‫تطبيق منهجية اإلجابة على السؤال الفلسفي المفتوح‬

‫هل التجربة هي مصدر المعرفة العلمية؟‬

‫المضامين‬ ‫الخطوات‬
‫المنهجية‬
‫المعرفة كنتاج للفاعلية البشرية المتواصلة والمتميزة‬ ‫مطلب‬
‫الفهم تأطير بالصيرورة والمرتبطة بتطور الظواهر من جهة أخرى فالمعرفة‬
‫صرح يهتم بالواقع وعوالمه الكونية الالمتناهية لتلبية حاجات‬ ‫الموضوع‬
‫االنسان المتزايدة‪ ،‬والسؤال الذي نحن بصدد تحليله يمكن‬
‫إدراجه ضمن المجال النظري لمجزوءة المعرفة التي قمنا‬
‫وتحديد‬
‫بالتمهيد لها حيث يعالج إشكالية أو قضية مفهوم النظرية‬ ‫مجاله‬
‫والتجربة وهي قضية تحيلنا على التوتر والشجب في عالقة‬ ‫االشكالي‬
‫‪.‬النظرية والتجربة بالمعرفة العلمية‬ ‫وقضيته‬
‫هذا المبحث االبستمولوجي أثار سجاالت ونقاشات معرفية‬
‫علمية بخصوص التوتر والجدل القائم بينهما بخصوص مساهمة‬
‫كل منهما في تأثيث فضاء المعرفة العلمية من خالل تقسيم‬
‫الدور والسلطة التي تملكها النظرية والتجربة في هيكلة هذه‬
‫المعرفة االمر الذي أفضى لصراع فكري علمي بهذا الصدد‬
‫انطالقا من الفلسفة اليونانية وصوال للعلم المعاصر هذا‬
‫الصراع بين تيار مساند لإلعالء من قيمة النشاط العقلي‬
‫الهادف لبناء صرح معرفي محيط بالواقع وكل اتجاهاته الكونية‬
‫الالمتناهية في الصغر أو الكبر وبين من ينتصر لتفضيل النشاط‬
‫العلمي التجريبي المرتبط بالواقع اإلمبريقي الذي يتوخى‬
‫معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر الكونية ألجل محاكاتها‬
‫وكشف أسرارها خدمة لإلنسان وتيار فضل الجدل والحوار‬
‫العلمي الدائر بين العقل والتجربة لبناء نموذج معرفي علمي‬ ‫أشكلة‬
‫‪:‬متكامل وهو ما يدفعنا لطرح هذا االشكال‬ ‫الموضوع‬
‫هل التجربة هي المصدر الوحيد لبناء النظريات العلمية؟ هذا‬
‫االشكال الذي يفتح الباب أمام العديد من التساؤالت‬
‫واالشكاالت من يملك السلطة في بناء وتشكل النظرية العلمية‬
‫هل هو العقل أم التجربة أم أنهما معا أساس وجود النظرية‬
‫العلمية؟ هل حضور التجربة يغيب العقل؟ ما الذي جعل الخيال‬
‫العقلي يستأثر باالهتمام مع التقدم العلمي؟ وهل يمكن اعتبار‬
‫هذا الحضور القوي اقصاء للتجربة؟ أم أن البناء العلمي للنظرية‬
‫ال يستقيم إال بالتجربة؟ قبل أن نبدأ في تحليل السؤال وشرح‬
‫قضاياه يجب أن نقف أوال على تفسير المفاهيم للسؤال‬
‫‪.‬المطروح‬

‫يحيلنا مفهوم التجربة الى المعطيات الحسية المتلقاة‬ ‫مطلب‬

‫من الحواس وتشير بشكل دقيق لتلك اللحظة المنهجية‬ ‫التحليل‬
‫شرح التي تختبر فيها الفرضيات في مجال العلوم‪ ،‬في حين‬
‫المفاهيم يدل مفهوم النظرية على ذلك التأمل العقلي المعزول‬
 ‫عن الواقع تؤثر على مجموع األطروحات والقوانين‬
‫تؤسس نسقا متكامال في مجال معين وتشير النظرية‬
‫العلمية الى التفسير األفضل للحقائق المحيطة بنا في‬
‫الطبيعة والتي يتم الوصول إليها باستخدام األساليب‬
‫العلمية‪ ،‬فالنظريات العلمية هي الشكل األكثر‬
‫موضوعية ودقة وشموال للمعرفة العلمية وهذه‬
‫المفاهيم على ترابط في بناء وهيكلة السؤال وإذا كانت‬
‫عالقة النظرية والتجربة تنم عن تقابل يخفيه ذلك‬
