬يجب أن‬
‫روح‬
‫تكون الجثة سليمة وكاملة قبل التحنيط‪ .‬كانت كل مشاعري مشغولة بالأم المنكوبة ‪ ،‬فمن‬
‫نقاط ضعفي أنني كثير التفجع ‪ ،‬حتى إنني أحمل على عاتقي هموم كل بائس يعبر طريقي‬
‫بأحزانه كان من الأسهل لو أن لي قلبا أقسى وعقلية أكثر كلبية ( ‪ .)1‬وكما يحدث دائما‬
‫عندما ينتابني الحزن أو الكرب ‪ ،‬تناولت ريشتي ولفيفتي وبدأت بتدوين كل ما يجري من‬
‫حولي ‪ ،‬كل شيء من رماة الحرابين ‪ ،‬والأم المفجوعة ‪ ،‬وسلخ أبقار النهر والتماسيح‬
‫وقصابتها على الشاطئ ‪ ،‬إلى السلوك السائب للرعاع القاصفين المعربدين‪ .‬كان أولئك الذين‬
‫حشوا لحًما وأتخموا جعًة يشخرون حيث سقطوا ‪ ،‬ذاهلين عن ركل الذين ما زالوا قادرين على‬
‫االستواء لهم ودوسهم عليهم‪ .‬أما الأصغر سنا والأكثر مجوًنا فأخذوا يرقصون ويتعانقون‬
‫ويستغلون الظالم الآخذ في الهبوط والغطاء الهزيل للشجيرات القليلة وأحواض البردي‬
‫المدوسة ليستروا تناكحهم السافر‪ .‬كان هذا السلوك الخليع محض عرض من أعراض الضائقة‬
‫التي نزلت بالبالد كلها ‪ ،‬وما كانت الحال لتبلغ هذا المبلغ لو ثمة فرعون قوي وإدارة‬
‫أخالقية وسوية في كورة طيبة العظمى ‪ ،‬فالعامة يمتثلون لمن يعلونهم‪ .‬لكنني أخذت أدون‬
‫بأمانة رغم استنكاري الشديد للأمر ‪ ،‬وهكذا مرت ساعة سريعة وأنا جالس مترّبع ومستغرق‬
‫تماًما فوق مؤخرة متن أنفاس حورس ‪ ،‬أخريش وأخطط ‪ ،‬حتى غطست الشمُس وبدأت تخمد نفسها في‬
‫النهر العظيم ‪ )1 ( ،‬الكلبية أو الفلسفة التشاؤمية ‪ ،‬مذهب فلسفي أسسه الفيلسوف‬
‫أنتيستنيس في القرن الرابع ق‪.‬م ‪ ،‬والتشاؤميون ال يثقون بوجود الخير في الطبيعة البشرية‬
‫‪ (.‬المترجم)‬
‫‪32‬‬

‫تاركة بريًقا نحاسًّيا على الماء ووهجا دخانًيا في سماء الغرب كما لو أنها أضرمت النار في‬
‫أحواض البردي‪ .‬كانت الحشود على الشاطئ تزداد خشونة وجموًحا أكثر فأكثر ‪ ،‬ونشط عمل‬
‫العاهرات راقبت كاهنة بدينة ووقور ‪ ،‬تلبس حرز دعوتها على جبهتها ‪ ،‬وتقود بحاًرا نحيال‬
‫بنصف حجمها من أحد القوادس إلى الظالل خلف ضوء النار‪ .‬أسقطت هناك ثوبها وهبطت على‬
‫ركبتيها في التراب ‪ ،‬معطية إياه زوجا مرتبا من الأرداف الضخمة ‪ ،‬فأطلق صديقنا الضئيل‬
‫صيحة فرحة واعتالها ككلب يعتلي كلبته‪ .‬بدأت برسم عجائب سلوكهم ‪ ،‬لكَّن الضوء تالشى سريعا‬
‫واضطررت إلى التوقف لذاك اليوم‪ .‬حالما نحيت اللفيفة جانًبا ‪ ،‬أدركُت ُمجفال أنني لم أر‬
‫موالتي من قبل حادثة الطفلة الميتة ‪ ،‬ووثبُت واقًفا في نوبة ذعر‪ .‬كيف وسعني أن أكون على‬
‫هذا القدر من الإهمال ؟ لقد تربت موالتي تربية صارمة ‪ ،‬تحت إشرافي ‪ ،‬وكبرت طفلة صالحة‬
‫وخلوق ‪ ،‬مدركة تمام الإدراك الواجبات وااللتزامات التي فرضتها الأعراف والقوانين عليها‬
‫‪ ،‬ومدركة كذلك شرف العائلة الرفيعة التي تنتمي إليها ‪ ،‬ومكانتها في المجتمع‪ .‬وفوق ذلك‬
‫‪ ،‬كانت تهاب سطوة أبيها وانفعاله بقدر ما أهابها ؛ فبالطبع وثقت بها‪ .‬وثقت بها بقدر‬
‫ما كنُت لأثق بأي شابة أخرى قوية العزيمة في فورة أنوثتها الشهوانية الأولى في ليلة‬
‫كهذه ‪ ،‬وهي وحيدة في هذه الظلمة مع الجندي الوسيم الذي يضاهيها شهوانية والذي افتتنت‬
‫به أتم االفتتان‪ .‬لم يكن فزعي على بتولة موالتي الهشة التميمة السماوية التي قلما ُتندب‬
‫بعد أن ُتفقد بقدر ما كان على خطر الأذى الأشّد الذي سيحيق بجلدي‪ .‬ذلك أننا سنرجع في‬
‫الصباح إلى الكرنك وقصر سيدي إنتف ‪ ،‬حيث سيعج المكان بالألسنة الثرثارة التي ستنقل‬
‫حكاية أي زلة أو رعونة اقترفها أي منا إليه‪ .‬جواسيس موالي يتخللون كل طبقة من طبقات‬
‫المجتمع وكل زاوية من زوايا الأرض من أحواض السفن والحقول إلى قصر الفرعون نفسه‪.‬‬
‫كانوا أكثر عدًدا من جواسيسي حتى ذلك أنه يملك أموااًل أكثر ليدفع لعمالئه ‪ ،‬رغم أن‬
‫العديد منهم خدم كلينا بنزاهة وتشابكت شبكاتنا في مستويات عديدة‪ .‬وإن ألحقت لوستريس‬
‫العار بنا كلنا أبيها وعائلتها وأنا معلمها وراعيها فسيعرف موالي إنتف بذلك في‬
‫‪.‬الصباح ‪ ،‬وسأعرف أيًضا‬
‫‪33‬‬

‫عدوُت من أقصى السفينة إلى أقصاها باحًثا عنها ‪ ،‬ثم تسلقُت برج الكوثل ومسحت الشاطئ‬
‫بعيني في حال من اليأس ‪ ،‬فلم أر أثًرا لها أو لتانوس ‪ ،‬واستحث ذلك أسوأ مخاوفي‪ .‬لم‬
‫أعرف من أين أبدأ البحث عنهما في هذه الليلة المسعورة ‪ ،‬وانتبهُت إلى نفسي أعتصر يدي‬
‫من ألم الإحباط ‪ ،‬فكففت عن ذلك من فوري‪ .‬دائما ما أبذل جهوًدا مضنية لتالفي أي مظهر من‬
‫مظاهر الخنوثة ‪ ،‬إذ إنني أمقت كثير المقت تلك المخلوقات البدينة المزهوة المخادعة‬
‫‪.‬التي عانت البتر الذي عانيته ودائما ما أحاول التصرف كرجل بدال من خصي‬
‫تأملت‬
‫سيطرت على نفسي بجهد وتصَّنعُت السحنة الباردة العازمة التي رأيتها على مالمح تانوس في‬
‫وطيس المعركة ‪ ،‬وعندئذ استعدُت حصافتي وُعدُت عقالنيا من جديد‪ .‬في السلوك المحتمل‬
‫لموالتي ‪ ،‬ذلك أنني أعرفها معرفة حميمية بالطبع ‪ ،‬وقد دَرسُتها لأربعة عشر عاما برغم كل‬
‫شيء‪ .‬تبَّينُت أنها أنيقة جدا ومدركة لرتبتها النبيلة بوقاحة تمنعها من االختالط بالجموع‬
‫الثملة الفظة على الشاطئ ‪ ،‬أو من االنسالل بعيًدا إلى الشجيرات لتلعب لعبة الوحش ذي‬
‫الظهرين كما شاهدُت البحار والعاهرة العجوز السمينة يفعالن وعرفُت أنني عاجز عن نداء أحد‬
‫سواي ليساعدني في بحثي ‪ ،‬فذلك سيضمن أن يسمع موالي إنتف بكل القصة ‪ ،‬لذا كان لزاما علي‬
‫البحث بنفسي‪ .‬إلى أي مكان خفّي تركت لوستريس نفسها تنساق ؟ كأي شابة في عمرها ‪ ،‬كانت‬
‫مسحورة بفكرة الحب الرومانسي ‪ ،‬وأشك في أنها فكرت بجدية بالجوانب الأكثر عملية‬
‫لممارسته البدنية قبال ‪ ،‬برغم قصارى جهود هاتین الفاسقتين السوداوين الصغيرتين‬
‫لتنويرها‪ .‬لم تظهر أي قدر واضح من االهتمام حتى في تقنية المسألة عندما حاولت تحذيرها‬
‫كما يملي علي واجبي بما يكفي على الأقل لأحميها من نفسها‪ .‬أحسست أن علي البحث عنها في‬
‫مكان يرقى إلى آمالها الحساسة في الحب‪ .‬لو كان ظهر أنفاس حورس يحمل مقصورة لهرعت‬
‫إليها ‪ ،‬لكَّن قوادسنا النهرية صغيرة ‪ ،‬وهي سفن مقاتلة نفعَّية ُجردت لمصلحة السرعة‬
‫والقدرة على المناورة ‪ ،‬فبينما ينام الطاقم على المتن العاري ‪ ،‬ال ينال القبطان وضباطه‬
‫إال ُكَّنة من القصب تسترهم ليال ‪ ،‬ولم تكن هذه ُمجهزة في الوقت الراهن ‪ ،‬لذا ال مكان على‬
‫‪.‬متن السفينة يمكنهما االختباء فيه‬
‫‪34‬‬

‫كانت الكرنك والقصر يبعدان سفر نصف يوم ‪ ،‬وكان العبيد قد بدؤوا من توهم في نصب خيامنا‬
‫على إحدى الجزر الشاطئية التي ُخصصت لمنح جماعتنا الخصوصية عن دهماء ( ‪ )1‬البشر‪ .‬ومن‬
‫تقصير العبيد أن يكونوا بهذا التواني ‪ ،‬لكنهم علقوا في زحام االحتفاالت ‪ ،‬ورأيُت في ضوء‬
‫المشعل بعضهم أكثر من مختل التوازن في حين يكافح في ربط حبال التثبيت الوتدية‪ .‬ولم‬
‫يكونوا قد نصبوا خيمة لوستريس الشخصية بعد ‪ ،‬لذا فأسباب الراحة الفاخرة من ُبُسط وستائر‬
‫موّشاة ومفارش محشوة بالزغب وأغطية كتانية ليست متاحة للعاشقين ‪ ،‬إذن فأين تراهما‬
‫يكونان ؟‬
‫أن‬
‫في تلك اللحظة ‪ ،‬جذب انتباهي وهج أصفر خفيف لمشعل بعيد فوق البحيرة ‪ ،‬فثارت بديهتي من‬
‫فورها ‪ ،‬وأدركُت‪ -‬بالنظر إلى صلة موالتي بالإلهة حابي‪ -‬أن معبدها في الجزيرة الجرانيتية‬
‫الخالبة الصغيرة في وسط البحيرة هو بالضبط المكان الذي سيستميل لوستريس بال مقاومة ‪،‬‬
‫ففتشت الشاطئ بحًثا عن وسيلة ما توصلني إلى الجزيرة ‪ ،‬ورغم وجود أسراب من المراكب‬
‫الصغيرة المشدودة إلى الشاطئ ‪ ،‬كان المراكبيون يتساقطون في ثمالتهم‪ .‬ثم رأيُت كراتاس‬
‫على الشاطئ ‪ ،‬تنتصب ريشات النعام على خوذته عاليا فوق رؤوس الحشد ‪ ،‬ووقفته الشماء‬
‫تمّيزه عنهم‪ .‬صحت به « کراتاس! » ‪ ،‬فنظر ناحيتي ولوح بيده‪ .‬كان كراتاس كبير مالزمي‬
‫تانوس ‪ ،‬وبمعزل عني ‪ ،‬أصلب أصدقائه العديدين ‪ ،‬وكان بمقدوري أن أضع به ثقًة ال أجرؤ على‬
‫وضعها بأي غيره‪ .‬صرخت‪ « :‬ائتني بقارب أي قارب » ‪ ،‬بصوت مهتاج وحاد إلى درجة أنه بلغه‬
‫بوضوح ‪ ،‬وكان من شيم الرجل أنه ال يهدر لحظة حتى في المساءلة أو التردد‪ .‬مشى موسًعا‬
‫خطاه إلى أقرب زورق على الشاطئ ‪ ،‬ورأى ُنوتَّيه راقًدا كجذع شجرة في بطنه ‪ ،‬فأمسكه من‬
‫قفاه ورفعه رفعة واحدة ثم ألقاه على الشاطئ ‪ ،‬ولم يتحّرك النوتي قيد أنملة ‪ ،‬بل ظل‬
‫راقًدا في َخَدر النبيذ الرخيص ‪ ،‬مطويا بالوضعية التي ألقاه كراتاس عليها‪ .‬ثم أطلق‬
‫كراتاس المركب بنفسه ‪ ،‬وركنه بعد بضع دفعات من عصا التسيير بحذاء أنفاس حورس ‪،‬‬
‫‪.‬فتشقلبت في عجلتي عن البرج وحططُت متكوًما على نفسي في مقدمة المركب الضئيل‬
‫‪).‬الُّدْهَماُء ‪ :‬عامة الناس وَسَواُدهم المترجم )‪( 1‬‬
‫‪35‬‬

‫ناشدته وأنا أتسلق ساقي‪ :‬إلى المعبد يا كراتاس! ولتمن علينا الإلهة الطيبة حابي بأن ال‬
‫نكون قد تأخرنا أكثر مما يجب! »‪ .‬خطفنا نسيم المساء الذي ملأ الشراع المثلثي بسرعة‬
‫عبر المياه المعتمة إلى المرسى الحجري أسفل المعبد ‪ ،‬ثم ربط كراتاس حبل القارب بإحدى‬
‫حلقات الإرساء ‪ ،‬وهم باللحاق بي إلى اليابسة ‪ ،‬لكنني منعته‪ .‬قلُت له ‪« :‬ال تتبعني ‪،‬‬
‫لأجل تانوس ‪ ،‬ال لأجلي ‪ ،‬أرجوك »‪ .‬تردد لحظة ‪ ،‬ثم أومأ برأسه‪ :‬سأكون منصنا إن ناديت‬
‫» ‪ ،‬واستل سيفه ثم قدمه إلَّي من طرف المقبض ‪ « ،‬أستحتاج إليه ؟ »‪ .‬هززت رأسي‪ « :‬لن‬
‫أواجه هذا النوع من الخطر‪ .‬وأيًضا ‪ ،‬خنجري معي‪ .‬لكن أشكرك على ثقتك »‪ .‬وتركته في‬
‫القارب ثم ُهرعُت إلى الحجرات الجرانيتية‬
‫هي‬
‫لمدخل معبد حابي‪ .‬ألقت مشاعل الأسل في حامالتها على أعمدة المدخل الشاهقة ضوًءا أحمر‬
‫مرتعًشا بدا أنه يدب بالحياة في النقوش الغائرة على الجدران ويجعلها ترقص‪ .‬حابي إحدى‬
‫الهتي المفضلة ‪ ،‬ولأتحرى الدقة ليست إلها وال إلهة بل مخلوق خنثوي غريب ملتح يحوز في‬
‫آن معا قضيًبا عمالقا ومهباًل يعادله بالتجويف ‪ ،‬وثديين سخيين يمنحان الحليب للجميع‪ .‬هي‬
‫تأليه النيل ‪ ،‬وربة الحصاد ‪ ،‬وتعتمد مملكتا مصر وكل الشعوب فيهما اعتماًدا تاما عليها‬
‫وعلى الفيضان الدوري للنهر العظيم الذي هو ذاتها الثانية يمكنها تغيير جنسها ‪ ،‬أو‬
‫كالعديد غيرها من آلهة مصرنا اتخاذ شكل أي حيوان تشاء ‪ ،‬وتجليها المفضلة هو فرس‬
‫النهر‪ .‬وبصرف النظر عن جنسانية الربة المبهمة دائما ما تعدها موالتي لوستريس أنثى ‪،‬‬
‫وأنا كذلك ‪ ،‬وقد يخالفنا كهنة حابي‬
‫‪.‬الرأي‬
‫هذا‬
‫كانت صورها على الجدران الحجرية هائلة وأمومية ‪ ،‬ولأنها مطلية بالألوان الأساسية‬
‫المَّتقدة ‪ ،‬الأحمر والأصفر والأزرق ‪ ،‬أشَّعت برأس بقرة نهر عطوف يبدو أنها تدعو كل‬
‫الطبيعة إلى الخصوبة والتكاثر ‪ ،‬ولم تكن هذه الدعوة مالئمة لقلقي الراهن البتة ‪ ،‬إذ‬
‫عراني الفزع أن تكون وصَّيتي الثمينة تستغُّل سماج الإلهة في هذه اللحظة‪ .‬رأيت كاهنة‬
‫راكعًة إلى المذبح الجانبي ‪ ،‬فهرعت إليها وأمسكتها من حاشية ردائها وجذبته بعجالة‬
‫قائاًل ‪ « :‬أيتها الأخت المقدسة ‪ ،‬أخبريني ‪ ،‬أرأيت السيدة‬
‫‪36‬‬

‫لوستريس ابنة الوزير الأعظم ؟ »‪ .‬لم يُكن ثمة إال قلة قليلة من المواطنين ال تعرف موالتي‬
‫شخصيا في مصر العليا ‪ ،‬وقد أحبها الجميع لجمالها وروحها المشرقة وعريكتها الطيبة ‪،‬‬
‫وكانوا يحتشدون من حولها ويهللون لها في الشوارع والأسواق إذا ما مشت بينهم‪ .‬عبست‬
‫الكاهنة في بوجه مجعد وفم ‪ ،‬درد ‪ ،‬ووضعت إصبًعا عجفاء على جانب أنفها مع نظرة خبيثة‬
‫وخبيرة تؤكد أسوأ مخاوفي‪ .‬هززتها ثانية ‪ ،‬لكن بلطف أقل‪ :‬أين هي أيتها الأم المبجلة‬
‫العجوز ؟ أستحلفك أن تنطقي! »‪ .‬لكنها بدال من ذلك هّزت رأسها ودورت عينيها ناحية بوابات‬
‫الحرم الداخلي‪ .‬انطلقت فوق البالط الجرانيتي وقلبي يسبق في عدوه ساقي المسعورتين ‪،‬‬
‫لكنني استبدعت في قمة شقائي جسارة موالتي ‪ ،‬فرغم أنها تتمتع بحق دخول قدس الأقداس‬
‫لكونها من طبقة النبالء العليا ‪ ،‬أيتمتع سواها في مصر كلها بالشجاعة الالزمة ليختار‬
‫مكانا كهذا لموعده الغرامي ؟ توقفُت عند مدخل الحرم‪ .‬لقد صدق حدسي‪ .‬كان كالهما في‬
‫الداخل ‪ ،‬كما تهيبُت تماما ‪ ،‬واستحوذ يقيني الخاص فيما يجري علي حتى إنني كدُت أصيح‬
‫جهاًرا لأوقفه ‪ ،‬ثم زجرُت نفسي‪ .‬فقد رأيُت موالتي في لباس كامل ‪ ،‬بل أكمل من عادتها ‪ ،‬إذ‬
‫سترت ثدييها ونشرت فوق رأسها شاال من الصوف الأزرق‪ .‬وكانت راكعة أمام تمثال حابي‬
‫الهائل ‪ ،‬والإلهة تسطع من فوقها مزينة بأكاليل من زنابق الماء‪ .‬وكان تانوس راكعا‬
‫بجوارها ‪ ،‬بعد أن طرح عنه أسلحته ودرعه وكومها بجوار باب الحرم ‪ ،‬ولم يعد البًسا إال‬
‫قميصا كتانيا وغاللة قصيرة وينتعل صندال‪ .‬شابك الثنائي أيديهما ‪ ،‬وبينما كاد وجهاهما‬
‫ُيشرقان يهمسان بإجالل‬
‫‪.‬معا‬
‫دِحَضْت شكوكي الخسيسة ‪ ،‬واعتراني الندم والخزي‪ .‬كيف أمكنني الشُت في موالتي ؟ أخذُت أنسحب‬
‫بهدوء ‪ ،‬وإن كنُت ال أنوي تجاوز المذبح الجانبي ‪ ،‬حيث سأقدم شكري للإلهة على حمايتها ‪،‬‬
‫ومن حيث يمكنني مراقبة الإجراءات‬
‫‪.‬الإضافية بحذر‬
‫لكن‬
‫في‬
‫تلك اللحظة ‪ ،‬نهضت لوستريس واقفًة ودَنت من تمثال الإلهة بخجل ‪ ،‬وسحرني بهاؤها البناتي‬
‫‪.‬حَّد أنني تلكأت لحظة إضافية لأراقبها‬
‫‪37‬‬

‫ثم حلت من حول عنقها ُمجّسم الإلهة الالزوردي الذي صغته لها ‪ ،‬وأدركُت بُغَّصة أنها موشكة‬
‫على تقديمه أضحية‪ .‬كنُت قد صغت لها هذه الجوهرة بكل حبي ‪ ،‬ومقتت رؤيتها تغادر رقبتها‪.‬‬
‫وقفت بعد ذلك على رؤوس أصابعها وعلقته حول عنق الصنم ‪ ،‬ثم بينما ركعت وقبلت القدم‬
‫الحجرية كان تانوس يشاهد وال يزال راكعا حيث تركته‪ .‬ثم نهضت واستدارت لترجع إليه ‪،‬‬
‫لكنها رأتني آنذاك في المدخل‪ .‬حاولُت التالشي في الظالل ‪ ،‬فقد كنُت ُمحرًجا من تلصصي على‬
‫لحظة بهذا القدر من الحميمية ‪ ،‬لكن الغبطة أضاءت وجهها قبل أن أتمكن من الهرب ‪ ،‬وركضت‬
‫إلَّي فأمسكت بيدي‪ .‬قالت‪ « :‬أوه يا تايتا ‪ ،‬كما أنا سعيدة أنك هنا ‪ ،‬أنت دون الجميع!‬
‫هذا مالئم جدا ‪ ،‬ويجعل الأمر كله في غاية المثالية » ‪ ،‬ثم ساقتني إلى مقدمة الحرم ونهض‬
‫تانوس وجاء مبتسًما ليأخذ بيدي الثانية ‪ ،‬وقال‪ « :‬شكًرا لحضورك ‪ ،‬أعرُف أن بوسعنا‬
‫االعتماد عليك دائًما »‪ .‬تمنيُت لو أن دوافعي كانت بالنقاء الذي يظنان ‪ ،‬لذا حجبُت وجداني‬
‫المذنب عنهما بابتسامتي المحبة‪ .‬أمرتني لوستريس‪ « :‬اركع هنا هنا ‪ ،‬حيث يمكنك سماع كل‬
‫كلمة يقولها أحدنا للآخر‪ .‬ستشهد علينا أمام حابي وكل آلهة مصر » ‪ ،‬وكبستني حتى نزلُت‬
‫على ركبتي ثم عادت وتانوس إلى مكانيهما أمام الإلهة وأمسك كل منهما بيد الآخر ‪ ،‬ناظرا‬
‫في عينيه تماما‪ .‬نطقت لوستريس أوال هامسة‪ « :‬أنَت شمسي‪ .‬يومي مظلم من دونك »‪ .‬فأجابها‬
‫تانوس بهدوء‪ « :‬أنِت نيُل قلبي‪ .‬مياه حبك تروي روحي »‪ ..‬أنَت رجلي ‪ ،‬في هذا العالم وكل‬
‫العوالم التالية‪ .‬فقال تانوس بصراحة ووضوح ‪ ،‬ورجعت الأروقة الحجرية صدى صوته‪ :‬أنِت‬
‫امرأتي ‪ ،‬وأعاهدك على الحب‪ .‬أقسم لك عليه بأنفاس حورس ودمائه »‪ .‬فبكت لوستريس‪ « :‬أقبل‬
‫عهدك وأرُّده لك مضاعفا مئة ضعف ‪.‬ال يمكن لأحد أن يحول بيننا أبًدا ‪.‬ال شيء يمكنه تفريقنا‪.‬‬
‫نحن واحد ‪ ،‬إلى أبد الدهر »‪ .‬وقدمت وجهها لوجهه فقبلها قبلًة شديدة ومديدة كانت بحسب‬
‫علمي أول قبلة يتبادلها الزوجان على الإطالق ‪ ،‬وشعرُت باالمتياز لشهودي لحظة‬
‫‪.‬حميمية كهذه‬
‫‪38‬‬

‫عندما تعانقا غادرت ريح باردة مفاجئة البحيرة ودارت عبر أروقة المعبد خافتة الإضاءة‬
‫مرجفة ألسنة لهب المشعل ‪ ،‬فتشوش وجها العاشقين للحظة أمام عيني وبدت صورة الإلهة تهتز‬
‫وترتعش‪ .‬ثم عبرت الريح بسرعة هبوبها نفسها ‪ ،‬لكَّن همسها حول الأعمدة الحجرية الهائلة‬
‫كان أشبه بالضحكة الهازئة البعيدة للآلهة ‪ ،‬فاقشعر جسمي برهبة خرافية‪ .‬إن استفزاز‬
‫الآلهة بمطالب متهورة أمر خطر دائًما ‪ ،‬وقد طلبت لوستريس المستحيل للتو‪ .‬كانت تلك‬
‫علمت‬
‫هي اللحظة التي من سنوات أنها آتية ‪ ،‬والتي تهيبتها أكثر من تهيبي يوم موتي ‪ ،‬فالعهد‬
‫الذي قطعه تانوس ولوستريس ال يمكنه أن يصمد البتة ‪ ،‬ال يسعه االستمرار مهما كانت‬
‫مشاعرهما صادقة‪ .‬وشعرت أن قلبي يتمّزق داخلي وقتما أنهيا القبلة واستدارا عوًدا إلّي‪.‬‬
‫سألتني لوستريس ووجهها يفيُض غبطة‪ « :‬لم الحزن يا تايتا ؟ ابتهج معي ‪ ،‬فهذا أسعد أيام‬
‫حياتي »‪ .‬أجبرت شفتي على االبتسام ‪ ،‬لكنني عجزُت عن إيجاد أي كلمة تشجيع أو مباركة‬
‫لهذين االثنين ‪ ،‬أحُّب اثنين إلَّي في العالم بأسره‪ .‬وظللت على ركبتي ‪ ،‬حامال تلك االبتسامة‬
‫الثابتة الخرقاء على شفتي والخراب في روحي ثم أنهضني تانوس واحتضنني ‪ ،‬وبينما يعانقني‬
‫سألني‪ « :‬ستكلم السيد إنتف نيابة عني ‪ ،‬أليس كذلك ؟ »‪ .‬فضمت لوستريس توسلها إلى توسله‬
‫أوه بلى يا تايتا ‪ ،‬فسينصت أبي إليك‪ .‬أنت الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك لأجلنا‪ .‬لن‬
‫تخيبنا ‪ ،‬صحیح یا تایتا ؟ لم تخذلني قط ‪ ،‬وال مرة واحدة في حياتي ستكلمه من أجلي ‪،‬‬
‫أليس كذلك ؟ »‪ .‬ما عساي أقول لهما ؟ ال يمكنني أن أبلغ من القسوة حد إخبارهما بالحقيقة‬
‫المرة‪ .‬عجزت عن نطق الكلمات التي ستفسد هذا الحب الغّض الرقيق‪ .‬كانا ينتظران أن‬
‫أتكلم ‪ ،‬أن أعرب عن سروري لأجلهما ‪ ،‬وأن أعدهما بمساعدتي ومساندتي ‪ ،‬لكن الكالم استغلق‬
‫علَّي ‪ ،‬وجَّف فمي كأنني قضمُت رمانة ِفَّجة‪ .‬قالت‪ « :‬ما الخطب يا تايتا ؟ راقبُت الغبطة تذوي‬
‫على محًّيا موالتي الحبيب) ‪ ،‬لم ال تبتهج لأجلنا ؟ »‪ .‬قلت‪ « :‬تعرفان أنني أحب كليكما ‪،‬‬
‫لكن‪ ....‬عجزت عن المتابعة‪ .‬فساءلتني لوستريس‪ « :‬لكن ؟ لكن ماذا يا تايتا ؟ لم تزعجني‬
‫‪ ».‬بالأعذار والوجه المكفهر في أسعد يوم ممكن ؟‬
‫‪39‬‬

‫كان الغضب يرتفع فيها ‪ ،‬وفكاها يتصلبان ‪ ،‬لكن الدموع تتجمع في الوقت نفسه في عمق‬
‫عينيها‪ :‬أال تريد مساعدتنا ؟ أهذه هي القيمة الحقيقية لكل الوعود التي قطعتها عبر‬
‫السنين ؟ واقتربت مني زاجة وجهها في وجهي‬
‫‪.‬تحديا‬
‫قلت ‪:‬ال تكلميني بهذه الصيغة يا موالتي أرجوك ‪ ،‬أنا ال أستحق هذه المعاملة ‪.‬ال ‪ ،‬أنصتي لي‬
‫ووضعُت أصابعي على شفتيها لأحبط فورة أخرى) ‪ ،‬ليست المشكلة في ‪ ،‬بل في أبيك ‪ ،‬إن سيدي‬
‫إنتف‪ ...‬قالت‪ « :‬بالضبط ( وأبعدت يدي عن فمها بصبر يكاد ينفد) ‪ ،‬أبي! ستذهب إليه‬
‫وتكلمه كما تكلمه دائًما ‪ ،‬وسيكون كل شيء على ما يرام »‪ .‬فشرعُت أقول‪ « :‬لوستريس ( وكان‬
‫استخدامي اسمها بهذا الأسلوب الحميم دليال على غمي ‪ ،‬لم تعودي طفلة ‪ ،‬وال ينبغي لك‬
‫تضليل نفسك بهذه الأوهام الطفولية‪ .‬تعرفين أن أباك لن يوافق أبًدا‪ .» ...‬لم تنصت إلَّي ‪،‬‬
‫لم ُترد سماع الحقيقة التي سأقول ‪ ،‬لذا اندفعت بكلمات قصدها أن تطغى على كلماتي‪« :‬‬
‫أعرُف أن تانوس ال يملك الثروة ‪ ،‬أعرف ذلك‪ .‬لكَّن مستقبال بديًعا يمتُّد أمامه‪ .‬سيقود يوًما ما‬
‫كل جيوش مصر‪ .‬سيخوض يوما ما المعارك التي ستعيد توحيد المملكتين ‪ ،‬وسأكون إلى جانبه‬
‫»‪ ..‬اسمعيني أرجوك يا موالتي ليست المشكلة في قلة ثروة تانوس وحسب ‪ ،‬بل أكثر من ذلك ‪،‬‬
‫أكثر بكثير‪ -.‬ساللته ونسبه إذن ؟ أهذا ما يثقل عليك ؟ أنت تعرُف حق المعرفة أن عائلته ال‬
‫‪.‬تقُّل ُنباًل عن عائلتنا ‪ ،‬فبيانكي سيد حاراب كان ند والدي وأعز أصدقائه‬
‫كانت قد أصمت أذنيها عني‪ .‬لم ُتدرك غور المصيبة التي نخوض ‪ ،‬وال تانوس أدرك ‪ ،‬لكن من‬
‫ناحية أخرى ‪ ،‬ربما كنُت الشخص الوحيد في المملكة الذي يفهمها حق الفهم‪ .‬كنُت قد حميتها‬
‫من الحقيقة طيلة هذي السنين ‪ ،‬وبالطبع ‪ ،‬لم أقدر على إخبار تانوس كذلك ‪ ،‬فكيف لي أن‬
‫أفسرها لها الآن ؟ كيف لي أن أكشف لها عن حجم الكراهية التي يكنها أبوها للشاب الذي‬
‫‪ُ.‬تحب ؟ تلك الكراهية المولودة من رحم الذنب والحسد والتي تزداد حقًدا للأسباب نفسها‬
‫‪40‬‬

‫لكن سيدي إنتف رجل أفاك ومراوغ ‪ ،‬بإمكانه حجب مشاعره عن المحيطين به ‪ ،‬وإخفاء كراهيته‬
‫وضغينته ‪ ،‬وتقبيل الشخص الذي يوشك أن يدمره وإغداق الهدايا الثمينة والمالطفات المسكنة‬
‫عليه‪ .‬كان يتحلى بصبر تمساح كامن في الطين عند منهل النهر ينتظر الظبي الغافل ؛ يمكنه‬
‫االنتظار لسنوات ‪ ،‬بل حتى لعقد لكن ما إن تفتح الفرصة أبوابها حتى يضرب بسرعة ذاك‬
‫الزاحف ويجُّر فريسته إلى القعر كانت لوستريس ذاهلة ذهوال بهيجا عن ضغينة أبيها ‪ ،‬حد‬
‫تصديقها أنه أحب بيانكي سيد حاراب ‪ ،‬كما أحبه أبو تانوس‪ .‬لكن من ناحية أخرى ‪ ،‬فأنى‬
‫لها أن تعرف حقيقة الأمر وقد َوَقيُتها منها على الدوام ؟ كانت ببراءتها العذبة مقتنعة‬
‫أن االعتراضات الوحيدة التي سيبديها أبوها على حبيبها‬
‫‪.-‬والعائلة‬
‫هي‬
‫الثروة‬
‫أنت تعرُف أنها الحقيقة يا تايتا تانوس نّدي في قوائم النبالة ‪ ،‬وهذا مكتوب في سجالت‬
‫المعبد ليراه الجميع‪ .‬كيف لأبي إنكار ذلك ؟ كيف لك إنكاره ؟ ليس بإمكاني الإنكار أو‬
‫الإقرار يا موالتي‪ -...‬إذن ستكلم أبي من أجلنا ‪ ،‬أليس كذلك أيها العزيز تايتا ؟ قل إنك‬
‫‪.‬ستكلمه ‪ ،‬أرجوك قلها! لم يسعني إال َحني رأسي إذعاًنا ‪ ،‬وإخفاء النظرة القانطة في عيني‬
‫***‬
‫كان الأسطول مثقال بالحمولة في طريق عودتنا إلى الكرنك ‪ ،‬وغاصت أبدان القوادس في الماء‬
‫تحت شحناتها من الجلود الخام واللحوم المملحة ‪ ،‬فبات تقدمنا في عكس اتجاه تيار النيل‬
‫أبطأ منه في رحلة خروجنا ‪ ،‬لكنه ظل رغم ذلك أسرع مما يحتمله قلبي المثقل وفزعي‬
‫المتعاظم‪ .‬تهلل العاشقان وجذال بحبهما المعلن حديثًا وثقتهما في لأزيل العقبات من‬
‫طريقهما ‪ ،‬وعجزُت عن حمل نفسي على حرمانهما يوم الفرح هذا ‪ ،‬لمعرفتي أنه سيكون أحد‬
‫أيام الفرح الأخيرة التي سيعيشانها‪ .‬أحسب أنني لو تمكنت من استحضار الكلمات أو‬
‫استجماع الشجاعة الالزمة لحثثتهما‪ -‬في ذلك المكان والزمان‪ -‬على إكمال حبهما الذي‬
‫عارضته أيما معارضة في الليلة السابقة ‪ ،‬ذلك أنهما لن يناال فرصة ثانية أبدا ‪ ،‬ليس بعد‬
‫أن أحِّذر سيدي‬
‫‪41‬‬

