الدين والتهكم عند كيركيغارد.
الدين والتهكم عند كيركيغارد.
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
« إن ما أحتاج إليه هو التوافق مع ذاتي،بأن أجد حقيقة تكون صادقة بالنسبة لي،وأن أعثر على الفكرة التي
أعيش وأموت من أجلها».
*سورين كيركيغارد.
ملخص:
تعترب املسألة الدينية من بني املسائل اليت فرضت حضورها وال تزال بقوة يف املشهد اليومي على مدار احلقب
التارخيية ،كما أخذت حيزا من التفكري الفلسفي ،فجاءت املواقف الفلسفية متباينة خبصوصه .فكانت النصوص
املؤسسة مؤنسنة ،مما جعل التدين الزائف يفقد الدين روحه اخلالصة ،يؤسس لالغرتاب أكثر ما يرسم معامل اخلالص
والسعادة املنشودة .هلذا جند سورين كريكيغارد ( Søren Kierkegaard)1855 -1813حياول من خالل
استحضار التهكم السقراطي حياول نقد التدين الزائف املمارس من طرف املتدينني الذي سلبوا اإلنسان إنسانيته من
خالل استغالل الدين ألغراض شخصية.
كلمات مفتاحية:
الدين ،التدين ،التهكم ،الوجود ،اإلنسان.
136
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
توطئة:
ال خيتلف اثنان َكو َن الدِّين ظاهرة إنسانية اجتماعية بامتياز ،وإذا كان مبقدورنا الوقوف على جمتمعات غري
متدينة ،فال ميكن العثور على جمتمع ُمتَديِّن من غري ِدين مع استحضار للمقدس ،ومهما اختلفت طبيعة ِّ
الدين
املمارس من دين وضعي أو دين مرسل ،فإن اجملتمعات املتدينة تقوم على اإلميان املشرتك باملقدس ،وتروم من خالل
هذا اإلميان ،محاية اإلنسان من االغرتاب الكوين ،والقلق الوجودي الذي صاحب اإلنسان منذ ظهوره يف خضم هذا
الوجود املرتامي األطراف ،كما يعمل الدين على محاية معتنقيه من العبثية والالمعىن .كما أننا قد جند أديان عديدة
يف جمتمع واحد وهلذا « فإن الدين ليس شيئا يضاف إىل اجملتمع من خارجه ،بل هو مؤسسة من مؤسساته ومكون من
مكوناته التارخيية» 1وال يكون كل هذا إال من خالل ممارسة طقوسية إميانية روحية تستحضر قوة متعالية متمثلة يف
اإلله منبع الوحي والتشريع .هلذا كثريا ما يطلق على اإلنسان أنه حيوان متدين ،2كما مل يغب موضوع الدين والتدين
و املقدس عن الفلسفات القدمية واحلديثة ،حيث بالكاد جند فيلسوف مل يتناول هذه املوضوعات إثباتا أو نفياً .إن
قضايا الدين واإلميان واإلحلاد ووجود اإلله من عدمه ،قضايا ال تزال حاضرة بقوة يف الفكر الفلسفي الغريب احلديث
واملعاصر ،م ا جعل آراءهم تتباين وختتلف من فيلسوف إىل آخر ،وتتعارض يف الكثري من األحيان مع مفهوم الكنيسة
باخلصوص .مثال يعرتف باروخ سبينوزا( Baruch Spinoza )1677-1632يف رسالة إىل صديقه هنري
أولدنربغ*( Henry Oldenburg )1677-1619عن رأيه يف الدين وعن معتقده فيقول «:إنين أعتنق رأياً
عن اإلله والطبيعة ،خيتلف كل االختالف عن الرأي الذي يدافع عنه املسيحيون احملدثون ،فأنا اعتقد أن اإلله هو
العلة الباطنية لألشياء مجيعا ،ولكين ال أعتقد أنه العلة املتعدية ...وأنا أقول :إن كثرياً من الصفات اليت يرون ،ويرى
مجيع اآلخرين الذين اعرفهم على األقل – إهنا من صفات اإلله -أرى أهنا أشياء خملوقة .ومن ناحية أخرى ،فإن
األشياء اليت يرون أهنا خملوقة – بسبب حتيزاهتم -أرى أهنا صفات لإلله ،ولكن يسيؤون فهمها ،وكذلك ال أستطيع
-1وجيه قانصو ،التعددية الدينية يف فلسفة جون هيك ،املركز الثقايف العريب ،املغرب ،الطبعة األوىل ،2007ص11.12
-2جفري بارندر ،املعتقدات الدينية لدى الشعوب ،ترمجة إمام عبد الفتاح إمام ،مكتبة مدبويل للنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط،2
،1996ص.11
* دبلوماسي وفيلسوف طبيعي والهويت أملاين .كان أحد أبرز رجال االستخبارات يف أوروبا يف القرن السابع عشر ،مع شبكة من
اجلواسيس تضم فابري دي بريسك ومارين مريسني وإمساعيل بوليو .وعند تأسيس اجلمعية امللكية ،توىل مسئولية املراسالت األجنبية
كسكرتري أول للجمعية.