‫الترابط الوثيق بينهما ففي تعريف كل منهما حضور‬
‫االخر حيث تجد أن النظرية نسق غايته تفسير معطيات‬
‫التجربة والتجربة إجراءات غايتها التحقق من صالحية‬
‫‪.‬النظرية‬
‫إن نظرة متمعنة لمضمون السؤال تفصح لنا عن‬ ‫تقديم‬
‫أطروحة أساسية هي أن التجربة هي المصدر الوحيد‬ ‫أطروحة‬
‫لبناء النظريات العلمية‪ ،‬وهو المنحى الذي سلكه رواد‬ ‫تجيب عن‬
‫ومناصرو المنهج التجريبي والذي يعطي التجربة في‬ ‫السؤال‬
‫صيغتها المنهجية المقننة الدور األساسي والحاسم في‬ ‫مدعمة‬
‫بناء وتشكل النظرية العلمية باعتبارها أداة لتحقق‬ ‫باألفكار‬
‫وتحقيق الموضوعية وتكريس العلمية للقضايا‬ ‫والحجج‬
‫المدروسة من خالل االلتزام بها والحرص على التيقن‬ ‫المناسبة‬
‫‪.‬من نتائجها‬
‫ونجد أن هذا الطرح الذي يركز على التجربة في بناء‬
‫النظرية العلمية ليس وليد المرحلة العلمية المعاصرة‬
‫بل نجد له امتداد في التاريخ بدءا بما هو فلسفي من‬
‫الفلسفة اليونانية مرورا بفرانسيس بيكون الذي وضع‬
‫اللبنات األولى للمنهج التجريبي وأسس االستقراء‬
‫العلمي وكذا جون لوك الذي عمل بدوره على بناء منهج‬
‫‪.‬تجريبي حديث‬
‫ترى النزعة االستقرائية بأن إنشاء نظرية علمية يقتضي‬
‫االنطالق من المالحظات وأن العالم يجب أن ينقاد‬
‫للتجربة والوقائع‪ ،‬دون أن يسقط على الواقع معتقداته‬
‫وأحكامه المسبقة وحسب هذه النزعة فان الفرضيات‬
‫المبادئ والقوانين تستخلص من مالحظة متنوعة وعليه‬
‫فالتجربة سابقة على النظرية وهي أصل المعرفة‬ ‫إستنتاج‬
‫وأساسها وهذا بالتحديد ما تؤكده قولة كلود برنار"‬ ‫جزئي‬
‫الحادث يوحي بالفكرة‪ ،‬والفكرة تقود الى التجريب‬
‫وتوجهه‪ ،‬والتجريب يحكم بدوره على الفكرة" والتي‬
 ‫يمكن االستئناس بها في هذا السياق كمرجع للتدليل‬
‫على أن االتجاه االختباري التجريبي يعتبر النظرية‬
‫‪.‬العلمية بناءا مصدره التجربة‬
‫يمكن اعتبار االتجاه التجريبي مشددا على البعد‬
‫التجريبي في العلم‬
‫وإذا كانت التجربة هي بداية معرفتنا للواقع ونهايته أال‬
‫يمكن القول أنها‬
‫همشت دور العقل أو الخيال العقلي المبدع في بناء‬
‫المعرفة العلمية؟‬

‫تربعت التجربة والمنهج التجريبي على عرش اإلنتاجية‬

‫العلمية منذ القرن ‪16‬و‪17‬حيث فرض وجوده في العلوم‬
‫وحقق نتائج عظيمة غيرت إيجابيا نمط الحياة ويسرتها‬ ‫مطلب‬
‫وهو االمر الذي أكد عليه كلود برنار من خالل مناصرة‬ ‫المناقشة‬
‫الجانب الواقعي المخبري الذي سلكه بتوضيحه معالم‬
‫المنهج التجريبي باعتباره أساسا لكل نظرية علمية‬
‫تروم تفسير ومعرفة الظواهر والتحكم فيها وذلك‬
‫وفق خطوات محددة انطالقا من اربع عتبات المالحظة‬
‫باعتبارها معاينة الظاهرة والخطوة األولى التي تأسس‬
‫لعمل العالم الذي يجب أن يحسن االصغاء للطبيعة وأن‬
‫يتحرى الموضوعية للوصول لفرضية ذهنية كخطوة ثانية‬
‫ومحاولة للتفسير شريطة إتقان فن الحوار وأهميتها‬
‫تكمن في كونها مجال ابداع العالم وهي عتبة‬
‫االستدالل التجريبي " التجربة أو التجريب كخطوة ثالثة‬
‫الذي يختبر صدق أو كذب الفرضية المالحظة الثانية كما‬
‫يسميها برنار الذي يعيد من خالله صناعة الظاهرة‬