‫إنتف عن طريق محاولتي المحكومة بالفشل في الوساطة لهذا الزواج‪ .‬فحالما يعرف ما يوشكان‬
‫أن يفعاله ‪ ،‬سيحول بينهما ويفرق شملهما إلى أبد الدهر‪ .‬لذا ضحكُت وابتسمُت بابتهاج‬
‫مثلهما ‪ ،‬وحاولُت إخفاء مخاوفي عنهما ‪ ،‬وكان الحب قد أعماهما حَّد أنني نجحت ‪ ،‬بينما في‬
‫أي وقت آخر كانت موالتي لتعلم ذات صدري من فورها ‪ ،‬فهي تعرفني تقريبا كما أعرفها‪.‬‬
‫جلسنا معا في الجؤجؤ ثالثتنا ‪ ،‬وناقشنا إعادة تمثيل آالم أوزيريس ‪ ،‬ما سيكون العنوان‬
‫البارز في المهرجان ‪ ،‬فقد عهد سيدي إنتف إلى بإدارة الحفل ‪ ،‬ومنحُت كال من لوستريس‬
‫وتانوس دوري البطولة‪ُ .‬يقام المهرجان كل سنتين ‪ ،‬عند إشراقة بدر أوزيريس التمام‪ .‬مر‬
‫زمان كان المهرجان فيه مناسبة سنوية ‪ ،‬لكن نفقات الحياة الملكية واختاللها الناجمين عن‬
‫النقل االضطراري للبالط من الفنتين إلى طيبة كانا هائلين حد أن الفرعون أقَّر مدة فاصلة‬
‫‪.‬أطول بين المهرجانات لطالما كان فرعوننا رجاًل في ما يخص ذهبه‬
‫متعقال‬
‫وفر لي التخطيط للحفل إلهاء ممتازا عن المواجهة الشاخصة مع موالي إنتف ‪ ،‬لذا رحُت أمرن‬
‫العاشقين على سطورهما‪ .‬أوكلت إلى لوستريس دور إيزيس ( ‪ )1‬زوجة أوزيريس ‪ ،‬في حين تولى‬
‫تانوس دور حورس البطولي‪ .‬كان كالهما متسلًيا كثير التسلي بفكرة أن يؤدي تانوس دور ابن‬
‫لوستريس ‪ ،‬واضطررت إلى أن أشرح لهما أن الآلهة دائمة الشباب ‪ ،‬وأنه من الممكن أن تبدو‬
‫إلهة ما أصغر سًنا من ذريتها‪ .‬كنُت قد كتبت نًصا جديًدا للحفل بدال من النص الذي ظل دون‬
‫تغيير لألف سنة تقريًبا ‪ ،‬فلغة النص القديم عتيقة وغير مواتية للجمهور المعاصر ‪،‬‬
‫وسيكون الفرعون ضيف الشرف عندما ُيقَّدم الأداء في معبد أوزيريس في الليلة الأخيرة من‬
‫المهرجان ‪ ،‬لذا انشغل بالي بنجاحه أيما انشغال‪ .‬وقد واجهت بالفعل معارضة لنسختي‬
‫الجديدة من الآالم من النبالء والكهنة الأكثر تحفظا ‪ ،‬إال أن تدخل موالي إنتف غلب على‬
‫اعتراضاتهم‪ .‬وسيدي ليس رجال شديد التدُّين ‪ ،‬وما كان ليزج بنفسه في الأحوال الطبيعية في‬
‫سجاالت الهوتية ‪ ،‬لكنني أدرجت بضعة سطور مصممة لتسليته وتمّلقه ‪ )1 ( ،‬إيزيس‪ :‬إلهة رئيسة‬
‫في الديانة المصرية القديمة كان أول ذكر لها في أسطورة أوزيريس حيث أحيت زوجها الملك‬
‫‪.‬الإلهي المذبوح أوزيريس وأنجبت وريثه حورس ( المترجم)‬
‫‪42‬‬

‫وقرأتها عليه مقتطعة من سياقها ‪ ،‬ثم نّوهت بلباقة بأن المعارضة الكبرى لنسختي مصدرها‬
‫كاهن أوزيريس الأعلى ‪ ،‬وهو عجوز متزمت أحبط ذات مرة اهتمام سيدي إنتف بشماس شاب‬
‫وسيم ‪ ،‬وكان ذلك تجاوزا لم يسامح موالي الكاهن الأعلى عليه قُّط‪ .‬وهكذا تقرر أن تؤدى‬
‫نسختي للمرة الأولى ‪ ،‬فكان أمًرا جوهريا أن ُيبرز الممثلون مهابة شعري كلها ‪ ،‬وإال قد‬
‫تكون آخر مرة ُيسمع فيها‪ .‬وكان كل من تانوس ولوستريس يحوز صوًتا خطابًّيا ُمدهًشا ‪ ،‬واعتزما‬
‫مجازاتي على وعدي بمساعدتهما ‪ ،‬فقدما لي أفضل ما عندهما ‪ ،‬وهكذا كان االختبار أَّخاذا‬
‫والإلقاء مذهاًل حتى إنني نسيت نفسي لوهلة‪ .‬ثم أعادني نداء الراصد من آالم الآلهة إلى‬
‫شواغلي الدنيوية الخاصة ‪ ،‬إذ بلغ السرب آخر حنيات النهر ‪ ،‬حيث تقبع المدينتين‬
‫التوءمتين الأقصر والكرنك وبينهما تقوم طيبة الكبرى ‪ ،‬مترامية على الضفة أمامنا تتألق‬
‫كعقد من اللآلئ أشعة الشمس المصرية الصارخة‪ .‬لقد انتهى فاصلنا الرائع ‪ ،‬وال بد لنا من‬
‫مواجهة الواقع مرة أخرى ‪ ،‬وبينما أنهض واقًفا شعرت بانهيار معنوياتي‪ -.‬تانوس ‪ ،‬عليك أن‬
‫تنقلني ولوستريس إلى قادس كراتاس قبل أن نقترب أكثر من المدينة ‪ ،‬فتبع موالي سيرصدوننا‬
‫من اليابسة ‪ ،‬وال ينبغي لهم رؤيتنا بصحبتك‪ .‬ابتسم لي تانوس وقال‪ « :‬لقد تأخرت بعض‬
‫الشيء ‪ ،‬أليس كذلك ؟ كان يجدر بك التفكير في ذلك قبل بضعة أيام‪ .‬وأيدت لوستريس‬
‫احتجاجه سيعلم أبي بأمرنا في القريب العاجل ‪ ،‬وقد تسهل مهمتك إن أخطرناه بنوايانا‬
‫‪ ».‬مقدًما‬
‫فاكتسيُت أصلب سحنة‬
‫‪ ،‬عندي وأكثرها استياء قائال‪ « :‬إن كنتما أعلم مني‬
‫فعليكما المضي بالأمر بطريقتكما ولن أؤدي أي دور إضافي في قضيتكما المجنونة هذه » ‪،‬‬
‫فتراجعا من فورهما‪ .‬أشار تانوس لقادس كراتاس أن يقترب جانبيا‪ .‬لم يكن أمام العاشقين‬
‫سوى لحظات قليلة ليتودعا ‪ ،‬ولم يجرؤا على العناق أمام أعين نصف السرب ‪ ،‬لكَّن النظرات‬
‫‪.‬وكلمات الحب التي تبادالنها أدت الغاية نفسها تقريًبا‬
‫‪43‬‬

‫لوحنا من برج كوثل سفينة كراتاس لأنفاس حورس وهي تبتعد عنا وتنطلق بمجاديفها اللماعة‬
‫كأجنحة اليعسوب إلى مرساها أمام مدينة الأقصر ‪ ،‬في حين تابعنا طريقنا أعلى النهر إلى‬
‫‪.‬قصر الوزير الأعظم‬
‫***‬
‫حالما رسونا على الرصيف البحري للقصر ‪ ،‬أجريت تحقيقا حول مكان موالي وارتحت لمعرفتي‬
‫أنه قد عبر النهر ليقود تفتيًشا تقرر في آخر دقيقة لقبر الفرعون والمعبد الجنائزي على‬
‫الضفة الغربية‪ .‬كان قبر الملك ومعبده قيد البناء منذ اثنتي عشرة سنة ‪ ،‬منذ أن اعتمر‬
‫تاج المملكتين ذي الأبيض والأحمر ‪ ،‬وقد اقترب من االكتمال أخيًرا ‪ ،‬لذا سيتوق الملك إلى‬
‫زيارته حال انتهاء المهرجان وتفرغه له‪ .‬وكان القلق يغزو موالي إنتف خشية أن يخيب أمل‬
‫الملك ‪ ،‬فحارس المقابر الملكية أحد ألقاب سيدي وتشريفاته الكثيرة وإنها لمسؤولية‬
‫‪.‬ثقيلة‬
‫مهجعي‬
‫منحني غيابه يوًما إضافًيا أحّضر فيه حجتي وأخطط استراتيجيتي‪ .‬على أي حال ‪ ،‬كان الوعد‬
‫المقدس الذي استخلصه العاشقان مني هو أن أتكلم بالنيابة عنهما عند أول فرصة ‪ ،‬وكنت‬
‫أعرف أن ذلك سيكون في الصباح عندما يعقد موالي جلسته الأسبوعية‪ .‬وحالما رأيت موالتي وقد‬
‫استكنت بأمان في الحريم ‪ ،‬هرعت إلى الخاص في جناح القصر المخصص لأصحاب الوزير الأعظم‬
‫المميزين‪ .‬كانت ترتيبات سيدي إنتف المنزلية بمستوى مكر بقية وجوده نفسه ‪ ،‬فله ثماني‬
‫زوجات كلهن جلبن إلى سرير زواجه إما جهازا هائال وإما عالقات سياسية نافذة‪ .‬لكَّن ثالًثا‬
‫فقط من هاته النساء حملن أطفاله ‪ ،‬إذ أنجب صبيين إلى جانب سيدتي لوستريس‪ .‬بحسب علمي ‪،‬‬
‫وقد كنُت عليًما بكل ما يجري داخل القصر ومعظم ما يجري خارجه ‪ ،‬لم يُزر موالي الحريم في‬
‫السنوات الخمس عشرة الأخيرة ‪ ،‬وكان إنجاب لوستريس آخر مناسبة أدى فيها واجباته‬
‫الزوجية ‪ ،‬ذلك أن ميوله الجنسية تسلك مسالك أخرى ‪ ،‬فعشراء الوزير الأعظم الخصوصيين‬
‫الذين يعيشون في جناحنا من القصر مجموعة من أجمل ما يمكن إيجاده من الغلمان في‬
‫المملكة العليا ‪ ،‬حيث حلت العناية بهم في المئة عام المنصرمة‬
‫‪44‬‬

‫محل صيد طيور الماء والصيد البري بوصفها الشاغل المفضل لمعظم النبالء ‪ ،‬وهذا محض عرض‬
‫آخر من أعراض الأسقام التي اكتنفت أرضنا الحبيبة‪ .‬كنُت الأكبر سنا في مجموعة الغلمان‬
‫المختارة هذه ‪ ،‬وعلى عكس الكثيرين ممن جاءت بهم السنون غيري ‪ ،‬الذين ما إن بدأ جمالهم‬
‫الجسماني بالزوال أو الخبو حتى أرسلهم سيدي إلى المزاد العلني في سوق النخاسة ‪ ،‬صمدت‪.‬‬
‫وليس لأن جمالي قد ذوى ‪ ،‬بل العكس ‪ ،‬فقد ازداد جاذبية مع نضوجي‪ .‬وال تحسبني مغرورا إذا‬
‫ما ذكرت ذلك ‪ ،‬لكنني اعتزمت أال أدون إال الحقيقة في هذه الحكايا ‪ ،‬فهي استثنائية بالحد‬
‫الكافي من دون أن ُأضطر إلى اللجوء‬
‫للتواضع الزائف‬
‫ال ‪ ،‬قلما شغل موالي نفسه بشأني في تلك الأيام ‪ ،‬ويا له من تجاهل امتننُت له حق االمتنان‪.‬‬
‫وحينما كان يفعل ذلك ‪ ،‬كان يفعله عادًة عقاًبا لي ‪ ،‬فهو مدرك تمام الإدراك الألم البدني‬
‫والإذالل الذي طالما سببته مالطفاته لي‪ .‬ورغم أنني كنت ال أزال طفال عندما تعلمُت إخفاء‬
‫اشمئزازي وتصنع المتعة في الفعال المنحرفة التي أجبرني عليها ‪ ،‬فلم أنجح في خداعه قط‪.‬‬
‫وعلى نحو غريب ‪ ،‬لم تنتقص مشاعر تقززي وبغضي لهذا الأمر الشاذ شيًئا من ملذته البتة ‪،‬‬
‫بل بدا أنها تعززها ‪ ،‬إذ لم يكن سيدي إنتف رجال لطيفا وال عطوًفا ‪ ،‬وقد أحصيت على مر‬
‫السنين المئات من الغلمان الذين جلبوا إلَّي ممزقين ينتحبون بعد أول ليلة مع موالي‪ .‬كنت‬
‫أطببهم وأبذل جهدي لأواسيهم ‪ ،‬وربما هذا سبب مناداتهم لي بآخ كير في مهاجع الغلمان ‪،‬‬
‫وهو اسم يعني الأخ الأكبر‪ .‬لعّلي لم أعد ألعوبة موالي المفضلة ‪ ،‬لكنه ثمنني أكثر من ذلك‬
‫بكثير ‪ ،‬فقد كنُت أشياء كثيرة أخرى في نظره‪ :‬طبيًبا وفناًنا وموسيقًّيا ونساًخا ومعماريا‬
‫ومحاسًبا ومستشاًرا ومؤتمنا ومهندًسا ومربًّيا البنته‪ .‬لست ساذجا حد تصديقي أنه أحبني أو‬
‫وثق بي ‪ ،‬لكنني أظنه اقترب من ذلك في بعض الأوقات بقدر استطاعته‪ .‬ولهذا أقنعتني‬
‫لوستريس بمناشدته نيابة عنها‪ .‬لم يشغل سيدي إنتف شاغل في ما يخص ابنته الوحيدة إال‬
‫الحفاظ على قيمة زواجها في حدها الأقصى ‪ ،‬وكان هذا واجًبا آخر أوكله إلَّي بالكامل‪ .‬كان‬
‫أحياًنا ال يكلمها كلمة واحدًة من فيضان حتى تاليه ‪ ،‬ولم يظهر أي اهتمام ملحوظ في‬
‫‪.‬التقارير المنتظمة التي أعددتها له عن تدريبها وتدريسها‬
‫‪45‬‬

‫وبالطبع ‪ ،‬لطالما عانيُت الأمرين في إخفاء مشاعري الحقيقية تجاه لوستريس عنه ‪ ،‬لمعرفتي‬
‫أنه سيستغلها ضدي عند أول فرصة بال شك‪ .‬حاولت دائما إعطاءه انطباع أنني أرى تثقيفها‬
‫والعناية بها واجًبا غليظا أستاء بعض الشيء من فرضه علَّي ‪ ،‬وأنني أشاركه ازدراءه ونفوره‬
‫من جنس النساء كله ‪.‬ال أخاله قد أدرك قباًل أنني ‪ ،‬ورغم خصائي ‪ ،‬كنت أحمل داخلي مشاعر‬
‫ورغبات رجل طبيعي ناحية الجنس الآخر‪ .‬كان انصراف سيدي عن ابنته السبب الذي أغواني بين‬
‫الحين والآخر ‪ ،‬تحت إلحاح موالتي ‪ ،‬على خوض مجازفات مخبولة كرعونتنا الأخيرة هذه على‬
‫‪.‬متن أنفاس حورس ‪ ،‬إذ إنه يمنحنا احتماًال على الأقل أن ننجو بفعلتنا‬
‫الأول‬
‫انكفأُت مبكًرا في ذلك المساء إلى مهجعي الخاص ‪ ،‬حيث كان همي إطعام أعزائي وتدليلهم‪.‬‬
‫أعشق الطيور والحيوانات ‪ ،‬وعندي قدرة على التعامل معها تذهلني شخصًّيا‪ .‬كانت تربطني‬
‫صداقة حميمة بدزينة من القطط ‪ ،‬ذلك أنه ال أحد يمكنه ادعاء امتالك قطة أبًدا ‪ ،‬بيد أنني‬
‫امتلكت من الناحية الأخرى زمرة من الكالب الممتازة ‪ ،‬وكنُت وتانوس نستخدمها في صيد‬
‫المها وسباع‬
‫‪.‬الصحراء‬
‫كانت الطيور البرية تتوافد إلى شرفتي لتنعم بحسن ضيافتي ‪ ،‬وتتنافس بصخب فيما بينها‬
‫على مجثم ( ‪ )1‬فوق كتفي أو على يدي ‪ ،‬والجسور بينها يأخذ طعامه من بين شفتي اعتاد‬
‫غزالي الأليف أن يحتك بساقي كإحدى القطط ‪ ،‬وصقري أن يغقغقا ( ‪ )2‬لي من مجثميهما على‬
‫الشرفة‪ .‬كانا صقري صحراء نادرين جميلين وضاريين وكنُت أنا وتانوس‪ -‬متى استطعنا‪-‬‬
‫نأخذهما إلى الصحراء لنطيرهما خلف طيور الحباري العمالقة ‪ ،‬فابتهج عظيم البهجة‬
‫بسرعتهما وبهائهما الجوي عندما ينقضان على فريستهما‪ .‬لو حاول أي أحد غيري مداعبتهما‬
‫لنال منه الحد القاطع لتلك المناقير الصفراء المعقوفة ‪ ،‬لكنهما بين يدي يصيران‬
‫مهادنين كالعصافير‪ .‬لم أناد أحد الغلمان ليجلب لي وجبة عشائي حتى انتهيت من االعتناء‬
‫بحديقة حيواني ‪ ،‬فجلسُت في شرفتي المطلة على االمتداد الأخضر الواسع للنيل التذ بطبق‬
‫الُّسَّمن البري الصغير الفاخر المطهو بالعسل وحليب الماعز الذي أعده لي كبير الطباخين‬
‫خصوصا ليرحب بعودتي إلى الديار‪ .‬ومن هناك ‪ )1 ( ،‬الَمجَثم مكان جثوم الحيوان أو الطائر‪.‬‬
‫‪ (.‬المترجم)‪ )2 ( .‬الغقغقة‪ :‬صوت الصقر الرقيق ( المترجم)‬
‫‪46‬‬

‫يمكنني ارتقاب عودة صندل ( ‪ )1‬سيدي من الضفة البعيدة‪ .‬ثم جاء والشمس تتقد على الشراع‬
‫المربع الوحيد ‪ ،‬وشعرُت بمعنوياتي تنخسف‪ .‬قد يرسل في طلبي هذا المساء ‪ ،‬ولسُت مستعدا‬
‫لمواجهته‪ .‬ثم غمرني االرتياح عندما سمعت ‪ ،‬راسفر ‪ ،‬قائد حرس القصر ‪ ،‬ينادي محظي سيدي‬
‫في ذلك الوقت ‪ ،‬وهو فتى بدوي ذو عينين لوزيتين داكنتين ال يكاد يبلغ العاشرة من عمره‪.‬‬
‫بعد فترة وجيزة ‪ ،‬بينما سمعت الولد يحتج بصوت عالي الطبقة كان يجُّره راسفر من أمام‬
‫بابي إلى المدخل المغطى بالستائر لمخدع الوزير الأعظم‪ .‬ورغم أني سمعتها مرات كثيرة من‬
‫قبل ‪ ،‬لم أقدر على تقسية نفسي في مواجهة أصوات الأطفال ‪ ،‬وشعرُت بُغَّصة الشفقة المعهودة‪.‬‬
‫أراحني رغم ذلك أنني لم أُكن المطلوب في تلك العشية ‪ ،‬ذلك أنني سأحتاج إلى نوم هانئ‬
‫لأظهر بأبهى صورة في الصباح‪ .‬استيقظُت قبل الفجر وشعور الجزع ما زال يثقل كاهلي ‪ ،‬وحتى‬
‫سباحتي الطقسية في في مياه النيل الباردة لم تخفف منه شيًئا ‪ ،‬فعدت مسرًعا إلى غرفتي‬
‫حيث ينتظرني غالمان ليدهنا جسدي بالزيت ويسرحا شعري‪ .‬كنُت أمقُت بدعة التبرج الجديدة بين‬
‫النبالء ‪ ،‬فجلدي وبشرتي نقيين بالحد الكافي لئال يحتاجان إليه ‪ ،‬لكن سيدي يحب أن يتبَّرج‬
‫صبيته ‪ ،‬وأردُت إسعاده في ذلك اليوم تحديدا‪ .‬ورغم أن صورتي في المرآة البرونزية‬
‫طمأنتني ‪ ،‬لم أجد قابلية على تناول فطوري ‪ ،‬وكنت أول عضو من حاشية موالي ينتظر وصوله‬
‫في الحديقة المائية حيث يعقد جلسته كل صباح‪ .‬بينما أنتظر اجتماع بقية المجلس ‪ ،‬رحُت‬
‫أراقب الرفرافيات ( ‪ )2‬المنهمكة عملها‪ .‬كنُت قد صممت الحديقة المائية وأشرفت على‬
‫بنائها ‪ ،‬فأنتجت مجمًعا عجيًبا من القنوات والبرك التي تفيض إحداها إلى الأخرى ‪ ،‬وُجمعت‬
‫النباتات المزهرة من جميع أجزاء المملكة وما بعدها ‪ ،‬فرسمت لوحة ألوان تسدر الأبصار ‪،‬‬
‫وزودت البرك بمئات ضروب الأسماك التي يهبها النيل لشباك الصيادين ‪ ،‬لكن كان لزاًما‬
‫إعادة ملئها يومًيا نتيجة لسرقات الرفرافيات‬
‫في‬
‫الصندل‪ :‬سفينة نقل مسطحة القاع ُتستخدم في الأنهار ونحوها‪ ( .‬المترجم)‪( 1) )2 ( .‬‬
‫‪.‬الرفرافيات فصيلة من الطيور تنتمي إلى الشقراقيات ( المترجم)‬
‫‪47‬‬

‫كان سيدي إنتف يتمّتع بمراقبة الطيور وهي تحوم في الجو كأحجار الزوردية ‪ ،‬ثم تنقّض لتضرب‬
‫الماء في ومضة رذاذ وترتفع ثانية حاملة شطفة فضية تنتفض في مناقيرها الطويلة‪ .‬أحسب‬
‫أنه كان يرى نفسه مفترسا مثلها صياد رجال ‪ ،‬وأنه كان ينظر إلى الطيور على أنها من بني‬
‫قومه‪ .‬لم يسمح للبستانيين بمكافحتها قط‪ .‬انضمت إلَّي بقية المجلس بالتدريج ‪ ،‬وكان‬
‫العديد منهم أشعث ومتثائبًا من آثار النوم ‪ ،‬أما سيدي إنتف فأحب االستيقاظ باكرا وإنجاز‬
‫معظم أعمال الدولة قبل اشتداد حّر النهار ‪ ،‬لذا جلسنا ننتظر وصوله باحترام تحت الشمس‬
‫‪.‬الأولى‬
‫أشعة‬
‫همس الحاجب وهو يتخذ مكانه بجواري‪ :‬إنه في مزاج حسن هذا‪ .‬الصباح » ‪ ،‬وشعرُت بوخزة أمل‬
‫ضئيلة‪ .‬قد أتمكن من النجاة من العواقب الجدية لوعدي الأرعن الذي قطعته للوستريس‪ .‬ثم‬
‫قام اضطراب وغمغمة بيننا عندما هب نسيم النهر من بين أحواض البردي وخرج سيدي إنتف‬
‫علينا‪ .‬جاء بمشية مهيبة وهيئة ُمترفة ‪ ،‬فقد جعله ثقل ألقابه وسلطانه متغطرسا ‪ ،‬وكان‬
‫محيطا عنقه بذهب الثناء ‪ ،‬وهي قالدة من ذهب أحمر مستخرج من مناجم لوت ألبسه إياها‬
‫الفرعون بيديه‪ .‬سبقه مَّداُحه ‪ ،‬القزم مجحدر الساقين الذي اختير لجسده المشوه وصوته‬
‫الجهوري ‪ ،‬إذ طالما تسلى سيدي بإحاطة نفسه بالُّطَرف ‪ ،‬جميلة كانت أم بشعة وراح القزم‪-‬‬
‫متبخترا ومتوثبا على ساقيه المقوستين‪ -‬يترنم بقائمة ألقاب سيدي وتشريفاته‪ « .‬انظروا‬
‫عماد مصر! حيوا حارس مياه النيل! انحنوا أمام صاحب‬
‫‪! ».‬الفرعون‬
‫كانت كلها ألقابًا منحه إياها الملك ‪ ،‬والعديد منها يفرض عليه واجبات والتزامات‬
‫معينة ‪ ،‬فمثال كان مسؤوال بوصفه حارس مياه النيل عن مراقبة مستويات الفيضانات الموسمية‬
‫للنيل وتدفقاتها ‪ ،‬وهو واجب ُفّوض بطبيعة الحال إلى العبد المخلص تايتا الذي ال يعرف‬
‫التعب‪ .‬فأمضيت نصف عام مع فريق من المهندسين والرياضيين العاملين تحت إمرتي ‪ ،‬نقيس‬
‫الجروف الصخرية في أسوان ونحفرها حتى يصير بالإمكان معايرة ارتفاع المياه التي تعلوها‬
‫بدقة وحساب حجم الفيضان‪ .‬ومن خالل‬
‫‪48‬‬

‫هذه الأرقام تمكنت من تقدير أشهر الحصاد مقدًما ‪ ،‬ما سمح للحكومة بترقب كل من القحط‬
‫والوفرة والتخطيط لهما‪ .‬وُسر الفرعون من عملي فأسبغ المزيد من التشريفات والمكافآت على‬
‫موالي إنتف‪ .‬اركعوا أمام أمير الكرنك وحاكم ُكور مصر العليا االثنتين والعشرين كلها حيوا‬
‫سيد المدينة الجنائزية وحافظ المقابر الملكية »‪ .‬وتبعا لهذه الألقاب ‪ ،‬كان سيدي مسؤواًل‬
‫عن تصميم وبناء أضرحة الفراعنة الذين توفوا منذ زمن بعيد والذين ال يزالون أحياء ‪،‬‬
‫والحفاظ عليها‪ .‬ومرة أخرى ‪ ،‬ألِقَيْت أوزار هذه الواجبات على كتفي العبد طويل الأناة‪.‬‬
‫كانت زيارة سيدي إلى قبر الفرعون البارحة أولى زيارته منذ مهرجان أوزيريس الماضي ‪،‬‬
‫وُكنت أنا من ُأرسل في الغبار والقيظ ليالطف المعماريين الكذابين والبنائين المتآمرين‬
‫ويشتمهم‪ .‬كثيًرا ما ندمت على السماح لسيدي بإدراك مدى مواهبي‪ .‬اختصني من المجموعة من‬
‫دون أن يظهر ذلك ‪ ،‬إذ المست عيناه الصفراوين الحاقدتين كعيني فهد بري عيني ‪ ،‬وأمال‬
‫رأسه بعض الشيء ‪ ،‬فمشيت خلفه عندما مَّر ‪ ،‬وُذهلت كما ُأذَهل دائًما إزاء طوله وعرض كتفيه‪.‬‬
‫كان رجال وسيًما وسامة صارخة ذا أطراف طويلة رشيقة وبطن مسطح صلب ورأس أسدي يزينه شعر‬
‫كثيف لماع ‪ ،‬وكان عمره آنذاك أربعين عاما قضيت عشرين منها تقريبا عبده إنتف إلى الظلة‬
‫في وسط الحديقة ‪ ،‬وهي بناء مسقوف سيدي‬
‫قادنا‬
‫الُّظلة‬
‫بال جدران محيطة تحجب نسيم النهر البارد ‪ ،‬وجلس متربعا على الأرضية المرصوفة إلى‬
‫الطاولة المخفضة التي بسطت عليها لفائف الدولة ‪ ،‬فاتخذُت مكاني المعتاد خلفه‪ .‬لقد بدأت‬
‫أعمال النهار‪ .‬وفي خالل الصباح ‪ ،‬مال سيدي ميال طفيًفا إلى الخلف مرتين ‪ ،‬لم ُيدر رأسه‬
‫ولم ينبس ببنت شفة ‪ ،‬لكنه كان يطلب نصيحتي ‪ ،‬وتكلمُت بصوت خفيض من دون أن أحرك شفتي‬
‫تقريًبا ‪ ،‬فلم يسمعني سواه ولم تدرك إال قلة قليلة هذه التبادالت بيننا‪ .‬غمغمت مرة‪« :‬‬
‫إنه يكذب » ‪ ،‬وثانية‪ :‬ريتيك رجل أفضل للمنصب ‪ ،‬وقد عرَض هدية قوامها خمسة خواتم ذهبية‬
‫‪.‬لخزينة سيدي الخاصة » ‪ ،‬وخاتم ذهبي آخر لي إذا ما ضمن المنصب ‪ ،‬لكنني لم أذكره آنذاك‬
‫‪49‬‬

‫عند الظهيرة صرف سيدي جمع المسؤولين والملتمسين ‪ ،‬وطلب وجبة منتصف النهار الخاصة به‪.‬‬
‫ولأول مرة في ذلك اليوم بقينا وحدنا ‪ ،‬فيما عدا راسفر ‪ ،‬الذي كان قائد حرس القصر وجالد‬
‫الدولة الرسمي في آن معا ‪ ،‬واتخذ موقعه عند بوابة الحديقة ‪ ،‬حيث تكون الُّظلة في مرمى‬
‫نظره لكن خارج مجال‬
‫‪.‬سمعه‬
‫دعاني سيدي بإشارة منه لأتقدم إلى جوار مرفقه وأتذوق اللحوم والفاكهة اللذيذة التي‬
‫مدت أمامه ‪ ،‬وبينما انتظرنا أن ُتظهر أي آثار تسمم محتملة نفسها في ‪ ،‬ناقشنا أعمال‬
‫الصباح بالتفصيل‪ .‬ثم ساءلني بخصوص الحملة على بحيرة حابي وصيد أفراس النهر العظيم ‪،‬‬
‫فبينت له كل شيء وأعطيته أرقام العوائد التي تنتظره من لحوم أبقار النهر وجلودها‬
‫وأسنانها مضخًما التقديرات بعض الشيء ‪ ،‬فابتسم‪ .‬كانت ابتسامته صريحة وفاتنة وما إن‬
‫يراها المرء حتى يفهم قدرة سيدي إنتف على التالعب بالرجال والتحكم بهم وحتى أنا من‬
‫ينبغي أن يكون أكثر تعقال ‪ ،‬تخدرت بها مرة ثانية‪ .‬وبينما يقضم قطعة غضة باردة من شريحة‬
‫لحم فرس نهر ‪ ،‬جررُت نفسا واستحضرت جراءتي وبدأُت مناشدتي‪ « :‬فليعلم سيدي أنني سمحت‬
‫البنتكم بمرافقتي في الحملة » ‪ ،‬ورأيُت في عينيه أنه كان يعرف ذلك بالفعل ‪ ،‬وينتظر أن‬
‫أحاول إخفاءه عنه‪ .‬سألني بتلطف‪ « :‬ألم تفكر في طلب إذني سابقا ؟ » ‪ ،‬فتحاشيُت النظر في‬
‫عينيه وبينما ركزت على تقشير حبة عنب له أجبته‪ « :‬لم تسألني إال عندما كنا على وشك‬
‫المغادرة ‪ ،‬وكما تعلمون ‪ ،‬فإن حابي راعيتها ‪ ،‬وكانت ترغب بعبادتها وتقديم أضحية لها‬
‫في معبد البحيرة »‪ .‬فكرر كالمه‪ « :‬لكنك لم تسألني بأي حال ‪ ،‬أليس كذلك ؟ » ‪ ،‬وقدمت له‬
‫حبة العنب ‪ ،‬فباعد بين شفتيه وسمح لي بوضعها في فمه‪ .‬وال يمكن لذلك أن يعني إال أن‬
‫موقفه ودي ناحيتي ‪ ،‬لذا من الواضح أنه لم يكتشف بعد الحقيقة الكاملة بخصوص تانوس‬
‫ولوستريس‪ -.‬كان سيدي في مجلس مع أمير أسوان آنذاك ‪ ،‬ولم أكن لأجرؤ على إزعاجه‪ .‬وأيًضا‬
‫لم يكن ثمة أًذى مما يسعني إدراكه في الأمر‪ .‬كان قراًرا منزليا بسيطة ارتأيُت أنه ال يرقى‬
‫‪.‬الهتمامكم‬
‫‪50‬‬