137
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
أن أفصل اإلله عن الطبيعة على اإلطالق ،وهذا ما فعله كل من أعرفهم» ،1سبينوزا برسالته هذه يوضح فكرته اجتاه
اهلل إهنا مغايرة ملا هو سائد عند الغري فهي فكرة ذاتية جوانية نابعة عن قناعة شخصية وفهم ذايت للعامل واإلله،
فاالعتقاد ليس بالضرورة يكون مسايرا للكثرة قد تكون الغالبية على اعتقاد خاطئ .أما اميانويل كانط(-1724
Emmanuel Kant )1804يقدم صياغة ذات عمق فلسفي للدين ،كانط الداعي إىل ضرورة حترر العقل
اإلنساين من قصوره الذايت الذي أغرق فيه ذاته ،كان صرحيا يف دعوته إىل ضرورة إجياد حال فلسفياً وسطاً وصادقاً
للمنحة اليت عاشتها الثقافة الغربية يف شقها الديين ،خصوصاً االعتقاد يف اهلل ،معتقدات جعلت اجملتمعات تعاين من
أآلم وحمن ،2هلذا ُحي ِّمل كتبه النقدية خاصة كتابيه" نقد العقل العملي" La Critique de la pratique
raisonو " نقد العقل اخلالص" La Critique de la raison pureو كتاب " الدين يف حدود جمرد
العقل" La Religion dans lilimets de la Raisonنظرته ملفهوم اهلل والدين أو مكانة األخالق يف
الدين ،حيث يقول « :إمنا األخالق تقود على حنو ال بد منه حنو الدين ...األخالق مؤسسة على مفهوم اإلنسان،
األخالق ال حتتاج أبدا فيما يتعلق بذاهتا إىل الدين ...بل بفضل العقل احملض العملي هي مكتفية بذاهتا».3
أما جورج فيلهلم فريدريش هيغل(Georg Wilhelm Friedrich )1831-1770
Hegelيعرف اإلنسان وعالقته بالدين فيقول «:هو وحده الذي ميكن أن يكون له دين ،وأن احليوانات تفتقر إىل
الدين بقدر ما تفتقر إىل القانون واألخالق» ،4وهنا يؤكد هيغل على فكرة ارتباطية الدين باإلنسان ،كما ال تقتصر
دراسة الدين والتدين عند اإلنسان من طرف الفالسفة فقط ،وإن كان املوضوع احملوري يف الفلسفة الدين ،إال أن
املشتغلني يف شىت اجملاالت الفكرية األخرى يناقشون الدين من وجهات نظرهم املتباينة ،هلذا يضيف هيغل فيقول«:
موضوعات الفلسفة هي نفسها -بصفة عامة – موضوعات الدين :فاملوضوع يف كليهما هواحلقيقة ،ومها ينتقالن
بطريقة متشاهبة إىل معاجلة العاملني املتناهيني :عامل الطبيعة والروح املتناهي ،من حيث عالقة الواحد منهما باآلخر
ومن حيث عالقتهما باهلل بوصفه حقيقتهما».5
تعريف الدين :Religion
-1جيمس كولينز ،اهلل يف الفلسفة احلديثة ،ترمجة فؤاد كامل ،مكتبة غريب ،القاهرة ،1973 ،ص.103
-2املصدر السابق ،ص.230
-3إمانويل كانط ،الدين يف حدود جمرد العقل ،جداول ،بريوت ،2012 ،ص.45-12
-4هيغل ،موسوعة العلوم الفلسفية ،ترمجة إمام عبد الفتاح إمام ،مكتبة مدبويل للنشر والتوزيع ،ب ط ،ب ت ،ص.51
-5هيغل ،موسوعة العلوم الفلسفية ،ص .51
138
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
يعترب الدين الظاهرة االجتماعية األكثر حضورا عند اإلنسان ،بل واألكثر تأثريا يف سلوكاته وحىت
حضارته اليت بناها ،فالشعوب القدمية ممثلة يف الشعوب املستقرة املؤسسة ملفهوم العمران أو مرحتلة على شكل قبائل،