‫بتوفير شروطها األساسية وأخيرا يصدر القانون كأخر‬
‫خطوة باعتباره تلك العالقة الثابتة بين ظاهرتين أو أكثر‬
‫بعد أن نكون قد توصلنا لنتيجة وفسرناها بعد التجربة‬
‫وهو نفس المسار الذي سار فيه الكسندر كويري والذي‬
‫ميز بين مفهوم التجربة باعتبارها تجربة عامية خام لم‬
‫تلعب أي دور في تطور العلم بل كانت عائق أمام‬
‫التقدم العلمي التجريب باعتباره مساءلة منهجية‬
‫للطبيعة يفرض مجموعة من الشروط المنهجية التي‬
‫تجعله أكثر تنظيما من الناحية العلمية ساهم في نشأة‬
‫وتطور النظريات العلمية خاصة بعدما تمت موضعة‬
‫الظاهرة الفيزيائية التي أحدثت القطيعة مع المنظومة‬
 ‫‪.‬العلمية القديمة‬
‫واالمر الذي انتصر له ارنست ماخ باعتباره النظرية‬
‫العلمية بناء مصدره التجربة وال مجال فيه للحديث عن الخيال‬ ‫حدود‬
‫واالبداع العقلي حيث أكد أن الروح العلمية تقتضي التقيد‬ ‫االطروحة‬
‫بمعطيات الخبرة التجريبية وحدها دون افتراض ألي شيء‬
‫وراءها إذ يكتفي العالم بالقياس الكمي وباستقراء معطيات‬
‫الطبيعة من الطبيعة نفسها منطلقا في بناء النظرية من التجربة‬
‫وليس من االستنتاجات العقلية والرياضية التي يبقى دورها‬
‫ثانويا إلبعادها العالم عن الوصف الدقيق للظاهرة المدروسة‬
‫مما قد يسقطه في تفسيرات متخيلة بعيدة عن الواقع‬
‫‪.‬التجريبي‬
‫رغم كل النجاح الذي حققه التجريب في مجال المعرفة العلمية‬
‫لكن تهميشه للعقل شكل نقطة ضعفه خاصة وان هذه المنهج‬
‫لن تستطيع مواكبة التطورات األخيرة للفيزياء الميكروسكوبية‬
‫(الذرة) التي جعلت مفهوم الواقع يفقد معناه العادي المباشر‬
‫فاذا كانت الظواهر الماكروسكوبية تبدو ثابتة وقابلة للتعيين‬
‫في الزمان والمكان‪ ،‬كأشياء لها فرديتها وخصائصها المميزة‬
‫الثابتة نسبيا فإن الظواهر الميكروسكوبية ( االلكترونات‬
‫الفوتونات مثال) تفقد كل فردية وتميز يتعذر معه تصورها على‬
‫غرار العالم الماكروسكوبي وظواهره حيث برزت الخطاطات‬ ‫المناقشة‬
‫الرياضية المجردة أكثر واقعية فأصبح الواقع في مفهومه‬ ‫استحضار‬
‫العلمي المعاصر شبكة من العالقات التي تنسجها المعامالت‬ ‫مواقف‬
‫والدوال الرياضية التي تتيح للعقل العلمي تشيد أنساق نظرية‬ ‫أخرى‬
‫فرضية شبيهة باألنساق الرياضية مما همش دور التجربة التي‬
‫لم تعد تحظى بتلك المكانة الرائدة في المنهج التجريبي فثورة‬ ‫عالجت‬
‫العلوم المعاصرة أزاحت التجربة ليبزغ العقل‪ ،‬فما هو دوره‬ ‫الموضوع‬
‫في بناء المعرفة العلمية وماهي أبرز معالم اشتغال العقالنية‬
‫العلمية هل هي عقالنية مكتفية بذاتها أم انها منفتحة على‬
‫التجريب؟‬
‫على النقيض مما تم تحليله ومناقشته أعاله نجد التيار العقالني‬
‫ينزل العقل مكانته األساسية في بناء النظرية العلمية بإقراره‬
‫ان التجريب العلمي ال يشكل مقوما وحيدا في تفسير الظواهر‬
‫بل ال بد من اعتبار الخيال وادماجه ألن الخيال العقلي يضاهي‬
‫من حيث الدقة التجريب وبناء النظرية العلمية يحتاج إبداعات‬
‫العقل الرياضي والنظري وابتكاراته وخير دليل هو البعد‬
‫األكسيومي للفيزياء المعاصرة نفس الطرح اتبعه ودافع عنه‬
‫البير انشتاين الذي يشدد على دور العقل اإلبداعي للرياضيات‬