‫فقهقه قائال‪ « :‬إن لسانك لمعسول جًّدا يا عزيزي ‪ ،‬أليس كذلك ؟ وإنك لبالغ الجمال اليوم‪.‬‬
‫تعجبني طريقة تلوينك جفنيك ‪ ،‬وما هذا العطر الذي يفوح‬
‫‪ ».‬منك ؟‬
‫فأجبته‪ « :‬إنه ُمقَّطر من بتالت البنفسج البري ‪ ،‬وقد سعدت جدا لأنه أعجبكم ‪ ،‬ذلك أن‬
‫بحوزتي حنجوًرا منه هدية صغيرة لكم يا سيدي » ‪ ،‬وأخرجت الحنجور من محفظتي وتقدمت على‬
‫ركبتي لأقدمه له‪ .‬فوضع إصبًعا أسفل ذقني ورفع وجهي ليقبلني ‪ ،‬واستجبت لقبلته استجابة‬
‫ملؤها الواجب حتى انسحب ورَّبت خدي‪ -.‬أيا ما كان ما تنتويه ‪ ،‬فإنك ال تزال في غاية‬
‫الجاذبية يا تايتا‪ .‬ما زلت قادًرا على جعلي أبتسم حتى بعد كل هذي السنين‪ .‬لكن أخبرني ‪،‬‬
‫لقد أحسنت االعتناء بالسيدة لوستريس ‪ ،‬ولم تتركها تغيب عن ناظريك لحظة ‪ ،‬أليس كذلك ؟‬
‫‪ ».-‬فوافقته بحدة‪ « :‬كما هي الحال دائما يا سيدي‬
‫إذن أال يوجد شيء غير اعتيادي فيما يخصها توُّد إبالغي به ؟ كنُت ال أزال على ركبتي أمامه ‪،‬‬
‫وفشلت محاولتي التالية للكالم‪ .‬جٌف‬
‫‪.‬صوتي‬
‫فضحك قائال ‪« :‬ال َتِصُّر أمامي يا عزيزي القديم ‪ ،‬انطق كالرجال ‪ ،‬وإن لم تكن رجال »‪ .‬كانت‬
‫سخرية ضئيلة الذعة ‪ ،‬لكنها مدتني بالقوة‪ .‬ثمة بالفعل أمر أرغب بكل ضعٍة أن ألفت انتباه‬
‫سيدي إليه ‪ ،‬وهو في واقع الأمر يخص سيدتي لوستريس‪ .‬كما أبلغتكم بالفعل ‪ ،‬فقد طلع قمر‬
‫ابنتكم الأحمر للمرة الأولى عند فيضان النهر العظيم ‪ ،‬ومذ ذلك الحين ‪ ،‬أخذت دوراته‬
‫تتدفق بشدة كل شهر‪ .‬أبدى سيدي تجهَم ُكره صغير ‪ ،‬ذلك أن وظائف الجسد الأنثوي تنّفره‪.‬‬
‫وكان ذلك في رأيي من سخرية القدر ‪ ،‬بالنظر إلى انهماكه في الجسدية الذكورية الأقل لذة‬
‫‪.‬بكثير‬
‫القطاعات‬
‫فاستعجلت كالمي‪ « :‬إن سيدتي لوستريس الآن في عمر مناسب للزواج ‪ ،‬امرأة ذات طبيعة متقدة‬
‫‪ ».‬ومحبة‪ .‬أرى أنه من الحكمة أن نجد لها زوجا بأسرع وقت ممكن‬
‫وهي‬
‫‪ ».‬فسألني بجفاف‪ « :‬وال شك في أن لديك زوج تقترحه‪ .‬صحيح ؟‬
‫‪51‬‬

‫أومأت برأسي‪ « :‬ثمة خاطب بالفعل يا موالي »‪ .‬ليس خاطًبا واحًدا يا تايتا ‪ ،‬بل تقصد أن‬
‫تقول خاطب آخر ‪ ،‬أليس كذلك ؟ فأنا أعرف ستة على الأقل ‪ ،‬من بينهم أمير أسوان وحاكم‬
‫لوت اللذين قدما عروًضا بالفعل‪ .‬لقد عنيُت خاطًبا آخر بالفعل ‪ ،‬لكنه هذه المرة خاطب‬
‫وافقت السيدة لوستريس عليه ‪ ،‬ذلك أنها ‪ ،‬وكما تذكرون ‪ ،‬أشارت إلى الأمير بقولها ذاك‬
‫الضفدع البدين » ‪ ،‬وإلى الحاكم على أنه « ماعز عجوز شهواني »‪ .‬فهز رأسه قائال‪ « :‬إن‬
‫موافقة الطفلة أو رفضها أمر ال يهمني البتة ( ثم ابتسم ومسد خدي ليشجعني) ‪ ،‬لكن تابع‬
‫يا تايتا أخبرني باسم هذا الُمتَّيم الملهوف الذي سيشرفني بأن يصير صهري مقابل أثرى جهاز‬
‫في مصر فقويت نفسي للإجابة ‪ ،‬لكنه أوقفني بقوله )ال ‪ ،‬انتظر! دعني أحزر »‪ .‬ثم استحالت‬
‫ابتسامته إلى تلك التكشيرة الخبيثة الماكرة التي أعرفها حق المعرفة ‪ ،‬وأدركُت أنه‬
‫يعابثني‪ .‬تظاهر بأنه يتفكر في المسألة‪ « :‬كي تقبل لوستريس به ‪ ،‬ال بَّد أن يكون شابا‬
‫ووسيما ‪ ،‬ولكي تتكلم أنت نيابًة عنه ‪ ،‬ال بد أن يكون صديقك أو ربيبك‪ .‬وال بد أن فرصة ما‬
‫قد سنحت لنموذج الكمال هذا ليعلن طلبه ويستجدي دعمك‪ .‬عجبا ما تراه يكون الزمان‬
‫والمكان المناسبين لحدوث ذلك ؟ أتراه منتصف الليل في معبد حابي ؟ هل أسيُر في الأثر‬
‫الصحيح يا تايتا ؟ »‪ .‬شعرُت بلوني يشحب‪ .‬كيف عرف كل هذا القدر ؟ ثم أزلق يده خلف رأسي‬
‫وداعب قفا عنقي‪ .‬كانت هذه الحركة في الغالب تمهيده للممارسة الممقوتة ‪ ،‬وقبلني ‪،‬‬
‫وقال‪ « :‬يمكنني أن أرى في وجهك أن تخميناتي قريبة من الهدف ( وأخذ حفنة من شعري في‬
‫يده بارًما إياها برما خفيًفا) ‪ ،‬لم يبَق علينا الآن إال التكهن باسم هذا العاشق الجسور‪.‬‬
‫أتراه داكا ؟ ال ‪ ،‬ال ‪ ،‬فداكا ليس غبًّيا بالحد الكافي ليستثير سخطي ( وبرم شعري بقوة‬
‫تكفي لتفيض عيناي بالدموع) ‪ ،‬كراتاس إذن ؟ إنه وسيم وأحمق بما يكفي ليتخذ المجازفة‬
‫» ‪ ،‬وبرم بقوة أشد حتى شعرت أن كتلة من شعري خرجت في يده مصدرًة صوت تمزق ‪ ،‬ولجمُت‬
‫‪.‬الأنة في حلقي‪ .‬قال‪ « :‬أجبني يا عزيزي ‪ ،‬أكان كراتاس ؟ وأنزل وجهي إلى حجره بالقوة‬
‫‪52‬‬

‫فهمست متألما ال يا سيدي »‪ .‬كان مستثاًرا استثارة تامة ولم يفاجئني ذلك ‪ ،‬ثم حشر وجهي‬
‫في حجره وأبقاني هناك‪ .‬وتصنع الحيرة‪ « :‬ليس كراتاس ؟ أواثق أنت ؟ إن لم يكن كراتاس ‪،‬‬
‫فقد أعيتني الحيلة إذن في تخمين من سواه قد يكون على هذا القدر من الوقاحة والإهانة‬
‫والغباء القاتل ليتقَّرب من االبنة العذراء لوزير مصر العليا الأعظم »‪ .‬رفع صوته فجأة‬
‫وصاح‪ « :‬راسفر! » ‪ ،‬وكان رأسي ملويا في حجره فرأيُت من بين دموعي راسفر يقترب‪ .‬في‬
‫حديقة حيوان الفرعون على جزيرة الفنتين في أسوان ‪ ،‬كان ثمة دب أسود عمالق جلبته‬
‫القوافل التجارية قبل سنوات عديدة من الشرق ‪ ،‬وطالما ذكرني ذلك المتوحش المندب الشرس‬
‫بقائد حرس سيدي الشخصي أيما تذكير ‪ ،‬إذ إن كليهما يتمتع بالجسد الهائل معدوم القوام‬
‫نفسه ‪ ،‬والقوة البربرية الِفَّجة الكافية لطحن رجل حتى الموت‪ .‬لكن من حيث مالحة الوجه‬
‫وعذوبة الطبع ‪ ،‬كان الدب مفضال على راسفر بكثير‪ .‬راقبته يدنو في هرولة سريعة ورشيقة‬
‫على نحو مفاجئ بالنسبة إلى تينك الساقين الثقيلتين الشبيهتين بشجرتين وبطنه المنتفخ‬
‫غزير الشعر ‪ ،‬وحملُت َعْوًدا عبر السنين إلى اليوم الذي اجتَّثت فيه رجولتي‪ .‬بدا كل شيء‬
‫مألوًفا ‪ ،‬كأنني ُأجبر على عيش ذلك اليوم الرهيب مرة أخرى ‪ ،‬فقد كانت تفاصيله كلها ال‬
‫تزال واضحًة في ذهني حتى إنني أردُت الزعيق ملء صوتي ‪ ،‬وكان ممثلو تلك المأساة القديمة‬
‫نفسهم‪ :‬سيدي إنتف ‪ ،‬وراسفر المتوحش وأنا ‪ ،‬إال أن الفتاة غائبة‪ .‬كان اسمها أليدا ‪،‬‬
‫وكانت في سني نفسها ‪ ،‬ست عشرة سنة بريئة ‪ ،‬وأمة مثلي‪ .‬أذكرها الآن على أنها جميلة ‪،‬‬
‫ُأ‬
‫لكن من المرجح أن ذاكرتي تخونني ‪ ،‬فلو كانت كذلك ل رسلت إلى حريم إحدى العائالت الكبرى‬
‫‪ ،‬ال أن ُتبعد إلى المطبخ‪ .‬وأعرف يقينًا أنها كانت تتمتع ببشرة بلون وبريق الكهرمان‬
‫المصقول وأنها كانت دافئة وناعمة الملمس‪ .‬لن أنسى شعور لمس جسد أليدا أبًدا ‪ ،‬ذلك أنني‬
‫لن أختبر شيًئا مثله ثانية‪ .‬كان واحدنا قد وجد السلوان وخالص العزاء في الآخر ‪ ،‬ولم‬
‫أكتشف قُّط من من الذي خاننا لسُت رجال انتقاميا ‪ ،‬لكنني ما زلُت أحلم أنني سأجد الشخص‬
‫‪.‬الذي وشى بنا يوما ما‬
‫‪53‬‬

‫كنُت في‬
‫ذلك الحين محظي سيدي إنتف ‪ ،‬عزيزه المميز ‪ ،‬وعندما اكتشف أنني لم أكن مخلصا له ‪ ،‬أصاب‬
‫كبرياءه جرح عميق دفعه إلى حدود العته‪ .‬فجاء راسفر ليأخذنا ‪ ،‬جارا ‪ ،‬إيانا كٌّل في يد ‪،‬‬
‫إلى مخدع سيدي إنتف بسهولة كما لو كنا زوج هررة ‪ ،‬وبينما عَّرانا من ثيابنا هناك جلس‬
‫سيدي متربًعا على الأرض كما يجلس الآن تماًما ‪ ،‬ثم قيد راسفر معصمي اليدا وكاحليها‬
‫بسيور من الجلد الخام‪ .‬كانت شاحبة ‪ ،‬وترتعش ‪ ،‬لكنها لم تبك ‪ ،‬ولم أحبها وأعجب‬
‫بشجاعتها في أي وقت سبق أكثر من تلك اللحظة‪ .‬أشار لي سيدي إنتف بأن أركع أمامه فأخذ‬
‫خصلة من شعري وراح يهمس بعبارات التحُّبب في أذني ‪ ،‬ثم سألني‪ :‬أتحبني يا تايتا ؟ » ‪،‬‬
‫ولأنني كنُت خائفا ‪ ،‬وظننُت بطريقة غامضة ما أنه قد يصفح عن أليدا أجبته‪ « :‬أجل يا سيدي‬
‫‪ ،‬أحبك »‪ .‬فسألني بصوت حريري‪ :‬أتحب غيري يا تايتا ؟ » ‪ ،‬ولأنني كنُت رعديًدا وخائًنا ‪،‬‬
‫أجبته ‪« :‬ال يا سيدي ‪ ،‬ال أحب سواك »‪ .‬سمعُت في تلك اللحظة أليدا تنتحب ‪ ،‬وكان واحًدا من‬
‫أشد الأصوات ترويعا في حياتي‪ .‬ثم نادى راسفر‪ :‬اجلب الفاسقة إلى هنا وضعها بطريقة تسمح‬
‫لهما برؤية بعضهما بعًضا بوضوح‪ .‬ينبغي لتايتا أن يرى كل ما يحدث لها »‪ .‬أزلق راسفر‬
‫أنشوطة من حبل مجدول من الجلد الخام حول جبهة أليدا ‪ ،‬وكان الحبل معقوًدا عقًدا قريبة‬
‫من بعضها بعضا ‪ ،‬فبدا كعصابة الرأس التي ترتديها النساء البدويات‪ .‬ثم وقف خلف البنت‬
‫وأقحم هراوة قصيرة بدينة من خشب الزيتون في أنشوطة الجلد الخام وبرمها حتى اشتدت على‬
‫جلدها الناعم غير المشوب ‪ ،‬فعضت عقد الجلد القاسية لحم أليدا وعبست ألما‪ .‬حذره سيدي‪:‬‬
‫« على مهلك يا راسفر ‪ ،‬ال يزال أمامنا شوط طويل لنقطعه »‪ .‬بدت هراوة خشب الزيتون كلعبة‬
‫أطفال في كفي راسفر الضخمتين المشعرتين ‪ ،‬وراح يبرمها بترو حذر ‪ ،‬ربع دورة كل مرة‪.‬‬
‫أخذت الُعقد تحفر أكثر ‪ ،‬ثم فغر فم أليدا وفرغت رئتاها في دفقة هواء الهثة ‪ ،‬وانسل‬
‫اللون من جلدها حتى صارت بلون رماد الموتى‪ .‬كافحت بعد ذلك لتملأ رئتيها بالهواء ثم‬
‫أطلقته في صرخة طويلة ثاقبة‪ .‬برم راسفر‪ -‬وال يزال مبتسًما ابتسامة عريضة‪ -‬الهرواة فدفن‬
‫خط العقد الجلدية نفسه في جبهة أليدا ‪ ،‬وتغير شكل جمجمتها ظننُت في البداية أنها‬
‫‪54‬‬

‫خدعة من عقلي المنفعل ‪ ،‬ثم أدركُت أن رأسها في الحقيقة يضيق ويستطيل مع اشتداد‬
‫الأنشوطة ‪ ،‬وصارت صرختها دوًيا متواصال متتابعا انغمس في قلبي كنصل السيف ‪ ،‬واستمر إلى‬
‫ما بدا أبدية‪ .‬ثم انفجرت جمجمتها‪ .‬سمعُت العظام تتحطم بصوت أشبه بجوزة نخيل ُتسحق بين‬
‫فكي فيل‪ُ .‬قطعت تلك الصرخة المريعة المدوية فجأًة مع تدلي جثة أليدا بين يدي راسفر ‪،‬‬
‫وُملئت روحي بالأسى واليأس حتى طفحت‪ .‬وبعد ما شعرُت أنه الأزل ‪ ،‬رفع سيدي رأسي ونظر إلى‬
‫عيني ‪ ،‬وكانت سحنته حزينة ونادمة عندما قال لي‪ « :‬لقد رحلت يا تايتا‪ .‬كانت شرا أودى‬
‫بك إلى الضالل ‪ ،‬ويجب أن نحرص أن ال يحدث ذلك ثانية‪ .‬يجب أن نحميك من أي غوايات أخرى »‪.‬‬
‫وأشار إلى راسفر مرة ثانية ‪ ،‬فأمسك بجسد أليدا العاري من كعبيه وجره إلى الشرفة ‪،‬‬
‫وراح قفا رأسها المسحوق يرتطم بالدرجات وشعرها يتمّوج خلفها وألقاها بدفعة من كتفيه‬
‫الهائلتين بعيًدا إلى النهر‪ .‬التمعت أطرافها المرتخية وتشقلبت عندما سقطت وخبطت‬
‫الماء ‪ ،‬ثم غرقت بسرعة وانتثر شعرها حولها كسعف أعشاب النهر‪ .‬استدار راسفر بعد ذلك‬
‫ومضى إلى طرف الشرفة حيث كان اثنان من رجاله يعتنيان بمجمرة من الفحم المشتعل ‪،‬‬
‫وبجوار المجمرة ‪ ،‬صفت مجموعة أدوات جراح كاملة على صينية خشبية‪ .‬ألقى نظرة إليها‬
‫وأومأ برأسه راضيا ثم عاد وانحنى أمام سيدي إنتف قائال‪ « :‬كل شيء في حالة جاهزية »‪.‬‬
‫مسح سيدي وجهي المخطط بالدموع بإصبعه ‪ ،‬ورفع الإصبع إلى شفتيه كما لو أنه يتذوق أساي‪.‬‬
‫ثم همس‪ « :‬تعال يا عزيزي الجميل » ‪ ،‬وأنهضني فساقني إلى الشرفة‪ .‬كنت ذاهال معمًّيا‬
‫بدموعي حتى إنني لم أدرك تهلكتي الخاصة إلى أن أمسكني الجنديان وألقياني على الأرض‬
‫باسطين أطرافي فوق البالط الآجري ‪ ،‬وثبتا معصمي وكاحلي فلم يعد بإمكاني تحريك شيء سوى‬
‫رأسي‪ .‬ركع موالي عند رأسي ‪ ،‬بينما ركع راسفر بين فخذي المتباعدين ‪ ،‬وقال‪ :‬لن تقترف هذا‬
‫الشر ثانية يا تايتا وفي تلك اللحظة انتبهُت إلى المبضع البرونزي الذي كان راسفر قد‬
‫أخفاه في يمناه‪ .‬ثم أومأ سيدي له ‪ ،‬فمد يده الحرة إلى أسفلي وقبض علي وشدني حتى شعرت‬
‫‪.‬أنه ينتزع أحشائي من بين ساقي‬
‫‪55‬‬

‫ابتسم راسفر‪ « :‬يا لهما من بيضتين ممتازتين ثم أراني المبضع ‪ ،‬واضعا إياه أمام‬
‫عيني) ‪ ،‬لكنني سأطعمهما للتماسيح ‪ ،‬مثلما فعلت بحبيبتك الضئيلة‬
‫‪.‬بالضبط » ‪ ،‬وقبل النصل‬
‫توسلت إليه‪ :‬أرجوك يا موالي ترأف بي‪ ...‬لكن تضرعي انتهى في صرخة حادة عندما بضعني‬
‫راسفر ‪ ،‬وشعرُت كما لو أن سيًخا متوهجا حرارًة قد ُأقيم في بطني‪ .‬رفع راسفر كيس الجلد‬
‫المجعد الشاحب ومكنوناته المثيرة للشفقة‪ :‬ودعهما أيها الصبي الحلو » ‪ ،‬ثم َهَّم‬
‫بالنهوض ‪ ،‬لكن سيدي منعه ‪ ،‬وقال له بهدوء‪ « :‬لم تنه عملك بعد ‪ ،‬أريده كله »‪ .‬حدق‬
‫راسفر إليه للحظة ‪ ،‬غير مستوعب الأمر ‪ ،‬ثم قهقه حتى تنطط كرشه وجار‪ « :‬بحق دماء حورس‬
‫من الآن فصاعًدا سُيضطر الصبي الحلو إلى أن يقرفص كفتاة عندما يريد التبول! » ‪ ،‬وضرب‬
‫ثانيًة ‪ ،‬ثم انفجر ضاحًكا وهو يرفع إصبع اللحم التي كانت ذات مرة الجزء الأكثر حميمية‬
‫من جسدي‪ .‬قال راسفر‪ « :‬هون عليك يا فتى ‪ ،‬سيكون مشيك أخف بكثير من دون هذا الوزن » ‪،‬‬
‫وهم يمشي وهو يترنح ضحكا ناحية حافة الشرفة كأنه ينتوي رمي ما يحمله إلى النهر ‪ ،‬لكن‬
‫سيدي ناداه بحدة ثانية‪ .‬وأمره‪ « :‬أعطنيها! » ‪ ،‬فوضع راسفر بكل طاعة فتات رجولتي‬
‫الدامي في يديه‪ .‬تفحصه سيدي بفضول لبضع ثوان ثم كلمني من جديد‪ « :‬لسُت قاسًيا إلى درجة‬
‫حرمانك من هذا التذكار الفاخر إلى الأبد يا عزيزي‪ .‬سأرسلها إلى المحنطين ‪ ،‬وعندما‬
‫تصير جاهزة سأجعلهم يعلقونها في قالدة محاطة باللؤلؤ والالزورد لتكون هديتي لك في‬
‫مهرجان أوزيريس القادم‪ .‬وهكذا ‪ ،‬في يوم دفنك ‪ ،‬يمكنك وضعها إلى جوارك في القبر ‪ ،‬وإن‬
‫كانت الآلهة رؤوفة ‪ ،‬فقد تسمح لك باالستفادة منها في الحياة الآخرة »‪ .‬كان ينبغي لهذه‬
‫الذكريات الُمرّوعة أن تنتهي عندما أوقف راسفر النزيف بمغرفة من ورنيش الحناطة المغلي‬
‫أخذها من المجمرة ‪ ،‬وحملتني وطأة الألم غير المحتملة إلى غياهب النسيان الميمون ‪،‬‬
‫لكنني صرُت الآن عالًقا في الكابوس ‪ ،‬كل شيء يحدث ثانية ‪ ،‬إال أن أليدا غائبة هذه‬
‫المرة ‪ ،‬وبدال من سكين الإخصاء ‪ ،‬يحمل راسفر سوًطا من جلد أفراس النهر في قبضته المشعرة‬
‫‪.‬العظيمة‬
‫‪56‬‬
‫‪56‬‬

‫كان السوط يعادل االمتداد الكامل لذراعي راسفر ‪ ،‬ويستدق حتى تبلغ نهايته ُسمك خنصره‪.‬‬
‫راقبته فيما مضى وهو ينجره بنفسه ‪ ،‬إذ قشر الطبقة الخارجية الغليظة من شريط الجلد‬
‫المدبوغ الطويل حتى انكشف الجلد الداخلي ‪ ،‬متوقًفا بانتظام ليختبر اتزانه وثقله ‪ ،‬وظل‬
‫يضرب الهواء به حتى عول وانتحب كريح الصحراء في عبورها أخاديد تالل لوت‪ .‬كان بلون‬
‫الكهرمان ‪ ،‬وصقله راسفر بُحب حتى صار أملس وشفيًفا كالزجاج ‪ ،‬لكنه مرن حد أن بمقدوره‬
‫ثنيه في قوس مثالي بين كفيه‪ .‬وقد ترك دماء مئة ضحية تجف عليه وتصبغ نهايته المستدقة‬
‫بلون صدئي لماع رائع من الناحية الجمالية‪ .‬كان راسفر فناًنا في استخدام هذه الأداة‬
‫الشنيعة‪ .‬بإمكانه إرسال نقرة خاطفة إلى فخذ شابة غض ال تخّلف عليه سوى أثر قرمزي ال‬
‫يخترق الجلد البتة ‪ ،‬لكنه يلسع بضراوة العقرب ‪ ،‬تارًكا ضحيته تتلوى وتنتحب مضاضًة ‪ ،‬أو‬
‫يمكنه بدزينة من الضربات المهسهسة أن يعري ظهر رجل من الجلد واللحم تاركا أضالعه وقمة‬
‫عموده الفقري مكشوفة‪ .‬صار راسفر واقًفا فوقي يبتسم ملء فمه وهو يثني السوط الطويل بين‬
‫يديه ‪ ،‬فقد كان يحب وظيفته ‪ ،‬ويكرهني بكل عنف حسده ومشاعر الدونية التي زرعها ذكائي‬
‫وحسن مظهري وحظوتي فيه‪ .‬مسد سيدي إنتف ظهري العاري وتنهد‪ :‬إنك لخبيث في بعض الأوقات‬
‫يا عزيزي القديم‪ .‬تحاول خداعي وأنا الذي تدين له بأخلص الوالء ‪ ،‬ال ‪ ،‬بل أكثر من مجرد‬
‫الوالء ‪ ،‬بوجودك نفسه وتنهد ( ثانية لم تفرض هذا الكدر علَّي ؟ ينبغي أن تكون أعقل بكثير‬
‫من أن تزعجني بطلب خطبة ذاك الوقح الصغير‪ .‬كانت محاولة سخيفة ‪ ،‬لكن أظنني أفهم سبب‬
‫إقدامك عليها ؛ ِإَّن ِحَّس الرحمة الطفولي إحدى نقاط ضعفك الكثيرة ‪ ،‬وأرجح أنه سيكون يوما‬
‫ما سبب سقوطك النهائي‪ .‬غير أنني أراه أحياًنا طريًفا ومحببا ‪ ،‬ولعلي قد سامحتك عليه عن‬
‫طيب نفس ‪ ،‬لكن ال يمكنني التغاضي عن حقيقة أنك عرضت القيمة السوقية للبضائع التي‬
‫أسلمتك أمرها للخطر‪ .‬ثم برم رأسي محرًرا فمي كي أجيبه) ‪ ،‬ولأجل ذلك ‪ ،‬يجب أن ُتعاقب‪.‬‬
‫أتفهمني ؟ »‪ .‬همست‪ « :‬أجل يا سيدي » ‪ ،‬لكنني أدرُت عيني لأراقب السوط في يدي راسفر حشر‬
‫‪.‬سيدي إنتف وجهي ثانية في حجره ‪ ،‬ثم خاطب راسفر من فوق رأسي‬
‫‪57‬‬

‫وظف كل براعتك يا راسفر ال تشق جلده لو سمحت ‪ ،‬ال أريد لهذا الظهر الناعم المبهج أن‬
‫ُيشَّوه إلى الأبد‪ .‬عشر جلدات تكفي بداية ‪ ،‬وعدها جهاًرا‪ .‬كنت قد شاهدت مئة بائس أو أكثر‬
‫يخضع لهذا العقاب ‪ ،‬وبعضهم محاربون وأبطال متفاخرون ‪ ،‬ولم يقدر أُّيهم على البقاء صامتا‬
‫تحت سوط راسفر بید أنه من الأفضل للمرء أن ال يبقى صامتا ‪ ،‬ذلك أنه تحدًيا شخصيا‬
‫لمهارته ‪ ،‬وكنت أعرف ذلك حق المعرفة ‪ ،‬كوني مررُت الدرب قباًل ‪ ،‬فتجهزت تماًما البتالع أي‬
‫‪.‬كبرياء غبية وللإشادة بفن راسفر بصوت عال ‪ ،‬وملأت رئتي استعداًدا‬
‫يرى الصمت‬
‫بهذا‬
‫نخر راسفر‪ « :‬واحدة! » ‪ ،‬وصّفَر السوط‪ .‬وكما تنسى امرأة شدة ألم الوالدة كنت قد نسيت‬
‫لسعته الحادة ‪ ،‬وصرخت بصوت أقوى مما انتويت‬
‫‪.‬فيما بعد ‪ ،‬حتى‬
‫غمغم سيدي إنتف في أذني‪ « :‬أنت محظوظ يا عزيزي تايتا ‪ ،‬فقد أمرُت كهنة أوزيريس بتفحص‬
‫البضائع الليلة الماضية ‪ ،‬وال تزال سليمة »‪ .‬تلويُت في حجره ‪ ،‬ولم يكن ذلك جراء الألم‬
‫فحسب ‪ ،‬بل جراء فكرة أن يتحسس جداء المعبد الفاجرين العجائز فتاتي الصغيرة ويتطفلوا‬
‫عليها‪ .‬كان لراسفر طقسه الصغير الخاص في إطالة العقاب وضمان أن يتلذذ وضحيته بكل لحظة‬
‫أقصى التلذذ ‪ ،‬حيث يهرول بعد كل جلدة في دائرة صغيرة حول مكان االجتماع ناخًرا عبارات‬
‫الحث والتشجيع لنفسه ‪ ،‬وحامال السوط كسيف احتفالي‪ .‬ومع إتمامه الدائرة ‪ ،‬يتخذ مكانه‬
‫‪.‬للجلدة الثانية ‪ ،‬ويرفع السوط عالًيا‬
‫‪.‬صاح‪ « :‬اثنتان! » ‪ ،‬وزعقُت ثانية‬
‫***‬
‫كانت إحدى إماء لوستريس تنتظرني على شرفة مهجعي الواسعة بينما أصعد درجات الحديقة‬
‫أعرج ألًما حيتني قائلة‪ « :‬تأمرك موالتي أن تحضر‬
‫‪ ».‬عندها من فورك‬
‫أجبتها‪ « :‬أخبريها أنني متوعك » ‪ ،‬محاوال التملص من االستدعاء ‪ ،‬ثم ناديت أحد الغلمان‬
‫ليبلسم إصاباتي ‪ ،‬وأسرعت إلى مخدعي لأتخلص من البنت لم يكن بوسعي مواجهة لوستريس‬
‫بعد ‪ ،‬فقد خفت من إبالغها بفشلي ‪ ،‬ومن‬
‫‪58‬‬

‫حملها أخيًرا على مواجهة الواقع واستحالة حبها لتانوس ‪ ،‬لكَّن البنت السوداء تبعتني وهي‬
‫ترنو إلى آثار الجلد المزرقة على ظهري برعب لذيذ‪ .‬فصحت من فوق كتفي‪ :‬اذهبي إلى موالتك‬
‫وأخبريها أنني جريح ‪ ،‬وأنني عاجز عن القدوم إليها »‪ -.‬لقد قالت لي إنك ستحاول التملص‬
‫من الأمر ‪ ،‬لكنها أمرتني أيًضا بأن أالزمك وأحرص أن ال تفعل‪ .‬فبينما وبختها بصرامة كان‬
‫الصبي يدهن ظهري بمرهم شاف من إعدادي‪ « :‬إنك لأمة وقحة »‪ .‬وافقتني العفريتة مبتسمة‪« :‬‬
‫أجل ‪ ،‬لكنك كذلك أيًضا » ‪ ،‬وتفادت الصفعة الفاترة التي وجهتها إليها بسهولة‪ .‬فأذعنُت‪:‬‬
‫اذهبي وأخبري موالتك أنني آت »‪ .‬أمرتني أن أنتظر وأحرص على مجيئك‪ .‬وبينما أعبر حارسي‬
‫بوابة الحريم هكذا حظيت بمن يرافقني‪ .‬كان الحارسان خصيين مثلي ‪ ،‬لكنهما ‪ ،‬وعلى عكسي‬
‫ضخمين ومخنثين ‪ ،‬وكانا قويين شرسين رغم بدانتهما ‪ ،‬أو ربما بسببها ‪ ،‬لكنني استخدمت‬
‫نفوذي في الماضي لأؤمن لهما هذه الوظيفة السهلة ‪ ،‬لذا سمحا لي بالعبور إلى مهاجع‬
‫النساء مع تحية احترام‪ .‬لم يكن الحريم كبيًرا وال رحراًحا مثل مهاجع الغلمان ‪ ،‬وبدا محل‬
‫اهتمام سيدي إنتف الحقيقي واضًحا ‪ ،‬فقد كان ُمجمًعا من الأكواخ اللبنية المحاطة بجدار‬
‫لبني مرتفع ‪ ،‬وليس فيه من الحدائق والزينة إال ما نهضت لوستريس وإماؤها به بمساعدتي‪.‬‬
‫أما زوجات الوزير فكن بدينات وكسالنات أكثر مما ينبغي ومنشغالت بفضائح الحريم ودسائسه‬
‫ليفرغن طاقاتهن‪ .‬وكان مسكن لوستريس أقربها إلى البوابة الرئيسة ‪ ،‬محاطا بروضة جميلة‬
‫فيها بركة زنبق وطيور مغردة تزقزق في أقفاص مجدولة من الخيزران المفلوق ‪ ،‬وجدرانه‬
‫اللبنية مزينة بجداريات بهيجة لمشاهد من النيل أو لأسماك وطيور وإالهات ساعدُت في‬
‫رسمها‪ .‬كانت إماؤها محتشدات في مجموعة مقهورة في المدخل ‪ ،‬وثمة أكثر من واحدة تبكي‬
‫ووجهها مسّطر بدموعها‪ .‬شققت طريقي عبرهَّن إلى الداخل المعتم البارد ‪ ،‬وسمعُت من فوري‬
‫موالتي تنشج في الغرفة الداخلية ‪ ،‬فهرعُت‬
‫‪59‬‬