فكالمها أسس ملفهوم املمارسة الدينية ممثلة يف طقوس وعادات ونذور .هلذا جند التباين يف التعريفات اليت قدمت
للدين ونورد منها على سبيل الذكر ال احلصر:
عرف أندريه الالند( André Lalande)1963-1876الدِّين على أنَّه « مؤسسة اجتماعية يُ ِّ
متميزة بوجود إيالف من األفراد املتحدين )1( ،بأداء بعض العبادات املنتظمة وباعتماد بعض الصيغ )2(،باالعتقاد
يف قيمة مطلقة ،ال ميكن وضع شيء آخر يف كفة ميزاهنا ،وهو اعتقاد هتدف اجلماعة إىل حفظه )3(،بتنسيب الفرد
إىل قوة روحية أرفع من اإلنسان ،وهذه ينظر إليها إما كقوة منتشرة ،وإما كثرية ،وإما وحيدة ،هي اهلل ».1
يعلق الالند على تعريفه ،أنه يتغاضى عن العنصر األساسي واخلصوصي يف وعي اإلنسان املتدين،
حيث أن هذا العنصر ليس موضوعا وال فكرة وال قوة قد ميتلكها اإلنسان ،ألنه كان قد كوهنا أو قد استحوذ عليها،
بل هو ذات كائن حي ومريد وخفي ال تدركه األدوات الطبيعية لفكرنا ولفعلنا ،وال يكشف عن ذاته إال بالشهادة
اليت يصرح هبا عن ذاته وعن تعاليه الشأين ،بالرسالة املنزلة أو املأمور هبا يف املعتقدات واملمارسات اليت تضع يف
متناولنا مكنونيته بالذات ،أي عدم قابليته للبلوغ إال بذاته .2وإذا كانت املمارسة البشرية للدين ال ختلو من بعد إمياين
ذو عالقة أفقية بني اإلنسان وغريه أو عالقة عمودية بني اإلنسان وربه ،فإن هذا اإلميان يقسم إىل نوعني :معريف
وعرفاين . 3فإذا كان النوع املعريف ذو بعد فلسفي باخلصوص ،فإن العرفاين ذو بعد صويف أو التجربة الصوفية اليت تعرب
عن العمق الروحي للدين وهذا ما عرب عنه ولرت ستيس( Walter Terence Stace )1967-1886بتعريفه
للدِّين بقوله «:إن الدِّين عيان لشيء يقوم فيما وراء اجملرى العابر لألشياء املباشرة ،أو خلف هذا اجملرى ،أو يف باطنه،
شيء حقيقي ولكنه مع ذلك ال يزال ينتظر التحقيق ،شيء هو مبثابة إمكانية بعيدة ،ولكن يف نفسه أعظم احلقائق
الراهنة ،ش يء خيلع معىن على كل ما من شأنه أن ينقضي ويزول ،ولكنه مع ذلك يند عن كل فهم ،شيء يعد
-1أندريه الالند ،موسوعة الالند الفلسفية ،اجلزء الثاين ،منشورات عويدات ،بريوت ،الطبعة الثانية ،2001 ،ص.1204
-2املصدر نفسه ،ص.1205
-3عزمي بشارة ،الدين والعلمانية يف سياق تارخيي ،اجلزء األول ،املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات ،قطر ،الطبعة األوىل،
،2013ص.19
139
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
امتالكه مبثابة اخلري األقصى ،ولكنه يف اآلن نفسه عصي بعيد املنال ،شيء هو املثل األعلى النهائي ،ولكنه يف الوقت
نفسه مطلب ال رجاء فيه».1
خطيئة األب وميالد الفيلسوف:
من ا لضروري االعرتاف املسبق بصعوبة اإلملام مبوضوع الدين والتدين يف فلسفة كريكيغارد يف وريقات
معدودات ،وهذا راجع إىل تعدد املواضيع اليت عاجلها كريكيغارد من حب ،زواج ،قلق ،موت ،املصري ،التدين الزائف،
التهكم ،فهو حبق فيلسوف وجودي عايش وجوديته بكل املعاين ،كما جيدر بنا القول أن احلياة اليومية بسوداويتها
فرضت نفسها على كريكيغارد لتولد لديه ذلك احلس الفلسفي الوجودي ومن خالهلا أسس لفلسفته الوجودية.