‫في بناء النظرية الفيزيائية حيث يعتمد المزواجة بين العقل‬
‫والتجريب في بناء األنساق العلمية لكنه يضع التجريب في‬
‫درجة ثانية بعد الرياضيات واالبداع العقلي في الممارسة‬
‫‪.‬العلمية‬
‫وهو نفس المسار الذي احتذاه روني طوم الذي يعتبر أن‬
 ‫للفروض العلمية المتخيلة دورا هاما في بناء المعرفة العلمية‬
‫حيث ذهب الى أن التجريب العلمي التقليدي ال يشكل أساسا‬
‫وحيدا في تفسير الظواهر المدروسة‪ ،‬بل ال بد من اعتبار عنصر‬
‫الخيال ادماجه في عملية التجريب فالخيال هو تجربة ذهنية‬
‫تمنح الواقع التجريبي غنى إن هذا القول المؤيد لدور العقل‬
‫وابتكاراته المتخيلة يمكن أن نجد له تفسيرا في الوضع الراهن‬
‫سواء على مستوى الرياضيات او الفيزياء وغيرها من العلوم‬
‫الطبيعية حيث أصبح للفرض العلمي دورا أساسيا في بناء‬
‫النظرية العلمية اال ان هذا ال يعني إقصاء التجربة من كل بحث‬
‫علمي بل اعطاءها معنى جديد يتماشى مع التطور الذي عرفه‬
‫استنتاج العالم في جميع المستويات العلمية والنظرية بحيث أصبح‬
‫موضوع العلم ال يعطى في التجربة الحسية بل يبنى عقليا ذلك‬
‫ان بناء النظرية العلمية تحتاج الى ابداعات العقل الرياضي‬
‫خاصة مع تطور الفيزياء المعاصرة ‪.‬حيث يقوم العقل بما‬
‫‪.‬استعصى على التجربة‬
‫االمر الذي أعطانا تياران متجادالن في العلم على غرار‬
‫الفلسفة تيار يقول بأهمية التجريب في بناء المعرفة العلمية‬
‫والثاني يناصر الخيال العقلي وهوما شهده الفكر الفلسفي في‬
‫العصر الحديث من خالل السجال لفكري بين العقالنيين‬
‫والتجريبيين وتدخل كانط لتأسيس تعاون بينهما لتحقيق‬
‫المعرفة منتقدا الطرفين موفقا بينهما وهوما سار على منواله‬
‫من الناحية العلمية غاستون بشالر الذي أكد على حوار العقل‬
‫والتجربة بعدما صارت الفيزياء علما هندسيا وباتت الهندسة‬
‫علما فيزيائيا مزيحا تلك الهوة بين العقل والتجربة االمر الذي‬
‫خفف من صدام انصار التعارض فالفيزياء المعاصرة تبنى على‬
‫أساس عقالنية منفتحة تقيم حوارا من خالل برنامج تجارب‬
‫تنتظر موعد تحققها خاصة مع الواقع المبني داخل المختبر‬
‫وليس تعارضا بين الفكر والواقع‬
‫يتبين مما سبق تحليله ومناقشته ان أساس وجود النظريات‬
‫العلمية مر بمحطات تاريخية مختلفة تأرجحت بين العقلي‬
‫‪.‬والواقعي حسب التطورات العلمية‬
‫يتحصل من معطيات التحليل والمناقشة أن بناء‬ ‫التركيب‬
‫المعرفة العلمية مجال يعرف توترا معرفيا منهجيا من‬
‫خالل سيطرة النظرية تارة وسيطرة التجربة تارة او‬
‫اتحادهما وتحاورهما وذلك تبعا الستحضار الواقع العلمي‬
‫وكذا معالم الكون وتطوراته وظواهره وهو ما يجعل‬
‫‪.‬الموضوع صعب التناول‬
‫لذلك يبدو أن الحوار الذي نسجه باشالر والذي يفسح‬
‫المجال للعقل بمبادئه وقوته والتجربة بواقعيتها‬
‫ومصداقيتها أجدى وأقرب للصواب والواقع العلمي‬
‫الجديد الذي افرز لنا العلم في صيغته المعاصرة والذي‬
‫كان نتاج مخاض عسير لكن مع هذه التطورات العلمية‬
‫التكنولوجية والرقمية هل سيبقى الصراع حبيس هذه‬
‫الثنائية ام سيمتد الى جوانب جديدة ستأثث فضاء‬
‫المنافسة لبناء المعرفة العلمية؟‬