‫إليها ‪ ،‬مستحيا من أنني كنُت رعديًدا إلى درجة محاولة التملص من واجبي‬
‫‪.‬تجاهها‬
‫وجدتها مستلقية على وجهها فوق السرير المنخفض ‪ ،‬وكامل جسمها يرتجف من شدة الأسى ‪،‬‬
‫لكنها سمعت وقع دخولي وانتفضت عن السرير مسرعة إلَّي‪ -.‬واه يا تايتا سيرسلون تانوس‬
‫بعيًدا! غًدا يصل الفرعون إلى الكرنك وسيحمله أبي على أمر تانوس بأخذ سربه أعلى النهر‬
‫إلى الفنتين والجنادل واه يا تايتا إنها رحلة عشرين يوما إلى الجندل الأول‪ .‬لن أراه‬
‫ثانية أبًدا‪ .‬يا ليتني ِمُّت‪ .‬سأرمي بنفسي في النيل لتلتهمني التماسيح ‪.‬ال أريد العيش من‬
‫‪...-‬دون تانوس‬
‫قالت كل ذلك في عولة يأس واحدة متصاعدة ‪ ،‬فهدهدتها بين ذراعي‪ :‬رويدك يا طفلتي ‪ ،‬أنى‬
‫لك معرفة كل هذي الأمور الُمرّوعة ؟ قد ال تحدث أبدا »‪ .‬أوه ‪ ،‬بلى سيفعلون‪ .‬لقد أرسل لي‬
‫تانوس رسالة ‪ ،‬ذلك أن لكراتاس أخ في حرس أبي الشخصي ‪ ،‬وقد سمع أبي يناقش الأمر مع‬
‫راسفر ‪ ،‬إذ اكتشف أمري وتانوس بطريقة ما‪ .‬إنه يعرف أننا كنا في معبد حابي وحدنا‪ .‬واه‬
‫يا تايتا ‪ ،‬لقد أرسل أبي الكهنة ليفحصونني‪ .‬أنزل أولئك العجائز القذرون الفظائع بي‬
‫وآلمني ذلك كثيًرا يا تايتا‪ .‬عانقتها عناًقا لطيًفا ‪ ،‬وال يتكرر كثيًرا أن تسنح لي الفرصة‬
‫بفعل ذلك ‪ ،‬لكنها ردت لي العناق بكل قوتها وقد تحول تفكيرها من جراحها الخاصة إلى‬
‫‪.‬حبيبها‬
‫بكت قائلة‪ « :‬لن أرى تانوس ثانية أبًدا ( وذكرني ذلك بصغر سنها الحقيقي ‪ ،‬إذ ال تعدو‬
‫كثيًرا كونها طفلة هشة وتائهة في أساها) ‪ ،‬سيدمره‬
‫‪ ».‬أبي‬
‫حاولت طمأنتها‪ « :‬حتى أبوك عاجز عن مس تانوس ‪ ،‬فهو قائد أحد أفواج نخبة حرس الفرعون‬
‫الشخصي ‪ ،‬رجل من رجال الملك ‪.‬ال يتلقى تانوس أوامره إال من الفرعون ‪ ،‬ويتمتع بالحصانة‬
‫الكاملة لتاج مصر المزدوج ( ولم أردف أن هذا على الأرجح السبب الوحيد الذي منع أباها‬
‫من تدميره حتى الآن ‪ ،‬بل أردفُت بلطف‪ ...‬أما عن عدم رؤية تانوس ثانية ‪ ،‬فستمثلين أمامه‬
‫‪ ».‬الحفل ‪ ،‬وسأحرص على أن تحظيا بفرصة للحديث بين الفصول‬
‫في‬
‫‪60‬‬

‫‪-‬‬ ‫ال يمكن أن يسمح أبي باستمرار الحفل بعد الآن ‪-.‬ال بديل لديه ‪ ،‬إال إن كان مستعدا‬
‫لتخريب إنتاجي ‪ ،‬والمخاطرة بإثارة استياء الفرعون ‪ ،‬وثقي أنه لن يفعل ذلك أبًدا‪.‬‬
‫فانتحبت قائلة‪ « :‬سيرسل تانوس بعيًدا ‪ ،‬ويأتي بممثل آخر ليؤدي دور‬
‫حورس »‪-.‬ال يوجد وقت كاف لتدريب ممثل آخر سيؤدي تانوس دور الإله حورس ‪ ،‬وسأوضح ذلك‬
‫لسيدي إنتف ‪ ،‬وستحظين وتانوس بفرصة للتكلم ‪ ،‬وسنجد مخرجا لكليكما‪ .‬غالبت دمعها ورفعت‬
‫إلي نظرة تشي بخالص الثقة‪ « :‬آه يا تايتا ‪ ،‬أعرف أنك ستجد مخرجا‪ .‬دائما ما تجده‪» ...‬‬
‫ثم توقفت فجأة وتغيرت سحنتها ‪ ،‬إذ تحركت يداها على ظهري ‪ ،‬مكتشفة الكدمات الُمحززة‬
‫التي رسمها سوط راسفر عليه‪ -.‬آسف يا موالتي ‪ ،‬لقد حاولت طرح طلب خطبة تانوس ‪ ،‬مثلما‬
‫وعدتك أني سأفعل ‪ ،‬وهذه نتيجة حماقتي‪ .‬وقفت خلفي ورفعت الغاللة الكتانية الخفيفة التي‬
‫أسدلتها على جراحي وشهقت‪ « :‬إن هذا لمن عمل راسفر‪ .‬أوه يا عزيزي البائس تايتا ‪ ،‬لم لم‬
‫تحذرني أن هذا سيحدث ‪ ،‬وأن أبي معارض أعنف المعارضة لعالقتي بتانوس ؟ »‪ .‬شق علَّي أال‬
‫أشهق إزاء هذه الصفاقة الساذجة ‪ ،‬أنا الذي توسل إليهما وحذرهما واتهم بالمقابل بعدم‬
‫الوالء‪ .‬لكنني أمسكت عن الكالم ‪ ،‬وإن كان ظهري ال يزال يخفق أشد الخفقان‪ .‬أضاعت موالتي‬
‫بؤسها للوقت الراهن على الأقل في قلقها على جراحي السطحية ‪ ،‬فبينما تطببني أمرتني أن‬
‫أجلس على سريرها وأخلع عني غاللتي ‪ ،‬وعوضني حبها وعطفها الصادقين عن افتقارها للمهارات‬
‫الطبية‪ .‬أخرجها هذا الإلهاء من أعماق يأسها السحيقة ‪ ،‬وسرعان ما عادت تثرثر بأسلوبها‬
‫المتحمس المعتاد وتخط الخطط لتحبط سخط أبيها وتجمع شملها بتانوس بينما أوضحت بعض هذه‬
‫الخطط ُحسن إدراكها ‪ ،‬أظهرت أخرى ‪ ،‬أبعد احتماال ‪ ،‬يفاعتها الواثقة وقلة معرفتها‬
‫وخبرتها في دروب الحياة الخبيثة ‪ ،‬إذ في إحدى المراحل‪ « :‬سوف أقدم أداًء ممتازا بدور‬
‫إيزيس في الحفل ‪ ،‬وسأجعل من نفسي ُمحَببًة إلى قلب الفرعون حتى إنه سيمنحني أي عطية‬
‫أعلنت‬
‫‪61‬‬

‫أطلبها منه‪ .‬ثم أتوسل إليه أن يزوجني تانوس ‪ ،‬وسيقول‪ ( ...‬وهنا قلدت نبرة الملك‬
‫المفخمة المراسمية بذكاء أجبرني على االبتسام)‪ُ :‬أعلن خطبة تانوس سيد حاراب ‪ ،‬ابن‬
‫بيانكي ‪ ،‬على السيدة لوستريس ابنة إنتف ‪ ،‬وأرقي خادمي الصالح تانوس إلى رتبة أسد مصر‬
‫العظيم وقائد كل جيوشي‪ .‬وآمر أيًضا بأن ُتعاد إليه كل الأمالك التي كانت فيما مضى لأبيه‬
‫النبيل بيانكي سيد حاراب‪ .» ...‬وهنا توقفت فجأة في خضم مداواتها جراحي ولفت ذراعيها‬
‫حول عنقي‪ -.‬يمكن أن يحدث ذلك ‪ ،‬صحيح يا عزيزي تايتا ؟ أرجوك قل إنه ممكن! فابتسمُت‬
‫إزاء ُسخفها ‪« :‬ال رجل طبيعي يمكنه مقاومتك يا موالتي ‪ ،‬وال حتى الفرعون العظيم نفسه »‪.‬‬
‫ولو علمُت حينها مدى اقتراب كلماتي من الحقيقة ‪ ،‬أحسب أنني كنت لأضع جمرة متوهجة على‬
‫لساني قبل أن أنطقها‪ .‬عاد وجهها يشُع أمال ‪ ،‬وكفاني بذلك ثواًبا‪ .‬ثم أسدلت غاللتي ثانية‬
‫لأنهي تطبيبها المتحمس أكثر مما يجب لظهري ‪ ،‬وقلت‪ « :‬أما الآن يا موالتي ‪ ،‬إن كنِت‬
‫تبتغين أداًء بارًعا وال ُيقاوم في دور إيزيس ‪ ،‬فال بد لك من بعض الراحة »‪ .‬كنُت قد جلبت‬
‫‪.‬معي جرعة مصنوعة من مسحوق الزهرة المنّومة المسماة‬
‫بالخشخاش المنثور ‪ ،‬وكانت بذور هذه الزهرة الثمينة قد جلبت في البداية إلى مصرنا عبر‬
‫القوافل التجارية من أرض جبلية في الشرق البعيد ‪ ،‬غير أنني صرت الآن أستنبت زهورها‬
‫الحمراء في حديقتي ‪ ،‬وعندما تسقط أوراقها ‪ ،‬أخدش قوقعة البذرة بشوكة ذهبية ثالثية‬
‫الأسنان فيسيل من هذه الجروح حليب أبيض كثيف أجمعه وأجففه وأعالجه وفق الوصفة التي‬
‫طورتها‪ .‬بمقدور هذا المسحوق أن يبعث على النوم ‪ ،‬أو يثير الأحالم الغريبة ‪ ،‬أو يسكن‬
‫الألم‪ .‬بينما غمغمت استكاَنْت إلى سريرها والتفت على نفسها كهرة َوشنى‪ « :‬ابق لبعض الوقت‬
‫يا تايتا ‪ ،‬احتضني حتى أنام كما كنت تفعل في طفولتي » ‪ ،‬وبينما أحيطها بذراعي فكرت‬
‫بأنها ال تزال طفلة‪ .‬ثم همست‪ « :‬سيسير كل شيء على ما يرام ‪ ،‬أليس كذلك ؟ وسنعيش في‬
‫معي‬
‫سعادة أبدية كما يحدث في قصصك ‪ ،‬صحيح يا تايتا ؟ »‪ .‬وعندما نامت قبلت جبهتها برفق‬
‫وغطيتها بدثار من الفرو قبل أن أتسلل‬
‫‪.‬من مخدعها‬
‫***‬
‫‪62‬‬

‫في اليوم الخامس من مهرجان أوزيريس ‪ ،‬ركب الفرعون تيار النهر إلى الكرنك من قصره على‬
‫جزيرة الفنتين ‪ ،‬في رحلة تستغرق عشرة أيام على قادس نهري سريع ‪ ،‬وجاء بكامل ابهته مع‬
‫جميع حاشيته ليرأس مراسم‬
‫‪.‬مهرجان الإله‬
‫كان سرب تانوس قد غادر الكرنك قبل ثالثة أيام ‪ ،‬وانطلق مسرًعا بعكس التيار ليلقى‬
‫ُأ‬
‫ال سيطيل العظيم ويرافقه في المرحلة الأخيرة من الرحلة ‪ ،‬لذا ال أنا رأيته وال لوستريس‬
‫منذ عاد ثالثتنا من الصيد الكبير ‪ ،‬فكانت رؤية قادسه يلف حنية النهر متحلًقا بأقصى سرعة‬
‫التيار والرياح الصحراوية الشديدة تضرب عرضه متعة استثنائية لكلينا ‪ ،‬إذ تقدمت أنفاس‬
‫حورس الأسطول ‪ ،‬قائدة إياه صعوًدا من الجنوب‪ .‬وقفت لوستريس في حاشية الوزير الأعظم خلف‬
‫أخويها مينسيت وسوبيك‪ .‬كان الشابان بهَّيين وجميلي الطلعة ‪ ،‬لكن فيهما من صفات أبيهما‬
‫أكثر من الالزم في رأيي ‪ ،‬ولم أثق بمينسيت تحديدا ‪ ،‬الأكبر ‪ ،‬أما الأصغر فكان تابعا‬
‫لأخيه‪ .‬ووقفُت بعيًدا خلفهم في حشد بطانة الوزير والموظفين الأقل شأنا ‪ ،‬من حيث أمكنني‬
‫مراقبة كل من لوستريس وسيدي إنتف‪ .‬رأيُت قفا عنقها يتورد مسرة وحماسة عندما لمحت قوام‬
‫تانوس المشيق في برج كوثل أنفاس حورس ‪ ،‬إذ تألقت الحراشف على صدارته المصنوعة من جلد‬
‫التمساح تحت أشعة الشمس ‪ ،‬ورفرفت باقة ريش النعام على خوذته في الهواء الذي‬
‫أثاره‬
‫عبور القادس‪ .‬أخذت لوستريس تتقافز إثارًة وتلوح بكلتا ذراعيها النحيلتين فوق رأسها ‪،‬‬
‫لكن زعقاتها وطرافة سلوكها ضاعت في هدير الجماهير الغفيرة التي سطرت ضفتي النيل‬
‫الستقبال فرعونها كانت طيبة المدينة الأكثر سكانا في العالم ‪ ،‬وخَّمنُت أن ربع مليون نسمة‬
‫تقريًبا قد خرجت للترحيب بالملك‪ .‬في هذه الأثناء ‪ ،‬لم يقلب تانوس بصره يمنة وال يسرة ‪،‬‬
‫بل ظل محدقا أمامه بصرامة حامال سيفه المسلول قبالة وجهه تأدية للتحية العسكرية‪ .‬تبعت‬
‫بقية السرب أنفاس حورس في المثلث الواسع لتشكيلة ابن الماء ‪ ،‬والتي سميت كذلك نسبة‬
‫إلى نسق طيران هذه الطيور عند عودتها في المغيب إلى مجاثمها‪ .‬كانت كل ألويتها‬
‫وأوسمتها الحربية تخفق في لهيب واجف من‬
‫‪63‬‬

‫ألوان قوس القزح ‪ ،‬مقدمة عرض نبيل أسرى الجنون » في تهليالت الحشود‬
‫وتلويحها بسعف النخيل‬
‫ومر بعض الوقت قبل أن يندفع أول مركب من الموكب الرئيس عابرا الحنية من خلفهم‪ .‬كان‬
‫ُمحمال بسيدات حاشية الملك ونبالئها ‪ ،‬ثم تبعه مركب آخر ‪ ،‬ثم سرب فوضوي طائل من سفن‬
‫كبيرة وصغيرة‪ .‬اكتسحت مجرى النهر بعد ذلك ناقالت تعج بخدم القصر وغلمانه وكل تجهيزاتهم‬
‫ومعداتهم ‪ ،‬وعبارات محملة بالثيران والماعز والدجاج للمطابخ ‪ ،‬وسفن مذهبة زاهية‬
‫الألوان تحمل شحنات من أثاث القصر وكنوزه ‪ ،‬ومن النبالء والمخلوقات الأقل شأنا ‪،‬‬
‫الممتزجة مزجا مزعًجا بطريقة تبتعد كل البعد عن البحارة وأساليبهم‪ .‬ويا له من تناقض‬
‫أبداه العرض الذي قدمه سرب تانوس عندما استدار بعكس التيار وحافظ على تشكيلته‬
‫المتباعدة هندسيا في مواجهة تيار النيل السريع وأخيًرا ‪ ،‬وصل صندل الفرعون الملكي‬
‫متثاقال إلى الحنية ‪ ،‬فارتفعت تهليالت الحشد إلى أوجها ‪ ،‬وتابعت هذه المركبة الهائلة ‪،‬‬
‫أكبر مركبة بناها بنو البشر ‪ ،‬طريقها بمهابة إلى حيث كنا ننتظر استقبالها على الرصيف‬
‫الصخري أسفل قصر الوزير الأعظم‪ .‬كان أمامي وفرة من الوقت لأتفحصها وأتأمل قدر مالءمة‬
‫حجمها وتصميمها وتوجيهها الدولة والحكومة الحاليتين لمصرنا ‪ ،‬مصرنا الصامدة في العام‬
‫الثاني عشر من عهد الفرعون ماموس ‪ ،‬ثامن حاملي االسم والثامن في ساللته ‪ ،‬والأضعف حتى‬
‫الآن في أسرة ضعيفة ومتذبذبة‪ .‬كان الصندل الملكي بطول خمسة قوادس مقاتلة مصطفة في رتل‬
‫أحادي ‪ ،‬لكَّن ارتفاعه وعرضه غير متناسبين إلى درجة انت غرائزي الفنية إيذاًء شديًدا‪.‬‬
‫وكان بدنه الهائل مطليا بالألوان الصاخبة التي كانت موضة العصر ‪ ،‬وتمثال أوزيريس‬
‫الحيزومي ( ‪ )1‬معسجد بصفيحة ذهبية حقيقية‪ .‬غير أنه عندما دنا من المرسى حيث ننتظره ‪،‬‬
‫رأيت أن الألوان البراقة قد بهتت في بقع متناثرة وأن جانبيه مخططان بخطوط داكنة كحمار‬
‫الَّزَرد حيث تغوط طاقمه من فوق السور‪ .‬انتصبت في وسط السفينة ُحجرة هي مخدع الفرعون‬
‫الخاص ‪ ،‬وكانت مبنية بمتانة بألواح سميكة من خشب الأرز الثمين ‪ ،‬ومحشوة بأثاث ثقيل‬
‫إلى درجة أثرت يا للأسف في خصائص الصندل المالحية فوق هذا الصرح ( ‪ )1‬الحيزوم مقدم‬
‫السفينة ‪ ،‬والتمثال الحيزومي نحت خشبي ُيثبت على الحيزوم ويرتبط بدور السفينة وطبيعة‬
‫‪.‬عملها‪ ( .‬المترجم)‬
‫‪64‬‬

‫البشع ‪ ،‬وراء سياج مزين مجدول من الزنابق الغضة ‪ ،‬وتحت ظلة من جلود الغزال المدبوغة‬
‫بإتقان والُمخَّيطة بعضها ببعض بمهارة ‪ ،‬والمكسوة لوحات لكبار الآلهة والإلهات ‪ ،‬جلس‬
‫الفرعون في عزلة مهيبة‪ .‬كان منتعال صندال ( ‪ )1‬من الذهب المخَّرم ‪ ،‬والبًسا رداًء من كتان‬
‫نقي نقاًء ساطعا كالسحب الركامية العالية في عز الصيف ومعتمًرا التاج المزدوج الطويل‪:‬‬
‫تاج مصر العليا الأبيض وعليه رأس الإلهة النسر نخبيت ( ‪ ، )2‬مدموجا بالتاج الأحمر‬
‫ورأس الإلهة الصل وادجيت ( ‪ ، )3‬إلهة دلتا النيل‪ .‬وبرغم التاج ‪ ،‬كانت الحقيقة الساخرة‬
‫هي أن حاكمنا المحبوب هذا خسر الدلتا قبل عشر سنوات تقريًبا ‪ ،‬فقد حكم مصر السفلى في‬
‫أيام اضطرابنا فرعون آخر ‪ ،‬فرعون اعتمر التاج المزدوج كذلك ‪ ،‬أو على الأقل نسخته‬
‫الخاصة منه ‪ ،‬فرعون ُمَّدٍع كان خصًما لدوًدا لحاكمنا ‪ ،‬واستنزفت حروبه المستمرة علينا كال‬
‫المملكتين من الذهب ودماء الشباب فقسم النزاع الداخلي مصر ومزقها ‪ ،‬وطالما كانت الحال‬
‫هكذا في تاريخنا الممتد ألف سنة أو نحوها عندما يتسربل الضعفاء بعباءة الفرعون‪ .‬كنا‬
‫في حاجة إلى رجل شديد وجسور وذكي يقبض على المملكتين بقبضتيه‪ .‬لتدوير المركبة صعبة‬
‫االنقياد مع التيار وإيصالها إلى مرساها على رصيف القصر ‪ ،‬كان على القبطان أن يوجهها‬
‫إلى الضفة البعيدة ‪ ،‬ولو فعل ذلك ‪ ،‬النفتح أمامه النيل على اِّتساع عرضه لُيكمل دورته ‪،‬‬
‫لكن من الواضح أنه أساء تقدير شدة الرياح والتيار وبدأ دورته من منتصف المجرى‪ .‬تأرجح‬
‫الصندل في البداية متثاقال في التيار ‪ ،‬ومال ميالنا شديدا عندما استقبل ارتفاُع الحجرة‬
‫على سطحه رياح الصحراء الساخنة كأنه شراع ‪ ،‬فثارت ثائرة نصف دزينة من ُعرفاء البحارة‬
‫على السطح الأسفل وراحت سياطهم تعلو وتهبط ‪ ،‬والماء يحمل صوت جلد الأكتاف العارية‪.‬‬
‫وبتحفيز السياط ‪ ،‬أجهد المجِّدفون مجاديفهم بجنون خض الماء على طول بدن السفينة محيال‬
‫إياه رغوة مئة مجداف في كل جانب تشد تلقاء ( ‪ )1‬الصندل هنا ُخف بنعل متين له سيور من‬
‫الجلد يثبت بها في القدم‪ ( .‬المترجم)‪ )2 ( .‬نخبيت‪ :‬أو نخبت إلهة مصرية قديمة ُتجسد على‬
‫هيئة نسر وكانت الربة الرئيسة لمدينة نخن عاصمة الإقليم الثالث لمصر العليا‪.‬‬
‫( المترجم)‪ )3 ( .‬وادجيت إلهة الكوبرا الفرعونية ‪ُ ،‬تعرف في العالم اليوناني باسم أوتو‬
‫أو بوتو ‪ ،‬ومدينة بوتو أول عاصمة لأول دولة منظمة في مصر السفلى قبل توحيد القطرين ‪،‬‬
‫‪.‬وموقعها الحالي قرب مدينة دسوق في شمال الدلتا بمنطقة تل الفراعين ( المترجم)‬
‫‪65‬‬

‫كانت رياح الصحراء تعصف منذ ثالثة أيام وليال من الصحراء الغربية اليباب تضرب بنصف قوة‬
‫العاصفة من دون وازع طوال الوقت ‪ ،‬لكنها انحسرت الآن‪ .‬لم تنخفض تدريجًّيا ‪ ،‬بل توقفت عن‬
‫النفخ وحسب ‪ ،‬فتسطحت المويجات التي رقطت صفحة ‪ ،‬النهر ‪ ،‬وهمدت أشجار النخيل التي كانت‬
‫تهُّز‬
‫‪.‬المياه‬
‫سعفها بشدة على طول الضفة ‪ ،‬كأن صقيعا مباغتا قد جمدها‪ .‬وبعد أن تحرر الصندل من براثن‬
‫الريح تراجع إلى حالة توازن أفقي واستسلم لشّد أنفاس حورس‪ .‬ثم تحّول جؤجؤه الأبجر إلى‬
‫المجرى ‪ ،‬ليوازي الرصيف في اللحظة نفسها التي لمس جانبه الحجارة المطلية فيها وأخمدت‬
‫سرعة النيل تقدمه مثبتتة إياه بال حراك في أعطى تانوس أمًرا أخيًرا ‪ ،‬وقبل أن تتمكن‬
‫السفينة من التقهقر ‪ُ ،‬ألقيت حبال الرسو إلى الرصيف وجمعتها الأيدي المتلهفة بسرعة‬
‫لتربطها بالمرابط الحجرية‪ .‬وبخفة زغابة إوزة تطفو على سطح الماء ‪ ،‬سكن الصندل العظيم‬
‫آمنا مطمئنا في مرساه ‪ ،‬ولم ُيزعج إرساؤه ال العرش الذي يجلس عليه الفرعون ‪ ،‬وال التاج‬
‫الطويل فوق رأسه‪ .‬انفجرنا نحن المتفرجون في هدير ثناء على هذا العمل الباهر ‪ ،‬ودار‬
‫اسم تانوس بدال من اسم الفرعون على ألسنتنا وبكل تواضع ‪ ،‬وحصافة ‪ ،‬لم ُيبِد تانوس أي‬
‫اعتراف بتصفيقنا ‪ ،‬فمن الحماقة أن يجذب لنفسه من االنتباه الإضافي ما قد ينتقص من‬
‫الترحيب الذي ينتظر الملك ‪ ،‬وسيلغي ذلك أي حظوة ملكية أكسبته مأثرته إياها ‪ ،‬إذ طالما‬
‫كان الفرعون غيورا على هيبته الملكية بدال من ذلك ‪ ،‬أشار إلى أنفاس حورس خلسة لتصطف‬
‫بجانب الصندل ‪ ،‬وعندما اختفت عن أنظارنا خلف جسامته ‪ ،‬هبط عن جانبه إلى متنها ‪ ،‬ليخرج‬
‫من المسرح الذي حقق عليه هذا المجد ‪ ،‬تارًكا إياه لملكه‪ .‬ومع‪ .‬ذلك ‪ ،‬رأيُت سيماء السخط‬
‫والضيق على وجه نميت ‪ ،‬الأميرال العتيق مصر العظيم ‪ ،‬وهو ينزل إلى الشاطئ خلف الفرعون‬
‫‪ ،.‬وعرفُت أن تانوس قد أكسب نفسه عدوا قوًّيا آخر‬
‫أسد‬
‫***‬
‫أمكنني في ذلك المساء الوفاء بوعدي للوستريس عندما جمعُت طاقم الحفل في البروفة‬
‫‪.‬النهائية وقبل أن يبدأ العرض ‪ ،‬تدبرُت منح العاشقين ساعة خلوة تقريبا‬
‫‪69‬‬

‫الذين سئموا منهم بقدر ما استمتعوا في رفعهم إلى هذه المنزلة في المقام‬
‫‪.‬الأول‬
‫من الآمن كثيًرا أن يعيش المرء خفًّيا غير ملحوظ ‪ ،‬كما أحاول دائما أن‬
‫‪.‬أعيش‬
‫***‬
‫في ظهيرة اليوم السادس من المهرجان ‪ ،‬انتقل الفرعون في موكب مهيب من دارته في غمرة‬
‫الأراضي الملكية بالريف المكشوف بين الكرنك والأقصر ‪ ،‬مروًرا بالجادة المراسمية‬
‫المبطنة بتماثيل الأسود الجرانيتية ‪ ،‬إلى معبد أوزيريس على ضفة النيل‪ .‬بينما كانت‬
‫الزالجة الضخمة التي ركبها عالية علوا أجبر الحشود الغفيرة المصطفة على جانبي الجادة‬
‫على لّي أعناقهم خلًفا ليرفعوا أبصارهم إليه فوق عرشه العظيم المذهب تمر متدحرجة كان‬
‫يجرها عشرون ثوًرا أبيض ناصًعا بأكتاف هائلة محدودة ورؤوس ُمقَرنة مكللة بالأزهار ‪ ،‬وسحجت‬
‫قاعدتها البالط سحًبا شديًدا ترك ندوًبا على الكتل الحجرية‪ .‬قاد الموكب مئة موسيقي يعزفون‬
‫على السمسميات ( ‪ )1‬والقيثارات ويضربون الصنوج والطبول ‪ ،‬ويهزون الخشخيشات‬
‫والسيسترومات ( ‪ )2‬وينفخون في قرون المها الطويلة المستقيمة وقرون الكباش الجبلية‬
‫الملتفة‪ .‬تبعتهم جوقة قوامها مئة من أحسن الأصوات في مصر ‪ ،‬تغني ترانيم الثناء على‬
‫الفرعون وذاك الإله الآخر أوزيريس ‪ ،‬وبطبيعة الحال ‪ُ ،‬كنت قائد الجوقة‪ .‬مشى خلفنا حرس‬
‫شرفي من فرقة التمساح الأزرق بقيادة تانوس شخصًّيا ‪ ،‬وخصته الحشود بتهليل مميز عندما مر‬
‫ُمرَّيًشا وُمدرًعا من أمامها ‪ ،‬وزعقت العذراى وسقطت غير واحدة منهن مغشيا عليها في الرمل‬
‫وقد غلبتها الهستيريا التي أثارتها الشهرة المكتسبة حديثا‪ .‬وراء الحرس الشرفي ‪ ،‬مشى‬
‫الوزير ومسؤولو المناصب العليا لديه ‪ ،‬ثم النبالء وزوجاتهم وأطفالهم ‪ ،‬ثم سرية من فرقة‬
‫الصقر ‪ ،‬وأخيًرا عربة الفرعون العظيمة‪ .‬وبالإجمال ‪ ،‬كان جمًعا لعدة آالف من أثرى أهل‬
‫المملكة العليا وأشدهم نفوذا‪ )1 ( .‬السمسمية آلة وترية مصرية محلية ترجع جذورها إلى‬
‫مصر القديمة ( المترجم)‪ )2 ( .‬السيستروم آلة موسيقية من عائلة الإيقاع ‪ ،‬وترتبط بصورة‬
‫‪..‬رئيسة بمصر القديمة‪ ( .‬المترجم)‬
‫‪75‬‬
‫مرت أيام وأنا أطلب من تانوس أن يسمعني خطابه ‪ ،‬لكنه ماطلني في كل مرة بأعذار واهية‬
‫حتى صرت أشك في نواياه كل الشك ‪ ،‬فألححت عليه بقولي إن هذه هي الفرصة الأخيرة ‪ ،‬فضحك‬
‫علَّي ‪ ،‬وقال‪ « :‬لقد قررت أن يكون خطابي مفاجًئا لك بقدر ما سيكون مفاجًئا للفرعون ‪،‬‬
‫وهكذا يستمتع كالكما به أكثر »‪ .‬لم يكن ثمة ما يمكنني فعله لإقناعه ‪ ،‬إذ إن بمقدوره‬
‫أحياًنا أن يكون التقيته على الإطالق ‪ ،‬فتركته في حنق ليس بقليل أعند وأحَرن شاب همجي‬
‫‪.‬ومضيت أبحث عن صحبة أكثر أنسا‬
‫جمدتني الصدمة عندما انحنيت داخال خيمة مالبس لوستريس ‪ ،‬فرغم أنني صممت زيها بنفسي‬
‫وأرشدت إماءها بدقة إلى طريقة تنفيذ البودرة وأحمر الشفاه والكحل ‪ ،‬لم أُكن مستعًدا‬
‫لهذا الطيف السماوي الواقف أمامي‪ .‬وللحظة اقتنعُت أن معجزة أخرى قد حدثت وأن الإلهة قد‬
‫صعدت بالفعل من العالم السفلي لتحل محل موالتي ‪ ،‬فشهقت شهقة عالية وبدأت حقيقة‬
‫بالتقهقر على ركبتي في رهبة خرافية عندما قهقهت موالتي وأيقظتني من‬
‫‪.‬وهمي‬
‫قالت‪ « :‬أليس هذا ممتعا ؟ ال أطيق انتظار رؤية تانوس في زيه الكامل ‪ ،‬إنني واثقة من‬
‫أنه ال بد يبدو كالإله نفسه »‪ .‬واستدارت ببطء لتمكنني من استبداع زيها مرسلة ابتسامة‬
‫لي من فوق كتفها‪ .‬فهمست‪ « :‬ليس أشبه بالآلهة منك يا سيدتي »‪ .‬سألتني بصبر يكاد ينفد‪:‬‬
‫« متى ستبدأ التمثيلية ؟ ال يسعني االنتظار أكثر »‪ .‬نصبُت أذني تلقاء قماشة الخيمة وأنصت‬
‫لحظة لطنين الخطابات في القاعة الكبيرة ‪ ،‬وأدركُت أن هذا هو الخطاب الأخير وأن سيدي‬
‫إنتف سينادي‬
‫‪.‬الممثلين ليبدؤوا في أي لحظة‬
‫أمسكت‬
‫بيد لوستريس واعتصرتها ‪ ،‬ثم نبهتها‪ :‬تذكري الوقفة الطويلة والنظرة الشامخة قبل أن‬
‫‪ ».‬تبدئي خطابك االفتتاحي‬
‫صفعت‬
‫كتفي‬
‫‪ ،‬مداعبة وقالت‪ :‬انصرف من هنا أيها النفاق العجوز‬
‫‪ ».‬سيكون كل شيء مثاليا ‪ ،‬وسترى‬
‫تلك اللحظة سمعت صوت سيدي إنتف يعلو « الإله السماوي الفرعون ماموس الأسرة المصرية‬
‫العظيمة ‪ ،‬عماد المملكة ‪ ،‬العادل ‪ ،‬العظيم ‪ ،‬البصير ‪ ،‬الرحيم‪ .» ....‬وبينما توالت‬
‫الألقاب والتشريفات خرجت مسرًعا من خيمة‬
‫‪80‬‬

‫تجاهل ست تضرعاتهم وصاح‪ « :‬هدية‪ .‬هدية من إله لإله‪ .‬أنا ست ‪ ،‬رُّب الظلمات أهدي هذه‬
‫التميمة للفرعون الإلهي ‪ ،‬ماموس المقدس »‪ .‬وقفز هابًطا الدرج الحجري على تينك الساقين‬
‫المقوستين القويتين فوضع العضو عند قدمي الفرعون‪ .‬وما أدهشني أن الملك انحنى والتقطه‬
‫ليحتفظ به ‪ ،‬وكان وجهه تحت البودرة والطالء مسحوًرا ‪ ،‬كأنه عضو الإله الحقيقي ‪.‬ال شك أنه‬
‫في تلك اللحظة رآه كذلك ‪ ،‬وظل حامال إياه في يمناه في أثناء كل ما تال‪ .‬بعد أن القت‬
‫هديته القبول أسرع ست عائًدا إلى المنصة ليكمل مذبحته ‪ ،‬وأكثر ما أبى مفارقتي هو أن‬
‫ذاك المخلوق التعس مبتور الأطراف ظل حيا وصاحي الحواس حتى النهاية‪ .‬أدركت أن العقار‬
‫الذي أعطيته لتود لم يبلد حواسه إال قليال ‪ ،‬ورأيُت مضاضة ُمرّوعة في عينيه وهو راقد في‬
‫بحيرة من دمه يقلب رأسه ذات اليمين وذات الشمال ‪ ،‬الجزء الوحيد الذي ال يزال يملك‬
‫تحريكه‬
‫وعن نفسي ‪ ،‬انتابتني راحة عارمة عندما ضرب ست بعد ذلك فقطع الرأس ورفعه من ضفائره‬
‫السميكة المجدولة أمام الجمهور ليستبدعوه ‪ ،‬وحتى في تلك اللحظة ‪ ،‬بينما دارت عينا‬
‫المخلوق البائس دورانا جامعا في محجريهما ألقى آخر نظرة على هذا العالم ‪ ،‬ثم ركَدت‬
‫والتمعت وقذف ست بالرأس إليهم‪ .‬وهكذا انتهى الفصل الأول من التمثيلية في تصفيق حماسي‬
‫‪.‬متصاعد هدد بهز أعمدة المعبد الجرانيتية حتى تنخلع من أساسها‬
‫***‬
‫معاوني من العبيد في فترة االستراحة بقايا المذبحة الشنيعة عن المسرح‪ .‬كنت قلًقا تحديًدا‬
‫من أن تدرك موالتي لوستريس حقيقة ما حدث في الفصل الأول ‪ ،‬وأردت لها أن تظن أن كل شيء‬
‫جرى كما تمرننا عليه ‪ ،‬لذا رتبت أن تبقى في خيمتها ‪ ،‬وأن يحرس أحد رجال تانوس مدخلها‬
‫لضمان ذلك وضمان أن ال تتلصص إحدى عذاراها الكوشيات على الفصل الأول وتهرع إليها‬
‫لتبلغها بما رأت عرفُت أنها لو علمت الحقيقة ‪ ،‬فسيمنعها اضطرابها من أداء دورها‪.‬‬
‫وبينما يستخدم معاوني دالء ماء من نيل منصتنا لغسل الأثر المروع ‪ ،‬أسرعُت إلى خيمة‬
‫‪.‬موالتي لأطمئنها وأرضي نفسي بأن إجراءاتي لوقايتها كانت فّعالة‬
‫‪88‬‬