سورين كريكيغارد أبو الوجودية ،الفيلسوف الذي كان يطلق على نفسه أنه ابن الشيخوخة ،2ألنه يوم
مولده كان والده قد بلغ من العمر ستة ومخسون سنة ،وأمه مخسة وأربعون سنة .ترعرع سورين يف بيت تسوده السلطة
األبوية والرتبية الصارمة ،بيت أحكم األب ميخائيل كريكيغارد املتوجس من انتقام الرب بسبب خطيئتيه :األوىل عندما
قام على صخرة يف براري إقليم جوتلند الغريب بالدامنارك ليسب الرب بسبب املعيشة الضنكا اليت حيياها وهو طفل
أكثر ما حيتاج للرمحة والشفقة من هذا اإلله ،أما اخلطيئة الثانية فهي خيانته لزوجته اليت كان يكن هلا كل احلب،
خيانة كانت مع خادمته سوريندا ترواند ،اليت سيتزوجها بعد وفاة زوجته األوىل.
حياة بالرغم من السعة املالية وحسن العيش ،إال أن القلق واخلوف واالضطراب كان هو املسيطر على
احلياة األب ،فبالرغم من كل الثراء والبنني ،إال أن الوسواس القهري والقلق من انتقام الرب كان هو املسيطر على حياة
األب ،بل كان يعت رب هذه احلياة ما هي إمهال من الرب لينتقم منه شر انتقام ،هلذا كان األب -ال شعوريا -يورث
القلق والرهبة واخلوف إىل ابنه على الرغم من صغر سنه ،اعتقادا منه أن عقوبة الرب ستحل بأصغر أبنائه "سورين"،
فكانت حياة سورين ،حياة قلق ومأساة على مجيع األصعدة ،فكانت اعرتافات األب باآلثام واملوحشة بالقلق واخلوف
والرعب ،كفيلة ببناء شخصية الصيب املمزقة واملرعوبة القلقة.
ومل تكن حياة األب القلقة والكئيبة إال نتاج تعاليم الكنيسة اإلجنيلية(الربوتستانتية) .حياة كتب عنها
سورين كريكيغارد معلقا« إن أيب كان ينسى الفارق الكبري بني الطفل وبينه ،وينسى أن الطفل برئ ومن مث ال يستطيع
-1ولرت ستيس ،الزمان واألزل ،مقال يف فلسفة الدين ،ترمجة زكريا إبراهيم ،املؤسسة للطباعة والنشر ،بريوت ،1967ص .12
-2فربتيوف برانت ،كريكيغارد ،ترمجة جماهد عبد املنعم جماهد ،مكتبة دار الكلمة للنشر والتوزيع ،القاهرة ،الطبعة األوىل،2009 ،
ص .10
140
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
إال أن يسئ الفهم» ، 1كانت نفسية األب قلقة ومسكونة بفكرة انتقام الرب ،جعلته ينتظر هذا االنتقام يف كل حلظة،
ومل يرى أي عناية إهلية يف كل ما جرى من حوله .فالربغم من األزمة املالية اليت عصفت بالدانيمارك بسب األوراق
اليت أصدرها البنك وبدون غطاء ذهيب ،ما جعل األمالك املودعة يف ما عرف " بسندات امللكية " الوحيدة اليت تنجو
من هذه األزمة ،وكان والد سورين من مالك الناجيني من هذه األزمة ،وبالرغم من كل هذه النجاة ،إال أنه رأى يف
كل هذا ،استدراج من الرب لينتقم منه بطريقة مغا يرة متاما ،انتقام سيكون يف املولود السابع الذي ينتظره وهو سورين
كريكيغارد .هلذا عمل األب على تربية ابنه تربية دينية صارمة ليصبح عامل الهوت .2أوهام و وساوس جعلت من
األب يعيش قلقا طول حياته ،ويرى يف نفسه وابنه نفس قصة النيب إبراهيم وابنه إسحاق .وعن هذه الرتبية اليت عمل
األب على زرعه يف االبن املنتظر ،كتب سورين كريكيغارد يقول « :يف طفوليت تربية على مسيحية صارمة متشددة.
لقد تربيت بصورة جنونية .لذلك انطبعت سوداوية الرجل العجوز الذي كان مصابا هبا على ذايت».