‫‪.‬وغله إلى مشيئتك ‪ ،‬فتتحرر كل الآلهة والبشر من سلطانه المروع إلى الأبد‬
‫انسحبت الإلهة وهي مستمرة في غنائها ‪ ،‬تاركة ابنها لمسعاه‪ .‬ومثل أطفال يستقرؤون أغنية‬
‫أطفال محبوبة ‪ ،‬عرف الجمهور تمام المعرفة ما الذي ينتظرونه وانحنوا إلى الأمام‬
‫متشوقين يهمهمون تشوفا‪ .‬عندما عاد ست أخيًرا يقفز إلى المسرح من أجل المعركة‬
‫الكارثية ‪ ،‬الصراع الأزلي بين الخير والشر ‪ ،‬بين الجمال والقبح ‪ ،‬وبين االحترام‬
‫والتدنيس ‪ ،‬كان الجمهور مستعًدا ‪ ،‬له واستقبله بجوقة من البغضاء العفوية والقلبية ‪،‬‬
‫فبينما نظر إليهم راسفر نظرة تحٍّد وراح يبربر بينما تبختر على المنصة وأمسك أعضاءه‬
‫بيده ثم دفع بخصره ناحيتهم في حركة هازئة وإشارة سافلة جننتهم‬
‫‪.‬سخطا‬
‫فجعلوا يعوون‪ « :‬اقتله یا حورس حّطم وجهه القبيح! » ‪ ،‬وأخذ ست‬
‫يختال أمامهم ‪ ،‬مذكًيا سخطهم‪ .‬ثم هدروا في نوبة اشمئزاز‪ -..‬اقتل قاتل الإله العظيم‬
‫!أوزيريس!‪ -‬حطم وجهه! اجتًة أحشاءه‬
‫لم تخفف حقيقة أن الحشد يعرف في عمق إدراكه أن هذا راسفر ال ست من تفاعله‪ -‬أي تخفيف ‪،‬‬
‫‪!-‬وصرخوا‪ -..‬اقطع رأسه‬
‫اقتله اقتله‬
‫أخيًرا ‪ ،‬تظاهر ست برؤية ابن أخيه للمرة الأولى ‪ ،‬ومشى ناحيته متبخترا ‪ ،‬مدلًيا لسانه‬
‫من بين أسنانه الُمسَّودة ‪ ،‬وُمريال كمعتوه حتى إن خيوطا فضية من اللعاب ُمَّطت إلى صدره‪ .‬ما‬
‫كنُت لأصدق قُّط أن راسفر قادر على جعل نفسه أكثر تنفيًرا مما حققته الطبيعة بالفعل ‪،‬‬
‫‪.‬لكنه أثبت أنني مخطئ‪ .‬سأل‪ « :‬من هذا الطفل ؟ » ‪ ،‬وتجشأ في وجه حورس‬
‫‪95‬‬

‫وسارق القبور ومغتصب العفيفات ‪ ،‬والكافر وخائن العهد من اليوم فصاعًدا أنت إله الشر‬
‫كله فلترحل الآن ‪ ،‬ولتحمل معك لعنة حورس وأبيه المبعوث أوزيريس‪ .‬رفع تانوس رأس سيفه‬
‫عن صدر راسفر وألقاه جانًبا ‪ ،‬نازعا سالحه عمًدا في حضرة خصمه ليظهر ازدراءه واستحقاره‬
‫صلصل النصل على البالط ‪ ،‬ووسع تانوس خطاه إلى مياه نيل مسرحنا الجارية وهبط على ركبة‬
‫واحدة ليغرف حفنة ويرشها على وجهه غاسال الدم ‪ ،‬ثم مّزق شريط كتان من حاشية تنورته وربط‬
‫بسرعة الجرح على جبهته ليوقف النزف‪ .‬تركني قردا راسفر وُهِرًعا إلى المسرح ليغيثا‬
‫قائدهما الساقط ‪ ،‬فأنهضاه ومشى بينهما مترنحا يلهث ويزفر مثل ضفدع كريه ‪ ،‬ورأيُت أنه‬
‫مصاب إصابات مأساوية‪ .‬ثم بينما يعوي الجمهور هزًءا به وبغًضا له جراه عن‬
‫‪.‬المسرح‬
‫راقبت سيدي إنتف ‪ ،‬وكانت تعابيره مكشوفة لحظتها ‪ ،‬فرأيت في وجهه تأكيد كل شكوكي‪ :‬هذه‬
‫خطته لصب انتقامه على تانوس وشفاء غليله منه ‪ ،‬بأن ينحره أمام الشعب كله ‪ ،‬ومن ابنته‬
‫بأن يقتل حبيبها أمام عينيها ‪ ،‬فيكون ذلك عقابها على استهانتها برغبة أبيها‪ .‬بينما‬
‫أتفّكر في العقاب الذي ال بَّد ينتظر راسفر كان إحباط سيدي إنتف وخيبة أمله كافيين‬
‫لُيشعراني برًضا متعجرف ‪ ،‬وأحسب أنه سيفضل خشونة تانوس على ما سينزله موالي به فسيدي‬
‫يبلغ أشد قسوته مع الذين يخذلونه‪ .‬وكان تانوس ال يزال يلهث جراء إرهاق المبارزة ‪ ،‬لكن‬
‫بعد أن انتقل إلى مقدمة المنصة جَّر دزينة أنفاس عميقة ليهدئ نفسه من أجل القصيدة‬
‫الخطابية التي ستختتم الحفل ‪ ،‬وحل الصمت على الحشد عندما واجهه ‪ ،‬إذ كان منظره في دمه‬
‫وغضبه مهيبا‪ .‬ثم رفع كلتا يديه ناحية سقف المعبد وصاح بصوت عال‪ « :‬أعن صوتي يا آمون‬
‫رع وامنحني البالغة يا أوزيريس! » ‪ ،‬وهو الدعاء التقليدي للخطيب‪ .‬فرد الحشد‪ « :‬أعن‬
‫صوته! امنحه البالغة! » ‪ ،‬ووجوههم ال تزال نشوانة بكل ما شهدوه ‪ ،‬لكنها جوعى للمزيد من‬
‫التسلية‪ .‬كان تانوس ذلك المخلوق النادر‪ :‬رجل أفعال ورجل أقوال وأفكار في آن معا ‪،‬‬
‫وأثق بأنه كان على ما يكفي من السخاء ليقر بأن العديد من تلك الأفكار‬
‫‪102‬‬

‫‪-‬‬
‫‪ ،‬لقد أنصت يا تايتا ‪ ،‬وأعلم أنه تلقى كل ما قلته أبليت حسًنا هذا المساء‬
‫أال تظن ذلك ؟‬
‫عندما حاولت فتح موضوع هجوم راسفر الغدار عليه وطرح إمكانية أنه ربما كان بتوجيه من‬
‫سيدي إنتف رفض تانوس ذلك رفضا قاطعا ‪ ،‬وقال‪ « :‬هذا محال يا تايتا ‪ ،‬إنك تحلم‪ .‬كان‬
‫السيد إنتف أعز أصدقاء أبي ‪ ،‬فكيف عساه يضمر لي الشر ؟ وأيًضا ‪ ،‬أنا صهره المستقبلي ‪،‬‬
‫صحيح ؟ »‪ .‬وعلى الرغم من إصاباته ‪ ،‬أطلق صيحة ضاحكة سعيدة أيقظت النيام في الأكواخ‬
‫المعتمة التي نعبرها فصرخوا بنا‪ُ -‬مكدرين‪ -‬أن نصمت ‪ ،‬وتجاهل تانوس احتجاجهم‪ .‬وهتف ‪« :‬ال‬
‫ال ال شك في أنك مخطئ‪ .‬لم يكن إال راسفر يخرج ضغينته بطريقته الأسرة الخاصة حسًنا ‪ ،‬سيكون‬
‫أكثر حصافة في المرة القادمة ( وألقى ذراعه حول كتفي فعانقني بشدة حتى المني) ‪ ،‬لقد‬
‫أنقذتني مرتين اليوم ‪ ،‬فلوال تحذيراتك لنال مني راسفر في المرتين‪ .‬كيف تفعل هذه‬
‫الأشياء يا تايتا ؟ أقسم إنك عراف متكتم ‪ ،‬وتتمتع بنعمة العين الداخلية » ‪ ،‬وضحك‬
‫‪.‬ثانية‬
‫كيف عساي أخمد غبطته ؟ كان مثل صبي صبي كبير صاخب ولم يسعني إال أن أحبه أكثر‪ .‬لم يكن‬
‫الوقت مناسًبا لإيضاح الخطر الذي وضع نفسه ‪ ،‬وجميع أصدقائه في معرضه‪ .‬فلينعم بساعته ‪،‬‬
‫وفي الغد أنطق بصوت العقل والحيطة‪ .‬وهكذا ‪ ،‬أخذته إلى المنزل وقَّطبت الشق في جبهته ‪،‬‬
‫وغسلت بقية جراحه ثم دهنتها بخليطي الخاص من العسل والأعشاب لمنع الغنغرينا ‪ ،‬وأعطيته‬
‫بعد ذلك جرعة كثيفة من الزهرة المنومة وتركت كراتاس الطيب حارًسا على رقاده‪ .‬عندما‬
‫بلغت مهجعي بعد منتصف الليل بمدة ‪ ،‬وجدت استدعاءين ينتظر انني أحدهما من سيدتي‬
‫لوستريس والآخر من راسفر المهزوم ‪.‬ال شك فيمن كنت لألبي نداءه لو ُمنحت الخيار ‪ ،‬لكنني‬
‫لم أمنحه ‪ ،‬ذلك أن اثنين من برابرة راسفر أخذانني جًّرا تقريًبا إلى حيث يتمدد على فراش‬
‫نقعه العرق ‪ ،‬يشتم تارة ويئن تارة ‪ ،‬وتارة ينادي ِست وكل الآلهة ليشهدوا ألمه‬
‫‪.‬ومعاناته‬
‫‪109‬‬
‫ثم انفجرت في وجهي ‪« :‬ال تقف مكانك مبتسما لي! إنني حانقة بحق ‪ ،‬حتى إن بإمكاني الأمر‬
‫بجلدك! » ‪ ،‬ودقت بقدمها ثانية ‪ ،‬فشعرت بالتعب يسقط عن كتفي مثل حمل ثقيل إن مجرد‬
‫حضورها قادر على رد الحياة لي‪ .‬موالتي يا له من دور رائع لعبته الليلة بدا لي ولكل من‬
‫شاهدك أن الإلهة السماوية نفسها تمشي بيننا‪ -...‬إياك أن تحاول حيلك معي ودقت بقدمها‬
‫مرة ثالثة ‪ ،‬لكن من دون ( اقتناع لن تتملص من الأمر بهذه السهولة‪ ...‬حقا أقول يا‬
‫موالتي ‪ ،‬ففي طريق عودتي من المعبد عبر الشوارع المكتظة ‪ ،‬سمعت اسمك على كل لسان كانوا‬
‫يقولون إن غناءك أحسن ما سمعوه على الإطالق ‪ ،‬وسرق قلوبهم كلها ‪-.‬ال أصدق وال حتى كلمة (‬
‫لكن) كان واضًحا أنها تعاني في المحافظة على حنقها وفي الحقيقة ‪ ،‬رأيت أن صوتي كان‬
‫بغيًضا هذا المساء ‪ ،‬فقد انخفض عن العالمة مرة على الأقل ‪ ،‬وخرجت عن النوتة مرات‬
‫‪....‬كثيرة‬
‫المشقة ‪-‬ال بَّد لي من معارضتك يا سيدتي ‪ ،‬إذ لم يكن صوتك أفضل من ذلك قباًل ‪ .‬ويا له من‬
‫جمال! لقد أنار المعبد بأسره‪ ( .‬موالتي لوستريس ليست فارغة حقا ‪ ،‬لكنها امرأة)‪ .‬هتفت‬
‫ساخطة‪ « :‬يا لك من رجل فظيع كنت مستعدة للأمر بجلدك هذه المرة ‪ ،‬مستعدة حًقا‪ .‬لكن تعال‬
‫اقعد بجواري على السرير وأخبرني بكل شيء‪ .‬ما زلت متحمسة حتى إنني ال أظنني سأنام‬
‫لأسبوع » ‪ ،‬وبينما أخذت فقادتني إلى السرير كانت تثرثر بسعادة عن تانوس ‪ ،‬وعن أنه ال‬
‫بَّد قد أسر القلوب كلها وقلب الفرعون بأدائه الرائع وخطابه الجسور ‪ ،‬وعن حورس الرضيع‬
‫الذي تغوط على ثوبها ‪ ،‬وتسألني أكنت أظنها غنت جيًدا بحق أم قلت‬
‫‪.‬ذلك مجاملة‬
‫بيدي‬
‫اضطررت إلى إسكاتها في آخر الأمر‪ « :‬موالتي ‪ ،‬لقد كاد الفجر يبزغ وعلينا أن نكون‬
‫مستعدين لنغادر مع حاشية البالط في صحبة الملك عندما يعبر النهر ليعاين معبده الجنائزي‬
‫ومقبرته‪ .‬عليك أن تحظي ببعض النوم إن كنِت تريدين الظهور بأفضل حاالتك في مناسبة ملكية‬
‫‪ ».‬مهمة كهذه‬
‫‪114‬‬

‫المدخل وحولها جماعة المحنطين بأثوابهم القرمزية وخمسون من كهنة أوزيريس في صف خلفهم‪.‬‬
‫ثم بينما بدأ الكهنة بالإنشاد كانوا يدحرجون العربة قدما على محادلها الخشبية إلى متن‬
‫الصندل ‪ ،‬فصفق الفرعون بيديه استحسانا وأسرع ليعاين هذه المركبة البشعة‪ .‬لم أشارك في‬
‫إنتاج هذا االحتفال رديء الذوق ‪ ،‬بل كان بأسره صنيعة الكهنة ‪ ،‬وتمادوا به ال لشيء إال‬
‫ليقال إن الزينة الذهبية المسرفة تسطع تحت أشعة الشمس المجردة سطوًعا يؤذي الأعين‬
‫تقريًبا بقدر ما يؤذيها التصميم الفعلي‪ .‬بينما يدفع الكهنة العربة الخرقاء إلى متن‬
‫الصندل أجبرهم كل هذا الثقل الذهبي على اللهاث والتعرق ‪ ،‬وأمال السفينة العظيمة نفسها‬
‫إمالة مقلقة‪ .‬كان بمقدور هذه الكمية من الذهب ملء مخازن حبوب المملكة العليا جميعها ‪،‬‬
‫أو بناء خمسين سربا من السفن المقاتلة وتجهيزها ودفع رواتب طواقهما لعشر سنوات‪ .‬هكذا‬
‫يحاول الحرفي غير الالئق إخفاء ُشَّح إلهامه خلف كنز باهر‪ .‬لو أعطوني مواد كهذه أعمل بها‬
‫لربما رأوا نتيجة مختلفة‪ .‬كان مقدرا لهذه الدمامة أن ُتدفن فى المقبرة رفقة جثة‬
‫الفرعون الهامدة ‪ ،‬وال فرق إن كان تصميمها قد أسهم أيما إسهام في خراب المملكة المالي‬
‫أم ال ‪ ،‬ما دام الفرعون فرًحا بها‪ .‬بناء على اقتراح سيدي إنتف ركب الملك المركبة واتخذ‬
‫مجلسه في المنصة المصممة لتحمل ‪ ،‬ناووسه ثم ابتسم له من هناك ناسيا كل مهابته‬
‫واحتشامه الملكيين ‪ ،‬ففكرُت تفكيًرا تشوبه غصة شفقة أنه ربما يستمتع بأكبر قدر ناله من‬
‫المتعة في حياته الكئيبة ‪ ،‬ذلك أن موته هو الذروة التي وجه إليها معظم طاقة حياته‬
‫وانتظاره وفي ما كان اندفاعة واضحة ‪ ،‬أومأ لسيدي إنتف أن ينضم إليه على العربة ‪ ،‬ثم‬
‫قلب بصره في المتن المحتشد كأنه يبحث عن شخص آخر في الجمع ‪ ،‬وبدا أنه وجد من يريد ‪،‬‬
‫إذ انحنى قليال وقال شيًئا ما للوزير الأعظم‪ .‬ابتسم سيدي إنتف ‪ ،‬ومّيز موالتي لوستريس‬
‫وفًقا لتوجيهاته ‪ ،‬ثم أمرها بإشارة منه أن تأتي إلى العربة‪ .‬ظهر ارتباكها واضًحا ‪،‬‬
‫وتورد وجهها تحت مكياجها ‪ ،‬وهذه ظاهرة نادرة في شخص قلما يخرج عن رزانته ‪ ،‬لكنها‬
‫‪.‬توازنت بسرعة وصعدت متن العربة برشاقة بناتية ورجل طويلة عادة ما تخطف الأنظار كلها‬
‫‪120‬‬

‫الملعقة الطويلة المدببة التي ستحشر في منخريه لتغرف مكنونات جمجمته ‪ ،‬تلك الروائب‬
‫جبنية القوام التي تأملُتها طويال وُسّدى ‪ُ ،‬شِده الملك وتناول الأداة المقشعرة باحترام‬
‫ُمبجل‪ .‬وبعد أن أشبع الملك فضوله على طاولة التشريح ‪ ،‬جذبت موالتي لوستريس انتباهه إلى‬
‫النقوش الغائرة الملونة التي تغطي جدران المعبد من أرضيته حتى سقفه‪ .‬ولم تكن الزخرفات‬
‫مكتملة ‪ ،‬بعد ‪ ،‬لكنها مدهشة برغم ذلك في تصميمها وتنفيذها ‪ ،‬فقد رسمت معظم الرسومات‬
‫الأصلية‪ .‬بيدي إشراًفا وثيًقا على البقية التي رسمها فنانو القصر وخطوها على الجدران‬
‫بقضبان الفحم ‪ ،‬وحالما صارت الخطوط في مكانها ‪ ،‬صححتها وهذبتها يدويا ‪ ،‬والآن ثمة‬
‫مجموعة من كبار النحاتين تنقشها في الحجارة الرملية بينما تلون من خلفها مجموعة من‬
‫‪.‬الرسامين النقوش النهائية‬
‫وأشرفت‬
‫كنُت قد اخترت لهذه التصاميم اللون الأزرق بجميع تدرجاته‪ :‬أزرق جناحي الزرزور ‪ ،‬وأزرق‬
‫السماء والنيل تحت أشعة الشمس ‪ ،‬وأزرق أوراق الأركيد ‪ ،‬والأزرق البراق لسمك الفرخ‬
‫المرتعش في شبكة الصياد ‪ ،‬لكنني أضفت أيًضا الألوان الحمراء والصفراء النابضة بالحياة‬
‫التي نحبها نحن المصريين جًّدا‪ .‬دار الفرعون ‪ ،‬يرافقه من كتب سيدي إنتف بصفته حارس‬
‫المقابر الملكية دورة متمهلة حول الجدران العالية تفّحص فيها أدق التفاصيل وعلق على‬
‫معظمها‪ .‬وبطبيعة الحال ‪ ،‬كان الموضوع الذي اخترته للمدفن هو سفر الموتى ‪ ،‬تلك الخريطة‬
‫والوصف التفصيلي للطريق الذي ينبغي لروح الفرعون أن تتبعه إلى العالم السفلي ‪ ،‬ورسوم‬
‫جميع المحاكمات والأخطار التي ستواجهها فيه‪ .‬ثم توقف برهة طويلة أمام لوحتي للإله‬
‫تحوت ‪ ،‬برأسه الطيري ومنقار أبو منجل الطويل المعقوف ‪ ،‬يضع قلب الفرعون المنزوع من‬
‫جسده على الميزان قبالة ريشة الحقيقة فإن كان القلب فاسًدا ‪ ،‬ترجح على كفة الريشة ‪،‬‬
‫ويرميه الإله من فوره إلى الوحش ذي رأس التمساح المنتظر بالقرب ليلتهمه‪ .‬اقتبس الملك‬
‫بصوت خفيض الترنيمة الحارسة المنصوص عليها في الكتاب ليقي نفسه هذا البالء ‪ ،‬ثم تابع‬
‫طريقه إلى نقشي التالي‪ .‬كانت الظهيرة قد حلت تقريًبا عندما أتم الفرعون تفحصه للمعبد‬
‫الدفني وترأس الطريق إلى الباحة الأمامية حيث مد طباخو القصر وليمة فاخرة في الهواء‬
‫‪.‬الطلق‬
‫‪125‬‬

‫الخشب سلعة ثمينة ونادرة تكاد قيمته تعادل وزنه من الفضة ‪ ،‬إذ ُتحمل كل عصا منه تقريبًا‬
‫مئات الفراسخ عبر الصحراء ‪ ،‬أو ُتنقل فوق النهر من الأراضي الغامضة في الشمال‪ .‬وها هو‬
‫مكدس هنا بإسراف رغم ذلك ‪ ،‬كأنه شيء عادي ‪ ،‬ورائحة النشارة الغضة تعطر الهواء الساخن‪.‬‬
‫بينما يرصع الحرفيون رأسية سرير الفرعون بأشكال من المحار والخشب متباين اللون ‪،‬‬
‫ويزين آخرون مساند أذرع الكراسي بصقور ذهبية ‪ ،‬ومساند ظهور الكنبات المبطنة برؤوس‬
‫أسود فضية راقبنا‪ .‬حتى ردهات القصر الملكي في جزيرة الفنتين لم تحتو مهارة كهذه التي‬
‫ستزين حجيرة قبر الفرعون الصخرية الأنيقة‪ .‬ثم انتقلنا من خزينة الأثاث إلى قاعة‬
‫النحاتين‪ .‬كان النحاتون ينجرون وُيشُظون رخاًما وحجًرا رمليا وجرانيتا من مئة تدرج لوني‬
‫مختلف بالإزميل والمبرد حتى علق غبار دقيق شاحب في الهواء ‪ ،‬وغطى البناؤون أفواههم‬
‫وأنوفهم بشرائط كتانية استقر عليها الغبار وَكَسْت وجوههم بدرة بيضاء ‪ ،‬فبينما يعمل أخذ‬
‫بعضهم يسعل من خلف كمامته ‪ ،‬سعاال مستمرا جافا يميز حرفته‪ .‬كنت قد شَّرحُت فيما مضى جثث‬
‫العديد من النحاتين الُعجز الذين عملوا ثالثين عاًما وماتوا وهم يمارسون مهنتهم ‪ ،‬ووجدت‬
‫رئاتهم قد استحالت حجارة في أجسادهم ‪ ،‬لذا حرصت أن أقضي أقل وقت ممكن في مشغل‬
‫البنائين مخافة أن أصاب بالعلة نفسها‪ .‬وعلى الرغم من ذلك ‪ ،‬كانت منتجاتهم المدهشة من‬
‫تماثيل متقنة نابضة بالحياة للآلهة والفرعون مدعاة للتأمل ‪ ،‬ورأينا بينها صوًرا‬
‫للفرعون بحجمه الفعلي جالًسا على عرشه أو يمشي في الخارج ‪ ،‬حيا وميتا ‪ ،‬في هيئته‬
‫الإلهية وفي شكل إنسان فان‪ .‬ستسطر هذه التماثيل الطريق الممهدة المؤدية من المعبد‬
‫الجنائزي في قعر الوادي إلى سور التالل السوداء التي ُيحفر قبره النهائي فيها في هذه‬
‫اللحظة ‪ ،‬وعند موته تحمل العربة الذهبية ‪ ،‬يجرها موكب من مئة عجل أبيض ‪ ،‬ناووسه‬
‫الهائل على طول تلك الطريق الممهدة إلى مثواه الأخير‪ .‬رقد الناووس الجرانيتي ‪،‬‬
‫المكتمل جزئيا فقط ‪ ،‬في مركز قاعة البنائين ‪ ،‬وكان في الأصل صخرة صماء مستطيلة من‬
‫جرانيت وردي طولها خمس خطوات وعرضها ثالث وارتفاعها ثالث احُتجرت من مناجم أسوان ‪ ،‬وُنقلت‬
‫‪128‬‬

‫لنا أن ننجو بأي شكل ‪ ،‬فعلينا الإفالت من شبكة جامعي الضرائب‪ .‬لذا عندما أقدم الملك‬
‫على إفقارنا لتفخيم نفسه ‪ ،‬حّولنا في اللحظة نفسها إلى مجرمين ‪ ،‬وصارت قلة قليلة منا ‪،‬‬
‫ِعظاًما أم صغاًرا ‪ ،‬أثرياء أم فقراء ‪ ،‬تنام نوما هانًئا في الليل‪ .‬بتنا نستلقي مسهدين‬
‫نخشى الطرقة الثقيلة لجامعي الضرائب في أي لحظة على الباب‪ .‬واه كيف تأُّن البالد الحزينة‬
‫!والممتهنة تحت النير‬
‫***‬
‫ُأِعَّدْت سلًفا مهاجع باذخة في المدينة الجنائزية على الضفة الغربية للنيل ‪ ،‬حيث سيقضي‬
‫الملك ليلته بالقرب من مرقده الأخير في التالل السوداء الكئيبة ‪ ،‬وكانت المدينة‬
‫الجنائزية ‪ ،‬مدينة الموتى ‪ ،‬رحيبة بقدر الكرنك نفسها تقريبا ‪ ،‬ذلك أنها مأوى كل‬
‫المشتغلين بالبناء والعناية بالمعبد الجنائزي والمقبرة الملكية ‪ ،‬وفيها فوج كامل من‬
‫نخبة الحرس لحماية الأماكن المقدسة ‪ ،‬فالغاصب في الشمال متكالب على الكنوز بقدر ملكنا‬
‫العزيز ‪ ،‬بينما يزداد زعماء اللصوص في الصحراء جرأة وشجاعة كل يوم ‪ ،‬وخزائن المعبد‬
‫الجنائزي إغواء موجع لكل نهاب في المملكتين ‪ ،‬وما وراءهما‪ .‬استضافت أيًضا ‪ ،‬إلى جانب‬
‫الحرس جماعات الحرفيين والصناع وكل متدربيهم ‪ ،‬وكنت مسؤواًل عن سجالت الأجور والمؤونة ‪،‬‬
‫لذا عرفت بالضبط عدد الموجودين هناك‪ .‬بلغ في آخر يوم صرفت فيه الأجور أربعة آالف‬
‫وثمانمئة وأحد عشر ‪ ،‬وفوقهم أكثر من عشرة آالف عبد مسخر للعمل‪ .‬لن أرهق نفسي بعد‬
‫الثيران والخراف التي وجب ذبحها كل يوم لإطعامهم جميًعا ‪ ،‬وال عربات السمك القادمة من‬
‫النيل ‪ ،‬وال آالف خوابي الجعة التي ُتخمر يومًّيا لتروي عطش صيف هذا الجمع بينما يكدحون‬
‫تحت أعين الرقباء اليقظة وسياطهم الحاضرة‪ .‬كانت المدينة الجنائزية مثل باقي المدن ‪،‬‬
‫وفيها قصر للملك ‪ ،‬ولكم أراحني أن انتقلنا إلى القصر لقضاء الليل ‪ ،‬فقد كان نهاًرا‬
‫منها‪ .‬لكن مرة ثانية ‪ ،‬لم أالق إال قليال من الراحة‪ .‬حاولت الوصول إلى موالتي لوستريس ‪،‬‬
‫لكن بدا الأمر كأن مؤامرة حيكت للحيلولة بيني وبينها ‪ ،‬فوفًقا لخادماتها السوداوات‬
‫الصغيرات كانت أوال في بيت الخالء ‪ ،‬ثم تستحم ثم تستريح وال يمكن إزعاجها ‪ ،‬وأخيًرا ‪،‬‬
‫بينما ال أزال‬
‫‪132‬‬

‫غادرت المدينة الجنائزية وانطلقت عبر ممر جر القناة عودا إلى ضفة النهر حيث أعلم أن‬
‫سرب تانوس معسكر‪ .‬كان القمر ال يبعد إال ثالثة أيام عن اكتماله ‪ ،‬وقد أضاء تالل الأفق‬
‫‪.‬الغربي المتعرجة ببصيص أصفر بارد وألقى ظالال داكنة على السهل تحتها‬
‫عبدي‬
‫كأًسا‬
‫وبينما أقطع الطريق مسرًعا ‪ ،‬سردت على نفسي قائمة بكل الكوارث والفواجع التي قد تحل بي‬
‫وبتانوس ولوستريس في الأيام المقبلة ‪ ،‬وأخذت أهمز نفسي كما يستنهض أسد الصحراء أسود‬
‫اللبدة شجاعته بالشوكة العظمية في نهاية ذيله قبل أن يهجم على الصياد ‪ ،‬لذا عمني مزاج‬
‫قاصف قبل أن أبلغ ضفة النيل‪ .‬وجدُت معسكر تانوس بسهولة ‪ ،‬مالصًقا لضفة النيل وفم‬
‫القناة ‪ ،‬وكانت سفن السرب راسية تحت المعسكر‪ .‬أوقفني الحراس عند المدخل ‪ ،‬ثم قادوني‬
‫إلى خيمة تانوس عندما تعرفوني‪ .‬كان تانوس يتناول عشاء متأخًرا رفقة كراتاس وأربعة‬
‫آخرين من ضباطه ‪ ،‬فنهض ليستقبلني مبتسًما وقَّدم لي كوز الجعة الذي يحمله بيده‪ « :‬إن هذه‬
‫المسرة مفاجئة يا صديقي القديم‪ .‬بينما يجلب لك وصحفة اقعد بجواري واجرع من جعتي تبدو‬
‫حَّراًنا ومضطرب المزاج‪ .» ...‬فاختصرت هذه المجامالت باالنقضاض عليه بغضب‪ « :‬فلتحل لعنة ست‬
‫عليك أيها الأبله الكبير فاقد الشعور! أال تعي أي تهلكة رميتنا فيها ؟ أنت وشدقك‬
‫المتلوي هذا! ألم تفكر في أمان موالتي وسالمتها ؟ »‪ .‬وفي الحقيقة ‪ ،‬لم أقصد أن أقسو‬
‫عليه كل هذه القسوة ‪ ،‬لكن حالما بدأت ‪ ،‬شعرُت أنني عاجز عن السيطرة على مشاعري ‪ ،‬وخرج‬
‫كل خوفي وقلقي في فيض هادر من الذم‪ .‬ولم يكن كل ما اتهمته به حقيقًّيا أو منصفا ‪ ،‬لكَّن‬
‫إخراجه من صدري أراحني‪ .‬تغيرت تعابير تانوس ورفع يدا كأنما ليحمي نفسه‪ « :‬حنانيك! لقد‬
‫أخذتني على حين غرة ‪ ،‬فأنا أعزل وعاجز عن الدفاع عن نفسي أمام هجوم دموي كهذا »‪ .‬خرجت‬
‫لهجته مازحًة أمام ضباطه ‪ ،‬لكن ابتسامته كانت ضامرة ‪ ،‬وقبض على ذراعي موجًها إياي إلى‬
‫الظلمة خارج الخيمة ‪ ،‬ثم ساقني جرا تقريبا وراء حدود الفوج إلى الحقول المفتوحة‬
‫المضاءة بنور القمر‪ .‬كنت أشبه بطفل في قبضة يمناه المدربة على حمل السيف وشد القوس‬
‫‪.‬العظيم الناتا‬
‫‪135‬‬

‫ليستا‬
‫يدي خائن ‪ ،‬وال هذا القلب قلب كافر قد يسعى إلى الإطاحة بإله وتدميره ‪ ،‬وأخذ مكانه في‬
‫مجمع الآلهة‪ .‬فأننُت أنينا مسموعا من إحباطي‪ :‬ستكون الفرعون الأعظم في السنوات‬
‫الخمسمئة الماضية ‪ ،‬ولست في حاجة إلى إعالن ربوبيتك إن كانت الفكرة تزعجك‪ .‬افعلها ‪،‬‬
‫‪! ».-‬أتوسل إليك ‪ ،‬من أجل مصرنا هذه ‪ ،‬ومن أجل المرأة التي يحبها كالنا‬
‫أستظل لوستريس تحب خائًنا مثلما أحَّبْت جنديا ورجال وطنًّيا ؟ ال أظن ذلك‪ ( .‬وهز رأسه)‪.‬‬
‫فهممت أقول‪ « :‬ستحبك بصرف النظر‪ ، » ...‬لكنه قاطعني ‪-.‬ال يمكنك إقناعي‪ .‬إنها امرأة‬
‫فاضلة وشريفة ‪ ،‬وإن صرت خائنا ولّصا ‪ ،‬فسأخسر احترامها تماما‪ .‬وما يعادل ذلك في‬
‫الأهمية ‪ ،‬هو أنني لن أحترم نفسي ثانية أبًدا ‪ ،‬أو أعد نفسي جديًرا بحبها العذب ‪ ،‬إن‬
‫فعلُت ما تحثني عليه ال تتكلم في ذلك ثانية إن كنت تثمن صداقتنا ‪ ،‬فال أحقية لي بالتاج‬
‫المزدوج ‪ ،‬ولن أطالب به اسمعني يا حورس ‪ ،‬وأعرض بوجهك عني إذا ما حنثُت بهذا العهد‪.‬‬
‫لقد ُخِتَم على المسألة‪ .‬كنت أعرفه جيًدا ‪ ،‬ذاك الأبله المغضب الكبير ‪ ،‬الذي أحب بكل قلبي‬
‫‪ ،‬وأعرف أنه يعني ما يقول بالضبط ‪ ،‬وأنه سيتشبث به مهما كلف الأمر ‪ ،‬فاشتعلت في وجهه‪:‬‬
‫« إذن ماذا ستفعل ؟ حلت لعنة على قلبك العنيد ‪ ،‬ال شيء مما أقول يزن شيًئا عندك‪ .‬أتريد‬
‫مواجهة هذا وحدك ؟ أصرت فجأة أحكم من أن تحتاج إلى مشورتي ؟ »‪ .‬إنني مستعد للإنصات‬
‫لمشورتك ‪ ،‬ما دامت عقالنية‪ ( .‬ومد يده فشدني مقعًدا إياي بجواره تعال يا تايتا وساعدنا‪.‬‬
‫أنا ولوستريس في حاجة إليك الآن كما لم نحتج إليك من قبل ‪.‬ال تهجرنا‪ .‬أِعَّنا على إيجاد‬
‫الطريقة الفاضلة‪ .‬تنهدُت ‪ ،‬ومشاعري تتذبذب وتغزل مثل خشبة من حطام سفينة علقت في فيضان‬
‫النيل‪ « :‬أخشى أن أمًرا كهذا غير ممكن‪ .‬لكن إن لم تشأ اختطاف التاج ‪ ،‬فإياك والبقاء‬
‫هنا‪ .‬عليك أخذ لوستريس بين ذراعيك وحملها بعيدا »‪ .‬فحدق إلَّي تحت شعاع القمر‪ « :‬أغادر‬
‫‪ ».‬مصر ؟ ال يمكن أن تكون جادا‪ .‬إنها دنياي ‪ ،‬ودنيا لوستريس‬
‫‪140‬‬