ينطلق كريكيغارد يف دراسته ملفهوم الدين والتدين ،من الواقع الذي عاشه ،ومن الرتبية األبوية الصارمة
اليت ترىب عليها ،فهو مل يرى إال التناقض بني أقوال القساوسة وأفعاهلم ،فكيف يدعون رعاياهم إىل التقشف واالكتفاء
بالضنك من العيش ،وجعل املعاناة شعار حياهتم ،ويف املقابل يتنعم القساوسة يف رغد العيش مع ضمان راتب بعد
ا لتقاعد ،من هذا الواقع انطلق كريكيغارد يف جتربته الدينية الفردية ناقدا كل أشكال الدين والتدين الزائف .من هذا
الواقع الديين املسيحي الزائف ،ينطلق كريكيغارد يف نقده للمسيحية يف الدانيمارك خاصة والعامل املسيحي عامة ،حيث
طبع هذا العمل يف كتاب حتت عنوان" اهلجوم على العامل املسيحي" ،لتصر بعد ذلك يف سلسلة كتيبات حتت عنوان
" اللحظة" The Instantومن يتضح لنا من خالل هذا العنوان ،أن كريكيغارد يعرب عن فلسفته الوجودية من
خالل مفهوم اللحظة الفردية املعاشة ،بعيدا عن اجلمع أو الدمهاء كما يسمهم كريكيغارد أو القطيع كما يسميه
نيتشه.3
عرف عن كريكيغارد فيلسوف وجودي مؤمن ولكن ذو نزعة هتكمية كانت السالح األكثر استعماال يف الرد
على املستهزئني به يف صغره أو يف رده على القساوسة االنتهازيني الذين يعتربون أنفسهم واسطة بني اهلل والبشر أو بني
املسيح ورعاياه .وهم يف حقيقة األمر خيالفون كل تعاليم املسيح يف نبذ الطقوسية والوسطية بني اهلل وعباده ،ورغبة
العبد الشخصية يف طاعة اهلل ،رغبة تكون وليدة الذات اإلنسانية ال اجملتمع ،فالوجود احلق ينبثق عن الذات وال ليس
-1حسن يوسف ،فلسفة الدين عند كريكيغارد ،مكتبة دار احلكمة ،مصر ،ب ط ،ب ت ،ص.10
-2املرجع السابق ،ص.14
-3املرجع السابق ،ص.29
141
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
من الغري .وتعترب املسيحية يف نظر كريكيغارد هي الذاتية ،وليست املسيحية املوروثة من األسرة أو اجملتمع ،ويف هذا
يقول كريكيغارد «:إن قبول املسيحية قبوال موضوعيا يعد من قبيل الوثنية أو اخلرافة ...فاملسيحية طريقة للحياة وإذا
قبلناها كمجرد طقوس ،أو إذا قمنا بتفسريها تفسريا عقليا ،فإننا بذلك حنيلها إىل العبث» ،1و هبذا املوقف يؤكد
كريكيغارد على ف كرة الفردانية يف املمارسة الدين ،ممارسة يكون العقل واإلميان الشخصي األكثر حضورا ،ومها منبعا
احلياة النفسية الفردية والكفيالن ببث الطمأنينة يف الذات.
يؤكد كريكيغارد من خالل نقده للمسيحية القائمة على فكرة تقاطعه مع موقف لودفيج
فيورباخ*( : Ludwig Feuerbach )1872-1804إن الكتاب من أمثال فيورباخ هم التشكيلة األخرية من
املفكرين األحرار ،ميكن أن يفيدوا املسيحية كل الفائدة ألهنم يدافعون عنها أساسا ضد مسيحي هذه األيام ،الذين
ما عادوا يعرفون أهنا مل تعد إنسانية وتقدما ،بل صارت عاملا مقلوبا .2فالنقد الذي يتوجه هبا كريكيغارد للمسيحية
القائمة يوم ذاك ،تلك املسيحية املتناقضة الذي ميثلها القساوسة واآلباء املستغلني لسذاجة رعاياهم ،وإمياهنم القائم
على فكرة التسليم واالعتقاد بدون انتقاد ،اعتقاد حىت وإن كان يتناىف ومنطق العقل.
هلذا يقول كريكيغارد عن هجومه للكنيسة :إن السبب احلقيقي من وراء هجومي على الكنيسة يكمن يف أن
تعاليمها تتجاهل املخاطرة واملفارقة من اإلميان .هلذا جند كريكيغارد يوجه نقده لثالثة أطراف مهمة يف عصره ،ال تقل
أي واحد أمهية عن األخرى ،وهي الصحف اليت تعمل يف نظره على ختدير الشعب ،والكنيسة الرمسية ،والفلسفة
اهليغيلية السائدة يف عصره واليت ميثلها .حيث كانت الصحف يف نظره تفكر بالنيابة عن الشعب ،والكنيسة تؤمن
بالنيابة عنه كذلك ،واألخرية – الفلسفة اهليغيلية – ختتار بالنيابة عن الشعب .3تعترب احلرب اليت دخل فيها كريكيغارد
يف انتقاد املمارسة الك هنوتية من أبرز احلروب الفكرية يف تاريخ الدانيمارك خاصة يف فكرة شاهد على احلقيقة اليت عرب
عنها األسقف يعقوب بطرس منيسرت( ،)1854-1775حيث كان يعترب نفسه شاهد على احلقيقة ،ويف هذا يقول
كريكيغارد «:هل كان األسقف منيسرت شاهدا على احلقيقة؟ وهل كان شاهدا أصيال على احلقيقة؟ هل هذه
-1فريتيوف برانت ،كريكيجرد ،ترمجة جماهد عبد املنعم جماهد ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بريوت ،الطبعة األوىل،1981 ،
ص .157
-2املرجع السابق ،ص.158
-3املرجع السابق ،ص ص .160،161
143
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
األمسى الذي كان يرومه كريكيغارد من هذا النقد هو نبذ كل نفاق أو استغالل للدين مع الدعوة الصرحية لإلخالص
وضرورة التوافق بني القويل والعملي.
ومل يقف كريكيغارد عند هذا الرد فقط ،بل كانت له العديد من الردود نشرها يف جملة املوسومة بـ" اآلن"
الذي كتب فيها عن معىن املسيحي واملسيحية وخاصة عن الكهنة واصفا إياهم بأكلة حلوم البشر و بأكرب شكل
وحشي « ،إن الكاهن يستقر آمنا ومسرتخيا يف مقره الريفي ،ويأمل أيضا أن يكتسب انتشارا جذابا ،وزوجته هي
نفسها ممتلئة ،وال عنها أوالده .وكل هذا بسبب معاناة ومرض العظماء شاهد احلقيقة ،هذا هو ما يعيش عليه
الكاهن ،وهؤالء العظماء هم الذين يأكلهم ويتغذى معهم من اجل الفتنة املبهجة للحياة ولزوجته وألوالده .لقد
احتفظ هبؤالء العظماء يف أحواض من الدموع .وهم يصيحون ":اتبعوين ،اتبعوين" وهي صيحات بال جدوى .رمبا
يظل للحظة يتحصن تلك الصيحة ولكن مع كر األعوام يصبح قاسيا حىت انه ال يعود يسمعها .رمبا إذا بدأنا يشعر
باخلجل عندما جيد ألنه يسمى " تلميذا خملصا للمسيح" ولكن مع كر السنني يعتاد على مساعها حىت أنه يعتقد هو
نفسه أهنا حقيقة .وهكذا ميوت وقد احنرف كثريا ويدفن على انه شاهد على احلقيقة» .1كان النقد املوجه للقساوسة
جد قاس من طرف كريكيغارد كل هذا حماربة للرياء االدعاء للزهد والرتفع عن ملذات احلياة وواقع احلال ينفد كل
ادعاء زائف ،ف القساوسة يتنعمون يف رغد من العيش ،وعلى منابر الكنائس يذرفون دموع النفاق والرياء .فهؤالء
القساوسة يتدينون تدينا زائفا ،حيث ال يشعر الكاهن أو القس بأي حرج يف ذلك حىت وإن خالفت تعاليم املسيح
والعهد اجلديد ،كما أن القس ال جيد حرج يف اعتناق معتقدات ال تتحول إىل سلوك كعملي ،وأقواال ال تتعدى حدود
الشفاه ،بل من العكس ذلك متاما جتده يشكر اهلل ويقرب القرابني هلل ألنه يطبق هذه املعتقدات وكأنه أصبح يعيش
الوهم .وهبذا يصبح هذا القس يعيش يف عاملني خمتلفني يروح ويغدو من الواحد إىل اآلخر.2