‫عديدين والتماع أسلحتهم في الُّدجنة ‪ ،‬لم يتجسد الهجوم الدموي الذي كان‬
‫‪.‬جميعنا يتوقعه‬
‫وفي‬
‫لحظة اكتمال صفوف تشكيالت تانوس أمرهم بالتقدم ‪ ،‬فكثيرا ما ناقشنا ميزات الفعل الهجومي‬
‫على الدفاع‪ .‬أخذت الأسراب المحتشدة تتحرك إلى الأمام ‪ ،‬متهيئة لتنطلق في هجوم كامل‬
‫عند أمر تانوس ‪.‬ال شّك أنه كان مشهًدا مرعبا للرجال الواقفين في الظالم ‪ ،‬ذلك أن صوتا‬
‫منهم تشوبه مسحة ذعر نادانا قائاًل ‪ « :‬نحن رجال الفرعون جئنا في أمر يخصه ‪ ،‬أوقفوا‬
‫هجومكم! »‪ .‬فأوقف تانوس التقدم المهّدد‪ « :‬في أماكنكم أيها الزرق! ثم رَّد على النداء‪)..‬‬
‫أي فرعون تخدمون الغاصب الأحمر أم الفرعون الحق ؟ »‪ -.‬إننا نخدم الفرعون الحق ‪ ،‬ماموس‬
‫الإلهي حاكم المملكتين العليا والسفلى ‪ ،‬وأنا رسول الملك‪ .‬فدعاه تانوس‪ « :‬تقدم يا‬
‫رسول الملك ‪ ،‬الزاحف في الليل مثل اللص‪ .‬تقدم وأفصح عما أتيت فيه! »‪ .‬ثم قال لكراتاس‬
‫همًسا‪ « :‬تجهز للخيانة ‪ ،‬فرائحتها تملأ الجو ‪ ،‬وأضرم النيران تمنحنا الضوء لنرى »‪.‬‬
‫أعطى كراتاس الأمر وُرمَيْت حزم من الأسل الجاف على نيران الحراسة ‪ ،‬فارتفعت ألسنة اللهب‬
‫وردت الظلمة ‪ ،‬ثم تقدم قائد الجماعة الغريبة إلى هذا الوهج الأحمر وصاح‪ « :‬اسمي‬
‫نيتر ‪ ،‬الأفضل في عشر آالف ‪ ،‬وأنا قائد حرس الفرعون الشخصي‪ .‬أحمل ختم الباز والأمر‬
‫باعتقال تانوس سید حاراب‬
‫‪ ».‬واحتجازه‬
‫فزمجر كراتاس‪ « :‬بحق حورس إنه يكذب بوقاحة‪ .‬لست مجرما توجد مذكرة بالقبض عليه‪ .‬إنه‬
‫يهينك ويهين الفوج اتركنا عليهم وسأحشر ختم الباز ذاك بين ردفيه »‪ .‬لجمه تانوس‪« :‬‬
‫تمهل! فلنسمع الرفيق ‪ ،‬ثم رفع صوته ( ثانية) أرنا الختم أيها القبطان نيتر »‪ .‬فرفع‬
‫نيتر ُتميثيال صغيًرا من خزف أزرق براق في شكل الباز الملكي‪ .‬كان ختم الباز تفويًضا شخصًّيا‬
‫من الملك ‪ ،‬ويعمل حامله بقوة الفرعون وصالحيته كلها ‪ ،‬وال يمكن لأي امرئ مساءلته أو‬
‫‪.‬إعاقته في مسار مهمة ملكية تحت طائلة الإعدام ‪ ،‬وال يستجيب حامله إال لأوامر الملك‬
‫‪144‬‬

‫بيئتي الدافئة والآمنة في مهاجع الغلمان لأتقمم تالل الزبالة بحًثا عن كسرة الخبز‬
‫التالية مع قطيع من العبيد المحررين الآخرين سيد سيئ خير من غياب‬
‫‪.‬السيد‬
‫بالطبع ‪ ،‬أسقطت هذه الحماقة المملكة في البلبلة ‪ ،‬وكان الجيش على شفير الثورة ‪ ،‬ولو‬
‫أن الفرعون الأحمر في الشمال استغل الفرصة ‪ ،‬لربما كتب التاريخ على نحو مختلف‪ .‬في‬
‫النهاية ‪ ،‬ألغى فرعوننا بعجالة قرار الإعتاق الضال وتدبر التشبث بعرشه ‪ ،‬وها هو الآن‬
‫بعد عقد ونّيف ُيعلن عقوبات مزيدة على وقاحة العبيد‪ .‬كان تصرًفا نمطًّيا من هذا الفرعون‬
‫المتردد المشوش حتى إنني تظاهرُت بمسح جبهتي لأخبئ أول ابتسامة تغّضن وجهي في اليومين‬
‫الأخيرين‪ .‬تابع الملك ترتيب العبارات‪ « :‬سُتمنع في المستقبل ممارسة تشويه الذات لأجل‬
‫التملص من الخدمة العسكرية منعا باتا ‪ ،‬وأي شاب الئق يطالب باستثناء بموجب هذا الإعفاء‬
‫سيعرض أمام مجلس عدلي قوامه ثالثة من ضباط الجيش يكون بينهم قائد مئة ( ‪ )1‬على الأقل‬
‫أو ضابط من رتبة علَّية »‪ .‬وهذه المرة ارتسمت على شفتي ابتسامة استحسان متردد ‪ ،‬ذلك‬
‫أنها أول مرة يسير فيها الفرعون على الطريق الصحيح‪ .‬كم سيحب قلبي رؤية سوبيك ومينسيت‬
‫يظهران كفيهما ناقصي الإبهامين أمام جندي قديم قشته النهر‪ .‬أي تعاطف رقيق يمكنهما‬
‫توقعه وستكون غرامة هذه الجريمة ألف خاتم ذهبي »‪ .‬يا لكرش ست المنتفخ ستجمد هذه‬
‫الغرامة ذينك الغندورين‬
‫حروب‬
‫الصغيرين في مكانهما ‪ ،‬وسيضطر سيدي إنتف إلى دفعها بالنيابة عنهما‪ .‬على الرغم من‬
‫مخاوفي الأخرى ‪ ،‬فقد بدأت أشعر ببعض البهجة إذ تابع الفرعون‪ « :‬من هذا اليوم فصاعدا ‪،‬‬
‫ستكون ممارسة البغي لمهنتها في أي مكان عام سوى الأماكن التي خصصها القضاة لهذا الغرض‬
‫جريمة تستلزم غرامة قدرها عشرة خواتم ذهبية‪ .‬هذه المرة بالكاد قدرت على منع نفسي من‬
‫الضحك بصوت عال ‪ ،‬فمن خالل الملك ‪ ،‬يريد تانوس أن يجعل جميع سكان طيبة طهرانيين‬
‫وشرفاء‪ .‬تساءلت كيف سيتلقى البحارة والجنود في خارج أوقات عملهم هذا التدخل في‬
‫حيواتهم البغائية‪ .‬لم تطل فترة استبصار الفرعون طويال ‪ ،‬فأي أحمق يعرف رعونة محاولة‬
‫تشريع أهواء الرجال الجنسية‪ )1 ( .‬قائد المئة‪ :‬منصب في الجيش الروماني في العصور‬
‫‪.‬الكالسيكية القديمة‪ ( .‬المترجم)‬
‫‪148‬‬
‫ثم ُحجبت عني ثانية ‪ ،‬ولم أعرف أن الأمر قد ُقِضَي وصارت أبعد ما يكون عن ذراعي تانوس إلى‬
‫الأبد إال عندما سمعت انسحاق الإبريق الفارغ الذي حوى نبيذ الزواج بعد أن حطمه العريس‬
‫بضربة من سيفه‪ .‬فتح الحشد تحت الُّظلة طريًقا وقاد الفرعون عروسه الأحدث إلى مقدمة‬
‫المنصة ليقدمها للناس ‪ ،‬فأظهروا حبهم للوستريس في جوقة من التزُّلف استمرت حتى طنت‬
‫أذناي ودار رأسي‪ .‬أردُت الفرار من الزحام والذهاب للبحث عن تانوس ‪ ،‬إذ لم يحضر الحفل‬
‫رغم معرفتي أن سراحه قد أطلق وأنه عاد حرا‪ .‬وربما كان الرجل الوحيد في طيبة الذي لم‬
‫يأت إلى ضفة النهر ذلك اليوم‪ .‬كنت أعرف أنه في حاجة ماسة إلَّي كما أنا في حاجة إليه ‪،‬‬
‫فالعزاء البسيط الوحيد الذي قد يجده أينا في هذا اليوم المأساوي هو رفقة الثاني ‪ ،‬غير‬
‫أنني عجزُت عن إبعاد نفسي ‪ ،‬كان علي أن أرى ما سيحدث حتى اللحظة المفجعة الأخيرة‪ .‬تقدم‬
‫سيدي إنتف أخيًرا ليودع ابنته ‪ ،‬وبينما يهبط الصمت على الحشد‬
‫‪.‬عانقها‬
‫وقفت لوستريس مثل جثة في حضنه ‪ ،‬تدَّلت ذراعاها مرتخيتين على جنبيها ‪ ،‬ووجهها شاحب‬
‫كالموت‪ .‬أفلتها أبوها ‪ ،‬لكنه ظل قابًضا على يدها يستدير ويواجه الجمهور ليقدم الهدية‬
‫الشعائرية البنته‪ .‬تقليديا ‪ ،‬كانت هذه الهدية إضافة على الصداق الذي يذهب مباشرة إلى‬
‫العريس‪ .‬لكن لم يحافظ إال النبالء على هذه العادة ‪ ،‬التي ُصممت لتمنح العروس دخاًل مستقال‪.‬‬
‫قال‪ « :‬الآن وقد رحلت من منزلي ومن كنفي إلى منزل زوجك ‪ ،‬أهديك هدية الفراق ‪ ،‬حتى‬
‫تذكرينني دائًما على أنني الأب الذي أحبك ( ففكرت بمرارة كم أن الكلمات ال تالئم‬
‫الحالة ‪ ،‬ذلك أن موالي إنتف لم ُيحَب نفًسا حيًة غير نفسه قط‪ .‬بيد أنه تابع نطق البيان‬
‫العتيق ‪ ،‬كأن المشاعر مشاعره) ‪ ،‬سليني أي عطية يا طفلتي الحبيبة ‪ ،‬فلن أرفض لك شيًئا‬
‫في هذا اليوم البهيج »‪ .‬كان العرف المعتاد يقتضي أن يتفق الأب وابنته على مقدار‬
‫الهدية سرا قبل االحتفال ‪ ،‬وفي هذه الحالة ‪ ،‬أخبر سيدي إنتف ابنته صراحًة بما يحق لها‬
‫طلبه ‪ ،‬وقد منحني شرف مناقشة المسألة معي في اليوم السابق ‪ ،‬قبل إعالم لوستريس‬
‫بقراره ‪ ،‬إذ راح يتفكر ‪« :‬ال أريد أن أسرف ‪ ،‬لكن من الناحية الأخرى ال أريد أن أبدو‬
‫شحيحا في عيني الفرعون‪ .‬فلنقل خمسة آالف خاتم ذهبي وخمسين فداًنا من الأراضي ‪ ،‬لكن ليست‬
‫‪ ».‬من أراضي جانب النهر ‪ ،‬انتبه‬
‫‪154‬‬

‫فحاولت تعزيتها‪ « :‬إن تانوس حي ‪ ،‬وهو شاب قوي وسيعيش خمسين عاما أخرى ‪ ،‬ويحبك ويعد أن‬
‫ينتظرك حتى نهاية الزمان ‪ ،‬أما الملك فرجل عجوز ‪ ،‬وال يمكنه العيش إلى الأبد‪.» ...‬‬
‫استوت في جلستها على مفرش سريرها الُمفَّرى وصار صوتها صارًما وعازًما‪ « :‬أنا امرأة تانوس‬
‫ولن ينالني رجل آخر‪ .‬أفّضل الموت على ذلك »‪ « .‬كلنا يموت في النهاية يا موالتي »‪ .‬أعرف‬
‫أنني سأتمكن من مساندتها إذا ما تمكنت من إلهائها في بضعة الأيام الأولى من هذا‬
‫الزواج ‪ ،‬لكنها تفهمني‬
‫‪.‬جيدا‬
‫نفًعا‪ .‬سوف‪ -‬أعرف ما أنت بصدده ‪ ،‬لكَّن كلماتك المعسولة لن تجدي أقتل نفسي‪ .‬آمرك بتحضير‬
‫‪-‬جرعة من السم لأشربها‪ .‬لست ضليعا في علم الُّسم يا موالتي كانت محاولة بائسة ‪ ،‬لكنها‬
‫‪).‬سحقتها بسهولة‬
‫كثيرة هي‬
‫الأوقات التي رأيُتك فيها تعطي السم لحيوان يعاني‪ .‬أتذكر كلبك العجوز ‪ ،‬الذي كان يعاني‬
‫ألما في أذنيه ‪ ،‬وغزالك الأليف الذي مزقه فهد ؟ لقد أخبرتني أن الُّسَّم ال يسبب ألما ‪،‬‬
‫وأنه ال يختلف عن الخلود إلى حسًنا ‪ ،‬أريد أن أخلد إلى النوم وأن أحّنط وأنتقل إلى‬
‫العالم الآخر‬
‫‪.‬النوم‬
‫لأنتظر تانوس هناك‪ .‬اضطررت إلى محاولة الدفع بحجة أخرى‪ .‬لكن ماذا عني يا موالتي ؟ لم‬
‫تمتلكيني إال اليوم ‪ ،‬فكيف يمكنك هجراني ؟ ماذا سيصيبني من دونك ؟ أشفقي علَّي‪ .‬رأيتها‬
‫تتردد ‪ ،‬وظننُت أنني تمكنت منها ‪ ،‬لكنها رفعت ذقنها بعناد‪ -.‬ستكون على خير ما يرام يا‬
‫تايتا ستكون دائما على خير ما يرام ‪ ،‬فسيستردك أبي بكل سرور بعد موتي‪ -.‬أرجوك يا‬
‫صغيرتي استخدمت دلع الطفولة في محاولة أخيرة لمخالبتها) دعينا نتكلم في هذا في الصباح‬
‫‪ ،‬كل الأشياء تختلف تحت‬
‫‪.‬ضوء الشمس‬
‫فعارضتني ‪« :‬ال شيء سيختلف‪ .‬سأظل مفترقة عن تانوس ‪ ،‬وسيريدني ذاك العجوز الُمجعد في‬
‫‪ ».‬فراشه ليفعل أشياء فظيعة بي‬
‫‪159‬‬

‫تتسابق علي اعتصار كل قطرة من هذه الإسفنجة) علينا اتباع حمية‬


‫صارمة جدا ‪-.‬ال مزيد من خصى الثيران ‪ ،‬أتوسل إليك أيها الطبيب‪ -.‬أظن أنك أكلت ما يكفي‬
‫منها ‪ ،‬لكننا سنحتاج إلى تدفئة دمك وتحلية سوائلك التناسلية من أجل المحاولة المصيرية‬
‫حليب الماعز ‪ ،‬حليب الماعز الدافئ مع العسل ثالث مرات في اليوم ‪ ،‬وبالطبع الجرعات‬
‫‪.‬الخاصة التي سأحضرها لك من قرن الخرتيت وجذر اللفاح‬
‫بدا عليه االرتياح‪ -.‬أمتأكد أنت أن ذلك سيجدي ؟‪ -‬لم يفشل من قبل قُّط ‪ ،‬لكن ثمة مقياس‬
‫‪-‬جوهري آخر‪ .‬تالشى ارتياحه ‪ ،‬واستوى في جلسته يرنو إلَّي قلًقا‪ -.‬ما هو ؟‬
‫التعفف الكامل ‪.‬ال بَّد لنا من ترك القضيب الملكي يستريح ويسترد كامل شَّدته وقدرته ثانية‪.‬‬
‫عليك هجر الحريم وجميع متعه لبعض‬
‫‪.‬الوقت‬
‫‪.‬ذلك‬
‫قلت ذلك بنفس الطبيب اليقيني الذي ال يمكن إنكاره ‪ ،‬ذلك أنها طريقة موثوقة لضمان أال‬
‫ُتمس موالتي لوستريس ‪ ،‬غير أنني قلقُت من ردة فعله‪ .‬كان معقوًال أن تثور ثائرته إزاء فكرة‬
‫أن ُيحرم لذاته الزوجية ‪ ،‬وكان ممكنا أن يطردني ‪ ،‬فأفقد كل الأفضلية التي كسبُتها‬
‫مؤخًرا‪ .‬لكنني اضطررت إلى المجازفة لمصلحة موالتي‪ .‬علي حمايتها ما دام يمكنني فاجأني رد‬
‫فعل الملك ‪ ،‬إذ تراخى ببساطة على مسند الرأس وابتسم في انشراح ثم سألني مبتهجا بعض‬
‫الشيء‪ « :‬لكم من الوقت ؟ » ‪ ،‬وداهمني إدراك مباغت أن قيودي جاءته كأسباب ارتياح‪ .‬وقد‬
‫بذلت ‪ ،‬أنا الذي سيرى دائما ممارسة الحب مع امرأة جميلة حلًما معجزا مستحيل الإدراك‬
‫جهًدا هائاًل لأفهم أن الفرعون مسرور بتحريره من واجب كان ممتعا ذات يوم ‪ ،‬واجًبا صار‬
‫جراء كثرة تأديته ُمرهقا ‪.‬ال بد أن ما ال يقل عن ثالثمئة زوجة ومحظية كانت في الحريم‬
‫‪.‬آنذاك ‪ ،‬وبعض أولئك النسوة الآسيويات سيئات السمعة بسبب شهَّياتهن النهمة‬
‫‪164‬‬

‫التاج إلى قسمين ‪ ،‬وتحولت الكسرتان إلى غبار طَّيرته الريح‪ .‬لم يبق شيء إال الريح وتراب‬
‫الصحراء الذي تدفعه‪ .‬سألني الفرعون بإلحاح‪ « :‬ما الذي تراه ؟ » ‪ ،‬لكن كل شيء تالشى‬
‫ووجدُت نفسي من جديد جالًسا على أرضية مخدع الملك‪ .‬كنُت ألهث بأنفاس متقطعة ‪ ،‬كأنني ركضُت‬
‫مسافة بعيدة ‪ ،‬وأحرق العرق المالح عيني ثم انهمر على جسدي في جداول نقعت كتان تنورتي‬
‫وشكلت بركة على البالط من تحتي‪ .‬وكنُت أرتجف بحمى حراقة وانتابني شعور الغثيان والثقل‬
‫المألوف في فم معدتي الذي أعرف أنه سيرافقني لأيام قادمة‪ .‬كان الفرعون يحدق إلَّي‬
‫وأدركُت أي منظر ُمجهد ومخيف أريته إياه ‪ ،‬ثم همس‪ « :‬ماذا رأيت ؟ هل سيستمر نسلی ؟ »‪.‬‬
‫لم يكن بوسعي إخباره بحقيقة رؤيتي ‪ ،‬لذا اخترعُت أخرى لأرضيه‪ « :‬رأيُت غابة كلها شجر‬
‫عظيم يبلغ أفق حلمي ‪ ،‬وال حصر لعددها ‪ ،‬وفوق كل شجرة تاج تاج المملكتين الأحمر والأبيض‬
‫»‪ .‬تنهد الفرعون وغطى عينيه بيديه لبرهة ‪ ،‬وجلسنا صامتين ‪ ،‬هو في الإراحة التي أعطته‬
‫إياها كذبتي ‪ ،‬وأنا في إشفاقي عليه كذبُت في آخر الأمر رحمة به ‪ ،‬فهمست‪ « :‬الغابة التي‬
‫رأيُتها كانت عترتك ‪ ،‬سيبلغون حدود الزمان ‪ ،‬وسيعتمر كل منهم تاج مصر »‪ .‬كشف عينيه ‪،‬‬
‫وكانت رؤية امتنانه وغبطته أمًرا مثيرا للشفقة‪ « :‬شكًرا لك يا تايتا‪ .‬يمكنني رؤية أن‬
‫التكهن قد أرهق قواك‪ .‬لك أن تذهب وتستريح الآن ‪ ،‬فالحاشية ستبحر إلى قصري على جزيرة‬
‫الفنتين في الغد ‪ ،‬وسأخصص قادًسا لتعبر وموالتك عبوًرا آمنا‪ .‬احرسها بحياتك ‪ ،‬إنها‬
‫الإناء الذي يحمل بذور‬
‫‪ ».‬خلودي‬
‫كنت ضعيًفا حد أنني اضطررت إلى االستعانة بحافة السرير حتى أنهض ‪ ،‬ثم تهاديُت إلى الباب‬
‫واتكأت على عضادته ‪ ،‬غير أنني لم أضعف إلى درجة تمنعني من التفكير بواجبي تجاه موالتي‬
‫فذكرُته‪ « :‬ثمة مسألة مالءة الزواج‪ .‬سينتظر الشعب عرضها ‪ ،‬وسمعتك وسمعة موالتي في خطر »‪.‬‬
‫سألني‪ « :‬وماذا تقترح يا تايتا ؟ »‪ .‬صار يعتمد علي بهذه السرعة ‪ ،‬فأخبرته بما ينبغي‬
‫‪! ».‬فعله ‪ ،‬فأومأ برأسه وقال‪ « :‬اعتن بذلك‬
‫‪170‬‬

‫‪-‬‬ ‫أعطني شيًئا يخفف الألم أيها الخصي! حاول راسفر إمساكي من صدر غاللتي ‪ ،‬لكنني كنت‬
‫أسرع منه وتراجعُت عن متناوله‪ .‬أثرُت جلبًة إذ خضضت بضع بلورات من الأمالح غير الضارة من‬
‫قارورة زجاجية في زبديته ‪ ،‬ثم زدتها حليًبا من إبريقي‪ .‬بينما أضع الزبدية قريبة من يده‬
‫قلت له‪ « :‬إذا ما صار الألم أشد من المحتمل ‪ ،‬فهذا سيخففه »‪ .‬حتى في هذه المرحلة ‪،‬‬
‫عجزت عن حمل نفسي على إعطائه إياها مباشرة‪ .‬رفع نفسه على أحد مرفقيه ومد يده إلى‬
‫الزبدية ليكرعها ‪ ،‬وقبل أن تمسها أصابعه ‪ ،‬دفعتها بقدمي بعيًدا عن متناوله‪ .‬ظننُت في‬
‫تلك اللحظة أنها مجرد رغبة بإطالة االنتظار ‪ ،‬وشعرُت بالتشّفي إزاء شقائه عندما انتحب‬
‫قائاًل ‪ « :‬أيها الطيب تايتا ‪ ،‬أعطني الجرعة‪ .‬دعني أشرب‪ .‬إن الألم في رأسي يكاد ُيجننني‬
‫‪ .»-‬فلنتكلم قليال أوال أيها الطيب راسفر‪ .‬أسمعت أن السيدة لوستريس قد‬
‫طلبتني هدية فراقها من السيد إنتف ؟ فكشر بي رغم ألمه‪ ..‬أحمق أنت إن تظن أنه سيتركك‬
‫تذهب‪ .‬إنك ميت‪ -.‬الكلمات نفسها التي استخدمها السيد إنتف‪ ( .‬سألته بلطف) هل ستحد علي‬
‫يا راسفر ؟ أستبكي علَّي عندما أرحل ؟ ( فأخذ يقهقه ‪ ،‬ثم توقف وألقى نظرة إلى‬
‫‪.-‬الزبدية)‬
‫بطريقتي الخاصة ‪ ،‬لطالما كنُت مولعا بك بعض الشيء‪ .‬والآن أعطني الزبدية‪ .‬فسألته‪ « :‬كم‬
‫كنت مولعا بي عندما خصيتني ؟ » ورفع نظره إلَّي ‪-.‬ال يمكن أنك ما زلت تكن الضغينة بسبب‬
‫ذلك ‪ ،‬فقد مضى وقت طويل عليه ‪ ،‬وأيًضا ‪ ،‬ال يمكنني عصيان أوامر السيد إنتف‪ .‬تعقل يا‬
‫تايتا ‪ ،‬وأعطني الزبدية‪ -.‬كنت تضحك وأنت تبترني‪ِ .‬لَم ضحكت ؟ أكنت مستمتعا إلى هذه‬
‫الدرجة ؟ هَّن كتفيه ثم جفل إزاء الألم الذي أنزلته به الحركة‪ -.‬أنا رجل فكه ‪ ،‬أضحك‬
‫‪.‬دائًما‪ .‬بربك يا صديقي القديم ‪ ،‬قل إنك تسامحني وأعطني الزبدية‬
‫‪176‬‬

‫مرت رحلة صعود النهر مروًرا ساًرا بالحد الكافي في أيام طويلة متروية قضيناها جالسين‬
‫على ظهر الكوثل نتحادث أنا وموالتي ناقشنا كل تفصيل من تفاصيل ظروفنا المتغيرة بعمق‬
‫بالغ ودرسنا كل ما قد نتوقعه ونأمل حدوثه في المستقبل‪ .‬شرحت لها كل تعقيدات حياة‬
‫البالط وتقاليدها ونظامها ‪ ،‬ورسمت لها سالسل السطوة والنفوذ الخفية ‪ ،‬وعددت لها جميع‬
‫الذين في مصلحتنا أن نصادقهم والذين ُيؤَمن تجاهلهم ‪ ،‬وشرحت لها القضايا الراهنة ‪،‬‬
‫وموقف الفرعون من كل منها ‪ ،‬ثم انصرفت إلى مناقشة شعور المواطنين وحالتهم المزاجية‬
‫معها‪ .‬أدين بمعظم هذه المعرفة لصديقي أتون ‪ ،‬الحاجب الملكي ‪ ،‬إذ بدا أن كل سفينة هبطت‬
‫مجرى النهر في السنوات االثنتي عشرة الماضية من جزيرة الفنتين إلى الكرنك حملت لي‬
‫رسالة منه تعج بهذه التفاصيل الجذابة وحملت بالمقابل داللة ذهبية على امتناني لصديقي‪.‬‬
‫كنت مصمما على أن نصير قريبًا في مركز البالط وتيار السلطة‪ .‬لم أدرب موالتي طيلة هذي‬
‫السنين لأرى السالح الذي وضعته في ترسانتها يصدأ من قلة االستعمال ‪ ،‬فقد كان حاصل‬
‫مؤهالتها ومواهبها العديدة هائاًل بالفعل ‪ ،‬وظللت أضيف إليه بصبر كل يوم رغم ذلك‪ .‬كانت‬
‫صاحبة ذهن فطن ال يكل وحالما ساعدتها في طرح المزاج الأسود الذي هدد بتدميرها ‪ ،‬عادت‬
‫كعهدي بها ‪ ،‬مستعدة لتلقي إرشادي ‪ ،‬واستغللت كل فرصة وسعني اقتناصها لأشعل طموحها‬
‫وتوقها إلى تولي الدور الذي خططته لها‪ .‬سرعان ما وجدُت أن أنجع الطرق لتطويع اهتمامها‬
‫وتعاونها هي اقتراح أن كل هذا يصب في خير تانوس ومصلحته في آخر الأمر ‪ ،‬فأشرت إليها‪:‬‬
‫« إن ملكت نفوذا في البالط تزيد قدرتك على حمايته ‪ ،‬فقد سلمه الملك مهمة يقترب إنجازها‬
‫‪-‬من المستحيل ‪ ،‬وتانوس في حاجة إلينا لينجح ‪ ،‬وإن فشل ‪ ،‬فأنت‬
‫الوحيدة القادرة على إنقاذه من الحكم الذي حكمه الملك عليه »‪ .‬ماذا يمكننا أن نفعل‬
‫لنساعده على أداء مهمته ؟ ( حظيت بانتباهها كله فور ذكري تانوس) ‪ ،‬أخبرني بصدق ‪،‬‬
‫أيمكن لأي رجل سحق الصردان ؟ أليست عملية صعبة جًّدا ‪ ،‬حتى على رجل كتانوس ؟ أطلقت‬
‫عصابات الأشرار التي رّوعت المملكة العليا على نفسها اسم الصردان ‪ ،‬تيمنا بالُّصَرد الشرس‬
‫‪ ، ،‬وُصَرد النيل طائر أصغر من الحمامة‬
‫‪181‬‬

‫جلب نجاحنا معه بعض المثالب فكالعادة ‪ ،‬ثمة غيرة أولئك الذين شعروا أنهم أزيحوا عن‬
‫حظوتهم لدى الفرعون ‪ ،‬وثمة أيًضا مسألة اهتمام الفرعون الشهواني المتنامي بموالتي ‪،‬‬
‫الذي استفحل بسبب فترة العفة التي فرضتها‬
‫‪.‬عليه‬
‫وذات مساء في خيمته بعد أن أعطيته مسحوق قرن الخرتيت ‪ ،‬أسر إلي‪ :‬إن عالجك هذا يا تايتا‬
‫‪ ،‬ناجع أشد ما يكون حقا‪ .‬لم أشعر بهذه الرجولة مذ كنت شابا ‪ ،‬قبل تتويجي وتأليهي‬
‫بكثير عندما أفقُت هذا الصباح ‪ ،‬كان القضيب متصلًبا تصلبا مفرًحا حتى إنني أرسلُت في طلب‬
‫أتون ليشاهده ‪ ،‬فتأثر بشدة وتمنى أن ُيحضر موالتك من دون تأخير »‪ .‬خوفتني هذه الأنباء‬
‫بكل معنى الكلمة ‪ ،‬فاكتسيُت أقسى تعابيري وهززُت رأسي ثم امتصصُت الهواء من بين أسناني‬
‫وسأسأت لأبدي استهجاني‪ « :‬إنني ممتن لسداد رأيك في عدم الموافقة على اقتراح أتون يا‬
‫صاحب الجاللة ‪ ،‬إذ كان ممكنا لذلك أن ينقض كل جهودنا‪ .‬إن كنَت تريد ابنا ‪ ،‬فال بد لك من‬
‫اتباع حميتي بخالص الدقة »‪ .‬أثار ذلك في إدراك عجالة مرور الوقت ‪ ،‬وُقرب انتهاء أيام‬
‫المهلة التسعين ‪ ،‬فبدأت تهيئة موالتي لليلة التي سرعان ما سيصر الفرعون عليها‪ .‬علّي أوال‬
‫تجهيز عقلها ‪ ،‬وشرعُت بذلك بالإشارة إلى أن الأمر محتوم ‪ ،‬وأنها إن كانت تتمنى أن تعيش‬
‫أكثر من الملك وتذهب في النهاية إلى تانوس ‪ ،‬فسُتضطر إذن إلى الإذعان لمشيئة الملك‪.‬‬
‫فتاة متعقلة دائما‪ .‬وهي تنهدت‪ « :‬فسُتضطر إذن إلى أن تشرح لي ما الذي يتوقعه مني‬
‫بالضبط يا تايتا »‪ .‬ولم أكن أفضل دليل في هذا المجال ‪ ،‬فخبرتي الشخصية خبرة عابرة ‪،‬‬
‫من إيضاح الأساسيات ومن جعلها تبدو عادية جدا حتى ال‬
‫لكنني‬
‫‪.‬أخوفها بغير مبرر‬
‫هل سيؤلمني ؟ » أرادت أن تعرف ‪ ،‬وقد عاجلُت بطمأنتها‪ -.‬إن الملك رجل طيب ‪ ،‬ولديه خبرة‬
‫جمة مع الفتيات الصغيرات ‪ ،‬وأثق بأنه سيعاملك برقة‪ .‬سأحّضر لك مرهما من شأنه تسهيل‬
‫الأمور كثيرا ‪ ،‬ادهنيه كل يوم قبل النوم ‪ ،‬وسيفتح المدخل‪ .‬فكري في قرارتك أن تانوس‬
‫‪.‬سيمر من البوابة نفسها يوما ما ‪ ،‬وأنك تفعلين هذا لترحبي به ال بسواه‬
‫‪186‬‬
‫دائما ما بدت السعادة على موالتي إذا جلست في باب كوخ فقير مع ربِته ‪ ،‬أو تحت شجرة في‬
‫حقل فالح مزارع ‪ ،‬تنصُت لكروبهم وشكاويهم وتحملها إلى الفرعون في أول فرصة سانحة ‪ ،‬وفي‬
‫الغالب ما كان يبتسم ابتسامة رحيمة ويوافق على طريقة الإصالح التي تقترحها‪ .‬وهكذا ولدت‬
‫سمعتها على أنها نصيرة العامة‪ .‬كانت عندما تمر حتى في أتعس وأفقر أرباع المدينة ‪،‬‬
‫تترك خلفها ابتسامات وضحكات وفي أيام أخرى ‪ ،‬كنا نصطاد السمك معا من زورقنا الصغير في‬
‫معازل البحيرات التي يخلقها فيضان النيل ‪ ،‬أو ننصب فخاخنا للبط البري‪ .‬كنت قد صنعت‬
‫قوسا خاصة لموالتي تناسب قوتها بالطبع ليست نًّدا للقوس العظيمة الناتا التي صممتها‬
‫لتانوس ‪ ،‬لكنها مالئم لصيد طيور الماء الذي ننشد وموالتي لوستريس قناصة أحسن من معظم‬
‫الرجال الذين راقبتهم عند درايا الرماية ‪ ،‬يندر جدا أن تطلق سهما ال يضطرني إلى الغطس‬
‫عن الزورق والسباحة لجلب جثة البطة أو الإوزة‪ .‬متى ما خرج الملك ليمارس الصيد‬
‫بالباز ‪ ،‬كانت موالتي ُتدعى للحضور ‪ ،‬وبينما نحاذي أطراف أحواض البردي كنت أمشي خلفها‬
‫بصقري الُحَّرين على ذراعي ‪ ،‬وحالما يعلو مالك حزين بخفق أجنحة ثقيل من بركة محتجبة بين‬
‫تأخذ أحد صقري وتقبل رأسه المقلنس ‪ ،‬ثم تهمس له‪ « :‬طر سريعا ودقيقا يا جميلي! » ‪ ،‬ثم‬
‫تنزع قلنسوة الصقارة لتكشف عينيه المفترستين الصفراوين ‪ ،‬وتطلق القاتل الصغير المدهش‬
‫‪.‬عاليا‬
‫القصب‬
‫كنا نراقب مسحورين الصقر يحّلق عالًيا فوق الطريدة ‪ ،‬ثم يكسر ذينك الجناحين المنجليين‬
‫وينقض بسرعة تجعل الريح تغني فوق ريشه الأرقش ‪ ،‬وكان هول التصادم يصلنا من مسافة مئتي‬
‫خطوة ‪ ،‬فتلطخ مسحة من الريش الأزرق الباهت أزرق السماء الأدكن ‪ ،‬ثم تتبدد تبدد الدخان‬
‫في نسيم النهر ‪ ،‬إذ يثب الصقر على طريدته بمخالب معقوفة لينزل داكا الأرض بها ‪ ،‬فتصرخ‬
‫موالتي انتصاًرا وتركض بسرعة صبي لتجلب الطير ‪ ،‬وتجود عليه بالثناء وتدلله ‪ ،‬ثم تطعمه‬
‫رأس المالك الحزين المقطوع‪ .‬أحب كل مخلوقات الماء والأرض والجو ‪ ،‬وتكن لها موالتي‬
‫الشعور نفسه ‪ ،‬وطالما تساءلت لم إذن يتأثر كالنا برياضات المطاردة هذه ؟ حرت في ذلك‬
‫ولم أجد جواًبا‪ .‬ربما الجواب ببساطة أن الرجل والمرأة كذلك ‪ ،‬أعتى مفترسات الأرض ‪،‬‬
‫ونشعر بقرابة إلى الصقر بجماله وسرعته ‪ ،‬فقد منحت الآلهة الصقر‬
‫‪193‬‬

‫ركني‬
‫أخذت أمشي جانبًيا على الجدار ‪ ،‬محاوال االلتفاف من حوله للوصول إلى بر الأمان ‪ ،‬فهجم‬
‫علي ‪ ،‬وكانت فجوة فكيه بلون أصفر سقيم شاحب ومحالق السم تسيل من رأسي نابيه بينما‬
‫أقفز مبتعدا عنه وأنكمش على نفسي في ثانية صرخت ذعرا ال إراديًا ‪ ،‬لكنه استعاد توازنه‬
‫سريعا بعد الضربة وارتفع منتصبا بيني وبين الباب‪ .‬كنت أعرف أن حويصالته الُّسِّمَّية مشحونة‬
‫بسم يكفي لقتل مئة رجل قوي‪ .‬وبينما أراقبه انحل نصفه الأسفل تدريجًّيا وبدأ باالنسالل على‬
‫الأرض ناحيتي ورأسه الحانق مرتفع وعينيه الساطعتين الصغيرتين الفظيعتين معلقتين علي‪.‬‬
‫رأيت مرة إحدى هذه الأفاعي تسحر طيًرا حتى إنه لم يبد أي محاولة هروب من دنوها المتعرج‬
‫‪ ،‬بل رقد أمامها بمظهر استسالم جلي ‪ ،‬وشللت بالطريقة نفسها ‪ ،‬فبينما ينزلق الموت‬
‫ناحيتي وجدُت نفسي عاجزا عن الحركة‬
‫‪ ،‬ثانية‬
‫أو الصراخ‪ .‬ثم رأيت فجأة حركة وراء الصل المتمايل ‪ ،‬إذ ظهرت موالتي لوستريس في الباب‬
‫وقد استدعتها صرختي المذعورة الأولى ‪ ،‬فعثرت على صوتي وصرخت بها‪ « :‬حذار !ال تقتربي‬
‫أكثر! »‪ .‬لم تول تحذيري اهتماًما ‪ ،‬بل استوعبت المشهد بلمحة واحدة ‪ ،‬ولو أنها تأخرت أو‬
‫ترددت لحظة ‪ ،‬للدغني الثعبان لدغة ثالثة وأخيرة‪ .‬كانت موالتي جالسة إلى عشائها عندما‬
‫سمعت صيحتي ‪ ،‬وهي الآن واقفة ببطيخة نصف مأكولة في يد وسكين فضية في الأخرى ‪ ،‬وتفاعلت‬
‫بغريزة صيادة خاطفة‪ .‬كان تانوس قد علمها ترك أسلوب الرشق الأخرق ثنائي المفاصل‬
‫الطبيعي عند الأنثى ‪ ،‬فقذفت البطيخة التي تحملها بقوة ودقة رامي رماح ُمدرب وأصابت‬
‫الصل في قفا عنقه المنبسط ‪ ،‬وللحظة عابرة طوحته الضربة على الأرض المبلطة‪ .‬ومثلما‬
‫ُيرخى وتر القوس الحربي ‪ ،‬رفرف الثعبان منتصبا وأدار رأسه المروع ناحية موالتي ثم أسرع‬
‫إليها عبر الغرفة في هجوم مباشر‪ .‬تحررت من الغيبوبة في آخر الأمر ‪ ،‬وانطلقت ُقدما‬
‫لأساعدها ‪ ،‬لكنني أبطأ مما يجب ‪ ،‬فقد تأرجح الثعبان إلى الأمام مرتكزا على ذيله ‪،‬‬
‫وصوب عليها باسطا فكيه عن آخرهما حتى ُرُش السم من نابيه المنتصبين رذاذا باهتا نقًّيا‪.‬‬
‫قفزت موالتي للخلف بسرعة غزال ورشاقته أمام انقضاضة فهد صياد ‪ ،‬وأخطأ الصُّل هدفه ‪،‬‬
‫وللحظة ‪ ،‬ألقاه الزخم ممددا عند قدميها ‪ ،‬منبسطا على كامل طوله البراق المحرشف‬
‫كنُت‬
‫‪199‬‬

‫النهر ويهبطونه ‪ ،‬ويسافرون من معبد إلى آخر يتسولون الصدقات ‪ ،‬أو بالأحرى يطالبون بها‬
‫‪ ،‬على امتداد طريقهم ‪ ،‬فلن أستثير إال قليل االهتمام ‪ ،‬وربما يساعد تنكري على ردع‬
‫اعتداء من الصردان ‪ ،‬ذلك أنهم ‪ ،‬ولإيمانهم بالأساطير ‪ ،‬في الغالب ما يعزفون عن‬
‫التصادم برجال الدين‪ .‬درت حول البحيرة ودخلت بلدة الفنتين الغربية من الحي الفقير‪.‬‬
‫وعند أحواض السفن ‪ ،‬اقتربت من قبطان عبارة يحمل شحنة من الذرة في أكياس جلدية وجرار‬
‫زيت فخارية وبالقدر المناسب من الغطرسة ‪ ،‬طالبته بعبور مجاني إلى الكرنك باسم الإله ‪،‬‬
‫فهز كتفيه وبصق على سطح العبارة ‪ ،‬لكنه سمح لي بالركوب ‪ ،‬فالجميع مذعن البتزازات‬
‫الأخوية‪ .‬قد يزدرون الكهنة ‪ ،‬لكنهم يخافون نفوذهم أيًضا ‪ ،‬الروحي منه والدنيوي ‪ ،‬ويقول‬
‫البعض إن الكهانة تتمتع بسطوة تكاد تضاهي سطوة الفرعون نفسه‪ .‬كان القمر بدًرا ‪ ،‬وقبطان‬
‫العبارة مالح أشد بأًسا من الأميرال نمبت ‪ ،‬فلم نرُس في الليالت ‪ ،‬وبوجود النسيم وفيضان‬
‫النيل الكامل من خلفنا ‪ ،‬عبرنا عبوًرا ممتازا ولففنا في اليوم الخامس حنية النهر لنرى‬
‫الكرنك جاثمة أمامنا‪ .‬اضطربت معدتي عندما نزلت إلى الشاطئ ‪ ،‬فهذه بلدتي ‪ ،‬وكل متسول‬
‫ومتشرد فيها يعرفني خير المعرفة ‪ ،‬وإن تعرف علي أحد ‪ ،‬فسيسمع السيد إنتف بذلك قبل أن‬
‫أبلغ بوابات المدينة‪ .‬لكَّن تنُكري أجدى ‪ ،‬وبينما أسرع بطريقة عازمة وكهنوتية إلى منزل‬
‫تانوس قرب قاعدة السرب لزمت الأزقة‬
‫‪.‬الخلفية‬
‫وجدت بابه الأمامي مفتوًحا ‪ ،‬فدخلُت كأنما لي الحق بذلك ‪ ،‬وأغلقته بإحكام من خلفي‪ .‬كانت‬
‫الغرف قليلة الأثاث قفًرا ‪ ،‬وعندما فتشُتها ‪ ،‬لم أجد شيًئا من شأنه منحي إشارة إلى‬
‫مكانه‪ .‬بدا واضًحا أن تانوس قد غادر منذ وقت طويل ‪ ،‬ربما منذ غادرت وموالتي الكرنك ‪،‬‬
‫فقد تخثر الحليب في الإبريق بجوار النافذة وجّف كالجبن الصلب ‪ ،‬وغطى العفن الأزرق كسرة‬
‫من خبز الذرة تركت على صحن بجواره‪ .‬بحسب ما أمكنني رؤيته ‪ ،‬فال شيء ناقص ‪ ،‬وحتى القوس‬
‫الناتا ال تزال معلقة على حمالته فوق سريره أمر استثنائي أن يتركها تانوس ‪ ،‬فطالما كانت‬
‫أشبه بامتداد لجسده‪ .‬خبأتها في حجيرة سرية تحت منامته ‪ ،‬حجيرة كنُت بنيتها له عندما‬
‫انتقل إلى هذا المسكن ولرغبتي بتفادي التجوال في‬
‫‪205‬‬

‫السوق ‪ ،‬ومن خلفها حملت نصف دزينة من العبيد هودجا باهرًجا ذا ستائر سير وئيد‪ .‬كنت‬
‫محاصًرا بالجدران المطلية بالطين لأحد الأبنية ‪ ،‬ورغم‬
‫في‬
‫أنني تعرفُت الهودج وقائد الحرس ‪ ،‬فلم أتمكن من تفادي المواجهة‪ .‬استولى الذعر علَّي ‪،‬‬
‫فربما أنجو من تفحص عابر من راسفر ‪ ،‬لكنني واثق بأن سيدي إنتف سيعرفني مباشرة رغم‬
‫تنكري‪ .‬نظرُت بجانبي فرأيت أَمًة عجوزا لها نهدان يشبهان جرتي زيت زيتون ضخمتين وظهر‬
‫كفرس النهر‪ .‬فرحت أتلوى جانبًّيا حتى خبأتني جسامتها ‪ ،‬ثم أنزلُت باروكتي على عيني وأخذُت‬
‫أسترق النظر من خلفها‪ .‬وعلى الرغم من مخاوفي شعرُت بوخزة افتخار مهني لأن راسفر عاد‬
‫واقًفا على قدميه بعد جراحتي بفترة قصيرة‪ .‬كان يقود قوة الحرس باتجاه مخبئي ‪ ،‬لكنني لم‬
‫أنتبه إال عندما حاذاني إلى أن أحد جانبي وجهه قد انهار ‪ ،‬فبدا كأنما ُصنع تمثال شمعي‬
‫لمالمحه الكريهة ثم وضع قريبا من لهب مكشوف في الغالب ما تكون هذه الحالة نتيجة حتى‬
‫لأمهر عمليات نقب الرأس‪ .‬أما النصف الآخر من وجهه فاكتسى بتجهمه المعهود‪ .‬إن كان‬
‫راسفر شنيعا من قبل ‪ ،‬فينبغي له الآن أن يحمل الأطفال على البكاء والكبار على رسم‬
‫الإشارة الواقية من العين الشريرة عندما ينظرون إليه‪ .‬مر قريبا من حيث أقف ‪ ،‬وتبعه‬
‫الهودج ‪ ،‬ولمحت عبر شق بين الستائر الموشاة السيد إنتف يتمدد بأناقة على وسائد من‬
‫الحرير النقي المستورد من الشرق ‪ ،‬والتي ال بَّد أن كال منها كَّلفت خمسة خواتم ذهبية على‬
‫الأقل‪ .‬كانت وجنتاه محلوقتين حديثا وشعره مسرًحا في حليقات مترسمة‪ .‬وفوق تسريحته ‪ ،‬جعل‬
‫قمع من شمع النحل الُمعطر ليذوب في الحر ويقطر على فروة رأسه نزوال إلى عنقه فيبرد‬
‫بشرته وينعشها واستوت يد ‪ ،‬أصابعها متصلبة لكثرة الخواتم المرصعة بتراخ على فخذ بنية‬
‫ناعمة لغالم صغير جميل ال بَّد أنه إضافة حديثة لمجموعته ‪ ،‬ذلك أنني لم أتعرفه‪ .‬باغتتني‬
‫قوة كراهيتي عندما نظرت إلى سيدي القديم ‪ ،‬وعاد ما عانيته من جراح وإذالالت ال ُتحصى على‬
‫يديه ُمسرًعا ليلِّوعني ‪ ،‬وتفاقمت شدتها بعد شناعته الأحدث ‪ ،‬فبإرساله الصَّل إلَّي عَّرض حياة‬
‫‪.‬موالتي للخطر‪ .‬وإن كان بإمكاني مسامحته على كل شيء آخر ‪ ،‬فلن أسامحه على هذا أبًدا‬
‫‪211‬‬

‫االحتقار الذي تمكنت من حشده في صوتي‪ « :‬ستشعر موالتي لوستريس ببالغ الفخر إن رأتك الآن‬
‫»‪ .‬فنظر حوله بعينين سيالتين ثم رَّكز علّي أخيًرا‪ « :‬اللعنة عليك يا تايتا! أكنَت أنَت من‬
‫حاول إغراقي ؟ أيها الأحمق ‪ ،‬كان ممكنا أن أقتلك »‪ -.‬في حالك الراهنة ال يمكنك إنزال‬
‫ضرر إال بجرة من النبيذ‪ .‬يا لك من منظر مؤسف مقرف ثم تسلقت السلم إلى الكوخ وتركته في‬
‫الماء ‪ ،‬يهز رأسه ويتمتم بينه وبين نفسه ‪ ،‬وشرعُت أرتب الفوضى والقذارة)‪ .‬مر بعض الوقت‬
‫حتى تبعني على السلم وجلس مستحيا في المدخل ‪ ،‬فتجاهلته وتابعت عملي ‪ ،‬حتى اضطر في آخر‬
‫الأمر إلى كسر الصمت‪ -.‬كيف حالك يا صديقي القديم ؟ لقد اشتقت إليك‪ -.‬وقد اشتاق إليك‬
‫آخرون أيًضا‪ .‬أولهم كراتاس‪ .‬السرب يخوض معارك أسفل النهر منذ مدة ‪ ،‬وكانوا ليستفيدون‬
‫من سيف إضافي‪ .‬وسيدتي لوستريس كذلك‪ .‬إنها تتكلم عنك كل يوم ‪ ،‬وتحفظ عهد حبها نقيا‬
‫وصادًقا‪ .‬أتساءل ما سيكون رأيها في تلك البغي التي طردتها من‬
‫سريرك ؟‬
‫فأَّن وأمسك رأسه بيديه‪ « :‬أوه يا تايتا ‪ ،‬ال تنطق اسم موالتك‪ .‬إن تذكيري بفعلها الذي ال‬
‫ُيحتمل‪ .» ...‬فاقترحُت بغضب‪ « :‬افتح إذن جرة أخرى من النبيذ وتمرغ في قذارتك‬
‫ورثاء ذاتك »‪ -.‬لقد خسرتها إلى الأبد ‪ ،‬فما الذي تريد مني فعله ؟‪ -‬أريدك أن تتحلى‬
‫بالإيمان والصبر ‪ ،‬مثلما فعلت هي‪ .‬فنظر إلَّي نظرة ُترقق القلب‪ « :‬احِك لي عنها يا تايتا‪.‬‬
‫كيف حالها ؟ أما زالت تفكر بي ؟ »‪ .‬فنخرُت باشمئزاز‪ « :‬يؤسفني أن أقول إن ما تفكر به‬
‫سواك قليل ‪ ،‬وإنها في استعداد دائم لليوم الذي تجتمعان فيه ثانية »‪ -.‬لن يحدث هذا‬
‫‪.‬أبًدا‪ .‬لقد خسرتها مدى الحياة وال أريد متابعة العيش‬
‫‪218‬‬
‫من أمامهم‪ .‬كان لتانوس عين جندي خبيرة بالأراضي ‪ ،‬ونصب الكمين بدقة‬
‫‪.‬بالغة‬
‫سمعناهم قادمين من مسافة بعيدة ‪ ،‬سمعنا دبدبة حوافر الحمار وغناء أصواتهم ‪ ،‬وبينما‬
‫ننتظرهم ‪ ،‬حظيت بالفرصة الأولى لأدرس حكمة قراري في اللحاق به من دون نقاش وعندما بدت‬
‫لنا جماعة الصردان أخيًرا اقتنعت أنني تسرعت كثيًرا ‪ ،‬إذ كانوا ثلة من البلطجية لهم‬
‫أكثر هيئة سّفاحة حطت عيناي عليها قبال ‪ ،‬ولست مسلًحا إال بخنجري المرصع الصغير‪ .‬قبل‬
‫مكمننا بمسافة قصيرة ‪ ،‬توقف البدوي الطويل الملتحي فجأة ‪ ،‬وكان واضًحا أنه قائدهم ‪،‬‬
‫وأمر أحد الرجال بلحاقه لإنزال قربة الماء عن الحمار ‪ ،‬فشرب أوال ثم مررها للآخرين‪.‬‬
‫وبينما أشاهدهم يجرعون الشراب الثمين انغلق حلقي‪ .‬همس تانوس ونحن جاثمان بين الصخور‪:‬‬
‫بحق حورس ‪ ،‬انظر إلى بقع دم النساء على أثوابهم يا ليت الناتا معي الآن ‪ ،‬لكنت أرسلت‬
‫سهما إلى بطنه فأهرقت الماء منها كما ُتهرق الجعة من خابية! ثم وضع يدا على ذراعي )ال‬
‫تتحرك حتى أتحرك ‪ ،‬أتسمعني ؟ انتبه ال أريد أي فعال بطولية منك الآن » ‪ ،‬فأومأت بقوة‬
‫ولم أشعر بأدنى نزعة إلى االحتجاج على هذه التعليمات‬
‫‪.‬العقالنية للغاية‬
‫أكمل الصردان طريقهم مباشرة إلى حيث ننتظر ‪ ،‬وكانوا جميًعا مدججين بالسالح‪ .‬مشى البدوي‬
‫في مقدمتهم ‪ ،‬وسيفه ُمزّنر بين لوحي كتفه ‪ ،‬جاهًزا لالستعمال ‪ ،‬وقد ألقى قلنسوة عباءته‬
‫الصوفية على رأسه لتحميه من أشعة الشمس الضارية ‪ ،‬فعّوقت رؤيته الجانبية ولم يالحظنا‬
‫عندما مر قريبا من‬
‫‪.‬أمامنا‬
‫تبعه اثنان آخران من كتب أحدهما يقود الحمار ‪ ،‬ومشى االثنان الأخيران الهويني وراء‬
‫البهيمة ‪ ،‬منشغلين في شجار كسالن على قطعة جواهر ذهبية أخذاها من القتيلة‪ .‬كانت‬
‫أسلحتهم جميعها مغمدة ‪ ،‬باستثناء رماح الطعن القصيرة برونزية السنان التي حملها الزوج‬
‫الأخير‪ .‬تركهم تانوس يمرون جميًعا ‪ ،‬ثم وقف بهدوء وتحرك من خلف الرجلين الأخيرين في‬
‫الرتل بدا يتحرك حركة عادية ‪ ،‬مثلما يفعل النمر ‪ ،‬لكن في الحقيقة لم يمر إال َنَفس قبل‬
‫‪.‬أن يضرب بسيفه عنق الرجل الماشي في الميمنة‬
‫‪223‬‬

‫فراح يشرب ‪ ،‬وضاقت عيناه نشوًة ‪ ،‬ثم شهق‪ « :‬وحق أنفاس إيزيس العذبة إنك محق‪ .‬أنا رخو‬
‫كامرأة عجوز حتى حصة المبارزة الضئيلة تلك كادت ُتنهيني ( ثم نظر حوله إلى الجثث‬
‫المبعثرة ‪ ،‬وابتسم رضى) ‪ ،‬لكن على العموم ‪ ،‬ليست بداية سيئة لمهمة الفرعون »‪ .‬عارضُته‪:‬‬
‫بل كانت أتعس البدايات وعندما قّوس حاجبه أردفت‪ )..‬كان ينبغي لنا إبقاء واحد على الأقل‬
‫حًّيا ليقودنا إلى عش الصردان ‪ ،‬وحتى ذاك‪ ...‬وأشرُت ناحية الرجل المحتضر الراقد بين‬
‫الصخور) تجاوز سوء حاله أن يفيدنا بأي شيء‪ .‬كان الخطأ خطئي ‪ ،‬فقد سمحت فقد سمحت لغضبي‬
‫بأن يتملكني‪ .‬لن نرتكب الخطأ نفسه ثانية »‪ .‬بلغنا منتصف الطريق عوًدا إلى حيث تركنا‬
‫جثث العائلة القتيلة قبل أن تعيد طبيعتي الحقيقية إثبات نفسها ‪ ،‬وبدأُت أندم ُمَّر الندم‬
‫على قسوة فؤادي ومعاملتي الوحشية للمشلح المقعد‪ .‬قلُت لتانوس‪ « :‬كان إنساًنا مثلنا برغم‬
‫كل شيء » ‪ ،‬وشخر استهزاء‪ -.‬لقد كان حيواًنا ‪ ،‬واوًّيا مسعوًرا ‪ ،‬وقد أبليت بالء حسًنا ‪،‬‬
‫ورثيته أكثر مما يجب بكثير‪ .‬انسه‪ .‬وأخبرني بدال من ذلك ‪ ،‬لم علينا العودة والنظر إلى‬
‫الرجال الميتين بدال من التوجه مباشرة إلى معسكر كراتاس ؟ قبت‪ « :‬أحتاج إلى جسد الزوج‬
‫» ‪ ،‬ولم أقل شيًئا آخر حتى وقفنا فوق الجثة المشوهة‪ .‬كانت البقايا المؤسفة تتعفن في‬
‫الحر بالفعل ‪ ،‬ولم تترك النسور إال قليال من اللحم على العظام‪ .‬قلت‪ :‬لتانوس‪ « :‬انظر إلى‬
‫شعره من غيره ممن تعرفهم له كثة كهذه ؟ » ‪ ،‬بدا حائًرا للحظة ‪ ،‬ثم ابتسم ومّرر أصابعه‬
‫في حليقات شعره الكثيفة ‪ ،‬فأمرته‪ :‬ساعدني بتحميله على الحمار‪ .‬يمكن لكراتاس أخذه إلى‬
‫الكرنك ليحُّنطه الحانوتيون ‪ ،‬وسنقيم له جنازة الئقة وقبًرا فاخًرا ننقش اسمك على جدرانه‪.‬‬
‫ثم بحلول مغيب الغد ستعرف طيبة كلها أن تانوس ‪ ،‬سيد حاراب ‪ ،‬قد هلك في الصحراء ‪،‬‬
‫‪... ».-‬وأكلت النسور نصف جثته »‪ .‬بدا عليه القلق‪ « :‬إن سمعت لوستريس بذلك‬
‫سأرسل إليها برسالة تحذير‪ .‬إن النفع الذي سيرجع علينا به تصدیق العالم أنك مت يفوق‬
‫‪.‬بكثير أي خطر يأتي من تخويف موالتي‬
‫***‬
‫‪227‬‬
‫وبعد دور محترم من المحادثة المؤدبة ‪ ،‬سأل بهدوء‪ « :‬هل من شيء يمكنني خدمتك به ؟ إنني‬
‫مدين لك بحياتي ‪ ،‬وما عليك إال السؤال منزلي منزلك ‪ ،‬وكل ما أملكه لك »‪ .‬قلت له‪« :‬‬
‫إنني هنا في مهمة تخص الملك » ‪ ،‬وأخرجت ختم الباز من تحت‬
‫‪.‬غاللتي‬
‫فتجهم وجهه‪ « :‬أعترف بختم الفرعون لكن لم يكن ضروريا أن تريني إياه‪ .‬اطلب مني ما‬
‫تشاء ‪.‬ال يمكنني رفض طلبك »‪ .‬استمع لكل ما عندي من كالم من دون أن ينطق بكلمة أخرى ‪،‬‬
‫وعندما انتهيت ‪ ،‬أرسل في طلب حاجبه وأملى عليه أوامره أمامي ‪ ،‬وقبل أن ُيرسل الرجل‬
‫استدار إلَّي وقال‪ « :‬هل نسيُت شيًئا ؟ أتريد شيًئا آخر أيا ما كان ؟ »‪ -.‬إن سخاءك ال حدود‬
‫له ‪ ،‬لكن ثمة شيء واحد آخر ؛ لقد اشتقت إلى عدة كتابتي‪ .‬فعاد إلى الحاجب وقال‪ « :‬احرص‬
‫على وجود لفائف وريش وعلبة حبر في إحدى الِّصَرر »‪ .‬ظللنا نتكلم بعد أن غادر الحاجب حتى‬
‫انقضى نصف الليل‪ .‬يقف تيامات في مركز أكثر الطرق التجارية انشغاال في المملكة العليا ‪،‬‬
‫وقد سمع كل شائعة ووشوشة من أقصى مرامي الإمبراطورية ‪ ،‬ومن وراء البحر ‪ ،‬فعرفت في بضع‬
‫الساعات هذه في حديقته أكثر مما كنُت لأعرفه في شهر بقصر الفنتين‪ .‬سألته‪ « :‬أما زلت‬
‫تدفع الفدية للصردان حتى يسمحوا لبضائعك بالمرور ؟ » ‪ ،‬وهّز كتفيه استسالًما‪ -.‬بعد ما‬
‫فعلوه بساقي ‪ ،‬أي خيار أمامي ؟ في كل موسم تزداد مطالبهم فداحة علي أن أدفع ربع قيمة‬
‫بضائعي لهم حالما تغادر القافلة سفاجا ‪ ،‬ونصف أرباحي عندما تباع البضائع في طيبة‪.‬‬
‫قريبا سيفقروننا كلنا ‪ ،‬وينمو العشب على طرق القوافل ‪ ،‬وتذوي التجارة في المملكة‬
‫وتموت‪ --.‬وكيف تدفع هذه الدفعات ؟ من يقرر المبلغ ‪ ،‬ومن يجمعها ؟ لهم جواسيسهم هنا في‬
‫المرفأ يراقبون كل حمولة ُتنّزل ‪ ،‬ويعرفون ما تحمله كل قافلة عندما تغادر سفاجا ‪ ،‬وقبل‬
‫‪.‬أن تبلغ المعبر الجبلي حتى ‪ ،‬يالقيها أحد زعماء اللصوص ويطلب الفدية التي قرروها‬
‫‪233‬‬

‫عندما انطلق الرتل في الصباح التالي ‪ ،‬كان الجو ال يزال مظلًما وباردا‪ .‬بينما تقدم‬
‫تانوس‪ -‬والناتا مدالة على كتفه القافلة ‪ ،‬أتبعه ‪ ،‬بكل بهائي وجمالي النسائي ‪ ،‬من كثب‪.‬‬
‫من خلفنا ‪ ،‬كانت الحمير ملجومة في طابور واحد ‪ ،‬تتحرك أنفا لذيل في منتصف الممر‬
‫المتهالك ‪ ،‬والإماء في رتل ثنائي على جانبي طابور الحمير‪ .‬كانت أسلحتهن مخبأة فى‬
‫البرادع على ظهور الحيوانات ‪ ،‬فال يحتاج أي من الرجال إال إلى مد يده لتصير على نصاب‬
‫سيفه‪ .‬قسم كراتاس مرافقته إلى ثالث جماعات كل منها من ستة رجال ‪ ،‬يقودها أستيس‬
‫ورمرم‪.‬وهو كان أستيس ورمرم محاربين شهيرين وأكثر من مستحقين قيادة فرق خاصة بهما ‪،‬‬
‫لكن كليهما رفض في مناسبات عديدة الترقية ليبقى مع تانوس‪ .‬هذا هو صنف الوالء الذي‬
‫ألهبه تانوس في جميع من خدموا تحت إمرته‪ .‬لم يسعني إال التفكير مرة أخرى في العظمة‬
‫التي كان ليبلغها لو صار فرعوًنا‪ .‬وراحت المرافقة تسير متراخية على طول الطابور ‪،‬‬
‫باذلة كل الجهد الممكن للتخلي عن مشيتها العسكرية‪ .‬قد يبدو للجواسيس الذين يراقبوننا‬
‫من التالل بال شك أنها حاضرة ال لشيء إال منع أي من الإماء من الهرب ‪ ،‬بينما عناصرها في‬
‫الحقيقة منشغلون كل االنشغال بلجم بواعثهم على االندفاع في مشية عسكرية وصياح الزمة إحدى‬
‫‪.‬أغاني الفرقة الصاخبة‬
‫سمعت‬
‫رمرم يعترض على أحدهم‪ « :‬هيه أنت يا كيرنيت ال تخط هذه الخطوات الطويلة يا رجل ‪ ،‬وهزهز‬
‫مؤخرتك البدينة تلك بعض الشيء! حاول أن تكون جذابا! »‪ .‬فرد عليه كيرنيت‪ :‬أعطني قبلة‬
‫وسأفعل أي شيء تقوله »‪ .‬كانت الحرارة تتصاعد ‪ ،‬وبدأ السراب يجعل الصخور‬ ‫أيها النقيب‬
‫فاستدار تانوس إلّي‪ « :‬قريًبا سأعلن استراحتنا الأولى كأس واحدة من الماء‬ ‫تتراقص ‪،‬‬
‫فقاطعته‪ « :‬لقد وصل أصدقاؤك يا زوجي الصالح ‪ ،‬انظر أمامك! »‪ .‬عاد تانوس‬ ‫لكل‪.» ...‬‬
‫غريزيا على مقبض قوسه العظيم المدلى على جانبه‪ « :‬ويا لهم من صحب راقين‬ ‫بنظره ‪ ،‬وقبض‬
‫في تلك اللحظة ‪ ،‬كان طابورنا يتعرج بين التالل السفحية الأولى أسفل صعيد‬ ‫أيًضا! »‪.‬‬
‫الصحراء ‪ ،‬ومن كلتا الناحيتين ‪ ،‬كنا مسّورين بالجوانب المنحدرة للتالل‬
‫‪239‬‬

‫سراب الحر المنكشفات الصخرية من حولنا وجعل الأفق يطفو ويبدو مسبوكا من قار سائل‪ .‬لم‬
‫نر أي أثر آخر من آثار الحياة ‪ ،‬باستثناء مرة نبحت علينا فيها زمرة من قرود الرباح‬
‫الصفراء من جروف هضبة جرداء في مرورنا من تحتها ‪ ،‬وحومت نسور في السماء الزرقاء‬
‫الحارة على علو جعلها ال تبدو إال هباء يدور في دوائر بطيئة ومدروسة فوقنا‪ .‬عندما‬
‫استرحنا في منتصف النهار ‪ ،‬راحت الزوابع تدور حول نفسها وتتمايل برشاقة الحوريات‬
‫الراقصة في السهول ‪ ،‬وبدا كأس الماء الذي كان حصتي يستحيل بخارا في فمي‪ .‬تذّمر كراتاس‬
‫بغضب‪ :‬أين هم بحق صفن ست المتعرق ؟ آمل أن تستجمع هذه الطيور الصغيرة شجاعتها قريًبا‬
‫وترجع إلى مجثمها »‪ .‬ورغم أننا جميًعا محاربون قدماء أشداء ومعتادون الضنك والمشقة ‪،‬‬
‫كانت الأعصاب والأمزجة تزداد إرهاًقا‪ .‬بدأ الرفاق المقربون والأصدقاء القدامى يزمجر‬
‫أحدهم في وجه الآخر بال سبب ‪ ،‬ويتشاجرون على حصة الماء‪ .‬قلت لتانوس‪ « :‬إن شوفتي لكلب‬
‫عجوز ماكر‪ .‬سيجمع قواته وينتظر أن نأتي إليه بدال من الإسراع إلى لقائنا‪ .‬قصده أن‬
‫يتركنا ننهك أنفسنا بالرحلة ‪ ،‬ونصير‪ -‬لإعيائنا مستهترين ‪ ،‬قبل أن يضرب ضربته »‪ .‬في‬
‫اليوم الخامس ‪ ،‬عرفُت أننا نقترب من واحة جاللة عندما رأيُت أن الجروف القاتمة أمامنا‬
‫مثقبة بكهوف المقابر القديمة منذ قرون مضت كانت الواحة تعيل مدينة مزدهرة ‪ ،‬لكَّن زلزاال‬
‫زلزل الهضاب وأتلف الآبار‪ .‬ورغم أن الآبار حفرت إلى أعماق أسحق للوصول إلى المياه‬
‫المنكفئة ‪ ،‬وبلغت الساللم الأرضية مكانا حيث يظل سطح الماء في الظل دائما ‪ ،‬ماتت‬
‫المدينة ‪ ،‬وانتصبت الجدران معدومة الأسقف ُمهملة في الصمت ‪ ،‬وشمست العظاءات نفسها في‬
‫الأحواش التي غازل فيها التجار الأثرياء نساءهم ذات مرة‪ .‬كان همنا الأول تعبئة قرب‬
‫مائنا شَّوه الصدى في البئر السحيق أصوات الرجال الذين يسحبون الماء من قعره وبينما‬
‫انهمكوا في ذلك ‪ ،‬ذهبُت وتانوس في جولة سريعة على المدينة اليباب‪ .‬كانت مكانا موحًشا‬
‫وكئيبا ‪ ،‬في وسطه المعبد المتضعضع لإله جاللة الراعي ‪ ،‬وقد انخسف سقفه وانهارت‬
‫‪244‬‬