ويضيف كريكيغارد يف مقاله يف اللحظة 57التعبري أكثر عن امتعاضه عن احلالة اليت وصلت إليها الكنيسة
واملسيحية فيقول «:يعظ القس بأنه يشهد (حسنا شكرا على ذلك) ،بأن املسيحية هي التربؤ من ،مث جيعل هذه
املوعظة مصدر رزقه ،ووظيفته ،إنه ال يعرتف بنفسه أبدا ،أن هذه يف الواقع ليست مسيحية،ـ لكن إذا أين هو التربؤ؟
أليست هذه أيضا حالة شاعر؟ بيد أن الشاعر ميارس النفاق مع الناس ـ والقس هو شاعر ،كما شاهدنا حىت اآلن
تصبح عبادة اهلل الرمسية على هذا النحو :أن تنافق ،لكي حتصل على املكرمة الكبرية ،اليت ال تردد الدولة طبعا من
تقدمي األموال هلا .ولكي مننع الريا ،فإن أسهل الطرق لذلك :هو أن يعرتف" القس" ،بأن هذه يف الواقع ليست
-1عبد اجلبار الرفاعي ،احلب واإلميان عند كريكيغارد ،دار التنوير للطباعة والنشر ،لبنان ،الطبعة األوىل ،2016ص.137
-2إمام عبد الفتاح إمام ،كريكجور رائد الوجودية ،ص.339
145
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
بعد النقد الذي وجهه كريكيغارد لكل من الكنيسة والقساوسة ،واهتامهم مبمارسة النفاق والتدين الزائف من
أجل استغالل الرعايا ،جنده يف املقابل يوضح معامل خارطة طريق التدين الصحيح واملسيحية السليمة ،كونه خملص
اجملتمع املسيحي من وهم التدين الزائف الذي أغرقه فيه القساوسة ،ويعرف اإلميان فيقول «:ال يعرف اإلميان يف العهد
اجلديد على حنو عقلي بل على حنو أخالقي :إنه يشري إىل عالقة شخصية بني اهلل واإلنسان ،واإلميان كتعبري عن
اإلخالص مطلوب على أنه اعتقاد ضد الفهم ،االعتقاد ال يرى اإلنسان من خالله وهلذا يتحدث الرسول عن طاعة
اإلميان» موقف يعرب فيه صراحة عن حمور فلسفة اليت أسس هلا ،فلسفة وجودية قائمة على فكرة الفردانية والتفرد،
فاإلميان ال حيتاج إىل واسطة بني اهلل واإلنسان بل هو قناعات شخصية وممارسة فردية تنبثق من الذات ال تفرض من
اخلارج ،ألن خار ج الذات جمرد زيف ،وهو ما ميثله القساوسة يف تدينه الزائف .وال يكون هذا اإلميان ذو نفع إال إذا
كانت هناك حرية شخصية وهذه األخرية أساس الفلسفة الوجودية .تنقسم أعمال كريكيغارد إىل ثالثة أقسام متباينة:
املؤلفات اجلمالية :أصدرها حتت أمساء مستعارة ،تظم مؤلفاته " إما...أو" و" خوف ورعدة" -1
و" مفهوم القلق" وكتاب " مراحل على طريق احلياة .وتتميز هذه املؤلفات بأسلوهبا الرومانسي الشاعري.
املؤلفات الفلسفية :تتميز هذه املؤلفات بالصبغة الفسلفية اليت طغت عليها ،ولقد نشرت هذه -2
األعمال بأمساء مستعارة ،وتارة بامسه احلقيقي .وجند منها كتابه" الشذرات الفلسفية".
املؤلفات الدينية :وتظم كتب دينية ومقاالت ومنشورات متنوعة ،ولقد نشرت حتت اسم سورين -3
كريكيغارد .ولقد عرفت هذه املؤلفات باسم" أحاديث هتذيبية أو إرشادية".1
وال خيرج التهكم من روح فلسفة كريكيغارد بل يعترب حمرك فلسفته برمتها ،حيث جند التهكم ضد خمالفيه أو
منتقديه أو حىت رده على أباء الكنيسة هلذا يعترب مفهوم التهكم نقطة البدء احلقيقية يف فلسفة كريكيغارد .2ولقد اختذ
كريكيغارد السخرية والتهكم ،كوسيلة من وسائل التعبري واالتصال مع اجملتمع .والعودة إىل اإلنسان وتذكر وجوده،
هذا اإلنسان الذي أقصته الفلسفة اهليغيلية .وبالرغم من النقد الذي قدمه كريكيغارد للفلسفة اهليغيلية ،خاصة يف
نظرهتا الشمولية املطلقة إال أنه استعار منها العديد من املفاهيم ،كمفهوم الديالكتيك.