‫كتفه وسحب سهما من الكنانة على ظهره وواجه البوابة الرئيسة التي ال بد لحشد الصردان من‬
‫الدخول منها‪ .‬تحت المذبح ‪ ،‬كان كراتاس قد صف رجاله في صف واحد ‪ ،‬فأوتروا أقواسهم كذلك‬
‫وواجهوا مدخل الساحة شّكلوا جماعة صغيرة صغًرا تِعًسا حول المذبح ‪ ،‬وبينما أراقبهم شعرُت‬
‫بكتلة تعلو في حلقي‪ .‬كانوا شجعان وغير هيابين ‪ ،‬وكنُت موشكا أن أؤلف سونيتة في تكريمهم‬
‫‪ ،‬قررُت ذلك إثر اندفاعة مفاجئة ‪ ،‬لكن قبل أن أتمكن من نظم السطر الأول ‪ ،‬اندفع رأس‬
‫‪.‬غوغاء المشلحين يعوي عبر البوابة الخربة‬
‫حلقه‬
‫كان الدرج المنحدر إلى المدخل ال يتسع إال لخمسة رجال جنبا إلى جنب والمسافة إلى حيث‬
‫يقف تانوس على المذبح أقل من أربعين خطوة شد تانوس سهمه الأول وأطلقه محلًقا ‪ ،‬وقتل‬
‫ذاك السهم وحده ثالثة رجال أولهم مجرم طويل يرتدي تنورة قصيرة ‪ ،‬وله جدائل شعر طويلة‬
‫زلجة منسابة على ظهره‪ .‬أصابه السهم في وسط صدره العاري ومَّر من خالل جذعه كأنه يمّر في‬
‫دريئة مقصوصة من ورقة بردي‪ .‬بعد أن زّلقته دماء الرجل الأول ‪ ،‬أصاب السهم الرجل من‬
‫خلفه في ورغم أن قوته بدأت تتبدد اخترق عنقه وخرج من الجانب الآخر ‪ ،‬لكنه لم يتمكن من‬
‫المرور بالكامل ‪ ،‬إذ علقت الريشات في آخر جذعه بلحمه ‪ ،‬في حين دفن السن البرونزي‬
‫الشائك نفسه في عين رجل ثالث كان يزاحمه من كتب‪ُ .‬ثبت الُّصَردان معا بالسهم ‪ ،‬فترنحا‬
‫وتخبطا في منتصف البوابة ‪ ،‬وسدا بذلك الطريق على أولئك الذين يحاولون تجاوزهما إلى‬
‫الباحة‪ .‬وأخيرا ‪ ،‬اقتلع سن السهم من جمجمة الرجل الثالث ‪ ،‬والمقلة مخوزقة عليه ‪،‬‬
‫فانهار الُّصَردان الصريعان وانصب حشد من اللصوص الصارخين من فوقهم في الساحة‪ .‬قابلتهم‬
‫الجماعة الصغيرة حول المذبح برشقة سهام تلو الرشقة ‪ ،‬فأخذوا يصر عونهم حتى كادت جثثهم‬
‫تحجب المدخل ‪ ،‬وصار القادمون من خلف مجبرين على التدافع فوق تالل القتلى والمجروحين‪.‬‬
‫لم يطل ذلك كثيًرا ‪ ،‬فضغط المحاربين القادمين من الخلف كان شديًدا جدا وأعدادهم عارمة‪.‬‬
‫ومثل انفجار مصد أرضي عجز عن إيقاف فيضان النيل المرتفع ‪ ،‬اقتحموا المدخل ‪ ،‬وتدفقت‬
‫‪.‬جمهرة متينة من المقاتلين إلى الساحة فطوقت الجماعة الضئيلة حول مذبح الإله بس‬
‫‪248‬‬

‫أما عن نفسي ‪ ،‬فكنت أكثر اهتماًما بالحمير وحمولتها ‪ ،‬إذ بلغت أكثر من مئة وخمسين‬
‫حماًرا معظمها متين وفي أحسن حاالته ‪ ،‬ويمكنها تحقيق أسعار ممتازة في سوق الكرنك أو‬
‫سفاجا حسبُت أنني سأستحق حصة قائد مئة على الأقل عندما ُتوّزع الجوائز المالية ‪ ،‬فبرغم‬
‫كل شيء ‪ ،‬كنت أنفقت بالفعل مبالغ ضخمة من مدخراتي في سبيل تعزيز هذا المغامرة ‪ ،‬ويجب‬
‫أن ُأمنح تعويًضا ما‪ .‬سأكلم تانوس جديًا في الأمر ‪ ،‬وأتوقع أن يتعاطف معي ‪ ،‬فله روح‬
‫سخية‪ .‬كانت الشمس قد غربت عندما رجعنا إلى مدينة جاللة نقود البهائم الأسيرة المحملة‬
‫بالغنائم وتتبعنا شرذمة من النساء الالتي ارتبطن على نحو طبيعي جدا برجالهن الجدد‪.‬‬
‫حولنا أحد المباني الأصغر حجًما بجوار الآبار إلى مستشفى ميداني ‪ ،‬وهناك عملُت طيلة‬
‫الليل أخيط جراح رجال الحرس المصابين على ضوء مشعل وسراج زيت‪ .‬وكالعادة ‪ ،‬أثارت‬
‫رصانتهم إعجابي ‪ ،‬ذلك أن الكثير من جراحهم كانت حرجة وأليمة ‪ ،‬ومع هذا ‪ ،‬لم أفقد إال‬
‫مريضا واحًدا قبل بزوغ الفجر إذ استسلم آمست لما خسره من دماء شرايين ذراعه المقطوعة‪.‬‬
‫لو أنني عالجته بعد المعركة مباشرة بدال من الذهاب إلى الصحراء ‪ ،‬لربما تمكنت من‬
‫إنقاذه ‪ ،‬ورغم أن مسؤولية ذلك تقع على عاتق تانوس ‪ ،‬شعرُت بالذنب والأسى المعهودين‬
‫تجاه موٍت ربما كان بوسعي منعه بأي حال ‪ ،‬كنُت واثًقا أن بقية مرضاي سيتعافون تعافًيا‬
‫سريًعا ونظيًفا ‪ ،‬فكلهم شبان أقوياء في‬
‫‪.‬حال متفوقة‬
‫لم يبق صردان جرحى لأداويهم ‪ ،‬فقد ُقطعت رؤوسهم حيث رقدوا في ساحة المعركة ‪ ،‬وبصفتي‬
‫طبيًبا ‪ ،‬لطالما أزعجتني هذه العادة البالية في التعامل مع جرحى الأعداء ‪ ،‬على أنني‬
‫أرى فيها بعض المنطق رغم ذلك ‪ ،‬فلم يهدر المنتصرون مواردهم على المنهزمين المشوهين ‪،‬‬
‫في حين أنهم ال ُيرجح أن يحملوا أي قيمة في سوق العبيد ‪ ،‬وإن تركوهم أحياء فقد يستردون‬
‫عافيتهم ويقاتلونهم في يوم آخر ؟ عملت طيلة الليل من دون أن أحظى إال بجرعة نبيذ وبضع‬
‫لقيمات من الطعام أكلُتها بيدين داميتين لتقيتني ‪ ،‬وأوشكت أن أنهك ‪ ،‬لكن لم ُتقَّدر لي‬
‫‪.‬الراحة بعد ‪ ،‬إذ أرسل تانوس في طلبي فور بزوغ الضوء‬
‫***‬
‫‪254‬‬
‫وعده هوي قائال‪ « :‬يمكنني قيادتكم في صعود جروف جبل أم البحري‪ .‬يمكنني وضع باستي بين‬
‫يديك »‪ .‬بينما يستطيب ذلك الوعد ظل تانوس صامًتا لبعض الوقت في الظلمة ‪ ،‬ثم جلسنا‬
‫وأنصتنا إلى غناء العندليب في آخر حديقة تيامات‪ .‬كان صوتًا أجنبًيا تماما عن الشر‬
‫والشؤون التي نناقشها ‪ ،‬وبعد فينة تنهد تانوس وصرف هوي بعد أن قال له‪ « :‬لقد أبليت‬
‫حسًنا أيها الفتى بر بوعدك ‪ ،‬وستجدني ممتنا »‪ .‬سجد هوي كأنما يسجد لإله ‪ ،‬فوكزه تانوس‬
‫بقدمه بانفعال قائاًل ‪ « :‬كفاك من هذا الشخف‪ .‬انصرف الآن »‪ .‬تسبب رفع تانوس الأخير‬
‫المفاجئ هذا إلى مراتب الألوهة بإحراجه‪ .‬لم يكن بمقدور أحد اتهامه باالعتدال أو‬
‫التواضع من قبل ‪ ،‬لكنه على الأقل كان عمليا ‪ ،‬من دون أوهام زائفة فيما يتعلق‬
‫بمنزلته ‪ ،‬إذ لم يتطلع قط إلى الصيرورة فرعونا وال إلهًّيا ‪ ،‬ولطالما كان ضيق الخلق بأي‬
‫سلوك متذلل أو صاغر يصدر عن المحيطين به‪ .‬حالما غادر الفتى ‪ ،‬التفت تانوس إلَّي وقال‪« :‬‬
‫كثيرا ما أرقد صاحًيا في الليل أفكر في كل ما أخبرتنيه عن أبي ‪ ،‬ويؤلمني كل نسيج في‬
‫جسدي وروحي حرقة لالنتقام ممن أودى به إلى الفاقة والذل وطارده حتى موته‪ .‬بالكاد‬
‫يمكنني ضبط نفسي تملؤني رغبة بهجران الخطة الملتوية هذه التي حكتها المحاصرة آخ ست‬
‫وأتحرق بدال من ذلك إلى البحث عنه مباشرة وتمزيق قلبه النجس بيدي العاريتين »‪ -.‬إن‬
‫فعلت ما تشتهي ‪ ،‬فستخسر كل شيء‪ .‬وأنت تعرف ذلك حق المعرفة‪ .‬أما إن تبعت طريقتي فلن‬
‫تستعيد سمعتك وحسب ‪ ،‬بل سمعة أبيك النبيل فوق ذلك‪ .‬بطريقتي ‪ ،‬ستستعيد الأمالك والثروة‬
‫التي ُسرقت منك‪ .‬لن تمنحك طريقتي انتقامك بكامل اتساعه وحسب ‪ ،‬بل ستوصلك أيًضا إلى‬
‫لوستريس وتحقيق الرؤيا التي راودتني عن كليكما في متاهات آمون رع‪ .‬ثق بي يا تانوس‬
‫لمصلحتك ومصلحة موالتي ‪ ،‬ثق بي‪ .‬فسألني وقد لمس ذراعي‪ « :‬إن لم أثق بك ‪ ،‬فبمن أثق ؟‬
‫أعرف أنك محق ‪ ،‬لطالما افتقرت إلى الصبر‪ .‬دائًما ما أرى الطريق السريع والمباشر‬
‫‪ ».‬لكنني أسهل‬
‫‪261‬‬

‫حدقت إليها متحّيًرا للحظة ‪ ،‬ثم أدركُت ما جرى ؛ لم تصل الرسالة التي أرسلتها لتصبر‬
‫موالتي لوستريس قّط‪ .‬خَّمنُت على البديهة أن الرسول الذي ابتعثه كراتاس من الأقصر حامال‬
‫الرسالة لم يصل إلى الفنتين ‪ ،‬وربما انتهى به الأمر ضحية أخرى للصردان ‪ ،‬مجرد جثة‬
‫إضافية تعوم في النهر رفقة حقيبة فارغة وجرح بليغ في حلقه‪ .‬أملُت أن الرسالة قد وقعت‬
‫في يدي لص أمي ما ‪ ،‬ولم ُتحمل إلى آخ ست ‪ ،‬لكن ال وقت أمامي لأقلق حيال ذلك الآن‪ .‬أسرعت‬
‫إلى جوار موالتي وهبطت على ركبتي عند سريرها ‪ ،‬ثم بينما أدلك جبهتها الُمدَنفة همست‪« :‬‬
‫موالتي ‪ ،‬هذا أنا عبدك تايتا »‪ .‬تزحزحت بعض الشيء وغمغمت كالما لم أفهمه ‪ ،‬وتبَّينُت أن‬
‫ليس أمامي من الوقت إال القليل ‪ ،‬فقد أوشكت أن تقضي أجلها ‪ ،‬إذ مَّر أكثر من شهر على موت‬
‫تانوس المزعوم ‪ ،‬وإن كانت الأمة صادقة في أنها لم تأكل شيًئا في خالل هذا الوقت كله ‪،‬‬
‫إذن فنجاتها حتى الآن أعجوبة‪ .‬وثبت واقًفا وعدوُت إلى غرفتي ‪ ،‬ووجدتها على الرغم من‬
‫مصرعي » ‪ ،‬لم يتغير فيها شيء ‪ ،‬وال يزال صندوق أدويتي في الكوة حيث تركته‪ .‬حملته بين‬
‫ذراعي وأسرعُت عائًدا إلى موالتي ‪ ،‬ثم أشعلت بيدين مرتعشتين غصينا من شجيرة ذنب العقرب‬
‫من سراج الزيت بجوار سريرها وحملت طرفه المتقد تحت أنفها ‪ ،‬فشهقت من فورها تقريًبا‬
‫وعطست وجاهدت لتفادي الدخان الوَّخاز‪ -.‬موالتي ‪ ،‬هذا أنا تايتا ‪ ،‬كلميني‪ .‬فتحت عينيها ‪،‬‬
‫ورأيُت إدراكها الحديث لفاجعتها ُيخِمُد فجر المَسَّرة سريًعا فيهما ‪ ،‬ثم مدت لي ذراعيها‬
‫النحيلتين الشاحبتين ‪ ،‬فضممتها إلى صدري‪ .‬راحت تنشُج برفق وتقول‪ « :‬لقد مات يا تايتا‬
‫مات تانوس ‪.‬ال يمكنني‬
‫العيش دونه »‪-.‬ال !ال! إنه حي‪ .‬لقد جئت من جواره مباشرة حامال رسائل حبه وإخالصه‬
‫لك‪ -.‬ما أقساك لتهزأ بي في هذا! أعرف أنه ميت ‪ ،‬لقد ُأغلق قبره‪ ...‬فصحُت بها‪ « :‬كانت‬
‫‪ ».‬حيلة لتضليل الأعداء‪ .‬تانوس حي‪ .‬أقسم لك على ذلك‪ .‬إنه يحبك ‪ ،‬وينتظرك‬
‫‪266‬‬
‫فتبَّرمُت‪ « :‬تنزلين هذا الضرر بنفسك ‪ ،‬ثم تنادين تايتا ليحسنه » ‪ ،‬فضحكت‬
‫وألقت بذراعيها من حول عنقي‪ -.‬هذا سبب وجودك هنا أيها الوغد العجوز لتعتني بي‪ .‬وفي كل‬
‫عشية ‪ ،‬عندما أمزج لها شراًبا مقويا وأجلب وعاء التبخير ‪ ،‬بينما تتحضر للنوم كانت‬
‫تحملني على تكرار وعدي لها‪ « :‬أقسم على أنك ستجلب تانوس إلَّي حالما أصير مستعدة‬
‫الستقباله »‪ .‬حاولت تجاهل المصاعب والأخطار التي سيجلبها هذا الوعد علينا ‪ ،‬ورددُت‬
‫بإخالص‪ « :‬أقسم لك » ‪ ،‬فاستلقت متكئة إلى مسند الرأس العاجي وغطت في النوم بابتسامة‬
‫‪.‬على وجهها‪ .‬لن أشغل بالي بالبر بوعدي حتى يحين وقته‬
‫***‬
‫بلغ الفرعون تقرير كامل عن تعافي لوستريس من أتون ‪ ،‬وجاء شخصيا لزيارتها‪ .‬جلب لها‬
‫قالدة جديدة من الذهب والالزورد في هيئة ُعقاب وجلس حتى المساء يلعب ألعاب الكلمات‬
‫‪.-‬والأحاجي معها عندما استعد للمغادرة ‪ ،‬ناداني لأمشي معه حتى مخدعه‬
‫انقالب حالها أمر استثنائي ‪ ،‬إنها معجزة يا تايتا‪ .‬متى يمكنني أخذها إلى فراشي ثانية ؟‬
‫تبدو بالفعل في صحة تكفي لأن تحمل ابني ووريثي‪ .‬فأَّكدُت له بشدة‪ « :‬ليس بعد يا عظيم ‪،‬‬
‫مصر ‪ ،‬فأدنى إجهاد لموالتي قد‬
‫‪ ».‬يسبب ارتكاسا‬
‫لم يعد يشكك في كالمي ‪ ،‬ذلك أنني صرُت أتكلم بكامل نفوذ من مات وعاد ‪ ،‬وإن هزلت مهابته‬
‫‪.‬السابقة إياي بعض الشيء بفعل الألفة‬
‫امتداد‬
‫بدأت الإماء أيًضا تألفن بعثي وصار بوسعهن النظر في وجهي من دون رسم الإشارة‪ .‬في واقع‬
‫الأمر ‪ ،‬لم تعد عودتي من العالم السفلي أكثر موضوعات الثرثرة رواًجا في القصر ‪ ،‬بل صار‬
‫عندهَّن شيء آخر يشغلهن ‪ ،‬وهو دخول آخ حورس في حيوات وضمائر جميع سكان الأراضي الممتدة‬
‫مع النهر العظيم‪ .‬عندما سمعت اسم آخ حورس أول مرة ُيهمس في أروقة القصر ‪ ،‬لم أتعّرفه‬
‫مباشرة ‪ ،‬فقد بدت حديقة تيامات بجوار البحر الأحمر بعيدة أشد البعد عن عالم الفنتين‬
‫الصغير ‪ ،‬وكنُت قد نسيت االسم الذي أسبغه هوي على‬
‫‪271‬‬

‫كان الليل قد هبط تقريًبا وقتما نزلُت إلى الشاطئ عند مرسانا الصغير وأسرعت صاعًدا‬
‫الدرج‪ .‬وجدُت إحدى الإماء تنتحب عند البوابة وتفرك أذنها المتورمة‪ .‬قالت متذمرة‪ « :‬لقد‬
‫ضرَبْتني » ‪ ،‬ورأيُت أن كرامتها قاست أكثر من‬
‫‪.‬أذنها‬
‫فزجرُتها ‪« :‬ال ُتشيري إلى السيدة لوستريس بتاء التأنيث بأي حال ‪ ،‬مّم تشتكين ؟ ُخلق‬
‫العبيد لُيضربوا »‪ .‬على الرغم من ذلك ‪ ،‬لم يكن من عادة موالتي رفع يدها على أي شخص في‬
‫بيتها ‪ ،‬فُقلت في قرارتي ‪:‬ال بَّد أنها في مزاج بائس حقا ‪ ،‬وأبطأت خطوي‪ .‬وصلُت‪ -‬متقدًما‬
‫بحذر مع فرار أمة باكية أخرى من الغرفة ‪ ،‬ثم ظهرت موالتي في الباب من ورائها ‪ ،‬والغضب‬
‫يحمر وجهها ‪ ،‬قائلة‪ « :‬لقد حولت شعري إلى كومة قش‪ .» ...‬رأتني آنذاك وقطعت شتيمتها ‪،‬‬
‫ثم انقضت علَّي بحيوية عرفت منها أنني السبب الحقيقي لثائرتها‪ .‬وسألتني ملحة‪ « :‬أين كنت‬
‫؟ أرسلتك إلى الميناء قبل الظهيرة‪ .‬كيف تجرؤ على جعلي أنتظر كل هذه المدة ؟ » ‪،‬‬
‫وتقدمت ناحيتي بسحناء حملتني على التراجع بخوف‪ .‬فقلت لها بسرعة‪ « :‬إنه هنا ثم أخفضُت‬
‫صوتي حتى ال تسمعني إحدى الإماء وهمست تانوس هنا بعد غد سأبُّر بوعدي لك »‪ .‬تحول مزاجها‬
‫تحوال كامال وقفزت ملقية بذراعيها حول عنقي ‪ ،‬ثم مضت تبحث عن البنتين المهانتين‬
‫‪.‬لتواسيهما‬
‫***‬
‫أرسل ملك العموريين التابع في مجمل خراجه السنوي للفرعون زوجا من فهود الصيد الُمدَّربة‬
‫من مملكته وراء البحر الأحمر ‪ ،‬وكان الملك متشوقا لإطالق هذين المخلوقين البديعين خلف‬
‫قطعان الغزالن التي تتقافز بين الكثبان الصحراوية على الضفة الغربية ‪ ،‬فأمر حاشية‬
‫البالط بأكملها ‪ ،‬بما فيهم موالتي ‪ ،‬بحضور المطاردة‪ .‬بينما أبحرنا عبر الضفة الغربية في‬
‫أسطول من المراكب النهرية الصغيرة ‪ ،‬تخفق الأشرعة البيضاء والرايات زاهية الألوان ‪،‬‬
‫وترافقنا الضحكات وموسيقا‬
‫‪279‬‬

‫القطعان اقترابهما الخاطف وانطلقت راكضة بأقصى سرعتها ‪ ،‬فغشت السهل الترابي كسرب من‬
‫السنونوات‪ .‬راحت القطتان تبسطان جسديهما الطويلين ‪ ،‬وتمدان أطرافهما الأمامية قدما ثم‬
‫تمُّر الخلفية من بينها خافقة ‪ ،‬فينطوي جذعاهما اللينين قبل أن ينبسطا من جديد‪ .‬سرعان‬
‫ما بلغتا سرعتهما القصوى ‪ ،‬ولم أر من قبل حيوانا بهذه السرعة‪ .‬وبالمقارنة بهما ‪ ،‬بدت‬
‫قطعان الغزالن كأنها صارت فجأة تعدو في أرض مستنقعية أعاقت فرارها‪ .‬ثم بأناقة عفوية ‪،‬‬
‫أدركت القطتان القطيع ‪ ،‬فتجاوزتا مهاة شاردة أو اثنتين قبل أن تبلغا ضحيتيهما‬
‫المنتقاتين‪ .‬حاولت المهاتان الَهِلعتان تفادي الهجوم الفّتاك ‪ ،‬فقفزتا عالًيا وغيرتا‬
‫اتجاههما في الهواء ‪ ،‬ثم التوتا مرتدتين على أعقابهما حالما لمست حوافرهما الدقيقة‬
‫الأرض المسفوعة‪ .‬استقرأت القطتان التواءاتهما بسالسة أنيقة ‪ ،‬وكانت النهاية محتومة ‪،‬‬
‫إذ أوقعت كل منهما إحدى الغزالتين على الأرض في سحابة منزلقة متشقلبة من التراب وربضت‬
‫فوقها مطبقة فكيها على قصبتها لتخنقها ‪ ،‬بينما تركل سيقان الغزالتين الخلفية بتشنج ‪،‬‬
‫حتى تيبست أخيًرا وخشبها الموت‪ .‬ألفيُت نفسي مهزوزا ومنقطع النفس حماسة ‪ ،‬ثم نبهني صوت‬
‫موالتي‪ « :‬تایتا! انزل فوًرا! سيرونك جاثًما هناك » ‪ ،‬فهبطت ورجعت إليها‪ .‬ورغم أنني ال‬
‫أزال مهتاًجا ‪ ،‬رفعتها على السرج وقدُت الحمار إلى الأرض المحتجبة حيث صرنا خارج مرمى‬
‫بصر الجماعة التي تركناها على التل وراءنا‪ .‬لم تحتمل موالتي كبت انزعاجها مني طويال ‪،‬‬
‫وعندما ذكرت اسم تانوس ثانية بمكر نسيت الأمر برمته ‪ ،‬وحَّثت مطَّيتها إلى الموعد‪ .‬لم‬
‫أتجه مباشرة إلى مقبرة تراس حتى اطمئننت إلى أننا صرنا بعيدين عن وادي الغزالن ووضعنا‬
‫قمة أخرى وراء ظهرينا ‪ ،‬وفي الهواء الساخن الجامد ‪ ،‬راح صوت حوافر حمارنا يقعقع‬
‫ويقرقع على الحصاة كأنه يمُّر على فراش من زجاج مهشم‪ .‬سرعان ما شعرُت بالعرق يتصبب على‬
‫جلدي ‪ ،‬فقد كان الهواء خانقا يثقله شعور اقتراب الرعد ‪ ،‬وقبل أن نبلغ المقبرة بوقت‬
‫طويل ‪ ،‬قلت لموالتي‪ « :‬الهواء جاف كالعظام العتيقة‪ .‬يجب أن تشربي بعض الماء‪-.» ...‬‬
‫تابع المضي سيكون أمامنا وقت مديد لنشرب ملء بطوننا الحقا‪ .‬فقلُت محتجا‪ « :‬لسُت قلًقا إال‬
‫‪ ».‬حيالك يا موالتي‬
‫‪284‬‬

‫وقف أتون بجواري ‪ ،‬حامال صندوًقا صغيًرا من خشب الأرز ‪ ،‬ثم رفع غطاءه وقدمه للملك ‪،‬‬
‫فأخرج الملك منه سلسلة ذهبية‪ .‬كانت من أنقى أنواع الذهب الخالص ‪ ،‬وتحمل وسوم‬
‫الجواهرجيين الملكيين التي توثق أن وزنها عشرين دبنا ( ‪ .)1‬حمل الملك السلسلة من فوق‬
‫رأسي وترّنم قائال‪ « :‬أهديك ذهب الثناء » ‪ ،‬ثم أنزلها إلى كتفي ‪ ،‬فحّط الثقل الباهظ بهجة‬
‫على قلبي‪ .‬كانت هذه الميدالية أعلى نياشين الحظوة الملكية ‪ ،‬وُتدخر في العادة للجنراالت‬
‫والسفراء ‪ ،‬أو كبار المسؤولين كالسيد إنتف ‪ ،‬وأشك في أن هذه السلسلة الذهبية قد أحاطت‬
‫عنق عبد وضيع في تاريخ مصرنا هذه‪ .‬لم تكن تلك آخر الهدايا والجوائز التي أسبغت علي ‪،‬‬
‫إذ ما كانت موالتي لتقبل بأن يغلبها أحد ‪ ،‬وفي ذلك المساء ‪ ،‬عندما كنُت أعتني بأمر‬
‫حمامها ‪ ،‬صرفت إماءها فجأة وقالت بعد أن وقفت عارية أمامي‪ « :‬يمكنك أن تساعدني‬
‫بارتداء مالبسي يا تايتا كانت تمنحني هذا االمتياز عندما تكون مسرورة مني سروًرا خاًصا ‪،‬‬
‫فهي تعرُف كم أستمتع باالنفراد بها في هذه الظروف‬
‫‪.‬الحميمية‬
‫لم يستر ُحسنها شيء إال خصالت شعرها الداكن البراقة ‪ ،‬وبدا أن تلك الأيام التي قضتها مع‬
‫تانوس قد ملأتها بصنف جديد من الجمال ‪ ،‬صنف ينبعث من أعماقها‪ .‬عندما يوضع سراج داخل‬
‫برطمان من المرمر ‪ ،‬يشع من خالل جوانبه الشفيفة ‪ ،‬وبالطريقة نفسها أشعت موالتي لوستريس‪.‬‬
‫قالت‪ « :‬لم أحلم قط أن وعاًء بائًسا كجسدي هذا قادر على احتواء هذه المتعة ( دلكت‬
‫جنبيها عندما قالتها وأخفضت نظرها إلى جسدها ‪ ،‬داعية إياي لأفعل مثلها) ‪ ،‬كل ما‬
‫وعدتني به تحقق عندما كنت مع تانوس‪ .‬لقد أسبغ الفرعون ذهب الثناء عليك ‪ ،‬ومن المالئم‬
‫أن أريك تقديري كذلك‪ .‬أريدك أن تشاركني سعادتي بطريقة ما »‪ .‬خدمتك أقصى جائزة يمكن أن‬
‫أتمناها‪ .‬أمرتني قائلة‪ « :‬ساعدني على ارتداء ثيابي ‪ ،‬ثم رفعت يديها من فوق رأسها ‪،‬‬
‫وأخذ شكل نهديها يتغير كلما تحركت كنت قد راقبتهما يكبران ( ‪ )1‬الدبن وحدة مصرية‬
‫قديمة لقياس الوزن عادلت ‪ 13.6‬غراما في عصر والوسطى و ‪ 91‬غراما في عصر المملكة‬
‫‪.‬الجديدة‪ ( .‬المترجم)‬
‫المملكة القديمة‬
‫‪291‬‬

‫قليلة غيري ترتدي ذهب الثناء ‪ ،‬وأنهم عاملوني باحترام‪ .‬كانوا قد عملوا معي من قبل ‪،‬‬
‫ويعرفون قيمتي ‪ ،‬فقد ساعدت على تصميم مقاييس النيل التي تقيس فيضان النهر ‪ ،‬وأشرفت‬
‫على بنائها ‪ ،‬وأنا من صغت المعادلة المعقدة التي تقرر من عمليات الرصد االرتفاع والحجم‬
‫المتوقعين لكل فيضان‪ .‬أضاءت مشاعل الأسل المغمس بالقار المرتعشة طريقنا ‪ ،‬وتبعت‬
‫الكاهن الأعلى إلى فم مقياس النيل ‪ ،‬وهو فتحة مظلمة في الباب الخلفي للمقدس‪ .‬ثم هبطنا‬
‫منحدر المدخل ‪ ،‬وكانت الدرجات الحجرية زلقة بفعل الوحل وتسربات النهر ‪ ،‬ومن تحت‬
‫أقدامنا ‪ ،‬انزلق صُّل ماء أسود قاتل بعيًدا ‪ ،‬وغاص ‪ ،‬مصدًرا هسيًسا حانقا ‪ ،‬في المياه‬
‫الداكنة التي ارتفعت بالفعل إلى منتصف المدخل‪ .‬اجتمعنا على آخر درجة مكشوفة ‪ ،‬وتفحصنا‬
‫على ضوء المشاعل العالمات التي نقشها البناؤون على جدران المدخل كان كل رمز يحمل قيمة‬
‫سحرية وتجريبية مخصصة له‪ .‬قرأنا القراءة الأولى والأهم مًعا بعناية فائقة ‪ ،‬وفي الأيام‬
‫الخمسة التالية ‪ ،‬سنتناوب على مراقبة ارتفاع المياه وتسجيله ‪ ،‬وتوقيت القراءات على‬
‫فيضان ساعة مائية‪ .‬ومن عينات الماء ‪ ،‬نقِّدر كمية الطمي التي تحملها ‪ ،‬وتؤثر هذه‬
‫العوامل جميعها في استنتاجاتنا النهائية‪ .‬عندما تتم أيام الرصد الخمسة ندخل في ثالثة‬
‫أيام إضافية للحسابات التي تملأ العديد من لفائف البردي ‪ ،‬وأخيًرا ‪ ،‬نصير مستعدين‬
‫لتقديم نتائجنا في ذلك اليوم ‪ ،‬يرجع الفرعون إلى المعبد في هيئة ملكية ‪ ،‬ويرافقه‬
‫‪.‬نبالؤه ونصف سكان الفنتين ليسمعوا التقديرات‬
‫‪.‬للملك‬
‫عندما قرأها الكاهن الأعلى جهاًرا ‪ ،‬بدأت االبتسامة ترتسم على وجه الفرعون ‪ ،‬فقد تنبأنا‬
‫بطوفان بنسب مثالية تقريبًا ‪ ،‬ال منخفًضا أكثر من الالزم ‪ ،‬فيترك الحقول مكشوفة تتحمص تحت‬
‫الشمس ‪ ،‬حارًما إياها من طبقة الطمي السوداء الغنية الضرورية جًّدا لخصوبتها ‪ ،‬وال مرتفًعا‬
‫زيادة فيجرف القنوات والدكات الترابية ‪ ،‬ويغرق القرى والمدن على الضفتين سيجلب هذا‬
‫الموسم حصاًدا وفيرا وقطعاًنا سمينة‪ .‬ابتسم الفرعون ‪ ،‬ولم تكن ابتسامته لحسن حظ‬
‫رعاياه ‪ ،‬ولكن للمكافأة التي سيجمعها جباة الضرائب ‪ ،‬فالضرائب السنوية تحسب بناء على‬
‫قيمة الفيضان ‪ ،‬وسُتضاف هذا العام كنوز جديدة ضخمة إلى مستودعات معبده الجنائزي‪.‬‬
‫الختتام مراسم مباركة المياه في معبد حابي ‪ ،‬أعلن الفرعون تاريخ‬
‫‪298‬‬
‫عطير الكتت‬

‫اله‬
‫النهر‬
‫مصر القديمة أرض الفراعنة مملكة قامت على الذهب ‪ ،‬وأسطورة حطمها الطمع‪ ....‬بعد أن ورث‬
‫ضعفاء الرجال التاج الُمفّدى ‪ ،‬اندلعت نيران الحرب الأهلية في وادي الملوك فأهلكته ‪،‬‬
‫وامتصت الحياة من أطرافه‪ .‬وقضت الآلهة أن يقود المحارب الشاب تانوس جيش مصر في محاولة‬
‫جسورة لإعادة توحيد المملكة‪ .‬لكن تانوس يجد نفسه مضطرا إلى تحدي الآلهة لإحراز مجد‬
‫أعظم لوستريس الجميلة ابنة السيد إنتف التي لم يعرف البثة أن الفرعون قد وعد بالزواج‬
‫بها بالفعل‪ .‬وصار متروكا لأكثر خدم الفرعون إخالًصا ‪ ،‬الحكيم الموهوب تايتا ‪ ،‬أن يحل‬
‫‪.‬المشكلة‬
‫‪ThE NEW YORK TIMES BESTSELLER RIVER GOD A NOVEL OF ANCIENT EGYPT‬‬
‫‪-The Denver Post‬حكاية عظيمة عن المكر والخداع والحب الحقيقي «‬
‫تصميم الغالف كريم آدم ‪karimadam.com‬‬
‫"‪9789779" 923482‬‬
‫‪ ».‬والمنفى‬
‫عصير‬
‫الكتب‬
‫‪WILBUR SMITh TA GRAND TALF OF INTRKAR DECEPTION ThEY LOVE AND IXILA" De Pa‬‬
‫‪aseeralkotb.com [email protected]‬‬
‫‪AseerAlkotb‬‬
‫‪AseerAlkotb AseerAlkotb‬‬
‫ضائ‬
‫‪t.me/twinkling4‬‬

You might also like