كريكيغارد وبدراسته للتهكم ،كان يهدف إىل حترير املوجود "اإلنسان" من سيطرة الفلسفات النسقية اليت
سلبته إنسانيته بسلب مقومات وجوده األساسية "احلرية" ،فأصبح يعيش يف اغرتاب عن وجوده احلقيقي األصيل ،بل
-1شانتان آن ،احلب يف فكر سورن كري كجورد ،ترمجة حممد رفعت عواد ،املركز القومي للرتمجة ،القاهرة ،ب .ط،
،2011ص.ص .8-7
-2إمام عبد الفتاح إمام ،كريكجورد ،ص.13
146
كلية العلوم االجتماعية واالنسانية مجلة متون جامعة سعيدة
ISSN: 1112-8518, EISSN: 2600-6200 املجلد التاسع /العدد الثالث سبتمبر 2017
أصبح حييا يف يقني موضوعي وجمموعة من األوهام ،وهنا جند كريكيغارد مبعوله التهكمي يف اليقني املوضوعي ،جيعل
الناس يرتدون إىل ذواهتم ويفيقون من سباهتم ،وتتجلى هلم حقيقية وجودهم .فمن خالل التهكم نستطيع إجياد
اإلجابة عن السؤال الذي شغل سقراط" ما اإلنسان؟" ،كما أن التهكم« يعيد الفرد من جديد إىل نفسه ،وخيلق فيه
اهتماما بوجوده األخالقي :فال ميكن أن تكون هناك حياة بشرية أصيلة بدون هتكم» ،1ويكون التهكم كحلقة بني
الوجودين احلسي الزائف واألخالقي احلقيقي .فاألول زائف ناقص وغري واعي ،والثاين هو األصيل الواعي ،ولكن
التأيت إىل هذا األخري ال يكون إال بالتهكم الذي يعترب مبثابة الذبابة اليت توقظ البشر من غفلتهم وتبث فيهم الوعي
الذايت حبقيقة وجودهم ،وهلذا قسم كريكيغارد الذوات إىل ثالثة أقسام حسب تقسيم مؤلفاته.
يرى كريكيغارد أن العملية االرتدادية اليت يقوم هبا اإلنسان إىل ذاته ،ما هي يف حقيقة األمر إال عملية
فصل عن اآلخر ،بإثبات الوجود الشخصي بالثورة على النظم و التقاليد االجتماعية اليت تقيد الفرد .وإذا الفلسفة
الكريكيغاردية تقوم على أساس اخلطيئة األوىل ،ومفهوم القلق واحلرية ،فهي تعلو كذلك من شأن التهكم أو فليكن
التهكم احلجر األساس يف هذه الفلسفة ،فالتهكم ال يكون إال ذاتية وهنا جند حضور الذاتية ،هلذا يربط كريكيغارد بني
التهكم والذاتية فيقول «:فالتهكم حتديد للذاتية وتعني هلا ،ومن مث فال بد أن يرتبط ظهوره ألول مرة يف التاريخ
بظه ور الذاتية األوىل ،وذلك يشري إىل نقطة حتول تارخيية تظهر فيها الذاتية ألول مرة ،وهاهنا جند أنفسنا مع
سقراط» ، 2فاملوقف السقراطي يف حقيقة األمر دعوة إىل الذاتية الفردية واإلعالء من شأهنا ،بالرتابط بني الذاتية
والتهكم ،شرط ضروري لتطور التهكم فحىت « يكتمل التهكم ال بد للذات أن تصبح على وعي بتهكمها ،وان
تشعر على حنو سليب ،أهنا حتررت ،وهي تشعر بذلك عندما تدين الواقع الفعلي املعطى وتستمتع هبذه احلرية السلبية،
لكن لكي حيدث ذلك فال بد للذاتية أن تتطور ،أو باألحرى عندما تؤكد الذاتية نفسها يظهر التهكم ،فالذاتية تشعر
أهن ا تواجه الواقع الفعلي املعطى ،وتشعر بقوهتا اخلاصة وبشرعيتها ومغزاها ،وهي بشعورها هذا حتافظ على نفسها من
النسبية اليت حياول الواقع املعطى أن يضعها فيها».3
وأخريا ميكننا القول أن كريكيغارد كان الصوت الثائر يف وجه كل زيف أو ممارسة باسم الدين تروم
استغالل اجملتمع من أجل مصاحل الكنيسة .وبالرغم من احلياة القصرية اليت عاشها كريكيغارد إال أنه يعيد لإلنسان
إنسانيته املهدورة باسم التدين الزائف ،كما أسس للفلسفة الوجودية اليت أهلبت اجملتمع اإلنساين خاصة بعد احلرب
148